«الشرق الأوسط» تنشر فصولاً من كتاب «الفرص الضائعة» لوزير الخارجية اللبناني السابق ايلي سالم.. (1 - 2)..(2-2)..
إيلي سالم: طلبت إسرائيل أبراج مراقبة ومناورات مشتركة... فقلنا إن التطبيع غير وارد
«الشرق الأوسط» تنشر فصولاً من كتاب «الفرص الضائعة» لوزير الخارجية اللبناني السابق (1 - 2)
لندن: «الشرق الأوسط»... تنشر «الشرق الأوسط» اليوم فصلاً من كتاب سيصدر قريباً لوزير الخارجية اللبناني السابق إيلي سالم بعنوان «الفرص الضائعة - من اتّفاق جلاء القوات الإسرائيلية إلى اتّفاق الطائف»، الذي يروي فيه تفاصيل ما عُرف بـ«اتفاق 17 أيار»/مايو الذي تم التوصل إليه عام 1983 بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام السابق. كان سالم وقتها نائباً لرئيس الحكومة وزيراً للخارجية في حكومة شفيق الوزان خلال حكم الرئيس أمين الجميّل. يصدر الكتاب عن دار «سائر المشرق» بالاشتراك مع الناشر والإعلامي أنطوان سعد.
عرفات وكاسترو وخدام
صباح يوم الاثنين الواقع فيه 7 مارس (آذار) 1983، كنا في العاصمة الهندية، نيودلهي، نحضر الجلسة العامة لمؤتمر دول عدم الانحياز الذي استمرّ حتى يوم الخميس. وبعدما استمعتُ إلى خطاب ياسر عرفات الذي قابله الحضور بتصفيق فاتر، اعتلى المنبر الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، وألقى خطاباً طويلاً جداً استعاد فيه «الكليشيهات» البالية المعروفة، فأصابني الملل من الاستماع إليه ساعة كاملة ولا شيء كان يوحي أنه سينتهي بعد ثلاث ساعات، فأنا كأكاديمي يصحّح أوراقاً ويعتمد على مسؤولية الكلمة، قررت الخروج وأخبرت الرئيس الوزان بذلك، فرجاني أن أبقى معه لأنه في حاجة إلى رفيق في هذا المشهد المأسَوي، فقلت له إما أن أخرج خِلسة أو سأبقى وأصرخ عالياً. نصحني مهنئاً بالخروج وسيتحمل هو قدره.
بعد ظهر ذلك اليوم، التقيتُ وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدّام، للمرة الأولى. وجدتُه سريع الخاطر، وذهنه يركّز على إيجاد الفكرة التي تضع محاوِره في موقف الدفاع. بدا لي، في الوقت نفسه، آيديولوجياً، وبراغماتياً، منفتحاً ومتحفّظاً في آنٍ واحدٍ. ولعل أبرز ما يثبتُ براعته، عرضُه موقف الرئيس الأسد بأسلوبه الخاص، معتمداً باستمرار المسلك الأصعب كي يترك للأسد أسهل الطرق حتى يختار ما يجده مناسباً. خدّام يحب الصوت العالي، يحب التهديد وإرباك محاوِره.
دخل خدّام في صلب الموضوع بالقول إنه كان يتمنّى لو أن لبنان اختار درب النضال في وجه إسرائيل، بدل درب التفاوض. أبدى استياءه من فيليب حبيب وخوفه من أن تفرض إسرائيل على لبنان شروطاً غير مقبولة سترفضها سوريا بشدة. وهاجم الجبهة اللبنانية لتعاونها مع إسرائيل لطرد الفلسطينيين والسوريين من لبنان: «والله، سيفتشون على رغيف الخبز، ولن يقدّمه لهم أحد. ونصيحتنا لكم فاوضوا إذا شئتم، لكن بصورة غير مباشرة. في أي حال، نتمنّى لكم النجاح شريطة ألاّ تحقّق إسرائيل أي مغانم. استعملوا سوريا ذريعةً لرفض كلّ ما يُطلب منكم من تنازلات».
أجبتُه بالمثل بمقدمة تاريخية، وعدت إلى التاريخ لشرح المآزق القائمة. وانطلقت من حواري أيام الدراسة الجامعية مع ميشال عفلق، ومن عدائي للصهيونية وحذري من توسّع إسرائيلي على حساب لبنان. استعرضت معه جميع الخيارات المتاحة أمامنا، فوجدنا أن الوساطة الأميركية أكثرها صدقية. لسنا واثقين من نجاحها، غير أننا اعتبرناها مجازفة تستحق أن تحظى بفرصة جدّية للنجاح. لسنا مستعدّين لاتّخاذ موقف آيديولوجي عالٍ لا يمكن تنفيذه، نريد أن نُخرج إسرائيل قبل أن تترسّخ في الأرض اللبنانية. نحن لا نملك القدرة العسكرية لإجبار الجيش الإسرائيلي على الانسحاب بالقوة، نريد إخراجه بالدبلوماسية». ودار بيننا حوار، عندما أعدتُ على مسمعه:
- لا نريد أن نفقد لبنان.
- نحن كذلك، نحن معكم، ونريد تقديم المساعدة. ربما عليكم أن تنظروا في خيارات أخرى.
- أنا على استعداد للنظر في خيارات أخرى. أعطني خياراً واحداً.
- جامعة الدول العربية.
- إنك غير جاد، بالطبع. أنت أكثر من غيرك تعرف مصير الفلسطينيين الذين اعتادوا الاتّكال على جامعة الدول العربية. هل تريد لنا أن نعاني المصير نفسه؟
- أخي إيلي، تعلَّم من محمد علي كلاي. تحرّك بطريقة تخلق معها فرصاً جديدة. لا تتفاوض، انظرْ كيف يلاكم.
- لكن يا عبد الحليم، الملاكمون يتلامسون ويتحسّس الواحد منهما الآخر من مسافة قريبة، وهذا أسوأ من التفاوض.
- لكن لا تتفاوض، قالها وهو يضحك قبل أن يضيف: يجب أن تخرجوا من المفاوضات من دون أن تقدّموا أي شيء للإسرائيليين.
- لولا وجود سابقة فشل وإذلال فيما أصاب القضية الفلسطينية لكنتُ وافقتُك. أنا أمام واقع لا يمكن أن أقبل به. وسأختار الحل العملي الأفضل. جامعة الدول العربية ليست خياراً جدّياً يؤدّي إلى خروج إسرائيل من لبنان.
عندها انتقد خدّام العديد من الدول العربية التي تكلّمت ضد الصهيونية من غير أن تفعل شيئاً لمواجهتها. واقترح تعزيز الصفوف اللبنانية الداخلية والشروع في مقاومة مكثَّفة، ولو استغرقت زمناً طويلاً، ضد إسرائيل. فأجبتُه بأنني لا أعتقد أن النضال وحده يُخرج إسرائيل، وأننا نحتاج إلى دولة عظمى تساعدنا في التوصّل إلى اتّفاق يُخرجها ويضمن سلامة حدودنا والاستقرار في بلدنا. وأنهيتُ كلامي بالقول: «ثقوا بالحكومة اللبنانية، امنحوها ثقتكم كاملة. لبنان بلد معقّد واللبنانيون وحدهم يحسنون التعامل مع مثل هذا الوضع. سنحاول حلّ أزمتنا بالدبلوماسية. طريقتنا في معالجة الأمور تختلف عن طريقتكم. قد نتباين معكم في اختيار الوسيلة، لكننا لن نختلف حول الأهداف. أعطوا الحكومة الدعم الذي تحتاج إليه، ثم حاسبوها في وقت لاحق». من جهته، ختم وزير الخارجية السوري كلامه بالقول: «لا مشكلة في ذلك. إننا ندعمكم. بالنسبة إلى ابنَي الشيخ بيار، أحببنا أمين، ولم نحب بشير. أردنا لأمين أن يكون رئيساً للبنان، وأن يكون رئيساً قوياً. الرئيس الضعيف يخلق المشاكل لكم ولنا». لقد التقيتُ خدّام مراراً بعد ذلك الاجتماع، وأذكر أنّني سألته في إحدى المرّات: «لماذا تؤيدون تحريك جبهتنا مع إسرائيل وأنتم لا تحرّكون جبهتكم معها؟ فأجابني من دون تردّد: «لأنّ الأسد يحترم اتّفاق الهدنة معها، أمّا أنتم فجبهتكم مفتوحة».
