الدين والسياسة اليوم: الخدعة الكبرى

تاريخ الإضافة الإثنين 12 آذار 2012 - 6:57 ص    عدد الزيارات 993    التعليقات 0

        


 
انطوان مسرّه

الدين والسياسة اليوم: الخدعة الكبرى

 

طالما ان الفضاءات الثلاثة: الايمانية والحقوقية والسياسية، هي غير متميّزة في البنيات الذهنية، وطالما ان هناك منحى أكاديمي يُعمّم الخلط والالتباس لدى مُلحدين ومؤمنين وغير مؤمنين وعلمانيين ومثقفين ومواطنين من كل صوب، سيكون صراع الحضارات خبزنا اليومي وعلى مفترق الأحياء والشوارع، مع استغلال موحش ودون ضوابط للمقدّس.

منذ تراجع الايديولوجيات الكبرى وأبرزها الماركسية والشيوعية السوفياتية والاشتراكية، ولا نذكر النازية والفاشية وهما أشد خطرًا...، وذلك لأسباب متعددة مُرتبطة بالخبرة التاريخية وبالعولمة، تتحوّل كل الأديان، أو يُخشى أن تتحول، ايديولوجيات. الايديولوجيا في جوهرها نقيض الدين. بصفتها منظومة متكاملة ومُغلقة وشمولية تعد الايديولوجيا الناس بـ"الغد المشرق"، بينما ترى الأديان بتواضع ان العالم البشري له مجرد قابلية الارتقاء. ويُبيّن التاريخ ان كل الذين وعدوا البشر بالجنة على الأرض، من النازية الى الفاشية والى الشيوعية السوفياتية...، حوّلوا الأرض جهنم.
صراع الحضارات هو بالذات تحوّل الأديان ايديولوجيات مُستجدة تحت ستار المعتقدات والطقوس وفي أقصى الحالات تحوّلها ارهاباً ونضالاً سلطوياً بإسم الدين. اقتحم التجار الهيكل، ويقتحمون اليوم كل الهياكل.
مَن المخدوع ومَن المُتواطئ دون دراية؟ ضحية المخادعة هم مثقفون وأكاديميون وإعلاميون وعلمانيون مؤمنون وغير مؤمنين وكل الذين يدأبون على تصريف مُنمطات ذهنية متداولة حول الدين والسياسة والعلمانية والطائفية...
لبنان معنّي الى أقصى الحدود بمقاربة مُتجددة واستنتاجية وخارج منمطات مُتداولة تُغذّي الالتباس وأصبحت مُستعصية الهضم من أي دماغ لم يُصب بالتلوث السائد.
في البدء بين الدين والسلطة مُخادعة وتلاعب وتكاذب مُضمر وفاضح في آن واحد. بشأن نص الإنجيل حول التمييز (ولا نقول الفصل) بين الديني والدنيوي ان الذين يذكرون قول المسيح: "اعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله" يغفلون مقدمة النص التي هي أساس المعضلة. جاء في المقدمة: "ان الفريسيين ارسلوا اليه جواسيس يُراؤون أنهم صدّيقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه الى سلطة الوالي فسألوه قائلين: "يا معلم أيجوز لنا ان ندفع الجزية لقيصر أم لا؟ واذ أدرك مكرهم قال لهم: اروني دينارًا. لمن هذه الصورة؟ وهذه الكتابة؟ قالوا: لقيصر. قال لهم: ردّوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلم يستطيعوا أن يأخذوا عليه شيئًا في هذا الكلام أمام الشعب، بل دُهشوا من جوابه ولزموا الصمت" (لوقا، 20، 20-26، متى 22، 15-22، مرقص 12، 13-17).
لم يأتِ الفريسيّون للاستعلام حول مسألة وضعية في الفلسفة السياسية او الحق العام. هذا المنحى لا يهمّهم بتاتًا. جاؤوا من جهات "استخبارية" لاستغلال المحمول النزاعي في السياسة لغاية مختلفة عن الخطاب المعلن. ليس في النص لا فصل ولا تمييز بالمعنى المتداول، بل استغلال الدين لأهداف سلطوية.
 

