تقارير.فرنسا ـ حزب الله.. علاقات معقدة.. أبعاد داخلية لبنانية وإقليمية وتاريخية تتحكم فيها......أطفال مقاتلي «القاعدة» في العراق: لا نملك بطاقات هوية ولا نعرف قبوراً لآبائنا...مسؤولون أميركيون: أبو غيث دفع ثمن خلافات إيران مع «القاعدة»... حول سورية

هل يشكّل سقوط الرقة نقطة تحول في الثورة السوريّة؟.....السّودان وجنوب السّودان...إلى أيّ مدًى ينجح الاتّفاق الأخير؟

تاريخ الإضافة السبت 16 آذار 2013 - 5:28 ص    عدد الزيارات 1866    القسم عربية

        


 

 
هل يشكّل سقوط الرقة نقطة تحول في الثورة السوريّة؟
مركز الدوحة للدراسات
استولت قوى المعارضة المسلحة السوريّة يوم الرابع من آذار/ مارس 2013 على مدينة الرقة شمال شرق سورية، لتكون بذلك أول مركز محافظة يخرج عن سيطرة النظام السوري. وبالاستيلاء على المدينة تصبح محافظة الرقة (مساحتها 19620 كيلومترًا مربعًا، أي نحو 10.6% من مساحة سورية، وعدد سكانها 921 ألف نسمة)، خارج سلطة النظام بشكل شبه كامل، باستثناء مقر الفرقة العسكريّة 17 ومطار الطبقة العسكري. وللمرة الأولى في مسار الثورة السوريّة أيضًا، يتمكن الثوار من أسر المحافظ، وأمين فرع حزب البعث العربي الاشتراكي، ورؤساء الأفرع الأمنية والعسكريّة.
استحوذت التطورات الميدانية في محافظة الرقة على اهتمام إعلامي وسياسي واسع، لتثير أسئلة مثل: هل يشكل سقوط المدينة نقطة تحول في الصراع الدائر لإسقاط النظام السوري؟ أو هل يسمح ذلك بتكرار تجربة بنغازي إبّان الثورة الليبية؟ أو ما مدى إمكانية حصول تدخل عسكري محدود لإقامة منطقة عازلة أو آمنة في محافظة الرقة؟ تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على مدى أهمية سقوط الرقة في سياق التطورات العسكريّة والسياسيّة التي تشهدها الساحة السوريّة، كما تسعى لتحديد العوامل التي قادت إلى سيطرة الثوار عليها.
الرقة في مشهد الثورة السوريّة
تصنّف محافظة الرقة ضمن المناطق النائية في سورية؛ فهي تبعد عن العاصمة دمشق نحو 370 كيلومترًا، وتعدّ من أكثر المدن السوريّة تهميشًا. كما تتصدر قائمة المحافظات السوريّة في مستويات الفقر، والبطالة، والأمية، والتسرب من التعليم الأساسي. غابت الرقة عن الخطط التنموية الحكوميّة إبّان حكم الرئيس السابق حافظ الأسد على الرغم من تركّز كثير من المقدرات الاقتصادية فيها (سد البعث، وبحيرة الأسد، وسد الفرات، وحقول النفط، والقمح، والقطن). ولم يتغيّر هذا الواقع في عهد الرئيس بشار الأسد إلا بعد غزو العراق عام 2003؛ إذ تنبّه النظام إلى الخطر الأمني المحتمل في المناطق الشرقيّة والشماليّة الشرقيّة القريبة من العراق، فأخذ يعمل على ضمان ولاء شيوخ العشائر عبر منحهم امتيازات وعطاءات وتسهيلات وصلت في بعض المراحل حد تسليحهم. كما قدّم النظام لأبناء العشائر الموالية له في ريف الرقة، خلال السنوات الأخيرة، تسهيلات للانتساب إلى الجيش، والقوى الأمنيّة، والشرطة، ومؤسسات الحزب. وتفسّر هذه العوامل مجتمعة عدم التحاق الرقة بالثورة السوريّة في عامها الأول. كما تبيّن مدى نجاح شيوخ العشائر الموالين للنظام، ليس في إبعاد المحافظة عن الثورة فحسب، بل في دعم النظام أيضًا من خلال مشاركة بعض أبناء عشائرهم في قمع المظاهرات الصغيرة في مدينة الرقة، وكذلك في قمع الاحتجاجات في المحافظات السوريّة الأخرى. والجدير بالذكر، أنّ الرئيس بشار الأسد اختار مدينة الرقة مكانًا لأداء صلاة عيد الأضحى في 6 تشرين الثاني / نوفمبر 2011.
فاجأت مدينة الرقة السوريين في الذكرى السنويّة الأولى للثورة في 15 آذار / مارس 2012 بخروج مظاهرات عدة فيها وبأعداد كبيرة، وكأنّها تعبّر عن رغبةٍ بدحض الانطباع العام السائد عنها بأنّها من المدن الموالية للنظام. واجه النظام هذه المظاهرات بالرصاص الحي، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص. وفي 17 آذار / مارس 2012 تحوّل تشييع القتلى في حي المنصور في المدينة إلى مظاهرة كبيرة شارك فيها أكثر من 100 ألف متظاهر، لتكون هذه المظاهرة أكبر حشد احتجاجي في الثورة خلال عام 2012[1].
أوضحت هذه المظاهرات أنّ ما يعوق مشاركة أبناء الرقة في الثورة ليس انحيازهم وتأييدهم للنظام، بل الدور الذي أدته بعض القوى الاجتماعية التقليدية (العشائر) في قمع الاحتجاجات الصغيرة، وإعاقة تطورها لتساير بقية المحافظات، ولا سيما محافظة دير الزور القريبة والمشابهة للرقة في تكوينها الاجتماعي.
لم تدخل الرقة في الكفاح المسلح ضد النظام حتى أيلول / سبتمبر 2012 لأسباب عدة، أبرزها:
    1. تأخر الثورة ذاتها في هذه المحافظة، ومن ثم، لم يُستخدم العنف بالكثافة ذاتها التي استخدم بها في المناطق الأخرى.
    2. اعتماد النظام بصورة متزايدة على العشائر الموالية له وتسليحها، لمواجهة أي عمل احتجاجي أو مسلح في المحافظة.
    3. نزوح مئات الآلاف من السوريين إلى مدينة الرقة باعتبارها ملاذًا آمنًا وبعيدًا عن المعارك بين الطرفين؛ إذ أصبحت مصلحة الجميع تقتضي عدم إدخالها في أتون الصراع المسلح، وكأنّه ساد اتفاق ضمني بهذا الشأن.
وحين انطلقت المواجهات العسكريّة، فإنّها انطلقت من مصادر من خارج الرقة. فقد بدأت المواجهات العسكريّة في منتصف أيلول / سبتمبر 2012 ضمن ما أطلق عليه الثوار آنذاك معركة المعابر الحدوديّة. وبالفعل استطاعت كتائب ثورية السيطرة على معبر تل أبيض على الحدود السوريّة - التركيّة، تلته السيطرة على كامل مدينة تل أبيض في 20 أيلول / سبتمبر 2012. بعد ذلك، انسحبت قوات الجيش السوري من ريف الرقة وتمركزت في المقرات الأمنية والعسكريّة في مدينة الطبقة (55 كيلومترًا غرب مدينة الرقة)، بالقرب من السدود الإستراتيجية وآبار النفط، وفي مقر الفرقة 17، والأفرع الأمنية داخل مركز المدينة. شجّع انسحاب قوات النظام عددًا من فصائل المعارضة المسلحة (أبرزها أحرار الشام، الجبهة الإسلامية السوريّة، كتائب الفاروق، وجبهة النصرة) على التقدم ومحاصرة قوات النظام في مناطق وجودها، ومن ثم السيطرة عليها بشكل متتابع، وفق الآتي:
    السيطرة على سد البعث في 4 شباط/فبراير 2013.
    السيطرة على مدينة الطبقة وسد الفرات (أكبر السدود في سورية) في 11 شباط/فبراير 2013.
    اقتحام السجن المركزي في الرقة في 3 آذار/مارس 2013.
    الاستيلاء على مركز مدينة الرقة، وفرع الأمن السياسي، وفرع أمن الدولة، وفرع المخابرات الجويّة، وقصر المحافظ، وفرع الحزب في 4 آذار/مارس 2013، وأخيرًا السيطرة على فرع الأمن العسكري في 7 آذار/مارس 2013.
ساهمت عوامل عدة في سيطرة الثوار على أول مركز محافظة منذ انطلاق الثورة، أهمّها: خروج ريف حلب الشمالي والشرقي بشكل شبه كامل عن سيطرة النظام العسكريّة، علمًا بأنّه يشكل امتدادًا جغرافيًا للريف الشمالي الغربي لمحافظة الرقة، ما دفع عدد من الكتائب الثائرة الى التوجه شرقًا للسيطرة على بعض المواقع الإستراتيجية، ولا سيما آبار النفط والسدود. كما أدى قيام النظام بسحب جزء من قواته العسكريّة من محافظة الرقة، وإرسالها إلى مدينة دير الزور لوقف تقدم الثوار فيها ومنعهم من السيطرة على مطارها وعلى المعابر الحدودية مع العراق، إلى ضعف سلطته في الرقة. يضاف إلى ذلك، انتقال معارك ريف دمشق إلى تخوم العاصمة (جوبر، والقابون، وبرزة)، ما فرض على النظام وجود فرق عسكريّة، وبشكل دائم، لحماية دمشق، وهو ما حدّ من قدرته على إرسال تعزيزات عسكريّة إلى محافظة الرقة. كما جاءت معركة الرقة متزامنة مع عملية عسكريّة واسعة للنظام في حمص القديمة، إذ حاول خلالها حشد ما توافر من فرق وكتائب عسكريّة بهدف السيطرة عليها بعد حصار استمر أحد عشر شهرًا، ما أعاق إرسال تعزيزات عسكريّة سريعة لمنع الثوار من السيطرة على الرقة.
لكنّ العامل الأهم في سقوط المدينة السريع والمفاجئ (بعد ثلاثة أيام فقط من القتال) تمثّل في حصول تعاون وتنسيق وتخطيط غير معهود بين مسلحين من داخل المدينة وبين الكتائب الثائرة خارجها؛ فالرقة التي شكّلت ملاذًا آمنًا لمئات الآلاف من السوريين باعتبارها منطقة خارج دائرة القتال، تحوّلت إلى أكثر المدن قابلية للسقوط بيد الثوار للسبب نفسه. فنتيجة لحصول بعض الشباب النازح داخل المدينة وكذلك القادمين إليها، وبخاصة من ريفي دير الزور وحلب، على السلاح، شكّلوا قوة قتالية لا يستهان بها. وقد شارك هؤلاء بفاعلية في الاستيلاء - وبسرعة - على المقرات والمراكز الأمنية والحكومية فور إعلامهم بساعة انطلاق الهجوم الذي تعتزم شنّه الكتائب الثائرة للسيطرة على المدينة.