- من فتحها؟ أنتم وحلفاؤكم.
- نحن نناضل في المكان المناسب.
- للحديث صلة.
اختلفتُ مع خدّام كثيراً في العديد من اللقاءات، ووصلتِ المشادة بيننا مرة إلى حدّ عنيف لم أكن أتمناه، لكن العلاقة الشخصية التي نشأت بيني وبينه لم تفتر (...).
اكتشاف شخصية الأسد
أما لقائي الأول مع الرئيس السوري حافظ الأسد، فكان خلال تناول الغداء في جناحه في الفندق في نيودلهي، والذي أعدّه طبّاخه الخاص وكان من ألذ الأطباق الدمشقية. وجدتُه مرحاً للغاية وهو يحدثّنا، بلا تكلُّف، كشاب ثوري على مقاعد الجامعة. نظر إليّ وهو يقول لي: «نحن نعرف الكثير عنك من أصدقائك أيام الجامعة الأميركية، جورج حبش، هاني الهندي، وحسّان مريود وغيرهم، وبعضهم أقرب أصدقائي إليّ». ثمّ وزّع نظره بيني وبين الرئيس الجميّل وأضاف، غامزاً من قناة الأخير، لكن بشكل فكاهي ومرح لإعطاء طابع شخصي وحميم: «أنت، بقدر ما نعلم عنك، عربي جيّد، ماذا يفعل ثائر عربي مثلك مع عائلة الجميّل الانعزالية؟»، وكي يزيد من الالتباس حول ما إذا كان ما يقوله يقصده بالفعل أم مجرّد مزاح، ضحك الأسد عالياً. والنكتة جزء لا يتجزّأ من الدبلوماسية الأسدية، بها يوصل ما يريد إلى الطرف الآخر، تاركاً خط العودة عما قاله مفتوحاً. يحب أن يريح ضيفه كي يخفّف من حذره فيتكلّم بانسياب. يلعب أوراقه بسخاء، أما الورقة الحاسمة فيحتفظ بها لنفسه بحرص شديد جداً، إلى أن يلعبها حين يعتبر أن الوقت الملائم قد حان. وما قاله للرئيس الجميّل كان بالنسبة إلى الأسد شكلاً من أشكال التقرّب، وما كان يقصد بذلك أي تجريح، وإن كان لا يمانع بأن يُصاب بشيء من الإرباك، فردّ الجميّل: «لمعلوماتك إيلي أكثر لبنانية من بيار الجميّل، إذا كان ذلك ممكناً». وضحك الأسد بعدما شعر بأن نكتته قد تكون فعلت فعلها. بهذه الأجواء المرحة تعلّمنا المزيد عن شخصية الأسد، إنّه مُضحك لكنّه صارم، مُتساهل ظاهرياً، لكن لا يتغيّر في المضمون. استدار ثانية صوبي، وقال: «نقدّر تصريحاتك وسياستك. الظاهر أن الكورة، أو ربما الأرثوذكسية، تنتج رجالاً عظاماً. لا، لا، ليس على الدوام. دعني أتذكّر. لقد أنتجتْ شارل مالك، فيلسوف جيّد لكنه سياسي سيّئ؛ وأعطتْ أيضاً أنطون سعادة، أرثوذكسي ولكن ليس من الكورة، والذي كان قائداً عظيماً وله أتباع كثيرون في سوريا، غير أنه لم يفهم القومية العربية حق الفهم». شعرتُ يومذاك أن الأسد يحب أن يتكلّم، بل يستمتع في الكلام والمناقشات. كان يعير اهتمامه الكبير للقضايا الكبيرة، ويفضّل ألاّ يناقش تفاصيلها. أدهشتني إحاطته بجوانب السياسة اللبنانية ومنعرجاتها. كان هو وخدّام، كمن يقرأ في كتاب واحد، وضعاه معاً. يستذكران الأسماء والأحداث، من غير أن يحاولا أن يخفيا دورهما فيها. وأظهر الرئيس السوري اهتمامه الكبير بلبنان وبتوازن القوى فيه، وبواقع التطورات الجارية فيه على إيقاع سير الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط وانعكاساتها على المستقبل. بدا الأسد في هذا اللقاء معنا تواقاً لمعرفة أمر واحد بالتفصيل، وهو اتّجاه المفاوضات الصعبة التي كانت، في تلك الأثناء، تجري بيننا وبين الإسرائيليين. وحرص على أن يؤكّد لنا رفضه أي اتّفاق مع إسرائيل يمكن أن يسيء إلى سيادة لبنان واستقلاله، طبعاً من منظوره، مشيراً إلى أنه مستعد لمغادرة لبنان إذا تمّ التوصل إلى اتّفاق مناسب. وخرجنا من الاجتماع بانطباع أن الأسد بالفعل قائد مجرّب وسياسي محنّك، ولاعب بارع على مسرح الشرق الأوسط، كما كانت صورته السائدة في ذلك الحين في العديد من الأوساط اللبنانية والعربية والدولية. وهذا ما جعلنا نشعر بأننا مقبلون على شدّ حبال معه غير سهل. كانت قمة عدم الانحياز مناسبة للاجتماع بالعديد من الوفود والشخصيات العربية. وإذا كان الفلسطينيون أبدوا استعدادهم لانسحاب قواتهم من لبنان، غير أنهم رفضوا تحديد مهل محدّدة. وأبدى الوفد دعمه القوي لجهودنا الرامية إلى إخراج الإسرائيليين عبر المفاوضات الجارية، محجمين عن إعطاء نصائح بوجوب وقف التفاوض واعتماد النضال المسلّح لإخراج المحتلّين بالقوة العسكرية، كما فعل السوريون. لقاء آخر تستحق الإشارة إليه كان بين الرئيسَين الجميِّل والوزّان مع الرجل الثاني في النظام الليبي عبد السلام جلّود الذي بدأ حديثه باتّهام الجميّل بالخيانة بسبب قبوله التفاوض مع الإسرائيليين، وخرج من اللقاء موافقاً تمام الموافقة على الموقف اللبناني؛ ما حدا بالرئيس الوزّان إلى التعليق على التحوّل في موقف جلّود من النقيض إلى النقيض بأنه أفضل حتى من اهتداء شاول وهو على طريق دمشق، وأضاف أن الجميّل «جَلَدَ جلّود». واتّخذتُ قول الوزان شعاراً ألجأ إليه كلما تعقّدت الأمور مع أي قائد عربي آخر، محدِّثاً نفسي: «لا تنسَ جَلْدَ جلّود». في نهاية أعمال القمة، وزّعت الأمانة العامة لمنظّمة دول عدم الانحياز البيان الختامي، ففوجئتُ بأن القرار المتعلّق بلبنان مختلف عن النص الذي أعددتُه وأرسلتُه بناءً على طلب من السفير الهندي، بعد اعتراضي عليه والنقاش الذي دار بيننا، كما سبق وذكرتُ. وفي حين كنتُ أسجّل اعتراضي وأطلب اعتماد النص الذي أرسلناه، قال لي خدّام إن الهيئة العامة أقرّتْ بالإجماع القرار المتعلّق بلبنان، وإنه النص الصحيح وهو مناسب وجيّد، فأجبتُه: «لا، ليس الصحيح، ولا المناسب وهو مرفوض. فلنعد إلى النص الذي أعددته، وهكذا كان». وهنا علمتُ أن خدّام كان مطّلعاً على مسألة استبدال فقرة لبنان في البيان الختامي، إن لم يكن هو بنفسه وراءها، إعداداً وتنفيذاً ومضموناً يتوافق مع توجّهات النظام السوري. وفي كلّ مرة أتطرّق إلى هذه الحادثة في نيودلهي، أتذكّر حديثاً لاحقاً بيني وبين خدّام، قال لي فيه: «نحن في سوريا، لسنا دولة. نحن نظام له رأس واحد وهو الرئيس حافظ الأسد... وأنا الرجل الثاني. والقانون عندنا هو ما يتناسب مع النظام». فقلتُ له: «والحقيقة كمان»، فضحك ضحكته العالية الشهيرة. عندها أشرفت على توزيع البيان المتضمِّن القرار الصحيح بشأن لبنان. ولعدم ترك أي مجال للتلاعب؛ أرسلتُ القرار الذي وضعنا مسودّته إلى جميع سفاراتنا، وطلبتُ منها أن توزّعه على نطاق واسع، باعتباره القرار الرسمي الذي تبنّته قمة دول عدم الانحياز، بالإجماع. خلال أعمال المؤتمر، زارني السفير الأميركي في نيودلهي، بمقر إقامتي، وأخبرني أن وزيره جورج شولتز، اتّصل به وطلب منه أن ينقل دعوة شولتز لي لزيارة واشنطن، واجتمع به قبل أن يلتقي وزير الخارجية الإسرائيلية إسحق شامير يوم الأحد، في 13 مارس. فأجبتُه بأني على استعداد لذلك؛ شرط ألاّ يكون شولتز في صدد التفكير بعقد لقاء يجمعني بشامير. ولمّا تأكّدتُ من أنّه لا نيّة لدى الوزير الأميركي بمثل هذا اللقاء، قررتُ أن ألّبي الدعوة، وأبلغتُ سفير الولايات المتّحدة بأنني سأكون في واشنطن يوم السبت في 12 مارس، للاجتماع بشولتز.
