ترامب ومعضلة وقف النار: فرْض السلام أم الرضوخ لنتنياهو؟..


ترامب ومعضلة وقف النار: فرْض السلام أم الرضوخ لنتنياهو؟..
الراي.... | بقلم - إيليا ج. مغناير |
يلتقي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في واشنطن اليوم، في ما يُعتقد أنه لحظة محورية لمستقبل الحروب في غزة ولبنان. يثير هذا الاجتماع الذي ينطوي على تحديات كبرى أسئلة ملحّة من نوع: هل يُقْنِع نتنياهو الرئيس الأميركي بمعاودة العمل العسكري، وتخريب اتفاق وقف النار الذي تَوَسَّطَ فيه ترامب عينه؟ أم هل يضغط ترامب على رئيس الوزراء الإسرائيلي للحفاظ على هذا الاتفاق، والانتقال إلى المراحل التالية من مفاوضات السلام وإنهاء الحرب؟ ......... ومن المسلّم به أنه ستكون لنتائج هذا الاجتماع آثار بعيدة المدى على مستقبل غزة ولبنان، وعلى إستراتيجية إسرائيل الإقليمية، كما على صدقية ترامب كوسيط فعال على الساحة الدولية. وفي اللحظة التي كان نتنياهو يحزم حقائبه للطيران إلى واشنطن، أشارت التقارير إلى أن الولايات المتحدة أبطأت عمداً تسليم المساعدات الإنسانية الحيوية إلى غزة، بما في ذلك النفط والخيم والمنازل الجاهزة. ويبدو أن هذه الخطوة، التي يُزعم أنها تمت بالتنسيق مع إسرائيل، هي محاولة لثني الفلسطينيين عن معاودة بناء حياتهم في الجيْب المدمّر وإجبارهم تالياً على الرحيل إلى المنفى في مصر والأردن، وهو السيناريو الذي يستند إلى رؤية ترامب المثيرة للجدل في شأن دفع الفلسطينيين إلى النزوح القسري. ومع ذلك، رفضت الدول العربية هذه الخطة في شكل قاطع، وأطلّت متّحدة في معارضتها لأي نزوح قسري، ما يزيد عزلةَ إستراتيجيةِ ترامب في المنطقة. ولم يكن عابراً أن يعلّق نتنياهو في الوقت عينه المرحلة الثانية من المفاوضات غير المباشرة مع «حماس» حول اتفاق وقف النار في غزة التي كان من المقرَّر عقدها، أمس، في قطر، وهو سيواجه انتقادات محلية شديدة لفشله في تحقيق الأهداف التي حدّدها بعد 7 أكتوبر - والمتمثّلة بهزيمة «حماس» وتفكيكها. وقد اشتدت هذه الانتقادات في أعقاب عرْض القوة للمقاومة الفلسطينية خلال الإفراج الرابع عن السجناء الإسرائيليين، حيث تم عرض المعدات العسكرية الإسرائيلية التي جرى الاستيلاء عليها علناً إلى جانب مئات المقاتلين المسلّحين والمنظّمين والمموّهين. وقد كشف هذا «الاستعراض» عدم فعالية الحملة العسكرية الإسرائيلية وأَبْرَزَ التحدي المتزايد الذي يواجهه نتنياهو محلياً ودولياً. ومن المفترض أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية في اليوم السادس عشر من الاتفاق، والذي صادف أمس في 3 فبراير، وستركّز على إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقّين والمناقشات حول الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة. وستحتاج الخلافات بين الجانبين حول قضايا مختلفة، بما في ذلك السيطرة العسكرية والسياسية لـ «حماس»، إلى حلٍّ من أجل تحقيق استقرار دائم.
خطة ترامب والمقاومة الإقليمية
لقد طرح ترامب مراراً وتكراراً فكرةَ نقل الفلسطينيين من غزة إلى الدول المجاورة، واصفاً إياها بالحل الأمني الطويل الأمد لإسرائيل. ومع ذلك، فإن هذا الاقتراح يشكل تهديداً مباشراً للاستقرار الوطني في مصر والأردن، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي حين أكد بقوةٍ أن بلاده لن تكون بمثابة وطن بديل للفلسطينيين، في حين حذّرت القاهرة من أن أي محاولةٍ لنقل الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء ستُعتبر هجوماً على السيادة المصرية. ورفضت الحكومتان التعاون مع أي خطةِ نقْلٍ قسري، خوفاً من عواقب سياسية وأمنية خطيرة. ورغم هذه الاعتراضات الإقليمية الواضحة، فُهم أن إدارة ترامب تعمل خلف الكواليس للضغط على الدول المعنية لقبول الفلسطينيين النازحين. ومع ذلك، يبدو أن الإستراتيجية تفشل حيث لا يوجد أي طرف إقليمي على استعداد للمشاركة في ما يراه الكثيرون نقلاً قسرياً غير قانوني وغير أخلاقي للسكان ومقدّمة لتطهير غزة.