شكّل هذا التعاون بين الثوار داخل المدينة وخارجها مفاجأة كبيرة لقوات النظام، وكذلك للعديد من المتابعين لشؤون الثورة السوريّة. ويمكن القول إنّ التكتيك المتبع في الاستيلاء على الرقة جاء شديد الشبه بما حصل في معركة تحرير طرابلس الغرب خلال الثورة الليبية، عندما ثارت المدينة من الداخل بالتزامن مع هجوم الثوار عليها من الخارج، ما أوقع قوات النظام الليبي بين فكيّ كماشة. وقد أدت قوى إقليمية دورًا مهمًا في تسهيل التنسيق بين الثوار وإمدادهم بكميات من الأسلحة، ما ساعد في حسم معركة الرقة خلال فترة قصيرة نسبيًا.
السيطرة على الرقة: نقطة تحول أو محطة أخرى في الصراع
إلى جانب الأهميّة الرمزيّة والمعنويّة، يعتبر "سقوط" الرقة حلقة مهمّة في تأكّل سيطرة النظام العسكريّة على المناطق الشماليّة والشماليّة الشرقيّة. كما أنّ سقوط المدينة بيد الثوار سوف يؤدي إلى تشكيل تواصل جغرافي للمرة الأولى بين المناطق المحررة في الشمال والشرق، والتي ظلت حتى سقوط المدينة جزرًا معزولةً ومحاصرةً من قبل قوات النظام. ومن شأن هذا التطور أن يمنح الثوار حرية الحركة، والقدرة على نقل المقاتلين والأسلحة إلى المنطقة الشرقية لا سيما مدينة دير الزور والمعابر الحدودية مع العراق، وأن يسهم في الوقت نفسه في إعاقة قوات النظام وحركة إمداداتها المتجهة نحو الشرق. في هذا السياق، يمكن أن نفهم قيام النظام السوري بإخلاء اللواء 113 بالقرب من مدينة دير الزور وسحب قواته إلى مطار المدينة ومعسكر الطلائع، وهي نقاط تمركزه الرئيسة والمتبقية له في محافظة دير الزور. مع ذلك يبقى التطور الأبرز في معركة الرقة هو ظهور حالة غير مسبوقة من التنظيم والتخطيط والتنسيق الميداني بين قوى الثورة المسلحة.
لم ينتج من سقوط الرقة كاملة بيد الثوار حالة شبيهة بحالة بنغازي في ليبيا، لأنّ التدخل العسكري الأجنبي غير واردٍ في سوريا، ولأنّ النظام السوري، خلافًا للنظام الليبي، ما زال قادرًا على شن حرب من دون سقف، تُستخدم فيها الصواريخ والطائرات.
ويركّز النظام في الآونة الأخيرة على الدفاع عن العاصمة دمشق والمنطقة الوسطى (حمص وحماه)، بدلًا من استنزاف قدراته في استعادة السيطرة بريًا على المناطق الشرقية والشمالية الشرقية البعيدة، مستعيضًا عن ذلك باستخدام سياسة الذراع الطويلة (الطائرات وصواريخ سكود) في قصفها، بحيث لا تتمكن المعارضة السياسيّة من اتخاذها مركزًا لنشاطاتها على غرار ما حصل في مدينة بنغازي إبّان الثورة الليبية.
أمّا دوليًا، فعلى الرغم من تغيّر المزاج الدولي من مسألة تسليح المعارضة السوريّة، وتدفق كميات أكبر من السلاح إلى الثوار، فإنّ ذلك لا يعني أنّ القوى الدوليّة، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، قد تحولت نحو تفضيل الحسم العسكري، إذ على العكس من ذلك، فهي ما زالت تحول دون حدوثه. هنا يمكن ملاحظة أنّ تليين موقف واشنطن من تسليح المعارضة (من دون أن تشارك هي في هذا التسليح) يأتي في إطار الرغبة في تغيير موازين القوى، بشكل يجبر النظام السوري على الدخول في عمليّة سياسيّة وفق اتفاق جنيف الذي جرى التوصل إليه في 30 حزيران / يونيو 2012.
قد يُسهم سقوط الرقة كاملة بيد الثوار، وكذلك إنجازاتهم العسكريّة المتلاحقة، في إحداث تغيير جزئي في موازين القوى العسكريّة على الأرض لصالح الثورة. ويمكن القول، إنّ سقوط الرقة بيد المعارضة السوريّة يشكّل مكسبًا عسكريًا وسياسيًا مهمًا لها. وإذا توافرت الإرادة السياسيّة، فيمكن أن يشكّل ذلك أساسًا لإقامة حكومة سوريّة مؤقتة مقرها الداخل السوري، وهو موضوع ما زال يثير نقاشًا في صفوف المعارضة على الرغم من موافقة واسعة عليه، ولا سيما أنّ الهدف المعلن من إنشاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة كان إقامة جسم تمثيلي قادر على تشكيل حكومة.
 
 
 السّودان وجنوب السّودان...إلى أيّ مدًى ينجح الاتّفاق الأخير؟
مركز الدوحة للدراسات
شهدت العاصمة الإثيوبيّة أديس أبابا يوم الجمعة 8 آذار/ مارس الجاري توقيع اتّفاقٍ بين جمهوريّتَي السودان وجنوب السودان لحلّ القضايا الأمنيّة العالقة. جاء اللقاء الذي جمع وزيرَي دفاع الدولتين نتيجةً لجولةٍ قام بها المبعوث الأممي السفير هيلي منكريوس الذي زار كلًّا من السودان وجنوب السودان، والتقى برئيس جمهوريّة السودان عمر البشير، ورئيس جمهورية جنوب السودان سلفا كير. سلّم السفير منكريوس رئيسَي البلدين رسالةً خطيةً من الوسيط الأفريقيّ ثابو مبيكي تتضمّن مقترحاتٍ لتجاوز نقاط الخلاف بشأن المسائل العالقة بين الطرفين، خاصّةً تلك المتعلّقة بملفّ الترتيبات الأمنيّة. ولقد ظلّ هذا الملفّ سببًا رئيسًا في عرقلة تنفيذ اتفاقيّة التعاون التي وقّعها رئيسا البلدين في أيلول / سبتمبر من العام الماضي. وكان مُؤمّلًا أن يُحدث ذلك الاتّفاق انفراجًا أمنيًّا على الحدود المتّسمة بالتوتّر، يسمح باستئناف ضخّ نفط جمهورية جنوب السودان عبر أراضي جمهوريّة السودان وموانئها، وإخراج البلدين من حالة المعاناة الاقتصاديّة والمعيشيّة التي يرزحان تحتها.
ظلّت حكومة السودان تصرّ على أن تسبق الترتيبات الأمنيّة كلّ الترتيباتِ الأخرى، سواء كانت تلك التي تتعلّق باستئناف تصدير النفط أو بترسيم الحدود، أو باستئناف التجارة الحدودية بين البلدين، وغير ذلك من الأمور العالقة المتفرّعة. وقد ظلّت حكومة السودان تخوض حربًا مع الحركة الشعبيّة لتحرير السودان قطاع الشمال في ولايتَي جنوب كردفان، منذ 6 حزيران / يونيو 2011، والنيل الأزرق منذ الأوّل من أيلول / سبتمبر 2011، واللتين لهما حدودٌ مشتركة مع دولة جنوب السودان.
وترى حكومة السودان في الحركة الشعبيّة قطاع الشمال طابورًا خامسًا وأداةً للضغط، تستخدمها حكومة الجنوب داخل أراضي الشمال. وفي الوقت نفسه، تتّهم حكومة جنوب السودان حكومة السودان بأنّها تسلّح وتموّل ميليشياتٍ جنوبيّة ظلّت ناشطةً ضدّ الحكومة المركزيّة في جنوب السودان. 
اشتعلت الحرب في ولايتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق، إثر انهيار اتّفاق الشراكة بين الحكومة السودانيّة والحركة الشعبيّة قطاع الشمال. وهي شراكة أقرّتها اتفاقيّة نيفاشا، ووضعت لها بروتوكولًا خاصًّا قضى بإجراء مشورةٍ شعبيّةٍ في الولايتين لتأكيد الوضعية التي حصلتا عليها في اتفاقيّة السلام الشامل، أو تحسينها. غير أنّ حكومة السودان التفّت على ذلك البروتوكول وأجهضته. فبعد انفصال الجنوب مباشرةً، أعلنت الحكومة السودانيّة أنّها لا تقرّ بوجود شيءٍ اسمه الحركة الشعبيّة قطاع الشمال، دع عنك امتلاكها آلة عسكريّة مستقلّة عن الجيش السودانيّ. غير أنّ تلك الآلة العسكريّة المستقلّة كانت جزءًا من الترتيبات التي وقّعتها الحكومة السودانيّة في اتفاقيّة نيفاشا. وكان من المفترض أن يجري تسريحها وإعادة دمجها أثناء الفترة الانتقاليّة، غير أنّ ذاك لم يتمّ حينها. عقب انفصال الجنوب قامت الحكومة السودانية، في حزيران / يونيو 2011، بمحاولةٍ لتجريد الحركة الشعبيّة من سلاحها في ولايتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وحدثت جرّاء ذلك اشتباكاتٌ داميةٌ في الولايتين، اضطرّت معها الحركة الشعبيّة قطاع الشمال إلى الخروج من عاصمتَي الولايتين، والارتداد مرّةً أخرى إلى الأدغال، والشروع في حرب عصاباتٍ جديدةٍ مع الحكومة السودانيّة، لا تزال رحاها دائرةً حتّى الآن.
كان الطرفان وقّعا اتّفاقَ شراكة سياسيّة جديدًا في 28 حزيران / يونيو 2011 عُرف باتّفاق "نافع /عقار"[1] قضى ذلك الاتّفاق بمعالجة أوضاع العسكريّين من المنطقتين الذين كانوا جزءًا من الجيش الشعبيّ، وتحويل الحركة الشعبيّة قطاع الشمال إلى حزبٍ سياسيّ معترفٍ به، إلّا أنّ الرئيس السودانيّ عمر البشير ألغى الاتّفاق من طرفٍ واحد.
عقب وصول حالة التوتّر بين الدولتين على الحدود إلى حدٍّ أنذر باحتمال وقوع حربٍ شاملةٍ، في نيسان / أبريل 2012، وقّع رئيسا البلدين في أديس أبابا، بعد مفاوضاتٍ مباشرة بينهما للمرّة الأولى، في 27 أيلول / سبتمبر من العام نفسه اتّفاقًا لحسم القضايا الرئيسة التي ظلّت عالقةً منذ انفصال الجنوب في عام 2011. اتّفق رئيسا البلدين على إنشاء منطقةٍ منزوعة السّلاح على طول الحدود بين البلدين التي يبلغ طولها ألفَي كيلومتر، كما اتّفقا على استئناف ضخّ النفط والتجارة الحدوديّة. غير أنّ ذلك الاتّفاق بقي حبرًا على ورق، وظلّت حالة التوتّر قائمةً كما هي. فجمهوريّة السودان ظلّت تدعو جمهوريّة جنوب السودان للعمل على تجريد الحركة الشعبيّة قطاع الشمال من سلاحها، كما ظلّت تصرّ على أنّها لن تفاوض بشأن أيّ ترتيباتٍ أخرى، ما لم تضع هذه الحركة السّلاح. واللّقاء الذي جرى في 8 آذار / مارس 2013 في أديس أبابا، كان الأوّل الذي يجري بين البلدين، منذ فشل اجتماع الرئيسيْن عمر البشير وسلفا كير في أديس أبابا، في كانون الثاني / يناير الماضي. وهو لقاءٌ كان من المؤمّل أن يسهم في تخطّي حالة الجمود في المفاوضات التي ظلّت قائمةً بخصوص كلّ تلك القضايا العالقة. وإثر فشل قيام جولةٍ أخرى من المفاوضات كان مقرّرًا لها أن تجريَ في شهر شباط / فبراير الماضي، تبادلت الدولتان اتّهاماتٍ بارتكاب خروقاتٍ أمنيّة والقيام بعمليات عسكريّة عبر الحدود. واتّهم كلّ واحدٍ من الطرفين الطرف الآخر بدعم متمرّدين ناشطين داخل دولته.