القلق من بطء المفاوضات وتعثّرها
لسخرية القدر، كانت الغالبية الساحقة من القوى التي تقاتلت في أبريل (نيسان) 1975، بمن فيهم قادة منظّمة التحرير الفلسطينية، من الداعمين لنجاح المسار التفاوضي مع إسرائيل الذي انطلقنا فيه لإخراج ليس فقط قواتها المحتّلة، بل أيضاً جميع القوات غير اللبنانية. بعضهم أعرب عن موقفه بشكل علني، وشكّل مظلّة وطنية حقيقية، مثل الرئيس صائب سلام، وبعضهم في السرّ، وشكّل دافعاً قوياً لنا، لكي نثق بأنفسنا وبصوابية خياراتنا وما نعمل له، ونمضي قدماً، رغم كلّ المخاطر والمطبّات والتهديدات التي أخذت سوريا تمررها من وقت إلى آخر، بشكل مباشر أو غير مباشر، وتزداد وتيرتها مع اقتراب المفاوضات من نهايتها. لعل أبرز المواقف غير المُعلنة، موقف رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي، الذي قال لي في جلسة خاصة: «رجاءً، أسرعوا. ما دام الأميركيون مصمّمين على نحو كهذا، ينبغي عدم تفويت فرصة استعادة لبنان سيادته على كلّ أراضيه. تجب الاستفادة من الدعم الأميركي؛ إذ لا شيء يضمن مستقبلاً خروج الجيش السوري». نقلتُ هذا الموقف المتقدِّم إلى رئيس الجمهورية، ولم أطلِع عليه سوى قلّة قليلة جداً، من بينها رئيس الحكومة شفيق الوزّان؛ حفاظاً على سلامة الرئيس كرامي. حتى عندما اضطُر الأخير برأيي، بنتيجة الضغط السوري وظروف حضوره في طرابلس، إلى أن يعلن موقفاً ضد الاتّفاق، ارتأيتُ أن أبقي كلامه طيّ الكتمان. كان الأميركيون أيضاً قلقين جداً من مراوحة المفاوضات مكانها، وبخاصة جورج شولتز، الذي كان مهتماً بإيجاد مخارج للنقاط العالقة في مفاوضاتنا الدائرة مع إسرائيل والتي كانت تعيق تقدّمها، نتيجة إصرار إسرائيل عليها: مثل مستقبل سعد حدّاد والمناورات المشتركة بين الجيشَين اللبناني والإسرائيلي، وأبراج المراقبة، خصوصاً في الباروك، وتطبيع العلاقات. استمعت إليه ثم شدّدت أولاً على أن مشكلة الرائد في الجيش اللبناني سعد حدّاد هي مشكلة لبنانية، وسنحلّها في إطار لبناني كما نريد. وبالنسبة إلى المناورات المشتركة، لا يمكننا التفكير بها؛ لأننا لسنا في صدد عقد معاهدة سلام، وبالتأكيد لسنا حلفاء لنقوم بنشاطات مشتركة، خصوصاً في قضايا حسّاسة كالتعاون العسكري والأمني. ولا يمكننا ثالثاً أن نستجيب لرغبة آرييل شارون في إنشاء أبراج مراقبة على أراضينا، «لا في الباروك ولا في مكان آخر؛ لأننا بذلك نعرّض سلامتنا وسلامة أشقائنا، وفي مقدّمتهم سوريا، للخطر. والتطبيع أيضاً غير وارد، ولا يمكن أن يتحقّق إلاّ في إطار سلام شامل بين إسرائيل والدول العربية. وبما أنني كنتُ في صدد ترك انطباع إيجابي لديه، قلتُ له أن ينقل إلى شامير أن لبنان لن يسمح بعد الآن بأن تكون أراضيه قاعدة عمليات ضد إسرائيل، لا من قِبل منظّمة التحرير الفلسطينية ولا من قِبل أي فصيل آخر. وأكّدتُ عزم الحكومة اللبنانية على تعزيز الجيش اللبناني وتقويته وتسليحه لتمكينه من القيام بدوره كاملاً، مستفيداً من دعم «اليونيفيل»، ومؤازرتها له. رغم تأكيد شولتز أن لا نية لديه في جمعي بشامير، فإنه ألمح لي بأن اجتماعاً بيني وبين وزير الخارجية الإسرائيلية من شأنه أن يحلّ إشكالات عدة ويسهّل مسار المفاوضات، «وقد يُعطي الإسرائيليين الثقة التي يحتاجون إليها للسير بالاتّفاق». فأجبتُه بأن الأمر غير وارد على الإطلاق، وشرحتُ له مطوَّلاً الأسباب التي تمنعني من ذلك، وهو من دون شك لم يكن غريباً عنها. وكما توقّعتُ، سُرّ شولتز بما قلتُه له عن عدم السماح لأحد باستغلال الأراضي اللبنانية لمهاجمة إسرائيل، وفي ظنّي أعطاه دفعاً لمحادثاته في اليوم التالي مع شامير. فقد أسرّ إليّ في وقت لاحق بأن الإسرائيليين ارتاحوا إلى هذا الموقف، وتوقّفوا عنده بإيجابية. يبقى همّنا التواصل المستمر مع سوريا والتخفيف من حدة الموقف الإيديولوجي الذي اتخذه الأسد. أراد الرئيس الجميل أن يظهر لأميركا دعم المسلمين له. وقرّر إرسال صائب بك سلام، الزعيم السني البارز، للقاء الرئيس ريغان بوفد يضم سالم و(غسان) تويني و(جان) عبيد. وفي اجتماعنا معه في البيت الأبيض بحضور كبار معاونيه، سأل شولتز الرئيس سلام عن مشاعر المسلمين في لبنان نحو منظّمة التحرير الفلسطينية، فأجابه بأن المسلمين ملتزمون بالقضية الفلسطينية، ويدعمون منظّمة التحرير في نضالها، لكنهم لا يدعمون قيامها بنشاط عسكري يعرّض لبنان للخطر، وأنه يعارض تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأن لبنان سيقوم بهذا التطبيع بعد مبادرة الدول العربية إلى ذلك، لا قبله.
نحن في سوريا لسنا دولة... نحن نظام له رأس واحد هو الرئيس حافظ الأسد وأنا الرجل الثاني
عبد الحليم خدام
الإسرائيليون مفاوضون في منتهى الصعوبة
أمضينا أسبوعاً مثمراً في واشنطن، فقد تمكّنا من أن ننقل للأميركيين، ومن خلالهم للإسرائيليين، وجهة نظرنا. وخلال مأدبة عشاء في دار الأمير بندر بن سلطان، سفير السعودية لدى واشنطن، مساء الخميس في 17 مارس، التقينا مجدّداً الوزير جورج شولتز الذي حذّرنا من أن الإسرائيليين مفاوضون في منتهى الصعوبة، ويحاولون انتزاع كلّ شيء من لبنان. وأضاف: «لكننا نقف إلى جانبكم لحماية حقوقكم». أثناء العشاء، أخبرت بندر بأنني أترك غداً إلى لندن، فأجابني: «وأنا كذلك، تعالَ معي في طائرتي الخاصة وأنا أقودها أتحدّث معك».. فوافقتُ، وأخذنا الطائرة في الليلة نفسها. غير أنني سرعان ما ندمتُ، لأن الأمير محدّث لبق وصاحب نكتة، وأبقاني صاحياً طوال الليل، وهو يروي لي تجاربه كطيار مقاتل، في حين كنتُ أحاول عبثاً أن أختلس بضع دقائق للنوم، بعد أسبوع حافل مرهق.
