حتى تصبح الصين القوة الاقتصاديّة الثانية في العالم دوماً في بلد نامٍ
حتى تصبح الصين القوة الاقتصاديّة الثانية في العالم دوماً في بلد نامٍ
إن الصين قد تتخطّى اليابان في الناتج المحليّ الاجمالي خلال الفصل الثاني من هذه السنة لتصبح القوة الإقتصاديّة الثانية في العالم. ويوحي ذلك بالفرح والرجاء، ولكن أيضًا بالرَّيبة والقلق.
فصحيحٌ أنّ الصين قد أحرزت تقدّمًا هائلاً في السنين الستّين التي تلت إعلان جمهوريّة الصين الشعبيّة، وبشكلٍ خاص على مرّ السنوات الثلاثين الأخيرة التي تلت الإصلاح وانفتاح الدولة. وفي العام 1978، وهو العام الذي باشرت فيه الصين الإصلاح، لم يكن الناتج المحليّ الاجمالي الصينيّ ليمثّل إلاّ ثلث إجمالي الناتج المحليّ الاجمالي اليابانيّ، غير أنّه اليوم قد يتخطّاه. إذًا لقد اجتزنا طريقا طويلة في فترة قصيرة.
وأمام الأزمة الماليّة العالميّة، دخل كلّ العالم الغربيّ أو معظمه في الركود، في حين أنّ الإقتصاد الصينيّ قد نما كلّ سنة بنسبة تفوق الـ8%. وفي الصين، لا يمثّل العجز في الموازنة والديون العامة إلاّ أقلّ من 3% و20% تقريبًا تواليا من الناتج المحليّ الاجمالي.
حتّى إنّ الصين قد جمّعت احتياطات مهمة بالعملات الأجنبيّة الى درجة أنّها أصبحت الدائن الأكبر للولايات المتحدة، وهي القوة العظمى الوحيدة المتبقّية. وفضلاً عن ذلك، ما أثّر في الناس هو أنّ الصين نظّمت، وبنجاح كبير، الألعاب الأولمبيّة في بيجينغ في العام 2008، وأنّ المعرض العالميّ يجري حاليًّا على نطاق لا سابق له وفي ظروف جيّدة في شانغهاي، مع عدد من الزوّار يراوح يوميًّا بين 300 ألف و500 ألف زائر.
ويعطي كلّ ذلك الانطباع أنّ الصين تزداد قوةً على نحوٍ مؤثّر. ويقول كثيرون إنّها بهذا النمط ستتخطّى الولايات المتحدة اقتصاديًّا لتصبح قوة عظمى جديدة. ويخشى البعض أن يَقلِب ذلك موازين القوى والنظام العالميّ القائمة حاليًّا، وأن يَغرق العالم في الفوضى. ويتذكّر بعضهم تاريخ بروز بعض القوى الذي أسفر عن بلبلة، وحتّى عن حروب. إذًا يُخشى أن يتكرّر ذلك مع ازدياد قوة الصين. وينادي البعض صراحةً بعرقلة تطوّر الصين أو على الأقلّ بتأخيره. ولهذا السبب لا يفوّت فرصة لجعل الصين تبدو كأنّها شيطان، ويقدّمها على أنّها تهديد في أكثر من مجال ويطالب الصين بأن تفي بموجبات في تسوية المشاكل الدوليّة، بالمستوى عينه للدول المتقدمة، ان لم يكن أكثر؛ وهي موجباتٌ غالبًا ما لا تكون في متناولِ بلدٍ نامٍ.
وبالنسبة إلينا نحن الصينيِّين، وبشكل خاص نحن الديبلوماسيّين الصينيِّين، يتعين علينا تقديم شروحات وتوضيحات كثيرة.