تداعيات إيقاف ضخّ النفط عبر السّودان
في كانون الثاني / يناير 2012 أغلقت دولة جنوب السودان الأنبوب الذي ينقل نفطها، عبر أراضي جمهوريّة السودان إلى ميناء التصدير على ساحل البحر الأحمر. ويبلغ حجم النفط المنتج في دولة جنوب السودان 350 ألف برميل يوميًّا، ويمثّل نحو 98% من عائدات التصدير بالنسبة إلى دولة جنوب السودان. أوقفت جمهورية جنوب السودان ضخّ النفط، بعد تزايد التوتّرات والاتّهامات المتبادلة، وفشل المفاوضات بين الدولتين في الوصول إلى اتّفاقٍ يرضي الطرفين بشأن رسوم عبور البرميل. وهي رسوم تتضمّن إضافةً إلى العبور، تكلفة المعالجة التي تجري في منشآت جمهوريّة السودان، والتحميل في موانئها. ولقد أدّى توقّف ضخّ النفط المنتج في جنوب السودان إلى حرمان جمهوريّة السودان من عائدات رسوم العبور التي كانت الحكومة السودانيّة تؤمّل في أن تسدّ لديها جزءًا معتبرًا من الفجوة الكبيرة في ميزانيّتها، تُقدّر بنحو أربعة مليارات دولار، والتي أحدثها فقدانها ثلثَي النفط المنتج في السودان الموحّد قبل انفصال الجنوب. فمنذ انفصال الجنوب وتراجع عائدات النفط تفاقم الغلاء في جمهوريّة السودان، وارتفعت معدّلات التضخّم، وفقد الجنيه السودانيّ في فترةٍ وجيزة ما يقارب نصف قيمته. يضاف إلى كلّ تلك الضغوط الماليّة أنّ حكومة السودان أصبحت مواجهة بنفقات حرب عصاباتٍ في ولايتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق، علاوةً على الاضطرابات المستمرّة أصلًا في إقليم دارفور. أمّا جمهوريّة جنوب السودان، فقد بقيت بلا عائداتٍ ماليّة تقريبًا، ما انعكس على حياة المواطنين الذين هم أصلًا في حاجةٍ إلى كلّ شيءٍ تقريبًا. كما أنّ توقّف التجارة الحدوديّة، حرَم الجنوبيّين من كثيرٍ من السّلع الغذائيّة الأساسيّة التي كانت تزوّدهم بها جمهوريّة السودان. في تلك الفترة، احتلّت حكومة جنوب السودان حقل هجليج النفطي التابع لجمهوريّة السودان، فاستردّته حكومة السودان بالقوّة، ولقي ذلك الاعتداء إداناتٍ دوليةً وإقليميّةً كبيرة.
حدت المخاطر الكبيرة التي أصبحت تحيط بالدولتين وبمواطنيهما، نتيجةً لسياسة الكيد والضغط المتبادلة بين الحكومتين، بالمجتمع الدوليّ لممارسة ضغوطٍ كبيرةٍ عليهما، بلغت حدّ التهديد باتّخاذ إجراءاتٍ ضدّهما، إن لم توقّعا اتّفاقًا جديدًا يسمح بتطبيق ما تم الاتفاق عليه من قبل. عن هذا الاتّفاق الأخير، يقول رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو مبيكي الذي يرأس لجنة الوساطة التابعة للاتّحاد الأفريقيّ: "إنّ البلدين وافقَا على إصدار الأوامر لقوّاتهما بالانسحاب من المنطقة منزوعة السّلاح بحلول 14 آذار / مارس الجاري". كما ذكر أنّ البلدين سينهيان انسحابهما من المنطقة المعنيّة بحلول الخامس من نيسان / أبريل المقبل، وفق جدولٍ زمنيٍّ محدّد. ويقضي الاتّفاق كذلك بتكليف آليّةٍ محايدةٍ لمراقبة المنطقة العازلة بين البلدين. واتّفق وفدَا البلدين في المداولات التي أعقبت توقيع الاتّفاق على استئناف ضخّ النفط في غضون أسبوعٍ أو أسبوعين.
فرص الاتّفاق في النجاح
رحّب كلٌّ من الاتّحاد الأفريقيّ والمجموعة الأوروبيّة والخارجيّة الأميركيّة بالاتّفاق، ولكن كانت ردود الفعل الداخلية تجاهه كانت باهتةً بعض الشيء. ويبدو أنّ تكرار تنصّل الدولتين من الالتزام بالاتّفاقات السابقة أدّى إلى هذه الحالة من الفتور التي قوبل بها هذا الاتّفاق الجديد.
ما يلفت النظر في هذا الاتّفاق أنه لم يرد فيه ذكرٌ للحركة الشعبيّة قطاع الشمال. وكانت الأنباء تشير، قبل الاتّفاق بأيّامٍ، إلى أنّ وفدًا من الحركة الشعبيّة قطاع الشمال سيكون مشاركًا في هذه المفاوضات. ثمّ صدر بيانٌ من الحركة الشعبيّة، في اليوم التالي لتوقيع الاتّفاق، يقول إنّ الحركة تلقّت دعوةً من لجنة الوساطة ورئيسها ثابو مبيكي في 14 شباط / فبراير الماضي، لحضور هذه الجولة من المفاوضات التي انعقدت في العاصمة الإثيوبيّة أديس أبابا، في الثامن من آذار / مارس الجاري. وتلبيةً للدعوة، وصل وفد الحركة إلى أديس أبابا، غير أنّه تلقّى عقب وصوله إشعارًا من نفس اللجنة الداعية بتأجيل المفاوضات إلى العاشر من آذار / مارس. ثم جاءت الأنباء لتقول أن المفاوضات بين حكومة السودان والحركة الشعبية قطاع الشمال قد تم تعليقها. حمّلت بيان الحركة الشعبية قطاع الشمال في البيان الذي صدر في التاسع من آذار / مارس، الحكومة السودانيّة المسؤوليّة عن عرقلة التفاوض. وذكر البيان أنّ الحكومة السودانيّة منقسمةٌ على نفسها، وأنّ قادتها الكبار غير راغبين في تنفيذ القرار 2046، وهو قرارٌ يُلزم أحد بنوده كلًّا من الحكومة السودانيّة والحركة الشعبيّة قطاع الشمال بالتفاوض والوصول إلى حلٍّ سلميّ. وعلى الرّغم من استخدام الحركة الشعبيّة قطاع الشمال القرار 2046 مرجعيّةً تستند عليها لتقول إنّ الحكومة السودانيّة لم تلتزم بها، نجد أنّها قد خالفت بنودًا أخرى من هذا القرار تقول إنّه: "يدين أيّ إجراءات تتّخذها أيّ جماعة مسلّحة ﺑﻬدف الإطاحة بالقوّة بحكومة السودان، أو جنوب السودان". فالحركة الشعبيّة قطاع الشمال وَقّعت في 6 كانون الثاني / يناير 2013 في العاصمة اليوغندية كمبالا، "ميثاق الفجر الجديد" الذي نصّ على أنّ الموقّعين متّفقون على إسقاط النظام في الخرطوم.
إلى جانب ضغط المجتمع الدوليّ وتهديده بإجراءاتٍ إضافيّة، بدَا أنّ كلًّا من الحكومة السودانيّة وحكومة جنوب السودان، قد وصلتا إلى نقطةٍ أصبحتا فيها مهيّأتين للاستجابة لمواصلة الحوار والتوصّل إلى اتّفاق. فالضائقة الاقتصاديّة والمعيشيّة أخذت بخناق البلدين، بعد مرور نحو عامٍ منذ أن توقّف تصدير نفط جنوب السودان. غير أنّ الحكومة السودانيّة - كما هو واضح - قد رفضت دعوة مبيكي للتفاوض مع الحركة الشعبيّة قطاع الشمال، في مساقٍ سياسيّ كان من المؤمّل أن يسير بصورةٍ موازيةٍ للمساق الأمنيّ. وربّما يشير توقيع الاتّفاق بين البلدين إلى أنّ دولة جنوب السودان قد وافقت ضمنًا على نوعٍ من فكّ الارتباط بالحركة الشعبيّة قطاع الشمال. وقد تفلح آليّة مراقبة الحدود في الحدّ من الدعم اللوجستي الذي يمكن أن تجده الحركة الشعبيّة قطاع الشمال من دولة الجنوب، أو اتّخاذ أراضي الجنوب ملاذًا لقوّات الحركة الشعبيّة في كرّها وفرّها، وهي تقاتل الحكومة السودانيّة في هاتين الولايتين الحدوديّتين. ولكن، ربّما لا يعني هذا، وبالضرورة، أنّ الحركة الشعبيّة قطاع الشمال سوف تختنق تمامًا. فقد سبق أن قاتلت الحركة الشعبيّة الأمّ في الشمال في منطقة جبال النوبة في وسط السودان قبل انفصال الجنوب تحت زعامة يوسف كوة، وكانت تجد، مع ذلك، الدعم اللوجستيّ الكافي. ويبدو من جملة الاتّفاق أنّ هناك قدرًا من المرونة لدى الطرفين المتنازعيْن ولدى الوساطة مكّن من توقيع هذا الاتّفاق الذي يُرجى له أن يسهم في تخفيف الضوائق الاقتصاديّة والمعيشيّة الطاحنة التي يعاني منها شعبا البلدين، وتعاني منها الحكومتان، وأن يهدّئ الأوضاع ويساعد على المضيّ في حلحلة بقيّة الأمور العالقة.