(...)
كان لي أيضاً في مدينة الضباب، في 19 مارس، اجتماع مهم وممتع كالعادة مع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الذي كانت صداقتي الشخصية معه تزداد في كلّ لقاء. فإضافة إلى تفهّمه أوضاع لبنان وظروفه، والضغوط التي كان يتعرّض لها، كان الفيصل رجلاً مثقّفاً ومنفتحاً على العالم والأفكار والناس. وكلّما ازداد معرفة وثقة بمن يلتقي بهم، كان الأمير يكشف عن ذاته ورؤيته ونظرته إلى الحياة أكثر. كما اجتمعتُ في عاصمة المملكة المتّحدة بالوزير خدّام وأطلعتُه على موقف واشنطن من المفاوضات وثقتهم بأنها ستفضي إلى نتيجة رغم تعنّت الإسرائيليين. وهنا نصحني خدّام بأن تكون محادثاتنا الجدّية مع جورج شولتز؛ لأنه رجل مسؤول وواقعي. غير أن للرجل مشكلة واحدة هي أنه يصغي أكثر مما يتكلّم، فعلّقتُ ممازحاً: «يا عبد الحليم، أنت ما عندك هالمشكلة». ثم طلب بإلحاح أن نطلعه خطّياً على ما يجري في المفاوضات، فجان عبيد «لا يقول لنا سوى ما ترفضونه أثناء المحادثات، وهذا أمر جيّد، لكننا نود أن نعرف أيضاً بماذا قبلتم. جان يخبرنا بالعموميات، لكنني أريد أن أعرف التفاصيل بصورة خطيّة. نحن في لبنان لمساعدتكم. استعملونا وسيلةَ ضغطٍ على الإسرائيليين. وحين تتوصّلون إلى اتّفاق خالٍ من التنازلات مع إسرائيل، تعالوا إلى دمشق. وخلال نصف ساعة، نتّفق على سحب قواتنا من لبنان. فالأميركيون يسألوننا دائماً: متى ستنسحبون؟ ماذا يريدون مني؟ هل يريدون أن أسجّل لهم شريطاً؟ طيّب، سأفعل ذلك وأقول فيه: (سننسحب، سننسحب، سننسحب!) وأبلغتُ خدّام:
- قلنا للإسرائيليين، بواسطة الأميركيين، إن الجيش اللبناني الجديد قادر على حفظ الأمن في جنوب لبنان، وتأمين الاستقرار فيه، ومنع التسلّل عبر الحدود للقيام بأعمال عدائية ضد إسرائيل.
- هل قبلتم بتطبيع العلاقات؟
- لا، لن نفتح حدودنا مع إسرائيل، ونغلقها بالتالي مع شقيقاتنا الدول العربية الأخرى. هل يمكن أن نحصل على تعهّد بجدول الانسحاب السوري من لبنان؟
- هذا أمر تقني، خارج عن صلاحياتي.
- هل ستقبل سوريا باستقبال بعض مقاتلي منظّمة التحرير الذين سينسحبون من عندنا؟
- يجب أن يذهبوا إلى الجزائر أو المغرب أو السعودية. ومَن سيبقى من الفلسطينيين في لبنان يجب تجريدهم من سلاحهم. هل صحيح أن لبنان توصّل إلى اتّفاق مع إسرائيل؟ لقد قال لي السفير الفرنسي في نيودلهي شيئاً من هذا القبيل.
- حين نقترب من الاتّفاق مع الإسرائيليين، وقبل التوقيع على أي شيء، سآتي إلى دمشق، وأقدّم لك المسودة، وسأبحثها معك، وستكون أول من يعلم بها، لا سفير هذه الدولة أو تلك (...)
- سوريا ستبذل ما في وسعها لتحقيق هذا الهدف. لبنان دولة مستقلّة، ومن الطبيعي أن تفعل ما يصبّ في مصلحتها. أما سوريا، فتنظر إلى المسألة من منظور الصراع العربي - الإسرائيلي. إننا ندعم جهودكم، لكننا أيضاً مقيّدون بمنظورنا. آمل ألاّ يصطدم الأمران.
أخبرت بندر بأنني أترك غداً إلى لندن فأجابني: «وأنا كذلك... تعالَ معي في طائرتي الخاصة وأنا أقودها»... وافقتُ غير أنني سرعان ما ندمتُ..
إيلي سالم
احتمالات الخلاف مع سوريا
لقد بدأنا نتلمّس بوضوح عبر اتّصالاتنا المباشرة وغير المباشرة مع السوريين أن احتمالات الخلاف معهم قائمة. لقد كانت لهم أولوياتهم واهتماماتهم الإقليمية والدولية، ومن الصعب عليهم أن يقبلوا بأن نفاوض لعقد اتّفاق يمكن أن تكون له انعكاسات على دورهم ومصالحهم الوطنية والقومية، وفق نظرتهم لها، والتي يمكن ألاّ تنسجم مع أولوياتنا الرامية إلى إنهاء كلّ ما من شأنه أن يعطي إسرائيل ذريعة لعدم انسحاب قواتها من لبنان.
حافظ الأسد للجميل: جيشنا باقٍ في لبنان ما استمرت المكاسب الإسرائيلية
«الشرق الأوسط» تنشر فصولاً من كتاب «الفرص الضائعة» لوزير الخارجية اللبناني السابق إيلي سالم (2-2)
لندن: «الشرق الأوسط»... تنشر «الشرق الأوسط» فصلاً جديداً من كتاب سيصدر قريباً لوزير الخارجية اللبناني السابق إيلي سالم بعنوان «الفرص الضائعة - من اتّفاق جلاء القوات الإسرائيلية إلى اتّفاق الطائف»، الذي يروي فيه تفاصيل ما عُرف بـ«اتفاق 17 أيار» الذي تم التوصل إليه عام 1983 بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام السابق. كان سالم وقتها نائباً لرئيس الحكومة وزيراً للخارجية في حكومة شفيق الوزان خلال حكم الرئيس أمين الجميّل. يصدر الكتاب عن دار «سائر المشرق» بالاشتراك مع الناشر والإعلامي أنطوان سعد.
**************
فيليب حبيب يلجأ إلى عصا رونالد ريغان
بعد عودتي من جولتي الطويلة التي شملت أيضاً زيارة خاطفة إلى باريس، حيث التقيتُ نظيري الفرنسي كلود سيشون، اجتمعتُ بفيليب حبيب الذي طلب أن نلتقي بعد عودته من إسرائيل. كنتُ آمل أن تكون محادثاتي في واشنطن قد ليّنت الموقف الإسرائيلي، غير أن الواقع أظهر زيادة في تصلّب موقف تل أبيب في قضية الرائد سعد حدّاد وقواته، وتشكيل القوة العسكرية اللبنانية، المفترض أن تتولّى أمن المنطقة الحدودية، فقد أصرّ الإسرائيليون على أن يتم اختيار كبار ضباطها بالتشاور مع لجنة عسكرية تضم ضباطاً لبنانيين وإسرائيليين. فاكتفيتُ بالقول لحبيب:
- إنك تعرف موقفنا من هذه المطالب، فلماذا تنقلها إلينا؟
- أنا وسيط وعليّ أن أنقل المقترحات الإسرائيلية والردود اللبنانية عليها. أما آرائي فسأقدّمها في الوقت المناسب.
- هذا هو الوقت المناسب. لا بد أن نتحرّك فأجواء المحادثات غير جيّدة.
