قصة رئيسين أميركيين..
قصة رئيسين أميركيين..
المشهد الانتخابي خلال انعقاد المؤتمر الوطني الجمهوري بدا غنياً برموزه ومفارقاته وتناقضاته. في المقابل كان المشهد الديموقراطي ضبابياً ومفككا ومبهما.
هشام ملحم
هشام ملحم هو باحث غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، وكاتب عمود ومحلل سياسي.
لا تزال أصداء وتداعيات محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب يوم السبت الماضي تتردد في جميع أنحاء البلاد، وهيمنت على أعمال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن، الذي رشح ترامب ونائبه جي دي فانس رسمياً بإجماع وحماس كبيرين، في مؤشر واضح بأن الحزب الجمهوري العريق، أصبح الآن حزب دونالد ترامب، بعد أن غابت عنه جميع الأصوات التي كانت في السنوات الماضية تتحفظ على بعض سياسات وسلوك ترامب. صورة ترامب فور إصابته الطفيفة في أذنه، في ظل علم أميركي كبير وهو محاط بعناصر الشرطة السرية، وهو يقاوم محاولاتهم نقله بسرعة عن خشبة المسرح لكي يقف ويرفع قبضته أمام أنصاره، وعلى وجهه خطين رفيعين من الدم وهو يهتف قاتلوا، قاتلوا، قاتلوا، اعتبرت من قبل أنصاره وبعض المعلقين، صورة أيقونية سوف تحمله، بعد نجاته بما يشبه الأعجوبة من الموت، إلى فوز محتم بالرئاسة في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وحتى خلال الثواني الأولى التي عقبت تمزيق الرصاصة للجزء الأعلى من أذن ترامب اليمنى، لم يفقد الرجل الاستعراضي ومنتج البرامج التلفزيونية السابق، الأهمية التاريخية والاستعراضية والدعائية لمثل هذه الصورة، التي انزرعت بعمق في الذاكرة الجماعية للأميركيين، والتي اكتسبت في أعين أنصاره بعداً دينياً وميتافيزيقيا. التحقيقات مستمرة لمعرفة ظروف ودوافع الاغتيال، وإن كانت المؤشرات الأولية تبين أن المسلح الشاب والبالغ من العمر عشرين سنة، والمسجل رسمياً كناخب جمهوري، ليست أيديولوجية، وربما كانت لدوافع شخصية أو نفسية، كما كان الحال مع الشاب الذي حاول اغتيال الرئيس رونالد ريغان في 1981.
الرئيس السابق ترامب وبعض أفراد عائلته قالوا إن العناية الإلهية هي التي انقذت حياته، وأن تجربة الاقتراب من الموت أقنعته بضرورة تعديل لغته السياسية، وأن محاولة الاغتيال دفعته إلى تمزيق مسودة خطابه القاسي ضد إدارة بايدن الذي سيلقيه في ختام المؤتمر، واستبداله بخطاب وفاقي أكثر سيحاول فيه توحيد البلاد في هذه اللحظة الحرجة. طبعا، قوبلت هذه التعهدات من ترامب بشكوك عميقة، وبالفعل سرعان ما لجأ ترامب إلى شبكة التواصل الاجتماعي التي يملكها ليتهم حكومة بايدن باستخدام القضاء الأميركي ضده، والمطالبة بإلغاء جميع الدعاوى الفيدرالية وغيرها الموجهة ضده. وكما كان متوقعا تحول منبر المؤتمر الجمهوري إلى المكان المفضل لقادة الحزب الجمهوري في الكونغرس ومختلف الولايات لمهاجمة الرئيس بايدن وحكومته، وتشويه سجله في البيت الأبيض، وتضليل الأميركيين دون أي اعتبار للحقائق.
ومع بداية المؤتمر الجمهوري، تلقى ترامب هدية قضائية مذهلة، حين أعلنت القاضية التي تنظر بالدعوى التي رفعتها ضده وزارة العدل في فلوريدا بتهم الاستيلاء على وثائق رسمية خلال وجوده في الحكم، ونقلها إلى مقره في فلوريدا، إن هذه التهم لا تستند إلى أسس قانونية قوية، ولذلك قررت رفض النظر في الدعوى.
أراد ترامب من اختيار جي دي فانس، السيناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو، نائبا له أن يختار وريثاً لحركته السياسية التي يريدها أن تكون في أيد آمنة، ولأن فانس قادر أن يساعده على الفوز بولايات متأرجحة ومحورية مثل بنسلفانيا وميتشغان وويسكونسن بسبب خلفيته، حيث ترعرع في عائلة فقيرة ومفككة في منطقة جغرافية جبلية قريبة من هذه الولايات تعرف باسم أبالاتشيا (Appalachia)، وتشمل ولايات أوهايو وكنتاكي وويست فيرجينيا.