مخرج الحوار الوطنيّ الشامل
يمثّل هذا الاتّفاق حالةً من حالات توازن الضعف. وهو توازنٌ أصبح يحكم الصراع بين شطرَي السودان، بما في ذلك ما يجري في داخل كلٍّ من الدولتين من صراعٍ جنوبيّ - جنوبيّ، وصراع شماليّ - شماليّ. فالوصول إلى اتّفاقٍ يخرج الأمور من نفق الانغلاق، ويخفّف الأزمة الماليّة والضائقة الاقتصاديّة والمعيشيّة في البلدين، أمرٌ مُرَحَّبٌ به في كلّ الأحوال. وينطبق ذلك الترحيب أيضًا على التفاوض من أجل إيجاد مخرجٍ سلميّ. وما كان يجب منذ البداية التعويل على المواقف المتصلّبة والعمد إلى لَيِّ ذراع الطرف الآخر، وهو أمرٌ مارسته الحكومتان. غير أنّ رفض الحكومة السودانيّة التفاوض مع الحركة الشعبيّة قطاع الشمال، في هذا اللقاء الأخير، وهي التي نسفت منذ البدء استحقاقات الحركة الشعبية قطاع الشمال من اتفاقيّة نيفاشا، ودفعت بها إلى الأدغال بمحاولتها نزع سلاحها بالقوّة، بعد أن مارست عليها سلسلة من الالتفافات غير الضروريّة، يقلّص مقدار التفاؤل إزاء هذا الاتّفاق. فالصراع في السودان منذ الاستقلال وإلى اليوم لم يكن صراعًا جنوبيًّا شماليًّا صرفًا. كما لم يكن صراعًا مطلبيًّا صرفًا بين هامش الدولة السودانيّة ومركزها، وحسب. وإنّما كان، على الدوام، صراعًا ظلّت للأيدي الإقليمية والأجنبية فيه يدٌ ظاهرة[2]. فالحرب الدائرة الآن في ولايتَي النيل الأزرق وجنوب كردفان، والكارثة الإنسانيّة الماثلة الناتجة منها، إضافةً إلى الاضطرابات في إقليم دارفور، ثمّ التهميش المزمن للمعارضة الحزبيّة الشماليّة التي ظلّت مُقصاةً من كلّ حوارٍ بخصوص الشأن الوطنيّ، وكلّ إسهام في ما يُبرم من اتفاقيّات لها علاقة بمستقبل البلاد، تجعل كلّ الأبواب مشرعةً للتدخّلات الأجنبيّة. وربما تعَّين على الحكومة السودانيّة أن تتذكّر أنّها عبر قرابة ربع القرن الذي أمضته في الحكم، لم تتمكّن من حسم أيٍّ من النزاعات - وما أكثرها! - عن طريق القوّة العسكرية. فتصوُّر أنّ فكّ الارتباط الظاهريّ بين دولة جنوب السودان والحركة الشعبيّة قطاع الشمال، سوف يضعف الحركة الشعبية عسكريًّا ويهيّئ المناخ للحكومة السودانيّة لتستفرد بها وتجبرها على الركوع لشروطها، تصوُّرٌ ربّما لا يكون صحيحًا تمامًا. لا يزال هناك مجالٌ لحوارٍ سودانيّ - سودانيّ يجمع الأطراف كلّها؛ التي تحمل السلاح، والتي تعارض بالأساليب السلميّة، من أجل الوصول إلى صيغةٍ للحكم يرتضيها الجميع. نعني، صيغةً تقرّ بالتنوّع، وبالحرّيات، وبالديمقراطيّة، وبالشفافيّة، وباللامركزيّة التي تعطي الأقاليم ذات الخصوصيّة إداراتٍ ذاتيّةً تملك استقلاليّةً نسبيّةً حقيقيةً في إطار الدولة المركزيّة. فلا مخرجَ للسودان من مخاطر التفتيت المحدقة به من غير اعترافٍ صريحٍ بأنّ البلاد تعيش أزمةً طاحنة، وأنّها في حاجةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى حوارٍ وطنيٍّ صريحٍ وشفّاف بين الحكومة وسائر فصائل المعارضة؛ المدنيّ منها والمسلّح. هذا الحوار الوطني هو صمام الأمان من الاختراقات، وبغيره تبقى فرص التفتيت قائمةً، بل ومتنامية.
[1] نسبةً إلى أنّ اللّذيْن وقّعاه هما نافع علي نافع نائب رئيس حزب المؤتمر الوطنيّ الحاكم، ومالك عقار رئيس الحركة الشعبية قطاع شمال.
[2] راجع محمود محارب، التدخل الإسرائيلي في السودان، في انفصال جنوب السودان: المخاطر والفرص، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012 )، ص ص 203-222.
 
فرنسا ـ حزب الله.. علاقات معقدة.. أبعاد داخلية لبنانية وإقليمية وتاريخية تتحكم فيها

جريدة الشرق الاوسط... باريس: ميشال أبو نجم ... يروي إيلي برنابي، سفير إسرائيل السابق في باريس أنه ذهب لمقابلة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ليقنعه بضرورة النظر إلى حزب الله اللبناني على أنه «منظمة إرهابية مسؤول منذ ولادته في عام 1982 عن عمليات خطف وقتل واعتداءات إرهابية وخطف طائرات وقصف إن على الأراضي اللبنانية أو في الخارج والتي أسفرت عن مقتل مئات الأشخاص...».
وبحسب السفير الإسرائيلي السابق، فإن شيراك رفض الإصغاء بل رد عليه قائلا: «حزب الله حزب سياسي لبناني، وهو جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي في هذا البلد، وجزء من توازنه الطائفي». وكان رد برنابي عليه: «لماذا تعتبرون حركة حماس منظمة إرهابية وترفضون الحكم عينه على نظيرتها اللبنانية؟». ومجددا، بحسب برنابي، فإن النظرة الفرنسية لم تتغير رغم لائحة طويلة من الأعمال الإرهابية أو مشاريع الاعتداءات التي ينسبها لحزب الله في الأرجنتين والهند وتايلاند وجورجيا وكينيا وقبرص، ناهيك من عملية الاعتداء على سياح إسرائيليين في مطار بورغاس في بلغاريا التي أوقعت ستة قتلى بينهم خمسة إسرائيليين وسائق بلغاري وعشرات الجرحى. وفي 5 فبراير (شباط) الماضي، أعلن وزير الداخلية البلغاري تسفيتان تسفيتانوف رسميا أن حزب الله هو المسؤول عن العملية الانتحارية وأن الشخصين المسؤولين عنها وهما يحملان الجنسيتين الكندية والأسترالية ينتميان إلى حزب الله. ويتساءل السفير الإسرائيلي السابق عن «مغزى» الممانعة الأوروبية حتى الآن في اعتبار حزب الله منظمة إرهابية «رغم الدلائل» والاستمرار في سياسة النعامة و«دفن الرأس في الرمال»؟
غير أن حزب الله يرد على ذلك بالتنديد بـ«حملة الافتراءات» ضده التي تقف وراءها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وينفي كليا أي علاقة له بتفجير بورغاس.
والواقع أنه بعد سبعة أشهر على اعتداء بورغاس، ورغم الاتهامات البلغارية الرسمية والضغوط الإسرائيلية ــ الأميركية على الاتحاد الأوروبي لوضع حزب الله على لائحة الاتحاد الإرهابية، فإن الدول الأوروبية الـ27 رفضت حتى الآن بدفع من فرنسا وإيطاليا، بالدرجة الأولى، الخضوع للضغوط المذكورة. وفي سياق الضغوط الأميركية على الاتحاد الأوروبي، أعلن نائب الرئيس جو بايدن في كلمة له أخيرا أمام مؤتمر مجموعة الضغط الإسرائيلية ــ الأميركية «أيباك» أن حزب الله، حسب كلامه: «يطرح نفسه على أنه مجموعة رعائية سياسية واجتماعية بينما هو يتآمر ضد أبرياء من أوروبا الشرقية إلى شرق أفريقيا، من جنوب شرقي آسيا إلى أميركا الجنوبية». وأضاف بايدن: «نحن نعلم ما تعلمه إسرائيل: حزب الله منظمة إرهابية...نقطة على السطر. ونحن نحث كل بلد يتعامل مع حزب الله أن يبدأ معاملته على هذا النحو ويسميه منظمة إرهابية»، مشيرا إلى الجهود التي تبذلها واشنطن من أجل إقناع الأوروبيين بوضع حزب الله على لائحة المنظمات الإرهابية وفرض عقوبات عليه إذ «علينا معا أن نعمل على مواجهة حزب الله أينما يزرع بذور الكراهية».
وقبل بايدن، كتب توماس دونيلون، مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي، في صحيفة «نيويورك تايمز» مقالا حث فيه الأوروبيين على التحرك والتشدد في التعامل مع حزب الله مشيرا إلى أن واجب أوروبا هو «العمل الجماعي للرد بحزم على الهجوم الذي استهدف أرضا أوروبية بوضع حزب الله على لائحتها للمنظمات الإرهابية». ونبه دونيلون الأوروبيين إلى أنه «ما عاد بمقدورهم الاستمرار في تجاهل الخطر المتمثل بحزب الله على أوروبا والعالم، إذ من التوهم النظر إليه على أنه لاعب سياسي يتحلى بالمسؤولية في لبنان».
غير أن كل الحجج والضغوط لم تفلح في حمل باريس على تغيير موقفها، الأمر الذي تبدى في اجتماعات الاتحاد الأوروبي ورفض فرنسا وضع حزب الله على لائحة الإرهاب الأوروبية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي المحددات التي تدفع فرنسا إلى الرفض؟ وهل الموقف الذي أعلنه الرئيس السابق شيراك والأسباب التي ذكرها ما زالت هي نفسها التي تتحكم بالسياسة الفرنسية؟ أم ثمة أبعادا أخرى إقليمية ودولية أو ذات علاقة بالمصالح الفرنسية في لبنان والمنطقة هي التي تحمل باريس على الثبات على نهج معتدل إزاء الحزب المذكور؟
خلال السنوات الأخيرة، خرج مسؤولان فقط عن الخط الرسمي الفرنسي التقليدي تجاه حزب الله بوصفهما إياه بالإرهابي أو الأعمال التي يقوم بها بـ«الإرهابية».
الأول، كان رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان (1997ــ2002) خلال زيارة قام بها إلى إسرائيل وإلى أراضي السلطة الفلسطينية في شهر فبراير عام 2000. فقد قال جوسبان، بمناسبة محاضرة ألقاها في جامعة بيرزيت: «إن فرنسا تدين الهجمات التي يقوم بها حزب الله وكل الهجمات الإرهابية التي تحصل وتحديدا ضد الجنود والمدنيين الإسرائيليين». ولدى خروجه من الجامعة، تعرض جوسبان لرشق بالحجارة من عشرات الفلسطينيين لا بل إنه أصيب في رأسه. وأثارت تصريحاته شبه أزمة بينه وبين رئيس الجمهورية جاك شيراك. وأصدر الإليزيه بيانا ذكر فيه جوسبان بأن «المواقف التي تنقلب على حياد الدبلوماسية الفرنسية تطيح بمصداقية سياستنا الخارجية». بعدها وبالنظر إلى أولوية رئاسة الجمهورية على رئاسة الحكومة فيما يتعلق بالسياستين الخارجية والدفاعية، فقد عادت باريس إلى مواقفها التقليدية. وثمة من يعتقد أن جملة جوسبان ساهمت في خسارته الانتخابات الرئاسية التي خاضها بوجه شيراك في عام 2002. ودفعته هزيمته المرة حيث لم يتأهل للدورة الثانية إلى الخروج نهائيا من الحياة السياسية.
