هل تغنى الدولة بالاقتصاد المنتج أم بالذهب والفضة؟...
هل تغنى الدولة بالاقتصاد المنتج أم بالذهب والفضة؟...
الشرق الاوسط... د. سعاد كريم... * باحثة لبنانية..
تنقسم دول العالم، إلى دولة كبيرة أو صغيرة، تختلف باختلاف أنظمتها، وتخضع كل دولة لقوانينها الخاصة وفقاً لسياساتها، منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والاستشفائية وغيرها من الأمور المختلفة، بحسن إدارة الدولة وحياة المواطنين وسبل عيشهم.
كذلك اقتصادها، يختلف سير العمل فيه تبعاً لقوانين وأنظمة كل دولة. فهناك الاقتصاد الموجه الذي تديره الدولة والقطاع العام (الدول الشيوعية) مثل الصين، والاقتصاد الرأسمالي الذي يديره القطاع الخاص (الدول الرأسمالية)، والاقتصاد المختلط (الذي يتشارك في إدارته القطاعان العام والخاص معاً) مثل لبنان.
في عهدي الملك لويس الرابع عشر (1639 - 1715) والملك لويس الخامس عشر (1740 - 1744)، انغمست فرنسا في حروب منهِكة ومدمِّرة؛ بسبب مساعدتها الأميركيين ضد البريطانيين، فتأثرت بذلك بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، حيث أصبحت البضائع والخدمات شبه مفقودة؛ بسبب عدم وجود مساهمة فعالة في الاقتصاد الفرنسي سوى القطاع الزراعي، المنتِج الوحيد تقريباً الذي أمَّن الدخل للثروة الوطنية بعد أن بُددت الثروة نظراً للتبذير والسياسات السيئة للملكين، في وقت كان فيه الاقتصاد البريطاني يؤمِّن توزيع الدخل الذي صمد مقابل الاقتصاد الفرنسي.
لفت نظر آدم سميث الفرق بين العمل المنتِج والعمل غير المنتِج لاقتصادات الطبقة الفيزيوقراطية (مذهب المزارعين) المتعلقة بالمذهب الطبيعي الذي أصبح موضوعاً شائعاً في تطور وفهم النظرية الاقتصادية الكلاسيكية التي أسسها آدم سميث.
وذكر في كتابه الشهير «ثروة الأمم» 1776، أن العلاقة بين توزيع الثروة والإنتاجية العالية تفسر نظريته عن العمل المنتِج، وأن المنفعة أو المصلحة الشخصية تحفز المنتج على توظيف مصادره في أفضل استعمال ممكن، والأرباح التي تصب من خلال رأس المال تُوجه نحو ربح أفضل. ووصف هذه العملية «باليد الخفية» التي تقود السوق إلى مكان أفضل مما تفعله يد الدولة ويد مسؤوليها، ما جعل هذه النظرية أساساً للرأسمالية. ثم أضاف قائلاً: «إن المال يتكلم في السوق وفقاً للعرض والطلب، وليس وفقاً لتدخلات دولة مركزية وقيود مفروضة من قبلها».
وهنا قال سميث عبارته المعروفة «laisser faire»، أي اتركوا الأمور تسير واتركوا السوق تعمل، أي أن السوق توجه رجال الأعمال، سواء أكانوا مزارعين أم صناعيين أم مستثمرين أم غيرهم لما تجده مربحاً. فالإنسان بطبيعته يسعى إلى مصلحته الشخصية، ورجال الأعمال ينشطون في ظل بيئة منافسة ورأسمالية، واقتصاد سوق حرة. فالتطور الاقتصادي يوجد في بيئة منافسة حرة، تعمل بالتوازن مع قوانين الطبيعة الكونية التي تعمل لمصلحة الجماعة، وليس في بيئة احتكارية تعمل لمصلحة أفراد. فثروة الوطن هي الإنتاج، فالبلد يغنى بالاقتصاد المنتج، وليس بالذهب والفضة الوطنية للدولة.
عُرف الاقتصاديون الثلاثة آدم سميث، وتوماس ماتس، ودافيد ريكاردو بـ«الكلاسيكيين»، لكن ريكاردو الذي وضع كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب» كان أكثر عمقاً.