محاولة مضلّلة لهندسة الخروج
الافتراضُ القائل إن حجْب المساعدات الإنسانية - بما في ذلك المأوى الأساسي والضروريات - سيجبر الفلسطينيين على مغادرة غزة يخالف الحقائق التاريخية. إذ أثبتت التجارب أن مثل هذه التكتيكات الضاغطة تعمل على تقوية عزيمة الفلسطينيين وليس إضعافها. فقد تحمّل الفلسطينيون في قطاع غزة العديدَ من الهجمات العسكرية واسعة النطاق (2008، 2014 و2023) واختاروا معاودة البناء بدلاً من الفرار. وعلاوة على ذلك، فإن غالبية سكان القطاع تتكوّن من لاجئي عامي 1948 و1967، والذين تعهّد العديد منهم بعدم التخلي عن حقهم في العودة. فكل المحاولات السابقة لإجبار الفلسطينيين على الهجرة والنفي - سواء من خلال الحرب أو الحرمان الاقتصادي - لم تفعل سوى تعزيز تصميمهم على البقاء ومعاودة البناء على أرضهم. ومن الواضح أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان من خلال تأخير تأمين المأوى على تفاقم الوضع الإنساني المتدهور بالفعل في غزة. وهذا التكتيك المتمثّل في إجبار الفلسطينيين على المنفى الطوعي ينتهك القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك اتفاقات جنيف التي تحظر التهجير القسري والعقاب الجَماعي. كما أن قرارات الأمم المتحدة تؤكد حق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم وتدين أي محاولة لنقلهم قسراً باعتبارها جريمة حرب. وكانت وكالات الإغاثة الإنسانية الدولية دقت ناقوس الخطر في شأن العواقب الوخيمة المترتبة على إبطاء جهود إعادة الإعمار. فآلاف الأُسر النازحة ما زالت بلا مأوى في حين تتلاعب الولايات المتحدة وإسرائيل بالمساعدات لتحقيق أهداف سياسية على حساب بقاء الإنسان.
التناقضات الأميركية تقويض للصدقية
في حين تؤخر إدارة ترامب شحنات المساعدات، فإنها تحاول في الوقت عينه تقديم نفسها كلاعب رئيسي في مفاوضات وقف النار ومعاودة إعمار غزة. وهي تتعهد من ناحية أخرى، بإنهاء الدعم المالي للفلسطينيين في غزة. وتهدف سياسة واشنطن إلى دعم الاستقرار وخفض التصعيد. وفي المقابل، فإنها تغذّي السياسات التي تؤدي إلى تَفاقُم المعاناة الإنسانية ودورات العنف المستقبلية. ومن هنا فإذا كانت إدارة الرئيس الأميركي تَعتقد أن حرمان غزة من المساعدات من شأنه أن يكسر المقاومة الفلسطينية، فهي تخطئ في حساباتها إلى حد كبير. ويبدو أن زيارة نتنياهو للولايات المتحدة تشكل محاولة إستراتيجية لعرقلة التقدم في اتفاق وقف النار، واستغلال المرونة في الجدول الزمني للمفاوضات مع معاندة أي التزام بوقفِ نارٍ دائم. ويتناقض هذا الموقف في شكل مباشر مع الهدف الأساسي للاتفاق، وهو تأمين وقف نار مستدام، ويسلّط الضوء على التناقض بين بقاء نتنياهو السياسي والتوقّعات الدولية. وفي مواجهة الضغوط المتزايدة من الوزراء اليمينيين المتطرفين داخل ائتلافه - الذين هددوا علانية بالاستقالة إذا توقفت الحرب في غزة – يجد نتنياهو نفسه في موقف محفوف بالمخاطر، إذ يتعيّن عليه أن يتنقل بعناية بين استرضاء قاعدته المتشدّدة للحفاظ على حكومته الهشة والحفاظ على علاقة تعاونية مع الولايات المتحدة، وخصوصاً إذا دفع ترامب نحو خاتمة نهائية للصراع العسكري. ومن شأن هذا التوازن الدقيق أن يحدّد مستقبل نتنياهو السياسي ومسار إسرائيل في المنطقة.
إستراتيجية محكوم عليها بالفشل
إن فكرة مغادرة الفلسطينيين غزة إذا تدهورت الظروف المعيشية هي وَهْمٌ نابع من سوء فهم للهوية الفلسطينية. وفي حين يأمل ترامب ونتنياهو في الدفع باتجاه هجرة جَماعية، فإن الوقائع أظهرت أن الفلسطينيين يتسلحون بإرادة لا تتزعزع للبقاء. فالمشقة والضغوط لا تؤدي إلى الاستسلام - بل إنها تعزز العزيمة. وسيعيد الفلسطينيون البناء، حتى لو اضطروا إلى القيام بذلك من أنقاض منازلهم، لأن أرضهم غير قابلة للتفاوض. ومن هنا فإن تأخير تسليم المأوى والمساعدات الأساسية، يعني أن الولايات المتحدة ليست متواطئة في أزمة إنسانية فحسب - بل إنها تقوّض صدقيتها كوسيط. والاعتقاد بأن غزة يمكن أن تُفرّغ من خلال الحرمان لا ينمّ عن فشل أخلاقي فقط، بل إنه سوء تقدير إستراتيجي يتجاهل المبادئ الأساسية للمقاومة الفلسطينية. ومن البدهي القول إن اجتماع نتنياهو مع ترامب من شأنه تحديد إذا كانت الولايات المتحدة ستضاعف إستراتيجيتها الحالية أو تتحول إلى تأمين وقف نار طويل الأمد. ولكن هناك أمراً واحداً مؤكداً: لن يتم التخلي عن غزة، ولن تتمكن أي قوةِ إكراهٍ من محو وجود الفلسطينيين في وطنهم. وإذا كانت واشنطن وتل أبيب تعتقدان أن الحرمان المتعمد من شأنه أن يكسر إرادة الفلسطينيين، فإنهما لا يشرعان في سياسة خطيرة من التهجير القسري والتطهير العرقي فحسب بل إنهما يهيئان إستراتيجيتهما أيضاً لفشل آخَر في التاريخ الطويل من الاستخفاف بقدرة الفلسطينيين على الصمود.