أما الشخصية الثانية التي لم تتردد في الربط بين حزب الله والإرهاب فهي الرئيس السابق نيكولا ساركوزي المعروف بصداقاته الإسرائيلية وتحديدا مع بنيامين نتنياهو. فخلال حرب إسرائيل على لبنان عام 2006. كان ساركوزي يشغل منصب وزير الداخلية ولم يتردد، في حديثه عن حزب الله، في الإشارة إلى أنه «يخاطر بأن يسلك سلوكا إرهابيا». وبعد انتخابه، في عام 2007 وبمناسبة زيارة رسمية قام بها لإسرائيل، دعا ساركوزي الحزب المذكور إلى «التخلي عن العمل الإرهابي». لكن رغم هذه المواقف، فإن سياسة فرنسا لم تتغير واستمرت على تواصل مع حزب الله الذي دعته للمشاركة في مؤتمر الحوار اللبناني في مدينة سيل سان كلو في عام 2008 الذي دعت إليه الخارجية الفرنسية عددا من الأفرقاء السياسيين اللبنانيين. ولم يتوقف نواب حزب الله ووزراؤه لاحقا عن المجيء إلى باريس كما أن السفارة الفرنسية في بيروت استمرت في التحاور مع الحزب خصوصا بعد قيام الفينول 2 التي لعبت فيها باريس دورا رياديا.
تقوم سياسة باريس الثابتة تجاه لبنان التي أكدتها أعلى المراجع الفرنسية وفي كل مناسبة ومهما يكن لون الحكومة يمينية أم يسارية، على الإعلان عن التمسك بسيادته واستقلاله السياسي وسلامة أراضيه وبأولوية المؤسسات الدستورية والديمقراطية وبوحدانية السلاح الشرعي. وتضاف إلى ذلك دعوة باريس الدائمة إلى توافق اللبنانيين فيما بينهم وتعايش مكونات الكيان على تنوعه الذي كانت لفرنسا اليد الطولى في إنشائه مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانتدابها على لبنان من قبل عصبة الأمم. وتتمسك باريس بالتعايش باعتباره الضمانة الأولى للاستقرار السياسي والأمني. وفي الموضوع السوري، تدعم فرنسا سياسة «النأي بالنفس» التي اختطها لبنان الرسمي وتحفز اللبنانيين على التمسك بما يسمى «وثيقة بعبدا» التي تؤكد على هذا التوجه. وأكثر ما يقلق باريس، وفق ما يكرره مسؤولوها منذ بداية الأزمة السورية هو أن تتمدد إلى لبنان الذي تعتبره «الحلقة الأضعف» والأكثر تعرضا لانعكاساتها من بين كل بلدان الجوار. وعلى «الجبهة» اللبنانية ــ الإسرائيلية، تتمسك باريس بتنفيذ الطرفين اللبناني والإسرائيلي القرار الدولي رقم 1701 الذي وضع حدا للحرب الإسرائيلية على لبنان صيف عام 2006. وترى المصادر الفرنسية أن أبرز دليل على نجاعة القرار المذكور أن الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية ما زالت هادئة منذ سبع سنوات رغم استمرار الطلعات الجوية الإسرائيلية فوق لبنان وصعوبة إيجاد حل لقرية الغجر واستمرار الخلاف على تحديد هوية مزارع شبعا... ولم تخل السنوات المنقضية من أحداث توتر بين اليونيفيل وتحديدا القوة الفرنسية التي تتكون في الوقت الحاضر من 850 رجلا و«جمهور» حزب الله في الجنوب وفي مناطق انتشار القوات الدولية. كذلك عرفت الحدود بعض التوتر الذي بقي ضمن الحدود التي يمكن التحكم بها.
وقالت الخارجية الفرنسية الجمعة الماضي إن باريس «مستمرة في لعب دورها في إطار القوات الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) نظرا للدور المحوري الذي تلعبه في المحافظة على استقرار جنوب لبنان» مضيفة أن دورها «أصبح أكثر محورية مع تزايد التوترات الإقليمية». وككل مرة، تؤكد باريس «تمسكها بأن تلعب اليونيفيل دورها الكامل وتنفذ كامل المهمة التي أوكلها إليها مجلس الأمن الدولي».
كل هذه المواقف «الرسمية» تصب كلها في اتجاه واحد هو المحافظة على استقرار لبنان وتنوعه الثقافي والبشري والديني. ولذا، فإن نوعية العلاقة الفرنسية مع حزب الله تطوع من أجل هذا الهدف الأعلى بانتظار أن تنضج الظروف الإقليمية يوما حتى يعود حزب الله يوما ما حزبا مدنيا من غير جناح عسكري.
ولكن إذا كانت هذه عناصر الموقف الفرنسي الرسمي، فكيف يقومه الخبراء وأهل السياسة؟
«الشرق الأوسط» اختارت طرح هذه الأسئلة على دوني بوشار، الدبلوماسي السابق مستشار المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية الخبير في شؤون الشرق الأوسط وعلى النائب في البرلمان الفرنسي جيرار بابت، الذي رأس سابقا مجموعة الصداقة الفرنسية ــ اللبنانية في البرلمان.
يقول دوني بوشار إن باريس تنظر إلى حزب الله على أنه «حزب سياسي له نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة وبالتالي يتمتع بالشرعية المتأتية عن العملية الانتخابية». وبنتيجة ذلك، فإن باريس «تقيم معه علاقات ثنائية جيدة عبر سفارتها في بيروت مع وزراء ونواب الحزب وعلى كل المستويات»، فضلا عن ذلك، تسعى فرنسا لإقامة «علاقات جيدة ومتوازنة مع كل الطوائف اللبنانية ومنها الطائفة الشيعية» التي تعتبرها من الطوائف «المهمة» في لبنان والتي «من الصعب الالتفاف عليها». ولذا، فإنها «شريك» تتعامل معه فرنسا من خلال علاقاتها مع رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري ومن خلال حزب الله.
غير أن هناك عوامل أخرى يشير إليها دوني بوشار وتتحكم بعلاقات باريس بالحزب المذكور وأولها وجود اليونيفيل في جنوب لبنان ومن ضمن صفوفها القوة الفرنسية الأمر الذي يدفع الباحث الفرنسي إلى وصف هذه العلاقة في الجنوب بأنها «بالغة الحساسية». ويرى بوشار أن ما يزيد في حساسيتها التوتر الإضافي المتأتي عن الوضع في سوريا وارتداداته لبنانيا ومواقف الأطراف اللبنانية منها ما يعني عمليا أن باريس مدعوة لأخذ هذا العامل بعين الاعتبار في رسم سياستها على المسرح اللبناني. غير أن بوشار الذي يرى أن «الوضع أصبح أكثر حساسية مما كان عليه من قبل» بسبب العوامل المشار إليها، يشير إلى «وجود توافق ضمني بين اليونيفيل وحزب الله لتحاشي قيام تصعيد خطير يفضي إلى أحداث لا تحمد عقباها» بين الجانبين.
وما يشير إليه بوشار تلميحا تقوله مصادر سياسية فرنسية صراحة وفحواه أن قبول فرنسا وضع حزب الله على لائحة الإرهاب «يرجح أن ينعكس توترا في العلاقة بين اليونيفيل وأنصار حزب الله» خصوصا أن باريس تتبع نهجا بالغ التشدد إزاء النظام السوري الذي يحظى بدعم الحزب غير المشروط. وتضيف المصادر الفرنسية أن «ما يصح على الملف السوري يصح أيضا على الملف النووي الإيراني» حيث تلتزم باريس أيضا إزاءه موقفا متشددا يتناقض تماما مع آيديولوجيا والتزامات وولاءات حزب الله.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن الباحث جوزيف بحوت وهو أستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس أن الرضوخ لمطلب إسرائيل وواشنطن «سيضع اليونيفيل في وضع لا يطاق» في جنوب لبنان لأن تقبل القوات الدولية في هذه المنطقة «يعود في جزء كبير منه لحسن العلاقات التي ما زالت قائمة بين الغرب وتحديدا فرنسا وحزب الله».
ومن جانبه يرى النائب جيرار بابت في موضوع اليونيفيل أن «مصلحة حزب الله أن يحافظ على الهدوء في جنوب لبنان ولا يفتعل المشاكل». وينفرد النائب الفرنسي بنظرة خاصة به إذ قال لـ«الشرق الأوسط» إن المخاطر بالنسبة لليونيفيل «يمكن أن تأتي من جانب السلفيين أكثر مما تأتي من جانب حزب الله». ويدعو بابت بلاده على أخذ هذه المخاطر بعين الاعتبار في موضوع اليونيفيل بالطبع ولكن على نطاق أوسع لجهة الدعم الذي تقدمه فرنسا للمعارضة السورية مع ما يحمل ذلك من مخاطر متأتية عن صعود التيارات السلفية وانعكاساتها على لبنان والمنطقة. ويشير بابت إلى أنه «حان الوقت» للحكومة الفرنسية أن تعيد تقويم موقفها خصوصا أن الجانبين الأميركي والروسي «يبحثان عن مخرج يجنب انحدار سوريا إلى وضع الفوضى الشاملة والاستفادة من التجربة الليبية وقبلها التجربة الأفغانية».
ويضع بابت علاقة باريس بحزب الله في إطار العلاقات العامة الفرنسية ــ اللبنانية. غير أنه يرى فيها «خروجا من الرؤية السابقة التي كانت تركز سابقا على العلاقة الفرنسية ــ المارونية» كأساس لما هو قائم بين بيروت وباريس. وبرأيه أن علاقة فرنسا بحزب الله «حيوية بالنظر للحقائق القائمة على الأرض». ولذا، فإنه يدعو لأن تكون «مصدرا لاستقرار الوضع الداخلي في لبنان».
ومن زاوية العلاقات المثلثة الفرنسية ــ الإيرانية ــ حزب الله، يرى بابت أن معاودة المحادثات بشأن الملف النووي الإيراني بين طهران ومجموعة الست لا بد أن ينعكس إيجابيا على هذه العلاقة في حال أفضت إلى نوع من التفاهم.
يبقى موضوع حزب الله على الأجندة الأوروبية. وبهذا السياق تقول المصادر الفرنسية إنه «يمكن تصور حلول وسطية» توفق بين التيارين الرئيسيين داخل مجموعة الـ27 ومنها على سبيل المثال استهداف الجناح العسكري لحزب الله أو وضع أسماء الأشخاص المعنيين بعملية بورغاس على «اللائحة السوداء» تماما كما حصل مع اسم عماد مغنية، القائد العسكري في حزب الله الذي بقي اسمه على اللائحة المذكورة حتى مقتله في تفجير سيارته في دمشق عام 2008.
 
أطفال مقاتلي «القاعدة» في العراق: لا نملك بطاقات هوية ولا نعرف قبوراً لآبائنا
الحياة....ديالى (وسط العراق) - دلوفان برواري وسلام جهاد
تقف هدى ذات البشرة السمراء والشعر الكث، والتي أكملت عامها السادس، كل صباح على باب منزلها وهي تراقب صديقاتها اللواتي يتجهن إلى المدرسة، من دون أن تعرف ما يمنعها من اللحاق بهن، فهي لا تدرك أن لا وجود لها في سجلات الدولة العراقية ولا حقوق مدنية، وأنها لم ترث من والدها «المجاهد العربي» في تنظيم «القاعدة» والذي قتل قبل أن تولد، حتى الاسم الذي سيتبع اسمها في الأوراق الرسمية.