أوّلاً، أصرُّ على التشديد على انهم أفرطوا في تقدير مدى ازدياد قوة الصين. وكما بيّنتُ ذلك أعلاه، أكرّر وأقول إنّ الصين قد أحرزت تقدّمًا هائلاً. لكنّ عدد سكّانها يبلغ 1,3 مليار نسمة. فلن يبقى من التقدّم، مهما كان كبيرًا، الشيء الكثير، ما أن نقسمه على رقم 1,3 مليار. وحتى أن تخطت الصين اليابان لتصبح القوة الاقتصاديّة الثانية في العالم. ذلك ان عدد الصينيّين يفوق عشرة أضعاف عدد اليابانيّين. وانّ الناتج المحليّ الاجمالي للفرد لم يرتفع في العام 2009 إلاّ ليصير 3680 دولاراً في الصين، وهو تقريبا عشر الناتج المحليّ الاجمالي في اليابان، وثلث عشر الناتج المحليّ الاجمالي في الولايات المتحدة، ونصف الناتج المحليّ الاجمالي في لبنان، بما أنّ الناتج المحليّ الاجمالي في لبنان قد تخطّى العام الماضي 8000 دولار. ولا يزال 150 مليون صينيّ يعيشون بدولار واحد كل يوم. وحتّى مع المعيار الصينيّ المتساهل أكثر بكثير، لا يزال 40 مليون صينيّ يعيشون في الفقر المدقع. وليست نسبة التمدين إلاّ 46% في الصين. ونَعُدّ الآن 700 مليون مزارع بدأوا بالإفادة من باكورة رعاية اجتماعيّة ابتدائية.
أضف إلى ذلك أنّ الصين لا تزال بعيدة من أن تصبح دولة صناعيّة تماما. كما أنّ التطوّر الإقتصاديّ ليس متوازنًا. فإنّ دَخْلَ المزارعين لا يبلغ إلاّ ثلث دخل سكّان المدن. وفي بيجينغ، وشانغهاي وبعض المناطق الساحليّة، يرتفع الناتج المحليّ الاجمالي للفرد إلى ما يقارب الـ10 آلاف دولار، في حين أنّ مناطق داخليّة واسعة لا تزال متأخّرة جدًّا.
وأنا شخصيًّا أثق بتقدير رئيس الوزراء الصينيّ الذي أكّد في شهر آذار الماضي أنّه يلزم الصين 100 سنة أخرى ليتسنّى لها بالفعل أن تصبح دولة عصريّة. فإنّ الصين تبقى وستبقى فترة طويلة أيضًا بلدًا ناميًا.
وفي الغرب، غالبًا ما يوجّهون ثلاث ملامات إلى الصين. والثلاث هي من النوع الذي يدعم النظريّة القائلة بأنّ بروز الصين سيشكّل تهديدًا.
فالملامة الأولى هي أنّ الصين تُصَدّر "أكثر" مِمّا ينبغي، بسبب عملتها المقدَّرة بـ"أقلّ" من قيمتها الحقيقيّة، وأنّ الصادرات الصينيّة تُخَسِّر العمل للكثير من الناس في العالم.
والملامة الثانية هي أنّ الصين أصبحت "أكبر" باعث لغازات الدفيئة وأنّها ترفض أن تفي بالموجبات نفسها التي تفي بها الدول المتقدمة.
والملامة الثالثة هي أنّ الصين قد تكون في صدد تطوير قدرتها العسكريّة بشكل هائل "من غير" أن تُظهِر شفافيّة كافية.
اسمحوا لي أن أبيّن لكم واقع هذه المسائل، كلاًّ على حِدَة.
أوّلاً، في خصوص المنتجات الصينيّة المُصَدَّرَة: صحيحٌ أنّ الصين هي الآن أكبر مُصَدِّر ولكن هي أيضا ثاني أكبر مستورد في العالم.
ينبغي التأكيد أنّ نحو نصف المنتجات التي تصدّرها هي منتجات تقاولها من الباطن للآخرين. وإنّ المقاولة من الباطن لهذه المنتجات قد أمّنت بالطبع العمل للملايين من الصينيّين، لكنّها أيضًا قد استنفدت الكثير من مواردنا ولوّثت بيئتنا، في حين أنّ الجزء الأكبر من الأرباح المُحَقَّقَة من هذه المنتجات ملأ جيوب المستثمرين الأجانب. وبالطبع، إنّ هؤلاء هم دومًا على الرحب والسعة في الصين، لأن ذلك لا يخدم المصالح الصينية فحسب، بل يتفق مع مصالحهم، حتى أكثر. ولكن إذا كانوا يأتون إلى الصين للاستثمار، فلأنّ اليد العاملة رخيصة في الصين، ولأنّ الصينيّين عمّال مجتهدون ومُكابِدون ومنضبطون، ولأنّ الصين قد أنشأت البنية التحتيّة اللازمة لذلك.