مساء الأربعاء، جاء الرئيس ترامب إلى قاعة المؤتمر للاستماع إلى نائبه الشاب السناتور فانس، وهو يسرد سيرته الشخصية الجذابة، ومسيرته الطويلة من طفولته الفقيرة في عائلة مفككة، هجرها والده وترك والدته ضحية للكحول، وعاش في ولايتي أوهايو وكنتاكي في منطقة جبال أبالاتشيا تحت إشراف جدته ذات الشخصية القوية، التي ضغطت عليه لإكمال تحصيله العلمي، ومقاومة وباء المخدرات والكحول الذي أصاب العديد من أصدقائه، ثم التحاقه بمشاة البحرية، وخدمته لبضعة أشهر في العراق. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة، التحق فانس بجامعة ييل المرموقة ليتخرج منها بشهادة في القانون. بعد ذلك عمل فانس في الأسواق المالية، ونشر كتاباً عن طفولته وعالمه في أبالاتشيا. لقي الكتاب ترحيباً كبيراً من النقاد ومن الجمهور، وبدأ بنشر التعليقات السياسية، وعمل لفترة وجيزة كمعلق في شبكة التلفزيون سي أن إن. فانس رسم صورة خيالية ومضللة للمرشح ترامب كرئيس تاريخي ورجل أعمال ناجح، ووجه نقداً شعبوياً للطبقة السياسية في واشنطن، التي اتهمها بنقل الوظائف الأميركية إلى الصين باسم العولمة، وتوريط البلاد في الحروب الخارجية، وحمّل جوزيف بايدن مسؤولية المساهمة في هذه السياسات المكلفة. المفارقة أن فانس قبل انتخاب ترامب وجه إليه انتقادات شنيعة، وقارنه في مجالسه الخاصة بهتلر، ولكنه لاحقاً أصبح من أكثر أنصار ترامب ولاءً. وساهم ترامب في دعم المرشح فانس للوصول إلى مجلس الشيوخ.
ما هو واضح خلال الأيام التي عقبت محاولة الاغتيال هو أنها خلطت الأوراق والحسابات الانتخابية والسياسية، وساعدت المرشح ترامب على توحيد حزبه وتأجيج الحماس في أوساط قاعدته الانتخابية، وأعطت فوزه في الانتخابات الرئاسية نوعا من الحتمية السياسية. المفارقة، هي أن محاولة الاغتيال، عجلت من وتيرة المطالب والضغوط الديموقراطية على الرئيس جوزيف بايدن للانسحاب من السباق إلى البيت الأبيض، بعد أن بدا أن هذه الأصوات قد تراجعت أو علقت ليومين أو ثلاثة بسبب محاولة الاغتيال.
في أعقاب محاولة الاغتيال، ردد الكثير من السياسيين والمعلقين الأميركيين بشكل طقوسي وغير حقيقي مقولة “لا مكان للعنف في الحياة السياسية الأميركية”. هذه مقولة لا أساس لها من الصحة، وتتناقض بشكل سافر مع تاريخ الولايات المتحدة، حيث تم اغتيال أربعة رؤساء أميركيين، إضافة إلى اغتيال مرشحين للرئاسة، وتعرض رؤساء أميركيين لمحاولات الاغتيال، إضافة إلى محاولات اغتيال أعضاء من الحزبين في الكونغرس. والولايات المتحدة من بين الدول التي شهدت حرباً أهلية دموية للغاية في منتصف القرن التاسع عشر أدت إلى مقتل 750 ألف جندي (عدد القتلى المدنيين غير معروف بدقة)، إضافة إلى ممارسات العنف ضد المستعبدين الذين قد تحرروا بعد الحرب الأهلية، حيث تم خلال العقود التي تلت تلك الحرب شنق أو حرق أكثر من 4 آلاف مواطن من أصل افريقي ظلماً، هذا إضافة إلى العنف الذي تعرض له السكان الأصليين خلال اقتلاعهم من مناطقهم. بعد اغتيال قائد حركة الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينغ في 1968، جرت تظاهرات عنيفة أدت إلى حرق أحياء بكاملها في بعض كبريات المدن الأميركية من واشنطن العاصمة إلى ديترويت إلى لوس أنجلوس وغيرها.
طبعا، سارع الجميع، وعن حق إلى إدانة محاولة اغتيال ترامب، ولكن التفكير الجماعي والطقوس السياسية المعهودة في مثل هذه الحالات، والخجل من تعكير مشاعر التعاطف مع الضحية، منعت الكثير من المعلقين من الإشارة إلى أن ترامب، ضحية محاولة الاغتيال، هو الذي شجع أنصاره في يناير/كانون الثاني 2021 على اقتحام مبنى الكابيتول، وجلس في البيت الأبيض وهو يراقب أنصاره يقتحمون بعنف المبنى، الذي يعتبر صرح الديموقراطية الأميركية. ترامب ذاته هو الذي كان يسخر من خصومه حين كان العنف يطالهم، وهو الذي يفاخر بالدعم الذي يحصل عليه من الميليشيات المسلحة.