بلا مستقبل، في بيئة يحاصرها الفقر وعائلة تطاردها الوصمة الاجتماعية، تكبر هدى، ومثلها شيماء ذات الأعوام الأربعة، ومحمد الذي أكمل عامه السابع من دون أن يعرف شيئاً عن والده المفقود، ومئات آخرون من أطفال المقاتلين العرب في التنظيم الذي سيطر على أجزاء واسعة من محافظات الأنبار وديالى ونينوى وصلاح الدين بين عامي 2004 و2009، وأقام عليها «دولة إسلامية» فرض فيها قوانينه عبر محاكم شرعية وذراع عسكرية ضمت آلاف المقاتلين الذين قتلوا أو اعتقلوا أو رحلوا بعد سنوات تاركين خلفهم أطفالاً بلا هوية، ونساء يائسات بلا معيل.
تقول أم هدى، وهي تحاول إخفاء دموع لاحت في عينيها البنيتين، بينما تراقب ابنتها عبر النافذة المغطاة بالنايلون، في الغرفة الوحيدة التي يتألف منها منزلها في أحد أحياء العشوائيات بمحافظة ديالى «لم نرث منه غير الفقر والنبذ الاجتماعي ومضايقات الأجهزة الأمنية. قضيت سنواتي الأخيرة وأنا أهرب بابنتي من الجوع والنظرات الجارحة والأسئلة المحرجة».
وأردفت، وهي تحاول تغطية وجهها بطرف العباءة السوداء الطويلة التي كانت ترتديها «تحملت ظروفاً لا يمكن بشراً احتمالها، ولطالما تمنيت الموت، لكنني بقيت أواجه كل شيء كي لا أظلم ابنتي كالآخرين».
 زواج «شرعي» بالإكراه
أم هدى التي أبلغها إخوتها بقرار تزويجها بمقاتل عربي قبل أن تكمل عامها الـ18، لم تستطع أن تصف شعورها تجاه زوجها «كنت صغيرة حين زوجوني به، قالوا إنه في الأربعينات، ومن أهل الله، وذلك يكفي للترحيب به زوجاً، فعناصر التنظيم كانوا محط احترام كبير، إذ إنهم يحملون راية الإسلام ويقاتلون الأميركيين».
وعن ترتيبات الزواج تقول «حدث كل شيء سريعاً ومن دون تحضيرات، لم يكن بإمكاني الاعتراض، كانت الحياة قاسية والناس يهربون من الفقر والموت، وتم الزواج بقراءة الفاتحة بحضور أحد شيوخ التنظيم».
في إحدى «غزواته ضد الاحتلال الأميركي» بعد ستة أشهر من زواجه، قتل والد هدى، لتدفن معه أسرار حياته السابقة، «قتل قبل أن أعرف حتى اسمه الحقيقي وجنسيته، كانوا ينادونه (أبو بكر) ولم أرَ معه يوماً أوراقاً رسمية تثبت هويته ولم يحدثني أبداً عن ماضيه، كان يتحاشى ذلك دائماً، ويرد: الحمدلله الذي تاب علينا وأنعم علي بالجهاد».
 نظرة دونية وطفل بلا هوية
مع محاولات الحكومة بسط سيطرتها تدريجاً على محافظة ديالى في 2007، وجدت أم هدى نفسها وحيدة، إثر مقتل شقيقها الأكبر وانقطاع أخبار شقيقها الثاني، لتواجه بمفردها «الفقر وأسئلة السلطات الأمنية ونظرة الناس الدونية»، قبل أن «تكتمل معاناتها» مع ولادة طفلة مجهولة الأب، اضطرت معها إلى مواجهة الحياة وحدها بالعمل في جمع قناني البيبسي الفارغة من الشوارع والمزابل لتأمين متطلبات حياتها.
مثل أم هدى، تزوجت أم شيماء عندما كانت في الـ15 من عمرها بأحد أفراد تنظيم «القاعدة». الفتاة التي قتل والدها في أحد التفجيرات التي شهدتها ديالى، وجدت نفسها وحيدة مع والدتها من دون معيل، في منطقة انتشر فيها أفراد التنظيم الذين قدموا سراً من دول عربية، وأطلقوا على أنفسهم أسماء رمزية ذات مدلولات دينية، وعاشوا في المنطقة مع غياب سلطة الحكومة العراقية، ثم قتلوا أو اختفوا مع عودة سيطرة الحكومة.
«مضطرة» تزوجت الأم الأرملة (والدة أم شيماء) بأحد أفراد التنظيم مثل أخريات ممن فقدن أزواجهن في المعارك ضد مقاتلي الحكومة والقوات الأميركية في 2007. ذلك الزواج كان يعني دخول العائلة ضمن التنظيم بما يفرضه من «قوانين وتقاليد» بما فيها زواج البنات في سن مبكرة، وهو ما حاولت أم شيماء رفضه لكنها لم تجد مهرباً منه.
تتذكر أم شيماء: «في إحدى الليالي دخل منزلنا ملثمون وقالوا لوالدتي إنني مطلوبة لأمر مهم، أخذوني إلى منزل مهجور، ودخل علي ثلاثة أشخاص ملتحين وقالوا نريدك زوجة لأحد المجاهدين، وعندما طلبت أن أعرف بمن سأتزوج دخل شاب في العشرينات من عمره وقال بلهجة خليجية، أنا الذي أريدك زوجة». «لم يكن أمامي غير الطاعة»، تقول أم شيماء التي ترتدي جلباباً أسود لا يظهر من خلاله إلا وجهها «رفضي كان يعني أنني فتاة عاصية، تم الزواج ورضيت بقسمتي، لم أعرفه جيداً، لا طبائعه ولا ما يحب وما يكره، فهو مثل باقي أفراد التنظيم كان يغيب لفترات ثم يظهر فجأة».
 زوجة أبو زكريا
هكذا، أصبحت أم شيماء زوجة «مجاهد عربي» يدعى (أبو زكريا)، لكن ذلك الزواج لم يستمر غير ثمانية أشهر، حيث أبلغوها بأن زوجها «استشهد في إحدى العمليات».
ولدت شيماء بعد ستة أشهر من رحيل والدها، في غرفة ببيت غير مكتمل البناء، بلا رعاية ولا اسم رسمي تحمله، ولا حقوق مدنية، بما فيها حق الحصول على البطاقة الغذائية. هي الآن في عامها الرابع تعيش على الصدقات، وتقول والدتها «نعيش كالعبيد، بلا أمل، وعلى رغم ذلك لا نرجو غير الخلاص من نظرات الناس الجارحة، ومن أسئلتهم التي لا ترحم».
يشارك هدى وشيماء هذه المشكلة، الطفل محمد الذي لا يعرف شيئاً عن مصير والده المختفي منذ سنوات، تقول والدته «انقطعت أخباره قبل خمس سنوات بعد اشتباكات وقعت شرق مدينة بعقوبة، ومن يومها لم نبلغ بمقتله ولا باعتقاله».
مثلهم يعيش المئات من بنات مقاتلي التنظيم غير المسجلين وأبنائهم رسمياً، في محافظات ديالى ونينوى والأنبار وصلاح الدين وشمال محافظة بابل وجنوب العاصمة بغداد والذين «يواجهون مصيراً مجهولاً يهدد بتحويلهم إلى متطرفين» وفق الناشط المدني جميل إبراهيم.
 520 حالة مسجلة وأخرى مجهولة
تشير إحصاءات لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، إلى وجود أكثر من 520 طفلاً «غير مجنسين» لمسلحين لا تعرف أسماؤهم الحقيقية، فيما لم تكشف عائلات كثيرة عن أبنائها غير المسجلين لاعتبارات أمنية واجتماعية.
يحذر إبراهيم من ظهور أجيال جديدة أكثر تطرفاً من مقاتلي تنظيم «القاعدة» يصنفهم بالجيل الثالث بعد جيلي أمير التنظيم في العراق أبو مصعب الزرقاوي الذي قتل في حزيران (يونيو) عام 2006، والجيل الذي تلاه من قادة ميدانيين عراقيين وأشقائهم وأبنائهم الكبار الذين بحثوا عن الانتقام.
«سيكون أبناء المقاتلين المنبوذين في المجتمع، جيلاً أشد تطرفاً إن لم يتم احتضان عائلاتهم»، ويؤكد إبراهيم أن الأمر يتجاوز حرمان أطفال من حقوقهم في الجنسية والتعلّم والرعاية الصحية والغذائية، إلى مجال حساس يتعلق بالوضع الاجتماعي لهم كأطفال شرعيين «هذه مسألة في غاية الخطورة». قرابة عامين من الصراع المسلح ومثلهما من الغياب الحكومي والفراغ الأمني الذي شهده الكثير من مناطق ديالى المتنوعة قومياً ومذهبياً، والتي خضعت لسيطرة مقاتلي ما عرف بدولة العراق الإسلامية، كانت كافية «لحصول عشرات حالات الزواج بين نساء عراقيات ومقاتلين أجانب من تنظيم «القاعدة» بعيداً من المحاكم المدنية لعدم اعترافهم بالدولة».
ويشرح مدير مؤسسة النور الجامعة في ديالى أحمد جسام، أبعاد المشكلة التي ظهرت مع سيطرة الحكومة على محافظة ديالى عقب عمليات بسط القانون: «الأزواج بمعظمهم هربوا أو اعتقلوا أو قتلوا خلال العمليات المسلحة، فيما بقيت الزوجات مع أطفال صغار، من دون مستندات تثبت وقوع الزواج وتبين اسم الأب وكنيته».
 زواج لضرورات تنظيمية
ويشير متابعون لنشاط تنظيم «القاعدة» إلى أن حالات الزواج تلك، لم تكن لمجرد إشباع حاجة غريزية أو بناء أسرة أو تطبيق واجب شرعي، بل كان لها هدف تنظيمي أيضاً يتعلق بتجنيد النساء في أعمال العنف، عبر استغلالهن في نقل الرسائل والمتفجرات وحتى تنفيذ عمليات انتحارية، فالنساء أقدمن على تنفيذ 37 هجوماً انتحارياً بأحزمة ناسفة في ديالى بين 2007 و2009 استهدفت قيادات في الصحوة ومراكز أمنية.
وينبه جميل سليمان، وهو محام من محافظة الأنبار اطلع على الكثير من القضايا المتعلقة بأبناء مقاتلي تنظيم «القاعدة» المقتولين والمفقودين وبناتهم في الفلوجة، إلى وجود جملة تعقيدات «إنسانية وقانونية، فهم محرومون من حقوقهم، ويعيش كثرٌ منهم في عائلات مفككة فالأقارب يتخلون عنهم، وهنا تبرز الشبهات الأخلاقية لتزيد الأمور تعقيداً، وهذا كله يجعلهم أناساً غير طبيعيين».
سليمان يطالب الدولة بالتحرك جدياً لمعالجة المشكلة قبل أن تكبر «فهؤلاء الأطفال قنابل موقوتة، وحياتهم الحالية ستجعلهم مصدراً للعنف ولمشاكل مجتمعية خطيرة».
تؤكد رئيس لجنة المرأة والطفل في مجلس محافظة ديالى زينب حسوفي، أن الحالات المسجلة لأطفال تنظيم «القاعدة» بالمحافظة تبلغ 53 حالة، تتركز غالبيتها في مناطق شرق بعقوبة (الكبة، المخيسة، أبوكرمة وزاغنية) غالبيتهم لا تمتلك أوراقاً رسمية «والضوابط القانونية، تعرقل تسجيل هذه الغالبية فهي لا تأخذ في الاعتبار خصوصية وضعها».