الفرص الضائعة
وصل بي الأمر بعد أيام إلى حد إبلاغ موريس درايبر: «إن لم يغيّر الإسرائيليون نوعية الكلام معنا، فسنقطع المفاوضات. يظهر أن الشهية الإسرائيلية تزداد، ودوركم كشريك يبدو فاتراً وغير فعّال. إن الجنوب اللبناني يواجه المصير نفسه الذي واجهته الضفة الغربية وغزة. ينبغي أن نتحرّك قبل أن تنشأ وقائع جديدة على الأرض». بقي الأمر على هذا المنوال إلى أن شعرنا بتحسّن طفيف في الموقف الإسرائيلي في أوائل أبريل (نيسان)، وعزوناه إلى تصريح ريغان الذي أعلن فيه وقف تسليم طائرات «إف 16» إلى إسرائيل إلى أن تنسحب كلّياً من لبنان. فتذكّرت ما قاله لي حبيب قبل أيام: «سئمتُ من تقديم الجزر لإسرائيل طوال الوقت، أحتاج الآن إلى العصا، والعصا بيد ريغان».
بالفعل، تحرّكت الأمور. قدّم لنا موريس درابير، في 3 أبريل، مسودة الاتّفاق قائلاً إنها مقبولة من الفريق الإسرائيلي المفاوض، لكن ثمة اعتراضات عليها من الساسة الإسرائيليين، خصوصاً من (مناحيم) بيغن و(آرييل) شارون. اجتمعتُ وغسان (تويني) مع الرئيس (شفيق) الوزّان، وراجعناها ودققنا في نصّها مادة، وأدخلنا تعديلاتنا عليها. كانت المسودة لا تزال تنطوي على ألغام كثيرة، كمصير سعد حدّاد، وجبل الباروك، واليونيفيل وغيرها. لم يكن التحرّك كافياً، والألغام في المسودة تعني أن الاتّفاق لا يزال بعيداً، وصدقية الولايات المتّحدة آخذة بالتدهور، وحكومتنا تواجِه تململاً من تأخّر انسحابات كانت موعودة في نهاية العام الماضي 1982. وها نحن أنهينا الربع الأول من عام 1983، وليس من مؤشّر جدّي على اقتراب خروج القوات الأجنبية من لبنان. وعلى المستوى الشخصي، بدأ يظهر نوع من الانتقاد المتزايد في الوسط المسيحي بسبب موقفي من العرب، وصل إلى حد إرسال تهديدات لي عبر قنوات مختلفة. فوعدني الرئيس (أمين الجميل) بالتدخّل مع أصدقائه المسيحيين، مقترحاً أن أزيد عدد حرّاسي ومرافقيَّ لتدارك كلّ الاحتمالات.
اللقاء مع خدّام لم يكن بالهدوء نفسه... أخذ على عاتقه التعبير عن موقف الأسد بأكثر العبارات عُنفاً وحذّرني وهدّدني وذكّرني بالحجّاج بن يوسف....
هذه الأجواء المتوترة أوصلت الرئيس الجميّل، رغم معرفته باستياء فيليب حبيب الشديد من شارون وموشي أرينز، إلى حد صبّ جام غضبه، في 14 أبريل، على حبيب من دون تحفّظ. أخذ يصرخ به وينظر إليّ ليتأكّد من أنه لم يتجاوز الأصول والحدود المقبولة، ويخرق الأعراف. كنتُ مسروراً في الواقع من موقف الرئيس، رغم ثقتي بأن حبيب لم يكن يحتاج إلى هذا التقريع، ويعرف المسائل على حقيقتها. غير أننا كنا مهتمّين بأن ينقل إلى إدارته مقدار غضبنا من حال المراوحة والمماحكة، واستياءنا الكبير، وأن يشعرها بأننا بلغنا أقصى حدٍّ من التوتّر والرغبة في استعجال ريغان و(جورج) شولتز وحضّهما على الضغط على بيغن وأرينز وشارون. مما قال الجميّل يومذاك لفيليب حبيب: «ينبغي أن أكون صريحاً معك. إن الدور الأميركي في المفاوضات لم يكن كما توقّعناه. الرئيس ريغان أكّد لنا أن ثوابتنا الأساسية الثلاث لن تُمسّ: سيادة بلدنا، والإجماع الوطني، وعلاقاتنا مع الدول العربية. غير أن الضغط الأميركي في المفاوضات انصب علينا بشكل متواصل لتلبية مطالب الإسرائيليين، مما يوشك أن يمسّ بثوابتنا الثلاث. لقد ضغطت علينا واشنطن أكثر مما ضغطت على إسرائيل. وتنازلنا إلى أبعد مما كنا نتصوّر، ولا يمكن أن نتنازل بعد. فإما أن يكون الاتّفاق بحسب النص اللبناني، أو لا يكون. لا أريد أن أكون الرئيس الذي يوقّع اتّفاقاً يخرق سيادة لبنان ويمسّ كرامته. أنا مستعد لأن أغامر وأقود حملة من نوع آخر لتحرير بلدي، إذا لزم الأمر. إنكم تثيرون قضية سعد حدّاد للمرة العاشرة، لقد سئمت ذلك. (الرائد سعد) حدّاد مشكلتنا، إنها المرة الأخيرة التي أسمح لكم أو لأي شخص بأن يثيرها معي». فوعد حبيب بألا يثير مثل هذه القضايا مرة أخرى.
(...)
تلقى الرئيس الجميّل من الرئيس الأسد في 28 أبريل، بواسطة مبعوث خاص، رسالة بخط اليد، غير موقّعة وغير مؤرّخة جاء فيها:
لقد أبلغنا الجانب الأميركي ما يلي: «لا نريد أن يكون هناك أي لبس بالنسبة إلى موقفنا، ونريد أن نتحدّث معكم دائماً بصراحة. ورغم أننا أكدنا موقفنا سابقاً من الوضع في لبنان، وحرصاً منا على ألاّ يساء فهم موقفنا، كما يبدو أحياناً من بعض التصريحات، فنحن نوضحه مرة أخرى: إننا نعتبر أية مكاسب يحققها الغزو الإسرائيلي للبنان تشكّل خطراً على أمننا الوطني والعربي، مما سيفرض علينا بقاء جيشنا في لبنان مستمراً ما استمرت هذه المكاسب. ومن الطبيعي أن نتمسّك بمقتضيات الأمن، خاصة وأن إسرائيل تبحث وتخطط لأعمال توسّعية متتالية بين وقت وآخر». كان من الطبيعي أن نعقد اجتماعاً طارئاً مع الرئيس لتحليل أبعاد هذه الرسالة في هذا التوقيت من المحادثات، فحضرنا أنا والوزّان وتويني و(وديع) حدّاد. فكّرنا طويلاً في مضمونها، واستنتجنا أنها إشارة قوية بألاّ نتابع السعي إلى اتّفاق مع إسرائيل، مع أننا أنجزنا المسودة، ولم تبقَ سوى نقاط ثانوية تحتاج إلى حلول. واتّفقنا أن الأمل الوحيد المتاح أمامنا هو أن يغيّر الأسد رأيه حين نعرض عليه وثيقة الاتّفاق، ويسمع وجهة نظرنا واعتباراتنا، وحين يدخل على الخط وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز الذي كنا ننتظر بفارغ الصبر أن يتداول مع الأسد في ما بجعبته من مسائل قال إنها تهم الأخير. وكنا متفائلين أن محادثات عالية المستوى بين شولتز والأسد ضرورية، إذا كان لا بد من تحقيق تقدّم حقيقي. أما أنا فكنتُ أفكّر بما قصده الرئيس السوري بكلمة «مكاسب»، فهي تحتمل مجلّدات من التفسير والتأويل والتنظير، وقد تنطوي على «لا» لاغية لكلّ كلمة أو قول أو نظرة. بعد ساعات قليلة، ذهبنا أنا وفيليب حبيب إلى المطار لاستقبال شولتز. وفي طريق العودة، انطلق شولتز في الموكب الرسمي، فيما عدتُ وحبيب لإنجاز بعض التحضيرات قبل اجتماعنا بنظيري الأميركي في المساء. راح سائقي يتجوّل على مهل في شوارع الضاحية الجنوبية، الخطرة على الأميركيين. وفيما حانت من حبيب التفاتة إلى الوراء ولاحظ ألاّ سيارة أمن وراءنا، صاح: «يا سيد إيلي، يا معالي وزير خارجية لبنان، يا صديقي، هل تريد أن تقول لي إنك تتجول في هذه المدينة العنيفة والخطرة، من دون قوة أمنية خلفك؟ هل تعرف من يجلس إلى جانبك في هذه السيارة؟ هل تعرف كم من الناس يريدون رأسي؟ أدعو ربي ألاّ تكون واحدًا منهم؟»، فقلتُ للسائق الشاب أن يسرع، «فطار» بها، وعاد حبيب للشكوى متسائلاً: «أيّ الشرّين أهون؟ رصاصة في الرأس أم الاصطدام بحائط بسرعة 120 كلم بالساعة؟»، وغرق بعدها في صمت ووجوم، على غير عادته. إذّاك علمت أنه عندما يخاف ينقطع نفسُه كلّياً. مساءً اجتمعنا بشولتز، وقلنا له إننا نريد اتّفاقاً يؤدي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية ويكون مقبولاً من سوريا، فأجابنا بأنه يعتقد أن ما توصّلنا إليه يفي بالغرض. وأخبرنا أن بيغن أكّد له نيّته في المضي بالاتّفاق حتى النهاية وبالخروج من لبنان، لكنه حذّره من أن السوفيات غير مرتاحين للدور الأميركي، ولا يريدون له أن ينجح في تحقيق أي تسوية بمعزل عنهم، وهذا ما كنت لمستُه من اجتماعي بالسفير السوفياتي في نهاية مارس (آذار) الذي أشرتُ إليه في الصفحات السابقة. وأضاف وزير الخارجية الأميركي: «السوفيات يعرقلون. هم قادرون على خربطة الأمور، لكنهم غير قادرين على إنجاز اتّفاقات بين إسرائيل والدول العربية. أما أميركا فبمقدورها ذلك. لذا سيحاولون إفشال مهمتنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك». وعن نفوذ السوفيات في دمشق، قال: «الأسد رجل مستقلّ، ويتّخذ القرار الذي يجده مناسباً، دون أن يتأثّر بالموقف السوفياتي. وبالإمكان إقناعه بأن الاتّفاق جيِّد». لقد كان شولتز واثقاً من أن الرئيس السوري سيقبل به، غير أننا لم نكن واثقين البتة. استعرضتُ، باسم الجانب اللبناني، مسوّدة الاتّفاق، مادة، مادة، محدّداً ما يمكن أن نقبل به وما لا يمكن القبول به. لا يسعنا القبول بأن يوقّع الاتّفاق وزراء الخارجية، فلسنا بصدد معاهدة سلام، بل وضع ترتيبات أمنية يجب أن يوقّعها رئيسا الوفدين. كما أننا نعارض الاعتراف بإسرائيل، فاستعمال هذه العبارة يعني أننا عقدنا معاهدة سلام. في اليوم التالي، في 30 أبريل، عقدنا اجتماعاً مطوّلاً مع شولتز لمتابعة البحث في المسوّدة، وفي ظل المعلومات المتوافرة عن تفكير الإسرائيليين ببدائل عن الانسحاب الكامل، أكدتُ لشولتز أنه إذا لم يخرجوا من الأراضي اللبنانية كافة، فلن يكون هناك اتّفاق. وافقني الوزير الأميركي الرأي، وطلب أن نحدّد خطياً ما نريده من الأميركيين. وأردف الرئيس الوزّان: «نعمل على صفقة كاملة، والمسار أمامنا ضيّق. كثيرون سيهاجموننا، رغم أننا نقوم بما في وسعنا لتحرير لبنان من الاحتلال». وحثَّ الوزيرَ الأميركي على أن يأخذ بالاعتبار وضعنا الصعب، وألاّ يحمّلنا أكثر من قدرتنا. بعد الاجتماع، طلب الجميِّل من شولتز وحبيب ومني أن نوافيه تحت شجرة صنوبر في حديقة القصر، لاحتساء القهوة. بدا الوزير الأميركي متفائلاً حيال الموقف السوري بعد تلقيه دعوة لزيارة دمشق، قائلاً إن هناك أشياء كثيرة يرغب الأسد في مناقشتها معه، والولايات المتّحدة مستعدة للدخول في حوار معه بشأن قضايا إقليمية تهمّه. وهنا طرح الرئيس ستة أسئلة كنتُ أعددتُها وقدّمتها إليه، وراح حبيب يسجّلها:
1- إذا عجزنا عن التوصّل إلى اتّفاق مع إسرائيل بشأن الانسحاب الكامل، فأي مسار آخر يمكن للولايات المتّحدة أن تساعد فيه لبنان؟
2- إذا توصّلنا إلى اتّفاق، ورفضت سوريا الانسحاب من لبنان، باعتبار أن الاتّفاق يعطي إسرائيل مكتسبات في لبنان، فما مصير الاتّفاق؟
3- إذا أدّى عقد الاتّفاق إلى مقاطعة عربية لبضائعنا، فكيف يمكن لواشنطن أن تساعد؟
4- إذا تجاهلت إسرائيل الاتّفاق وانسحبت جزئياً، وعزّزت موقعها في منطقة أمنية لبنانية، فكيف يمكن أن تساعدونا على إخراج إسرائيل منها؟
5- إزاء النفوذ السوفياتي في المنطقة، والمعارضة السوفياتية لمبادرتكم في الشرق الأوسط، هل أنتم واثقون بأن هذا النفوذ لن يُفشل جهودكم في التوصّل إلى اتّفاق؟
6- في حال حدوث ما هو غير متوقّع، ووقعت حرب بين سوريا وإسرائيل، كيف يمكن إذّاك حماية لبنان واللبنانيين منها، لا سيما أن رحاها ستدور على أرضنا كما هو معروف؟
ثم قلت للوزير الأميركي إن الإجابات عن هذه الأسئلة هي بأهمية الاتّفاق ذاته، إن لم يكن أكثر، فوافقني على رأيي، واعتبرها مهمة وصعبة، وأشار إلى أنه سيتشاور بشأنها مع الرئيس رايغن. وأضاف أن الرئيس الأميركي وعد بأن بلاده ستساعد لبنان على الخروج من الأزمة، وهي ستقوم بذلك، لكنها لا تملك عصا سحرية. وأقرّ بأن سوريا لن تكون سهلة، ولكن اتّفاقاً جيّداً يخرج إسرائيل من لبنان، سيستقطب الدعم العربي العام ومن ضمنه سوريا. وقال إنه يتوقّع عملية دبلوماسية طويلة، إلاّ أنه واثق بالنتيجة، لأن البديل هو احتلال إسرائيل لعاصمة لبنان نفسها، بكل المخاطر التي تنطوي عليه. في اليوم التالي، يوم الأحد في 1 مايو (أيار)، التقت المجموعة نفسها تحت الصنوبرة عينها، وقال لنا الوزير الأميركي إنه فكّر في الأسئلة، واستشار رئيسه بمضمونها، وسيقدّم إجابات عنها. في ما خصّ الاتّفاق، شدّد على أنه يجوز وضع احتمال الفشل في التوصّل إليه، لأن تداعيات الفشل وخيمة على لبنان وإسرائيل والولايات المتّحدة، وتتراوح بين استمرار الاحتلال ووقوع المزيد من الحروب في المنطقة. في موضوع سوريا، شدّد على وجوب الاستحصال على قبولها بالاتّفاق، «سنفاوضها، ولدينا بعض النفوذ في العاصمة السورية، أكثر مما هو ظاهر. وإذا كان للسوفيات نفوذ فيها، فهو لا يُذكر قياساً مع حرية الرئيس الأسد في أخذ القرارات. الأسد يتصرّف باستقلالية كاملة. ولا يتأثّر سوى بالمناخ العربي العام. سنعمل من هذه الزاوية. سأجتمع به قريباً. وأعتقد أنني أستطيع التعامل معه. أعرف هواجسه. هو قومي، وأظن أن الاتّفاق يخدم الغاية القومية على أفضل وجه. بالنسبة إلى المقاطعة، لكم الحق في أن تقلقوا». أشار الوزير الأميركي أيضاً إلى خشيتنا اندلاع حرب بين سوريا وإسرائيل في لبنان، وشاطرنا القلق من هذا الاحتمال، بنتيجة وجود السوفيات في دمشق، وتقديمهم بعض الأسلحة المتطورة إلى الجيش السوري. وفي حالة الحرب بين إسرائيل وسوريا، من المحتمل أن ينجرّ إليها السوفيات، و«هذا أمر خطير لا يمكننا أن نتفرّج عليه مكتوفي الأيدي». وأضاف: «سنحاول إقناع السوريين بأهمية الاتّفاق. الأسد رجل واقعي، وغير مأخوذ بالآيديولوجية التي يستغلها بذكاء كبير. لا شك أنه سيغيِّر موقفه بعد أربعة أسابيع على حد أقصى». أصغيتُ إلى إجابات شولتز باهتمام، غير أنني لم أقتنع.