الفضاءات الثلاثة في الدين... والتشويه

اين المعضلة مع أكاديمية منتشرة وحوارات تجميلية بين الأديان ومثقفين علماويين يُنتجون فكرًا غير ملتصق بالواقع؟ المعضلة؟ تبدأ العلمنة بالعمق في الذهنيات وفي مقاربة غير لاهوتية حصرًا بل واقعية وبراغماتية. تبدأ العلمنة اليوم من الأذهان تجاه أكاديمية مُنتشرة تخلط بين المستويات ولا تميّز، تميّز فعلاً، بين الفضاءات الدينية الثلاثة:
1. فضاء الإيمان: الإيمان في جوهره هو تساؤل حول الماورائي والحياة والألم والحب ومعنى الوجود. هذا التساؤل هو عالمي. المؤمنون في كل الأديان والأزمنة والأمكنة يلتقون في مجالات ومستويات وتعابير مُختلفة. يقول تيار دي شاردان Theillard de Chardin: "ما يرتقي يلتقي". ما هو الإيمان؟ لمعرفة جوهر الإيمان في أبعاده الكونية ربما من الأفضل الاستماع الى موسيقى جان سيبستيان باخ Jean-Sébastien Bach لأن الايمان مثل الإنتاج الموسيقي الراقي لغته عالمية. المقاربة الإيمانية روحانية ماورائية.
2. فضاء الدين في الحياة العامة: انه موضوع حقوقي يتعلّق بممارسة الشعائر وتعليم الدين وانشاء أماكن عبادة... تتوافر اجتهادات دستورية واضحة، أوروبية وأميركية وأفريقية وعربية...، سعيًا للتوفيق بين الممارسة الدينية في المجال العام ومقتضيات الحريات الدينية والنظام العام(1) .
3. فضاء السياسة-السلطة: كل تعبئة وتنافس في الحياة السياسية من قبل رجال دين أو سياسيين وكل تبرير ديني لعمل سياسي هو مُفخّخ، ودائمًا مفخخ، منذ حملات ما سميّ "الصليبية" (ولم تكن صليبية) ولغاية اليوم. الرهان هنا هو السلطة مع احتمالية اللجوء الى القوة. هذا الموضوع سياسي وغير قابل للتحليل، اذا كنا واعين وغير مخدوعين، الا بمعايير السياسة. عندما نُدخل في السياسة الايمان (موضوع روحي) أو الدين كمكوّن في الحياة العامة (موضوع حقوقي) نخضع لمكيدة المتلاعبين بالإيمان والخبراء في التلاعب بالدين والذين ينتشرون اليوم بكثافة.
لو ألقى يسوع خطابًا حول الديني والدنيوي لكان وقع في "المكيدة"، كما يقول القديس مرقص، لأن "الجواسيس" ينتظرون كلمة، أية كلمة، للتلاعب بالدين كوسيلة تبريرية ولشرعنة أهداف سلطوية. تنمو النزاعات وصراع الحضارات وتمتد كالسرطان في الخلط بين الفضاءات المتمايزة. ان علم سياسة الأديان politologie de la religion هو اختصاص يقتضي تنميته مع فصله جذريًا عن الإيمان وبإخضاع مظاهره في الحياة العامة الى معايير حقوقية في الحرية والنظام العام.
ورشة ذهنية ضخمة
هل يعني ذلك أننا عالجنا المعضلة؟ كلا! يوجد اليوم ورشة ضخمة في سبيل إستعادة الاديان روحانيتها (مسألة ايمانية)، ولتنظيم الشعائر في المجال العام انسجامًا مع مقتضيات الحريات الدينية والنظام العام (مسألة حقوقية)، ولمقاربة السياسة كرهان سلطة وادارة للشأن العام (مسألة سياسية).
تعيش المسيحية اليوم تراجعًا دون بوصلة تحت ستار علمانية شكلية غالبًا وشعارية. اما الإسلام، ولأسباب تاريخية، فلم يتعمق في شؤون ممارسة الشعائر في مجال عام حقوقي مشترك. ولا نتكلم عن اليهودية الصهيونية التي حوّلت الله ملاّك اراضٍ ومضارباً عقارياً! ويستمر الابتزاز بعد أكثر من نصف قرن.
 

¶ ¶ ¶
 

طالما ان الفضاءات الثلاثة: الايمانية والحقوقية والسياسية، هي غير متميّزة في البنيات الذهنية، وطالما هناك منحى أكاديمي يُعمّم الخلط والالتباس لدى مُلحدين ومؤمنين وغير مؤمنين وعلمانيين ومثقفين ومواطنين من كل صوب، سيكون صراع الحضارات خبزنا اليومي وعلى مفترق الأحياء والشوارع، مع استغلال موحش ودون ضوابط للمقدّس. المقدس وارتباطه اساسًا بالعنف؟ لنوقف هذا السجال العقيم.
أمثولة يسوع في ما سُميّ "الفصل" بين الدين والسياسة، والذي هو بالأحرى فصل بين الدين والسلطة، هي التالية: لم يقع يسوع ضحية المخادعة.

(1) انطوان مسرّه، "ادارة التعددية الدينية والثقافية في اجتهادات المحاكم والمجالس الدستورية-لبنان من منظور مقارن"، في كتاب: المجلس الدستوري، الكتاب السنوي 2011، 672 ص، ص 99-173.

 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,582,700

عدد الزوار: 6,996,801

المتواجدون الآن: 70