هذا الرقم يعتبر متواضعاً، مع تخوف عائلات كثيرة من فكرة تسجيل أبنائها، وهو أمر يتكرر في محافظات الأنبار التي كانت معقلاً رئيساً لتنظيم «القاعدة» بين 2004 و2007، ومثلها نينوى وصلاح الدين ومناطق جنوب بغداد.
 الإجراءات القانونية
لكن التسجيل الرسمي لأبناء مقاتلي تنظيم «القاعدة» وبناتهم، الذي يعد الخطوة الأولى لحل مشكلتهم، وفق المعنيين، أمر مستحيل في ظل القوانين السارية في محاكم الدولة، فليس هناك أي منفذ قانوني يسمح بذلك، والأمر يحتاج إلى تشريعات خاصة.
أم عمر، التي لم تجبر على الزواج بمقاتل في تنظيم «القاعدة»، بل كانت تتمناه لتنتقم لأخيها الذي قتل على يد القوات الأميركية، حاولت كثيراً تسجيل ابنها ذي السنوات الخمس بعد مقتل والده، لكنها لم تجد أي وسيلة لذلك «قالوا لي، من دون أوراق تثبت هوية الزوج لا يمكن أن يتم ذلك، أنا فقط أريد عدم حرمانه من التعليم، وأن أجد ما أجيبه به حين يكبر ويسألني عن أبيه».
مثل أم عمر فشلت أم حسن في تسجيل ابنها، على رغم محاولاتها التي امتدت لأكثر من عام، تقول أم حسن: «حاولت أن أثبت نسب ابني قبل أن يبلغ سن التعليم الإلزامي، لكنهم في كل مرة كانوا يطلبون مني طلبات لا أستطيع تلبيتها، فهم يطلبون هوية رسمية تثبت الاسم الكامل للزوج أو محل إقامته، وأيضاً أن أقوم بالنشر في الجرائد».
أم حسن التي تعمل الآن في صنع الخبز للعائلات في منطقة سكنها لتأمين معيشتها بعد أن تخلى أقرباؤها عنها ولم يعترفوا بابنها، قالت وهي تحاول نقل كيس طحين إلى هيكل المنزل الذي تؤجره «سأصرف النظر عن تسجيل ابني، فالمجيء كل مرة إلى بعقوبة وإقناع الشهود بالحضور وتوكيل محام، خارج قدرتي، ولا جدوى إذا لم تغير الحكومة قوانينها».
المحامية سميرة المنصوري، تؤكد عدم وجود حل قانوني بغياب الزوج والأوراق الرسمية، مثل زواج أم حسن بـ (أبـــو قتيبة) الذي لا يُعرف اسمه الحقيقي «فالقانون وضع للحالات الطبيعية التي لم يتم فيها تسجيل عقد الزواج، أما في حالة هذه الزيجات التي يكون فيها الزوج غير معروف فيجب وضع استثناء لها من قبل الدولة».
 تحرش واستغلال
وتنبه المنصوري إلى أنه «حتى مع توافر أوراق رسمية وشهود على الزواج، تواجه الكثير من النساء حالات ازعاج، بل وتحرش من قبل بعض الموظفين الذي يحاولون استغلال الوضع الاجتماعي لتلك الفئة بوجود نظرة دونية تجاههن».
وهو ما تكشفه أم أزهار بقولها «تعرضت للتحرش من قبل أحد الموظفين الذين راجعتهم لإثبات زواجي ونسب ابنتي، هو كان يتصور أنني امرأة رخيصة، فتصديت له، لكنه قام بتعقيد الإجراءات وصار يطالبني بأشياء مستحيلة مثل عنوان سكن الزوج لتبليغه أو نسخة من هوية أخرى للزوج».
الوصمة الاجتماعية، والفقر والحرمان من الحقوق المدنية التي يواجهها أطفال مقاتلي تنظيم «القاعدة» وأمهاتهم، تجعلهم عرضة للاستغلال المجتمعي، ما يولد لديهم حالات تمرد وعداء للدولة، وفق ما يراه الباحث الاجتماعي محمد عبد الحسن «هؤلاء إن لم يجدوا الهوية التي ينتمون إليها والعائلة التي تعطيهم الرعاية، سيصبحون أناساً مغتربين، ومع حقيقة أن البعض ينظر إليهم اليوم كأطفال غير شرعيين، فسيشكلون فئة من المنبوذين اجتماعياً، ما يهدد بانخراطهم في المجموعات الإرهابية أو الإجرامية، وتحولهم من ضحايا إلى مجرمين».
تقول أم خالد، التي اختفى زوجها في 2009، إن ابنها (5 سنوات) تعرض للضرب من أطفال في المنطقة «شتموه وعيروه بأنه لقيط»، وتحولت مشاجرة الأطفال إلى مشكلة أكبر، «فعائلة أحد الأطفال الذين تعرضوا للضرب على يد ابني، قامت بشتمي ووصفي بالعاهرة، ولم أستطع الرد عليها، فأنا لا أملك أي شيء يثبت أنني كنت متزوجة، ولا أعرف عن زوجي غير أنه كان مغربياً واسمه أبو عبيدة».
المصير المجهول
وإلى حين إقناع البرلمانيين بإصدار قانون يعيد جزءاً من حقوق تلك الكائنات التي قدر لها أن تولد في ظروف الحرب والفقر والجهل، ستظل القضية في دائرة مجموعة من الاحتمالات المرعبة: هل سيتحول هؤلاء إلى وقود لصراعات أخرى بعد أن يشكلوا الجيل الثالث من مقاتلي تنظيم «القاعدة»؟ إم إنهم سيكونون مورداً غنيا لأفراد المجموعات الإجرامية؟ أم سيحملون أوزار آبائهم، ويدخلون رغماً عن إرادتهم حلقة الانتقامات والثارات العشائرية؟
ستظل عينا هدى، التي زار منزلها كاتب التحقيق بعد أربعة أشهر، معلقتين بصديقاتها، من دون أن تتجاوز بوابة المدرسة، ولا بوابة حياة أفضل، بينما تتساءل والدتها، وقد بدت أكثر شحوباً وأقل أملاً، مع التهاب حاد أصاب إحدى يديها، عن مصيرها وهي تقول «لا أعرف ما ينتظرنا، كل ليلة أتساءل عما سأفعله في الغد، ابنتي مجهولة النسب بلا حقوق ولا معيل، ووسط أناس يتطلعون بعيون جارحة، وهم على حق، فأنا أرملة رجل مجهول لا أعرف له هوية، ولا حتى قبراً»، قالت ذلك بينما كانت تغلق صندوقاً صغيراً تضع فيه كل ما تركه لها زوجها.
 في انتظار الدولة
 طالبت وزيرة المرأة العراقية ابتهال الزبيدي باحتضان أطفال مقاتلي «القاعدة»، وقالت: «التقينا بعدد من أعضاء مجالس المحافظات المعنيين بالموضوع وناشطين في المجتمع المدني، ونسقنا مع وزارة حقوق الإنسان، والموضوع خاضع للدراسة لاتخاذ الإجراءات المناسبة لحل المشكلة، فالأطفال بلا ذنب والأمهات ضحايا ظروف قاهرة، ويجب أن تتكفل الدولة بإصدار الأوراق الرسمية لهم ورعايتها».
ويرى عضو لجنة حقوق الإنسان البرلمانية وليد عبود، أن حل المشكلة يحتاج إلى «تشريع قانون خاص». والرأي ذاته صرحت به النائب عن محافظة ديالى ناهدة الدايني، مشددة على أن «المشكلة تتطلب حلاً جذرياً من الدولة، خوفاً من أن يشكل هؤلاء جيلاً جديداً من القاعدة في العراق، أو يكونوا ضحايا لانتقامات عشائرية ممن قتلوا على أيدي آبائهم من مقاتلي القاعدة». يقول محمد رشيد، وهو مؤسس برلمان الطفل في العراق، إن الموضوع «لا يحتمل التأجيل، والدولة ملزمة بإيجاد حل، فهذا واجبها بموجب اتفاقية الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة».
ويشدد رشيد على إصدار قانون خاص بهذه الحالات «بصرف النظر عن طبيعة الوالد سواء كان إرهابياً أو مجرماً، يجب تسجيلهم لدى الدولة ومنحهم كامل حقوقهم»، داعياً إلى «تبنٍّ جماعي» لهؤلاء الأطفال.
لكن عملية التبني الجماعي والحل القانوني الذي يجب أن يسبقه، ما زالت بعيدة التحقيق، وهي تتطلب تشريعاً برلمانياً وقراراً حكومياً، وفق قاضي الأحوال الشخصية محمود محمد، الذي يؤكد أن القضاة ملزمون «بالنصوص القانونية في أي دعوى ينظرون فيها».
 رفض للتجنيس
ومع أن تعاطف بعض النواب والمسؤولين مع هؤلاء الضحايا، لم يصل إلى مستوى التحرك لإصدار ذلك التشريع، فإنه يواجه في الوقت عينه برفض من نواب ومسؤولين آخرين، يرون أن منح أبناء قادة تنظيم القاعدة الحقوق المدنية، يعد ظلماً بحق من قتلوا على يد التنظيم. ويعلن عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية حاكم الزاملي صراحة عن رفضه أي خطوة في ذلك الاتجاه، واصفاً ذلك بأنه «أمر غير مقبول لأن القاعدة تسببت بإراقة دماء آلاف العراقيين ولا يمكن منحها أي شرعية». ويؤيد نواب آخرون التوجه ذاته، مبينين أن الجنسية يجب أن تمنح فقط لأبناء غير المتورطين بسفك الدم العراقي.
لا حق في الجنسية
 على رغم أن الدستور العراقي يعد واحداً من أكثر الدساتير تطوراً في المنطقة في ما يخص حقوق منح الجنسية حيث تمنح المادة 12 أبناء المرأة العراقية حق التجنس بصرف النظر عن جنسية آبائهم، إلا أن مشكلة شيماء وهدى ومحمد وعمر، تكمن في عدم وجود أوراق رسمية تحدد هويات آبائهم التي يمكن الاعتماد عليها في تثبيت النسب.
هوية الزوج شرط أساس
يقول الخبير القانوني طارق حرب، إن تسجيل الزواج وتثبيت نسب الأطفال ليس مستحيلاً، فعلى الزوجة رفع دعوى قضائية على زوجها المختفي أو المتوفي، وتثبت أن واقعة الزواج تمت خارج المحكمة وتقدم شهوداً مع أوراق رسمية تثبت هوية الزوج، لتقوم المحكمة بالتحقق وتثبيت الزواج رسمياً، وإذا كان هناك أطفال يتم استصدار قرار بإثبات نسبهم ويرسل نص القرار إلى مديرية الجنسية والأحوال الشخصية لتسجيلهم. لكن حرب يؤكد عدم إمكانية إثبات واقعة الزواج إذا كانت هوية الزوج غير معروفة حتى بوجود الشهود. حيث توجب المادة 46 من قانون المرافعات المدنية، أن تشتمل على عريضة الدعوى التي تقدمها الزوجة على اسم المدعى عليه وعنوانه ومهنته، فاسم الزوج يعتبر من البيانات الجوهرية ولا غنى عنه مطلقاً، ومن دونها تبطل عريضة الدعوى. هذا ما يؤكده أيضاً، القاضي عبدالستار البيرقدار، المتحدث الرسمي لمجلس القضاء الأعلى، فيقول: «لا توجد مشكلة قانونية في حالات هؤلاء النسوة وأطفالهن إذا توافرت أوراق رسمية تثبت هوية الأب، فبمجرد إثبات واقعة الزواج يتم إثبات النسب».