المشهد الانتخابي خلال انعقاد المؤتمر الوطني الجمهوري بدا غنياً برموزه ومفارقاته وتناقضاته، ويمكن وصفه بأنه قصة رئيسين أميركيين. الرئيس الأميركي الخامس والأربعين دونالد ترامب الذي جلس في قاعة المؤتمر يستمع إلى منافسيه القدامى مثل السناتور ماركو روبيو والسناتور تيد كروز، والمنافسين الجدد مثل حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس وحاكمة ولاية ساوث كارولينا السابقة نيكي هايلي، الذين وجهوا إليه انتقادات قاسية، ثم جاءوا إلى ميلووكي لمبايعته بحماس كبير بصفته القائد الوحيد للحزب الجمهوري، المخلص والرئيس الجديد المنتظر للولايات المتحدة الذي سيعيد إليها العظمة التي تستحقها بعد أن كاد يستشهد في سبيلها رافعاً قبضة التحدي والصمود.
في المقابل كان المشهد الديموقراطي ضبابياً ومفككا ومبهما. حيث بدا الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة جوزيف بايدن في مقابلاته التلفزيونية وخطبه أمام انصاره يتحدث بصوت منخفض ومتلعثم، ويمشي ببطء ويتوقف في منتصف جمله، ويدخل في جدال مع الاعلاميين وأعضاء حزبه حين كانوا يطرحون عليه الأسئلة الصعبة أو المشككة بقدراته الجسدية والذهنية، وذلك في الوقت الذي استمر فيه النزيف في حزبه.
وأصبح النائب الديموقراطي النافذ عن ولاية كاليفورنيا آدم شيف أحد أهم الشخصيات الديموقراطية التي تدعو الرئيس بايدن علناً على خلفية المؤتمر الجمهوري، للانسحاب من السباق لأنه غير واثق من قدرة الرئيس بايدن على هزيمة ترامب. وكان شيف قد قال قبل إعلانه بأيام خلال لقاء حزبي مغلق أنه إذا ظل بايدن في السباق فإنه سيُمنى بهزيمة، وسوف يحرم الديموقراطيين من الفوز بالأكثرية في مجلسي النواب والشيوخ. وفي الأيام الماضية كشفت التقارير الصحفية عن مواجهات غير ودية، وحتى نابية، بين بايدن وأعضاء في مجلس النواب خلال مكالمات هاتفية جماعية رفض فيها بايدن بلغة فظة معالجة مخاوف ومطالب النواب الديموقراطيين، كما شكك في تقويمهم لشعبيته في المقاطعات التي يمثلونها. وجاء في استطلاعات الرأي أن بايدن متخلف عن ترامب في 14 ولاية محورية من بينها خمس فاز فيها قي 2020، وهي أريزونا وجورجيا وميتشغان وبنسلفانيا وويسكونسن.
وفي دليل آخر على صحة ما يقوله العديد من المطلعين على المداولات بين قادة الحزب الديموقراطي ومضمون اتصالاتهم مع الرئيس بايدن، من أن حالة الذعر لا تزال تهيمن على قيادات الحزب طالما بقي بايدن في السباق، كشفت بعض وسائل الاعلام أن زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ السناتور تشاك شومر أبلغ الرئيس بايدن يوم السبت الماضي أنه من الأفضل للبلاد وللحزب الديموقراطي إذا انسحب من السباق، وأن زعيم الأقلية الديموقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز أعرب عن موقف مماثل لبايدن. شومر وجيفريز قالا أنهما نقلا مواقف الأعضاء الديموقراطيين في المجلسين بدقة وصدق لبايدن. تقارير صحفية أخرى تحدثت عن اتصال هاتفي بين رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي والرئيس بايدن، حيث أبلغته بيلوسي، التي لا تزال تتمتع بنفوذ كبير بين الديموقراطيين في مجلس النواب، أن حظوظه بالفوز بالانتخابات ليست جيدة.
وسوف يكون من المستحيل تقريباً للرئيس بايدن البقاء في السباق إذا قرر شومر وجيفريز وبيلوسي الإعلان رسمياً عن هذا الموقف. وإذا لم تكن هذه المشاكل كافية لبايدن، فقد أعلن البيت الأبيض مساء الأربعاء أن الرئيس بايدن الذي كان يقوم بنشاطات انتخابية في مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، أصيب بفيروس كوفيد، وأضطر لقطع جولته والعودة إلى منزله في ولاية ديلاوير وعزل نفسه لبضعة أيام. فور الاعلان عن مرضه، لجأ بايدن إلى شبكة أكس (تويتر سابقا) للتواصل الاجتماعي ليكتب كلمتين فقط: “أنا مريض”. هاتين الكلمتين لخصتا بوضوح حالته الصحية والسياسية.