نيوب الليث: بين فكّي الأميركيين والسوريين
كانت لا تزال الدبّابات الإسرائيلية تَجوب شوارع بعبدا الضيّقة، عندما قصدتُ دمشق في الثاني من مايو 1983 لتقديم عرض كامل للرئيس السوري حافظ الأسد عن مشروع الاتّفاق. لا حاجة للاستفاضة في الأهمية التي كنا نعلّقها على هذا الاجتماع، يكفي القول إن جميع المعنيين بالمسألة اللبنانية كانوا على يقين بأن فرص نجاح تنفيذ الاتّفاق ستتضاعف، إذا وافق عليه الأسد. أما في حال لم أنجح في إقناعه به، كما كانت تؤشّر كلّ المعطيات الآتية من دمشق، فهذا كان يعني أن مشروع الاتّفاق سيدخل في نفق طويل، تتساوى فيه على الأقل فرص النجاح والفشل، وإن كنا نعوّل على وعود الدولة العظمى التي قال وزير خارجيتها الأكاديمي الذي يُفترض أن يبني معطياته على وقائع ثابتة وواقعية، إن لديه منها ما يجعله يعتقد أن بإمكانه أن يُقنع الأسد، حليف الاتّحاد السوفياتي، لكن المستقل القادر على اتّخاذ قراره بمعزل عن نيات موسكو. ركبتُ الطوافة العسكرية التي كان يقودها ابن عمي العقيد عبد الله سالم من مقر وزارة الدفاع في اليرزة، وبرفقتي المستشار الرئاسي جان عبيد والعميد الركن عباس حمدان. فقد كنتُ أستحسن أن أصطحب جان معي للاجتماع بالرئيس الأسد لعمق الصداقة الشخصية بينهما. وكثيراً ما كان جان يعلّق على أسلوبي بالعمل أو بالتعاطي مع الناس أمام الأسد، بكلمات ظريفة ذكية على عادته، ودائماً بهدف تحسين العلاقة بين لبنان وسوريا من زاوية إدخال العامل الشخصي فيها (...) طرنا باتّجاه عاصمة الأمويين مستعيداً في ذاكرتي الأكاديمية معاوية بن أبي سفيان، في رحلة استغرقت نحو ثلاثين دقيقة، حطّت بعدها الطوافة في مطار المزّة حيث استقبلنا الوزير خدّام وعدد من كبار المسؤولين السوريين. وأقلّني خدّام بسيارته الخاصة، وهي من نوع مرسيدس مصفّحة ضد الرصاص، إلى مقر الرئاسة السورية. استقبلني الرئيس الأسد، الذي حرص منذ اللحظة الأولى على إشعاري بالود إلى أقصى حدّ، على الصعيد الشخصي، وبالتشدّد إلى أقصى حد، على الصعيد السياسي. قدّمتُ له عرضاً مفصّلاً لمختلف القضايا التي نشأت أثناء المفاوضات، متطرّقاً إلى الخلفية التي خضنا المحادثات على أساسها، والأهداف التي رسمناها، منذ البداية. وأوجزتُ المطالب الإسرائيلية التي رفضناها بإصرار، منذ ورود ورقة شارون التي ما فتئت تظهر بين الحين والحين، إلى أن أسقطناها نهائياً. كذلك وضعتُه بالتفصيل على مداولات اجتماعاتنا المطوّلة بالوزير الأميركي جورج شولتز. وقلتُ له إن النصوص التي سأعرضها عليه لا تزال أولية وقيد التمحيص والدرس من جانبنا ومن الجانب الإسرائيلي، وإننا نتوقّع التوصّل إلى نص موحّد خلال أسبوع أو أسبوعين. قرأتُ وشرحتُ له مقدّمة الاتّفاق المقترحة التي نعتبر فيها أن حالة الحرب انتهت بين لبنان وإسرائيل، فسألني: «هل لبنان ملزم، بنتيجة ذلك، بالانسحاب من معاهدة الدفاع العربي المشترك؟»، فأجبتُه بالنفي. ثم قارنتُ الترتيبات الأمنية الواردة فيها، بترتيبات اتّفاق الهدنة المعقود سنة 1949، وكذلك الأمر بالنسبة إلى وصف مهمة لجنة الاتّصال المشتركة وأعداد القوات العسكرية التي لها الحق بالانتشار في المنطقة الحدودية وأنواع الأسلحة المسموحة فيها، والمسائل المحيطة بهذه المسألة. كان الأسد يصغي إلى عرضي بانتباه لافت، واستوقفني مرات عدة، لا سيما لدى ذكر تفاصيل متعلّقة بالقضايا العسكرية والأمنية. وبما أن الأسد كان طياراً مقاتلاً، فقد أبدى اهتماماً خاصاً بنواحي الاتّفاق المتعلّقة بالمجال الجوي، وتوقّف عند الترتيبات الأمنية القريبة من الحدود السورية. وأعرب عن استغرابه لرفض إسرائيل السماح لقوّات «اليونيفيل» بأن تنتشر في المنطقة الأمنية. كما سأل: «هل سيعطي الاتّفاق الطيران الإسرائيلي حق التحليق فوق الأراضي اللبنانية؟»، فأكّدتُ له أن الالتزام الدقيق بالاتّفاق يمنع القوّات الإسرائيلية من اختراق أراضينا، براً وبحراً وجواً.ظهر عليه ارتياح سرعان ما بدا أنه عابر، عندما بدأ الأسد يستعرض موقف سوريا بشأن مسودة الاتّفاق. استهلّ حديثه بالقول إنه يتعاطف مع موقفنا ويقدّر ظروفنا الصعبة، غير أن وجهة نظره تختلف عن وجهة نظرنا. واستعاد قول الرئيس الجميّل له في نيودلهي «إن سوريا تستطيع أن تعيش من دون مرتفعات الجولان، ومصر بلا سيناء، أما لبنان فلا يستطيع البقاء من دون العاصمة والمنطقة الواقعة جنوبها». وأضاف: «هذا غير صحيح. فلكلّ بلد مشاكله وتحدّياته وأثناء الحرب يتكتّل الناس ويتّحدون». وانتقل في حديثه إلى التمهيد لفكرة رفض التفاوض والاتّفاق مع إسرائيل والانخراط في مقاومتها عسكرياً، قائلاً إنه لا يصدّق أن إسرائيل تستطيع أن تقسّم لبنان وتنشئ دويلات طائفية صغيرة، لأن مجرّد التفكير بتقسيم لبنان سيؤدّي إلى حربٍ إقليمية لها تداعيات دولية خطرة. ليخلص إلى القول: «اللبنانيون، إذا اتّحدوا، يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل. النضال فقط هو ما يحرّر الأمم. نحن حرّرنا سوريا من العثمانيين، ثم من الفرنسيين، ولم يكن عندنا جيش كبير. الآن لدينا جيش قوي وبوسعنا أن نفعل أكثر. التحرير عمل الشعب؛ وإنما يستغرق وقتاً أطول ويتطلّب تضحيات أكثر». ولباقةً مني لم أذكّره بالتاريخ، فهو لم يحرّر سوريا من العثمانيين، بل الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. والرجوع إلى التاريخ خطير مع الرئيس الأسد إذ إن اجتهاده في هذا المجال لا يلتزم تماماً بواقع الأمور، والبحث في التاريخ معه يجُرُّك إلى مجالات تتجاوز اتّفاقنا الأمني مع إسرائيل.