لكن، يبدو أن الإجراءات المطلوبة لتثبيت الزواج والنسب مستحيلة التطبيق في معظم حالات أطفال المقاتلين العرب، فالزوج غائب والشهود تفرقوا ولا أوراق رسمية تثبت هوية الزوج وعنوانه حتى يتم من خلالها تبليغه بالحضور إلى المحكمة والإقرار بحصول الزواج من عدمه إذا كان حياً، ولا دليل على الوفاة إذا كان ميتاً.
 * أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج)، وبإشراف سامان نوح
 
«طرد من دون أن يُمنح خيار الذهاب إلى جهة يريدها»
مسؤولون أميركيون: أبو غيث دفع ثمن خلافات إيران مع «القاعدة»... حول سورية
واشنطن - «الراي»
نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤولين أميركيين أن إقدام إيران على طرد الناطق السابق باسم تنظيم «القاعدة» سليمان أبوغيث هو أمر يبدو مؤشراً الى وجود حملة مطاردات ضد الجماعة التي طالما منحتها إيران ملاذاً آمناً في داخل حدودها.
فأبوغيث، زوج ابنة اسامة بن لادن الذي كانت الكويت قد أسقطت جنسيته، هو ثالث قيادي بارز في التنظيم يغادر ايران خلال السنة الماضية بعد إقامته فيها لسنوات في «فراغ قانوني» ما بين «منزل استضافة» والاقامة الجبرية.
وقال مسؤولون وخبراء إرهاب أميركيون إن ذلك الموقف الأكثر تشدداً (إزاء التنظيم) يبدو انه يعكس توترات متنامية بين رجال الدين الشيعة من ناحية و«القاعدة» من ناحية ثانية، ولا سيما حول الحرب الأهلية الدائرة حالياً في سورية، إذ ان كل جانب منهما يؤيد أحد الطرفين المتقاتلين في تلك الحرب.
وفي الوقت ذاته، يقول محللون ومسؤولون أميركيون ان وكالات استخباراتية غربية ترى خطوات من جانب إيران في اتجاه المحافظة على العلاقات مع تنظيم «القاعدة»، وذلك من خلال السماح للتنظيم باستخدام الأراضي الإيرانية كطريق عبور من وإلى أفغانستان.
فخلال مقابلة صحافية أجريت معه، قال ديفيد كوهن الذي يشغل منصب وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الاستخبارات المتعلقة بالإرهاب وتمويله: «نحن نعتقد أن ايران مازالت مستمرة في السماح لتنظيم القاعدة بتشغيل شبكة عابرة للحدود تنقل أموالاً ومقاتلين لحساب القاعدة من خلال إيران، وذلك بهدف دعم أنشطة التنظيم في جنوب آسيا».
وفي سياق تسليطه الضوء على الطبيعة المتناقضة أحياناً التي تتسم بها تلك العلاقة، قال كوهن ان تلك الشبكات العابرة ذاتها ترسل «تمويلاً ومقاتلين الى سورية»، حيث يقاتل اسلاميون مسلحون مرتبطون بـ «القاعدة» ضد القوات النظامية (السورية) المدعومة من جانب إيران. وهناك مجموعة من المقاتلين التابعين لجبهة النصرة التي قالت وزارة الخارجية الأميركية انها مرتبطة بتنظيم «القاعدة» في العراق، وهي المجموعة التي تعتبر واحدة من أقوى التشكيلات المسلحة المناوئة للحكومة في سورية».
وألقت وثائق، كان قد تم الحصول عليها من مقر اقامة اسامة بن لادن في بلدة أبوت أباد الباكستانية في وقت سابق، مزيداً من الضوء على العلاقة بين «القاعدة» وايران - وهي العلاقة الذي حافظ عليها الطرفان على الرغم من انعدام الثقة والخلافات الحادة بينهما حول الايديولوجيات والتكتيكات.
وتعليقاً على تلك العلاقة قال بروس ريدل الذي كان ضابطاً سابقاً في الـ «سي.آي.اي» ويعمل حالياً مستشاراً لمكافحة الإرهاب في إدارة أوباما: «انها علاقة مصلحة، مع وجود بعض الحواف الوعرة جداً».
ولسنوات، اشتملت تلك العلاقة على سياسة غير معلنة رسمياً تقوم على أساس منح ملاذ آمن لأعضاء تنظيم القاعدة الذين فروا من أفغانستان وغيرها الى ايران في أعقاب هزيمة حكومة «طالبان» في أفغانستان في أواخر العام 2001. فلقد سمحت ايران لعدد من مسؤولي ومنتسبي تنظيم القاعدة - بمن في ذلك إحدى زوجات بن لادن وعدد من أبنائه - بالاقامة في شرق ايران بحرية في بادئ الأمر، لكن لاحقاً تحت شكل فضفاض نسبياً من أشكال الاقامة الجبرية.
ويقول مسؤولون أميركيون ان تلك القيود كانت استجابة لضغوط غربية، كما انها كانت اجراء وقائياً ضد أي إساءة سلوك من جانب «القاعدة» على الأراضي الايرانية. لكن بعد مرور عقد من الزمن، تبدو ايران وكأنها قد سئمت «ضيوفها».
وأوردت وسائل إعلام إيرانية الخميس الماضي ان مسؤولين أمنيين قاموا قبل فترة قصيرة بإلقاء القبض على ثلاثة من أعضاء تنظيم «القاعدة»، ونقلت وكالة «فارس» شبه الرسمية عن قائد عسكري رفيع المستوى قوله ان إلقاء القبض على أولئك الثلاثة تم خلال عمليات أمنية حدودية. لكن لم يتم اعطاء أي تفاصيل أخرى.
ونقلت الوكالة عن الجنرال علي حاجيلو قوله: «لقد ألقينا القبض خلال الأشهر القليلة الماضية على ثلاثة من أعضاء تنظيم القاعدة في المناطق الحدودية الغربية للدولة وسلمناهم الى السلطات المعنية».
وكان أولئك الثلاثة قد غادروا إيران العام الماضي، على الرغم من انه لم يتضح ما إذا كان قد طُلب منهم أن يغادروا أو انهم رحلوا بإرادتهم المحضة.
وعلى ما يبدو فان سليمان أبو غيث لم يُمنح اي خيار، وذلك وفقا لرواية من جانب مسؤولين اميركيين ودعمتها مواد نشرتها مواقع جهادية على الانترنت فذلك الناطق الرسمي باسم «القاعدة» والخطيب السابق كان قد طُلب منه العام الماضي أن يغادر ايران إلى الكويت.
وقال دان بايمان الخبير في مجال مكافحة الارهاب لدى معهد «بروكينغز»، إن الطريقة التي طُرد بها أبوغيث (من ايران) بدت محسوبة بهدف أن تؤدي في النهاية إلى إلقاء القبض عليه، وهو الامر الذي يشير إلى أن ايران بدأت تعطي اشارة نحو حدوث تحول في العلاقة مع «القاعدة».
وأضاف بايمان: «لقد كانت نقلة كبيرة أن يتم ارساله ليس إلى باكستان، ولكن في الاتجاه المعاكس، ما نراه حاليا هو سياسة اكثر مجابهة قليلا من جانب القاعدة، وهو الامر الذي يوحي بان ايران قد باتت اقل ارتياحا ازاء استضافة اولئك الناس».
والواقع أن ذلك الشعور يبدو متبادلا، مثلما لوحظ في الاتصالات التي تمت بين مسؤولين في تنظيم «القاعدة» خلال الاشهر التي سبقت اغتيال بن لادن في مايو 2011.
ففي رسالة الكترونية يرجع تاريخها إلى مايو 2010، كتب بن لادن: «الايرانيون ليسوا محل ثقة».
في ذلك الوقت، كانت ايران قد قررت أن توافق على طلب من جانب «القاعدة» بالسماح لبعض من افراد اسرة بن لادن بالسفر إلى باكستان. لكن بن لادن خشي من أن الايرانيين قد يتجسسون على اقاربه أو يستدرجونهم إلى فخ.
وكتب بن لادن: «من الممكن انهم قد يزرعون شرائح الكترونية في متعلقاتهم من اجل التنصت».
وقال محللون ومسؤولون اميركيون إن ايران سعت على ما يبدو إلى ابقاء «ضيوفها» المنتمين إلى «القاعدة» تحت السيطرة المدروسة، إذ راحت تمنحهم مزايا وتحجبها عنهم بالتناوب كي تبقيهم معتمدين عليها.
وقال محللون إن تلك الاستراتيجية اسهمت في ضمان عدم اقدام تنظيم «القاعدة» على مهاجمة الحكومة الايرانية، كما انها سمحت لايران بالمحافظة على خيار التعاون مع التنظيم في تنفيذ هجمات ضد اهداف غربية في حال تعرّض ايران لأي هجوم.
ولا يرى مسؤولون اميركيون اي دليل يثبت وجود دعم ايراني مباشر لهجمات «القاعدة» في الولايات المتحدة او في دول غرب اوروبا، لكن ايران لها تاريخ طويل في مجال دعم الجماعات التي تعمل بالوكالة، وهي الجماعات التي يمكن ان تضرب ضد اعداء ايران بينما تبقى طهران بمعزل عن المسؤولية، وفقاً لما قال ريدل.
واضاف ريدل: «بوسع المرء ان يتصور موقفاً قام الايرانيون فيه بدعم القاعدة بحرص شديد في تنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة، طالما ان تلك الهجمات ستبدو من تنفيذ القاعدة، ودون وجود اي بصمات ايرانية».
والواقع ان موافقة ايران على السماح لـ «القاعدة» بتشغيل طرق عبور حيوية عبر اراضيها هو امر يمنح القادة الايرانيين رصيداً بوسعهم ان يسترجعوه لاحقاً، وفقاً لما يراه ريدل ومسؤولون اميركيون حاليون وسابقون.
فخط امدادات المقاتلين والاموال الذي يمر عبر ايران يعمل منذ سنوات، معتمداً في ذلك على شبكة من «وسطاء التسهيل» الذين يعيشون على امتداد طريق العبور ويوفرون حلقة وصل حيوية لمصادر التمويل والعناصر البشرية في دول الخليج.
وخلال الاشهر الـ 18 الماضية، فرضت وزارة الخزانة الاميركية عقوبات على 7 رجال متهمين بتشغيل خط الامدادات ذاك، وهو الخط الذي يقوم بتسيير مقاتلين متطوعين واموال عبر ايران الى داخل افغانستان وباكستان.
وعلى عكس عمليات تهريب المخدرات التي تتم عبر الطرق الحدودية ذاتها، فان تهريب تنظيم «القاعدة» للمقاتلين والدولارات يحمل ختم موافقة رسمية، وفقاً لما قاله كوهن الذي اضاف: «انهم يعملون بموجب اتفاق مع الحكومة الايرانية»...

المصدر: مصادر مختلفة

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,557,288

عدد الزوار: 6,995,880

المتواجدون الآن: 57