"المارد الآسيوي": العالم يتجه نحو الشرق

تاريخ الإضافة الإثنين 20 أيار 2013 - 7:18 ص    عدد الزيارات 758    التعليقات 0

        


"المارد الآسيوي": العالم يتجه نحو الشرق
بقلم عاطف عطيه

 

حالة الاستنهاض التي بعثتها دول من المشرق(1) حازت على إعجاب فردريك معتوق وانتزعت دهشته. ذلك أن القطار الذي توجه من الغرب إلى الشرق حاملاً معه مقومات الغلبة والسيطرة، أفرغ حمولته ليعود بعد فترة الاعداد والتغيير من الشرق إلى الغرب، محملاً بعناصر من التحكم باللعبة الدولية على غير ما كانت تتوسله دول الغرب، وعلى غير ما كان يشكل خلفية اللعبة التي امتلكت مفاصلها الأساسية دول الغرب ذاته.

يفتتح معتوق أبواب تحليله على إظهار المقومات الأساسية للعبة الدولية، إن كان على مستوى خلفيات امتلاك اللعبة واتقانها، أو على مستوى الميدان الذي تجري فيه . فإذا هي محركات الذهنية الغربية التي أجاد معتوق وصفها في كتابه "مرتكزات السيطرة، شرق / غرب"(2)؛ وهي المحركات التي تبغي الربح بتوسّل كل ما هو ممكن. وميدان هذه النزعة هو العالم كله بمن فيه وما فيه. فتتشكل بذلك مقومات اللعبة غير المتكافئة بين من يمتلك مقومات السيطرة، ومن يملك العناصر المحفزة للسيطرة والفاقدة في الوقت نفسه مقومات الحماية. وتجري على رقعة شطرنج مساحتها العالم كله،واللاعبون متفاوتون في امتلاك أصول اللعبة وفي اتقان تكتيكها واستراتجيتها.
من أجل التعرف إلى مقومات السيطرة الغربية على رقعة الشطرنج، أفرد معتوق فصلاً عن كيفية ادارة اللعبة التي توجهها عملية تنسيق متقنة للمحركات الذهنية الغربية المستمرة منذ خمسة قرون، والمستندة على مبادئ تشكل توجه الغرب في علاقاته مع العالم؛ منها، عالمية اللعبة وامتلاك المقدرة على التحكم، من أجل السيطرة على الميدان بتوسل الطريقة المكيافيلية في الوصول إلى الغاية مهما كانت الوسيلة، وإن كانت بالفقدان الطوعي لبعض مقومات السيطرة، دون البوح بالغايات الدفينة للعبة، باعتماد وسائل وأدوات تتيح السيطرة على أرض المعركة بالمقدرة العسكرية الضخمة غير القابلة للاختراق أو الانكسار، وبدعم مباشر من مقدرة ديبلوماسية مدربة وخبيرة على مستوى العالم كله.
قواعد السيطرة هذه، حسب معتوق، لا تتأبد، بل هي خاضعة للتغير باعتبارها لعبة. واللعبة خاضعة في مصيرها لمواصفات اللاعبين وبراعتهم في اللعب، فإذا كانت لمصلحة هذا الفريق لاعتبارات خاصة به وبالفريق المقابل، فهي تكون لمصلحة الآخر للاعتبارات نفسها، لأن"المحركات الذهنية شديدة الارتباط بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي"...(ص. 25). ولا يكفي اكتشاف مبادئ اللعبة من خلال فهم المحركات  الذهنية التي تحركها، ومن ثم العمل على اقتفاء حركتها والاقتداء بها إلا إذا طاول التغيير مفاصل أساسية في الذهنية المسيطر عليها لتأخذ مكانها في موقع الند للاعب المقابل.
وإذا كان على التغيير أن يطول المفاصل الأساسية للذهنية المسيطر عليها؛ ومنها،تبني مقومات البحث العلمي، واعتماد العقلانية، وامتلاك مقدّرات معرفة الواقع، والاتعاظ من حركة التاريخ، ووضع الخطط المناسبة للتنفيذ؛ فإن هذا التغيير يبقى مراوحاً في مكانه، حسب معتوق، إن لم يستكمل بقرارات التنفيذ ليتحول التغيير في المفاصل الأساسية، على المستوى النظري، إلى التطبيق العملي والدخول في معترك اللعبة الدولية بقرار سياسي – اجتماعي واقتصادي تتخذه الدولة المعنية على أعلى المستويات ليتحول التغيير على مستوى المفاصل الاساسية للذهنية إلى واقع عملي يتبلور بالممارسة. والممارسة هنا ليست سوى تطبيق ما هو ذهني حديث على رقعة الشطرنج بتطبيق المبادئ نفسها التي يعتمدها اللاعب المقابل، وباتقان صنعة التغيير، ولا يهم، من بعد، الميدان الذي يجري فيه اللعب، حتى ولو كان ممتلكاً من قبل اللاعب العريق في اتقانه لمبادئ اللعبة وتكتيكها واستراتجيتها.
لم يصل اللاعبون الجدد إلى موقع الند في مواجه الخصم إلا بعد تحولهم من الطراز التقليدي في إدارة شؤون الحكم إلى طراز الدولة الحديثة. واعتماد طراز الدولة الحديثة لا يأتي من فوق، ومن خارج النسيج المجتمعي العام، بل من خلال بلوغ "الوعي الاجتماعي والسياسي ذروته، فدفع النخبة السياسية في الدولة إلى اتخاذ قرارات مصيرية" (ص. 26). هذه القرارات أوصلت دولاً إلى اللعب في ميدان الغرب بعد استيعاب منطق اللعبة بكاملها. واصبح اللعب قائماً بين من يتواجهون ندياً. وأفرزت المواجهة سيطرة من نوع جديد يقودها المارد الآسيوي الذي قرر الخروج من القمقم.