وضع ريكاردو (1772 - 1823) قانون الغلة المتناقضة / المردود المتناقض (Law of Diminishing Returns) الذي أصبح حجر الزاوية في الاقتصاد، وهو ينص على أنه إذا وظفت قدراً أكبر من رأس المال في مساحة محدودة من الأرض فالمردود (الإنتاج) لن يأتي إلا بكمية أقل من سابقتها، حيث تتناقص الغلة على الرغم من الزيادة المضافة. والحال نفسها يكون مع الإنسان، ففي الساعة الصباحية الأولى يكون العامل أو الموظف في ذروة نشاطه ويصل مردود عمله أو إنتاجه إلى الحد الأقصى، لكن في الساعة الثانية يقل نشاطه ويتضاءل إنتاجه، وفي الساعة الثالثة يتناقص إنتاجه أكثر فأكثر حتى يصل إلى الساعة الأخيرة متعباً، إما ينتج القليل وإما لا ينتج أبداً (وهكذا حدد ساعات العمل، فيما بعد، بست أو ثماني ساعات في اليوم).
اعتبر ريكاردو أن أهم مسألة في الاقتصاد هي الوقوف على القوانين المنظمة لتوزيع الثروة، وكانت الإيرادات على ثلاثة أنواع (إيجار الأرض، وربح رأس المال، وأجر العامل) عزم على درس القوانين التي تحدد كيفية توزيع الثروة على العناصر الثلاثة (الأرض، ورأس المال والعامل). قسم الهيئة الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام: العامل، وأصحاب الأموال، وأصحاب الأملاك. وقال إن ما تنتجه الأرض الزراعية يرجع الفضل فيه إلى حاجات الإنسان. ووضع قانونين، هما قانون أجور العمال، وقانون أرباح رؤوس الأموال. تخوف الاقتصادي توماس مالتس من زيادة عدد السكان، إلى حد أنه قال: «سيأتي يوم لن تكفي فيه كمية الغذاء العدد الهائل من الناس الذي يتزايد بشكل سريع يوماً بعد يوم».
ففي كتابه «رسالة عن تعداد السكان وتأثيره في المستقبل في تقدم الهيئة الاجتماعية» شرح كيف أن تعداد السكان يزداد طبقاً لنظام متواليات هندسية، بينما لا تزداد حاجات المعيشة (الإنتاج) إلا حسب متواليات حسابية. والمدة بين الفترة والفترة 25 سنة، يزداد فيها السكان بالمضاعفة، بينما يزداد الإنتاج بمقدار واحد عن الفترة التي قبلها، أي بالتسلسل كما يأتي:
متواليات هندسية خاصة بالسكان: 1-2-4-8-16-32-64.
متواليات حسابية خاصة بالإنتاج: 1-2-3-4-5-6-7.
على الرغم من أنه كان شديد التشاؤم، فإنه قال إن هذه الأرقام افتراضية، وليس من المستطاع المحافظة على التوازن بين السكان والإنتاج بسبب ما يحدث من وقت لآخر، من حروب وكوارث طبيعية وأمراض وأوبئة. لكنه اعتبر أن المصائب التي تصيب الإنسان أو العالم أجمع، هي عبارة عن «نعم ربانية» لازمة لحسن نظام الهيئة الاجتماعية.
في الواقع لم يكن مالتس أول من فكر في عدم تناسب زيادة السكان وزيادة الإنتاج، بل سبقه في ذلك غيره من العلماء والفلاسفة مثل مونتسكيو وبوفون. لكنهما اعتقدا بأن هذه الزيادة مفيدة ونافعة للبلاد ولا خوف منها؛ لأن تعداد السكان منظم بطبيعته حسب طرق المعيشة، كذلك ميرابو. وأضاف مالتس في كتابه أنه ربما صار حظ الإنسان في المستقبل أسعد مما هو عليه الآن، إذا استبدل بالحروب تنظيم أمور الزواج ووسائل الوقاية. وحض على تعلم أولاد الفقراء. قبل الحرب الأهلية، امتاز لبنان بعصر ذهبي وازدهار مميز ولقب بـ«سويسرا الشرق»؛ بسبب سريته المصرفية، وكان مستوى الدخل فيه مرتفعاً والمستوى المعيش أيضاً، خصوصاً في عهد الرئيس كميل شمعون في الخمسينات، حيث كان سعر الليرة مقابل الدولار الأميركي يوازي 2.25 و3.25 ليرة لبنانية، والبنى التحتية، من طرقات وجسور وأرصفة، والكهرباء والهاتف في أحسن أحوالها، وكذلك النظام والأمن كانا سائدين، والاقتصاد والنظام الاقتصادي يعتمد على الاقتصاد الحر والسوق الحرة تبعاً للقوانين، والمنافسة تنتقل في قطاعاته وأسواقه كافة مانعة الاحتكار بشكل عام.