تُنتِج الولايات المتحدة في الخارج ثلاثة أضعاف ما تنتجه على أراضيها. في الصين، هناك كثير من الأميركيّين يجنون ارباحا ملحوظة من المنتجات التي يقاولونها من الباطن في الصين، وتُعتَبَر هذه المنتجات صادرات صينيّة. ويبلغ ذروة السخف أنّه في نظر البعض، إذا كانت نسبة البطالة في الولايات المتحدة اليوم تقارب الـ10% فبسبب المنتجات الصينيّة التي غمرت السوق الأميركيّة، وبشكل خاص بسبب العملة الصينيّة المُقدَّرة بأقلّ من قيمتها الحقيقيّة، والتي تشكّل أصل التنافسيّة الصينيّة. إذًا، يجب ممارسة الكثير من الضغوط على الصين ليتمّ تقدير العملة الصينيّة بشكل صحيح، بمعدّل 40% مثلاً.
في الحقيقة، منذ شهر تموز من العام 2005، عندما باشرت الصين إصلاح سعر صرف عملتها لغاية شهر أيلول من العام 2008، عندما بدأت الأزمة الماليّة العالميّة، ازداد معدّل تحويل العملة الصينيّة بمقدار 21% بالنسبة إلى الدولار، لكنّ فوائضنا التجاريّة مع الولايات المتّحدة استمرّت في الزيادة. غير أنّه بعد بدء الأزمة الماليّة العالميّة لغاية شهر حزيران الماضي، حافظت العملة الصينيّة على معدّل تحويل مستقرّ، في حين أنّ العجز التجاريّ الأميركيّ تدنّى. وتكون الوقائع قد أثبتت تاليا أنّه إذا كانت الولايات المتحدة تعاني عجزا تجاريّا إزاء الصين، فالمذنب ليس العملة الصينيّة بل أمور أخرى ينبغي البحث عنها في مكان آخر. مع تطور توزيع الصناعة الدولية الذي تسببه عملية العولمة، لم تنتج الولايات المتحدة معظم المنتجات التي تستوردها من الصين، هذا يعني أنه إذا لم تستوردها من الصين، فمن اللازم استيرادها من الدول الأخرى. فذلك لن يساعد على خفض العجز التجاري والبطالة لأميركا.
أمّا بالنسبة إلى مشكلة التغيّر المناخيّ، فإنّ الصين قد بذلت جهودًا أكثر من أيٍّ كان. فمنذ العام 1990 لغاية العام 2005، خفضت الصين انبعاث الغازات الدفيئة بنسبة 46% لوحدة الناتج المحليّ الاجمالي. وفي مؤتمر كوبنهاغن، أعلنت أنّها ستخفض أيضًا بين العامَين 2005 و2020 انبعاثات هذه الغازات بنسبة تراوح بين 40% و45%، ودومًا لوحدة الناتج المحليّ الاجمالي.
أضف إلى ذلك أنّ الصين ستقوم بأعمال تمكّنها من جعل الطاقات المتجدّدة تمثّل في العام 2020 15% من مجمل الطاقة التي ستستهلكها في ذلك الوقت. وستزيد منذ الآن ولغاية العام 2020 غاباتها بمقدار 40 مليون هكتار، على نحوٍ يزيد حجم الخشب في هذه الغابات بمقدار 1,3 مليار متر مكعّب.
لكنّ الغربيّين يطالبون دومًا الصين بالمزيد، من خلال قولهم إنّ الصين ستصبح أكبر باعث عالميّ لغازات الدفيئة. ولسنا مقتنعين تمامًا بهذا التأكيد. فما يهمّ أكثر هو أنّ الاتفاق الإطار للأمم المتحدة حول التغيّر المناخيّ، وبروتوكول كيوتو وخريطة طريق بالي قد عرّفت كلّها وبوضوح بمبدأ "تباين المسؤوليّة المشتركة بين الدول المتقدمة والنامية". وبحسب هذا المبدأ، ليس على الدول المتقدمة أن تخفض في الطليعة وبِنِسَب كبيرة انبعاثات غازات الدفيئة لديها فحسب، بل عليها أيضًا أن تزوّد الدول النامية الأموال والتقنيّات اللازمة التي تحتاج اليها هذه لتواجه التغيّر المناخيّ. وهذا كلّه لأنّه على الدول المتقدمة أن تتحمّل 80% من المسؤوليّة التاريخيّة عن الاحتباس الحراريّ في الكرة الأرضيّة. ولغاية يومنا هذا، لا تزال الطاقة التي يستهلكها كلّ أميركيّ يوميًّا أعلى خمس مرّات من تلك التي يستهلكها كلّ صينيّ.