يفرد معتوق فصولاً كاملة لكل من تجربة اليابان وكوريا وسنغافورة، وفصلين لتجربة الصين.وما يهم في هذا المقام، تسليط الأضواء على دور الدولة في عملية التغيير. ولكن ليست أي دولة. إنها الدولة الحديثة التي استطاعت الخروج من طور العصبية والشخصانية إلى دولة المؤسسات وحكم القانون. وإذا كانت هذه المقومات من صنع مسار العمل السياسي – الاجتماعي في الغرب، فإن ذلك لا يمنع من اعتماد هذه الأسس نفسها في بناء الدولة في الشرق، وإن كانت أسس هذه الأخيرة مبنية على طرق مغايرة. فبناء المؤسسات شيء وذهنية إدارة هذه المؤسسات شيء آخر. وهذا ما أجاد معتوق في إظهاره.
اعتماد مقومات بناء الدولة الحديثة لا يعني اعتماد الذهنية التي تدير هذه المؤسسات. وإذا كانت هذه الذهنية، في الغرب، تركـّبت على نزعة السيطرة بغية الربح واعتماد القدرة في سبيل نشر هذه النزعة واعتمادها أساساً في العلاقات بين البشر، على مستوى الداخل كما على مستوى الخارج، محلياً ودولياً، فإنها أوصلت العالم إلى جفاف الروح وإلى اعتبار الانسان إما مسيطراً وأو مسيطراً عليه. ولا شيء يتحكم في هذا العالم إلا المادة وما يمكن أن ينتج عن هذه المادة.
فهم الشرق الآسيوي هذه اللعبة واستوعب أسبابها، وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج. فاعتمد مقومات الدولة الحديثة كما ابتدعها الغرب في مسيرته التحديثية التي ابتدأت مع الثورة الصناعية وفي علاقة جدلية معها، وترك المحركات الذهنية التي تسيّر هذه المؤسسات واستبدلها بمحركات ذهنية مغايرة نابعة من الوقائع الاجتماعية – التاريخية لهذه البلدان، ومن مبادئ التوبة القومية التي اتعظت مما حصل في الماضي لتستأنف مسيرتها الحضارية بعد محاسبة صارمة مع الذات الحضارية. هذا ما حصل في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية بعد فك الارتباط مع قدسية الشخص الامبراطوري. وفي كوريا باعتماد الحداثة مع القيم الكونفوشية التي تقدس العائلة والعمل والقيم الأخلاقية.وفي سنغافورة باعتماد أسس الدولة الحديثة دون التخلي عن المقومات الاتنية التي وضعت امكانياتها في تصرف الدولة الواحدة. وفي الصين الحمراء والذهبية التي عرفت كيف تتعامل مع العولمة وتحافظ على مقومات دولة المؤسسات وإن كانت تستند في قوامها على المبادئ الأساسية للشيوعية.
والمقارنة بين مرتكزات الذهنية الغربية والذهنية الشرقية تبين الفرق وتُظهر الأسباب الأساسية لانقلاب الأدوار الناشئة، ليس عن ضعف مستجد للقوي وقوة مستجدة للضعيف، بل عن المرتكزات الأساسية للذهنيتين. ونزعة السيطرة الناشئة عن القوة ليست مؤبدة في جبروتها إلا في حال الضعف المقابل. وإذا تحول الضعف المكين إلى قوة ناشئة بالتزاوج بين مقومات القوة، وإن كانت مستمدة من مناهج الخصم الفكرية والعملية، وبين ما هو مستمر من تراث تليد في نزعته الانسانية، وفي قدرته على الطاعة والعمل.
ظهرت هذه المرتكزات بما يتلاءم مع تراث الشرق وحضارته، وبما يتكامل مع ما  قدمته الحضارة الانسانية، غربية كانت أو غيرها، من صنوف العلم والتكنولوجيا. وأهم هذه المبادئ التي أفرزتها هذه الذهنية: خسارة المعركة لا تعني خسارة الحرب، فربح المعركة الاقتصادية تشكل البديل من خسارة المعركة العسكرية. والمعركة الاقتصادية بطبيعتها، حسب هذه المرتكزات، ليست مخالفة لمنطق الحرب العسكرية فحسب، بل تقتضي صنع السلم بأي طريقة. وبالتالي لا تقتضي مخاصمة الغرب أو مقاطعته، بل بالعكس، وللمصلحة الاقتصادية ذاتها. وهذه المعركة لا تتحرّج من استعمال وسائل الغرب ذاته علماً وتكنولوجيا ولغة. ولا يتحرج اللاعب الآسيوي من استعمال وسائل الدفاع في لعبته مع الكبار، فهو يحاول الحفاظ على وجوده واستقلاليته. ولا تتحكم به لغة السيطرة أو العنف، وذلك باعتماده على جيش من البناة والمهرة يخدمون توجه الدولة بالطاعة اللازمة، وإن تجند الكثيرون منهم في جيش الياقات البيض ناشري العولمة وحاملي لوائها. وهذا ما يعني أن المواجهة اليوم تفلتت من مقتضيات الحرب وتبعاتها من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية. ودخلت في عصر المواجهة الاقتصادية في سبيل أهداف سياسية لا تبغى إلا الحلول في المكان اللائق على رقعة هذا العالم الذي تتصارع فيه المصالح وتتضارب.

(1) فردريك معتوق، المارد الآسيوي يسيطر، منتدى المعارف، 2013، بيروت.
(2) فردريك معتوق، مرتكزات السيطرة، شرق / غرب، منتدى المعارف، 2011، بيروت.

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,504,271

عدد الزوار: 6,993,807

المتواجدون الآن: 74