السوفيات يعرقلون. هم قادرون على خربطة الأمور، لكنهم غير قادرين على إنجاز اتّفاقات بين إسرائيل والدول العربية. أما أميركا فبمقدورها ذلك. لذا سيحاولون إفشال مهمتنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك
أسوأ من «كامب ديفيد»
بعد ذلك شدّد على أن إسرائيل غير قادرة على البقاء في لبنان إلى ما لا نهاية، لأن انتشار قواتها فيه مُكْلف، واقتصادها على حافة الإفلاس، والمسألة مسألة: «عض على الأصابع»، إسرائيل تؤلمكم وأنتم تؤلمونها. عليكم أن تتحمّلوا الألم. العرب كلّهم معكم. عليكم ألاّ تتعاملوا مع إسرائيل. حسني مبارك نفسه لم يقبل بزيارة إسرائيل. هو إنسان طيب، أعرفه جيداً. وهو ليس مسؤولاً عن كامب ديفيد. «ثم تساءل قائلاً: ما حاجة لبنان إلى اتّفاق مع إسرائيل؟ موقفه قوي، وحكومته تتمتّع بدعم وطني واسع، وهي محترمة في العالم العربي، وضع لبنان أقوى من سوريا وإسرائيل. إسرائيل لم تأتِ لمحاربة لبنان، فلماذا عليه أن يدفع الثمن؟»، كان طلبُ الأسد واضحاً: عليّنا ألا نتفاوض مع إسرائيل بشأن احتلالها لأراضٍ لبنانية، لأن هذا الاحتلال مخالف لمسار التاريخ. كان الأسد يحبّ دائماً العودة إلى التاريخ. علينا برأيه أن نقاتل ونقاوم مهما كان الثمن غالياً على مختلف الصعد. أجبتُه من زاوية القلق على تداعيات وجود الإسرائيليين على التركيبة اللبنانية والدور التخريبي الذي يلعبونه مع الفئات اللبنانية لناحية تأليب بعضها على البعض الآخر، في بيروت والجبل والجنوب والضاحية الجنوبية من بيروت. وأضفتُ: «أنا خائف من سياستهم، إنهم يحتلّون الأرض، ويتدخّلون بين اللبنانيين. إن هوية لبنان الوطنية لا تزال ضعيفة، لذلك سوف يستغلّون هذا الأمر، وكلّما بقوا عندنا أكثر، كلّما تغلغلوا في نسيجنا الطائفي أكثر. هذا فضلاً عن علاقاتهم مع القوى السياسية وكبار السياسيين اللبنانيين، وبعضهم من أتباعكم، يجتمعون سرّاً وعلناً مع شارون، ويدعونه إلى تناول العشاء في بيوتهم أو حتى في مطاعم بيروت الفاخرة. لذا يجب أن نحاول إخراجهم قريباً، قبل أن يتعمّقوا أكثر. انظر ماذا يفعلون في الجولان، لا يمكننا أن ننتظر التاريخ. لقد اكتشفنا الإسرائيليون كوجهة سياحية، وهذا لا يُحتمل. إنّهم في بيروت، وليس في الجولان. بيروت هي القلب، والجولان هو الذراع. لذلك يجب أن نتفاوض، إذا قاتلنا سنخسر ولن يرحمنا التاريخ». أصغى الأسد بانتباه، لكنّه لم يغيّر موقفه. جلستُ وتحدّثتُ معه لمدّة ساعتَين أو ثلاث أو أربع ساعات، ذهبتُ إلى المرحاض خلالها ثلاث مرّات، لأعود في كل مرّة وأجده في مكانه الذي كان فيه. لم يتحرّك مطلقاً، محافظاً على طريقة جلوسه الشهيرة. في المرة الثالثة، سألتُه:
- كيف يعقل أنّك، خلال ذهابي ثلاث مرّات، لم تتحرّك؟
- يا دَكتور! لا تنسَ أنّني طيّار مقاتل.
- ماذا؟ لديك عبوة مخفية؟
- ضحك وضحك من كلّ قلبه، ثم أردف: أنت تعرف، أنه منذ زمن بعيد هناك بلاد الشام، وتشمل هذه البلاد لبنان وفلسطين وسوريا والأردن وأجزاء من أراضي ما بين النهرَين، دجلة والفرات (العراق حالياً)، واعتُبِرَت دمشق العاصمة الوطنية والطبيعية لهذه البلاد. كان الأمر كذلك، وأكثر في أيام الأمويين. لا نحب الادّعاء كثيراً، إنّما في هذه البلاد، يجب أن تُتّخذ القرارات الأكثر أهمية في دمشق، أو يجب على الأقل أن تحظى بموافقتنا دائماً.
(...) انتقل الأسد بعدها إلى انتقاد الولايات المتّحدة لدورها في الدفع باتّجاه التوصّل إلى اتّفاق مع إسرائيل مقابل انسحاب قوات الأخيرة من لبنان، معتبراً أن الانسحاب يجب أن يكون فقط في إطار قرار مجلس الأمن رقم 425. وأضاف: «إذا حقّقت إسرائيل مكاسب في لبنان، فإن الجيش السوري لن ينسحب منه. والقول إن خروج القوات الإسرائيلية يخفّف الضغط على سوريا في لبنان، لا معنى له. إن الجيش الإسرائيلي في لبنان لا يخيفني. لذلك ينبغي عدم استعمال انسحابه كوسيلة لإقناعي بالموافقة على اتّفاق لا أؤيده». استمر الرئيس السوري بالتصعيد في مضمون كلامه، محافظاً في الوقت نفسه على نبرته الهادئة. ولعل عبقرية حافظ الأسد تتمثّل بقدرته على إعلان أسوأ المواقف بألطف الوسائل، وقلت له إن أسلوبه يذكّرني في ذلك اليوم بالقول الشهير لأبي الطيِّب المتنبي:
«إذا رأيتَ نيوب الليث بارزة فلا تظننّ أن الليث يبتسم»
عندما سمع هذا البيت، «كَيَّف»، وضحك كثيراً، لكن كلّما ازداد ضحكه ازداد تصلّبه. هنا قال الرئيس السوري بنبرته الهادئة إيّاها ما يقطع كلّ أمل في أن أتمكّن من إقناعه بمهادنة الاتّفاق على الأقل: «إن ما يقوم به لبنان في هذا الاتّفاق أسوأ من كامب ديفيد. إنهاء حالة الحرب يعني السلام. نحن قطعنا علاقاتنا مع مصر، لأنها عقدت معاهدة سلام مع إسرائيل. لذلك لا يمكن أن نختلف مع مصر، وألّا نختلف معكم». أعدت محاولة شرح نقاط أساسية صرف النظر عنها، لكنها على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة إلينا، وقد اقتضت منا أشهراً من المفاوضات الشاقة مع إسرائيل. كانت مهمّة بالنسبة إلينا، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة إليه، لكن عبثاً أحاول، فمفهومه مختلف، ووضعه مختلف، وأولوياته مختلفة. وهو بالتأكيد لن يتساهل معنا. أما اللقاء مع خدّام، فلم يكن بالهدوء نفسه. لقد أخذ على عاتقه التعبير عن موقف الأسد بأكثر العبارات عُنفاً، وحذّرني وهدّدني وذكّرني بالحجّاج بن يوسف ذي «المآثر» في العراق. بعدما تعرّفتُ إلى خدّام وإلى طرقه وخلفياته وأسلوبه، تحضّرتُ جيداً للّقاء معه، كما ينبغي لاجتماعٍ على مستوى عالٍ من الدقة والحساسية بين وزيرَين للخارجية لدولتَين متجاورتَين تتداولان في أمور مصيرية. أعدتُ عليه بعض الاعتبارات التي سبق أن عرضتها معه في اجتماعنا السابق في لندن، وبعض الأفكار التي قدّمتها للرئيس الأسد، رغم اقتناعي بعدم جدوى المحاولة بعد الموقف الواضح الذي تبلّغتُه من الرئيس السوري.
حافظ الأسد، الرئيس السوري...
اللبنانيون، إذا اتّحدوا، يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل. النضال فقط هو ما يحرّر الأمم. نحن حرّرنا سوريا من العثمانيين، ثم من الفرنسيين، ولم يكن عندنا جيش كبير. الآن لدينا جيش قوي وبوسعنا أن نفعل أكثر..