في عام 1975 حلت الحرب لعنة على لبنان واقتصاده. ومنذ ذلك الحين بدأ الوضع بالتدهور مع تقلبات تارة للأحسن وطوراً للأسوأ، آخذاً بالانهيار، والبلد ينهار معه، حتى وصلت الحال بلبنان إلى ما هو عليها الآن.
ذكر آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» أن التطور الاقتصادي والازدهار ينشآن وينشطان في بيئة منافسة شريفة تمنع الاحتكار، فأين لبنان منها اليوم؟ وهل تكمن منافسة مع تجار يتنافسون في رفع الأسعار بدلاً من خفضها حتى وصلت بهم الحال إلى تبديلها ورفعها أكثر من مرة في اليوم أحياناً بلا مراقبة فعالة ولا محاسبة فعلية؟ وهل يمنع هذا النوع من المنافسة الاحتكار؟
في الواقع إن الاحتكار يضرب أطنابه هذه الأيام في ظل نشاط رجال أعمال فاسدين، لا هم لهم سوى تكديس الأموال.
ثم تكلم سميث عن الإنتاج قائلاً: «إن ثروة الوطن هي الإنتاج، والبلد يغنى بالاقتصاد المنتج، وليس بالذهب والفضة الوطنية للدولة. فأين لبنان من اقتصاد منتج وهو يعتمد على اقتصاد ريعي يقف عائقاً في وجه إنتاج زراعي وصناعة بضائع إنتاجية واستهلاكية لتصديرها إلى الخارج والحصول على عملة صعبة؟». نعم، إن لبنان وشعبه يتفاخرون بكمية الذهب الموجودة في البنك المركزي، وهذا مهم جداً، ولكن الأهم هو العمل على الإنتاج والاستهلاك لكي يحافظوا على الذهب ويزيدوا من كميته وقيمته.
بالنسبة إلى الليرة اللبنانية وسعر صرفها مقابل الدولار الأميركي، قال سميث إن السوق تتكلم وفق العرض والطلب وتحديد السعر يثبت عند تقاطع الاثنين، العرض يساوي الطلب (كل ما يعرض يشترى). بما أن لبنان يخضع لنظام اقتصاد حر، فلماذا لا تعد الليرة سلعة كأي سلعة تجارية عادية وتخضع لنظام السوق الحرة، أي العرض والطلب، الذي يحدد السعر الحقيقي لليرة ويثبت على هذا الأساس مقابل الدولار والعملات الأجنبية، آخذين في الاعتبار إقفال مكاتب ومحال الصيرفة غير الشرعية جميعاً وفرض رقابة جدية من الدولة؟
إذا أخذ النموذج الريكاردي في الاعتبار، والذي يوجد إذا جرت محاولات لتغيير وضع الاقتصاد إلى زيادة إنتاجه إلى درجة أكبر مما يستطيع، ومساعدة عدد أكبر من الناس، فإن هذا لن يولد سوى المجاعة والبؤس، فكيف إذا طبقنا هذا النموذج على لبنان، هذا البلد الصغير والضعيف المنهك والمنهار اقتصادياً، فكيف يستطيع أن يتحمل عبء وجود أشقائنا النازحين السوريين الذين يفوق عددهم المليون نسمة، وهو بالكاد يستطيع أن يتحمل عبأه الخاص؟
وأيضاً إذا اعتبرنا ما قاله ماتس عن التزايد السكاني وتناقص الغذاء، نرى أن زيادة عدد السكان ووجود النازحين السوريين الأشقاء يثقل كاهله ويستنفد كل طاقاته من كهرباء ومياه وهاتف وغيرها من بنى تحتية، كالشوارع والأرصفة... إلخ، فلبنان بلد محدود، مساحته 10452 كلم2، بالكاد يستوعب سكانه الأصليين، فكيف إذا أضيف إليهم هذا العدد الهائل من الوجود السوري؟ أضف إلى ذلك عدم الإنتاج تقريباً إلا القليل، وتهريب البضائع إلى الخارج ذهاباً وإياباً، وغيرها من العوامل السلبية الأخرى؟