وإنّ الصين على غرار الدول النامية الأخرى لم تُنهِ بعد عمليّة تحوّلها دولة صناعيّة تماماً. وأن يُطلَبَ من الصينيّين الوفاء بالموجبات نفسها من حيث خفض غازات الدفيئة باسم مكافحة التغيّر المناخيّ، ليس جائرًا ومُنافيًا لروح الوثائق الدوليّة فحسب، لكنّه طريقة صريحة للسعي إلى تخليد الفوارق بين الشمال والجنوب. وإنّ هذا ما نرفضه.
وإنّ اتّهام الصين بأنّها تطوّر قدراتها العسكريّة إلى أبعد حدّ لَطَريقةٌ أخرى لجعل الصين تبدو كفزّاعة. فإنّ الصين بلدٌ تبلغ مساحته 10 ملايين كلم2 تقريبًا مع ما يزيد على بضعة ملايين كلم2 من المياه الإقليميّة. وما من أمر مشروع أكثر من أن يتمكّن بلد كبير كالصين من تطوير قدرات عسكريّة ليدافع عن نفسه ومصالحه، كحماية بواخره التجاريّة مثلاً في عُرض البحر على الساحل الصوماليّ.
ولكن في العام 2009، لم تبلغ الموازنة العسكريّة في الصين إلاّ أكثر من 70 مليار دولار بقليل، أيْ عِشر النفقات العسكريّة الأميركيّة. ولغاية تاريخه، لا تملك الصين ولا حتّى حاملة طائرات. ولا تزال كلّ الدول الغربيّة تبقي حظر بيع الأسلحة إلى الصين. إذًا وفي ما يتعلّق بالعِتاد العسكريّ، حتّى وإن أحرزت الصين تقدّمًا في هذا المضمار أيضاً، فهي لم تَلحَق بعد برَكْب الدول الأخرى.
إنّ اتّهام الصين بعدم الشفافيّة هو من باب الإتّهام للإتّهام. ويهدف ذلك كلّه إلى تخويف جيران الصين، وإلى نشر "نظرية التهديد الصيني".
وفضلاً عن ذلك، للحكم إن كان بلدٌ ما يشكّل تهديدًا على الآخرين أو للعالم، ما يهمّ أكثر ليست الوسائل العسكريّة التي يملكها، بل السياسة الخارجيّة التي يطبّقها. لقد كانت الصين البلد الأقوى في العالم فترة طويلة من الزمن. لكنّها بنت جدارًا (سور الصين العظيم) طوله 6000 كلم لتحمي نفسها. وفي العام 1405، أرسلت الصين أكبر أسطول في العالم يتألّف من 10 آلاف شخص إلى جنوب شرق آسيا وإلى أفريقيا الشرقيّة لكنّها لم تحتلّ شبرًا واحدًا من أراضي الغير. وكانت لامبراطوريّة الوسط في تلك الحقبة بلدان تابعة ولكن لم تكن لديها أيّ مستعمرة.
وإنّ الثقافة التقليديّة الصينيّة ثقافةٌ كونفوشيوسيّة تنادي بالإعتدال وبالحلّ الوسط والتواضع وليس بالغزو وشريعة الغاب. وبالعكس، بعد العام 1840، اجتاحت قوى أجنبيّة الصين عددًا لا يُحصى من المرّات، وقد ألحقت بها أسوأ العذابات والمذلاّت. وحتّى لو عادت الصين وصارت قويّة يومًا ما، فهي لن تطمح مطلقًا إلى الهيمنة، ولن تفرض على الآخرين ما ترتّب عليها هي أن تقاسيه.
وفي الوقت الراهن، كلّ ما تطمح إليه الصين هو بيئة دوليّة يعمّها السلام والاستقرار، تسمح لها بأن تصبح دولة صناعيّة وعصريّة. ولبلوغ هذا الهدف، تتّبع الصين بثبات سياسة التطوّر السلميّ. ولطالما ناضلت وستناضل من أجل السلام والإستقرار في العالم ومن أجل التعايش السلميّ بين مختلف الدول والثقافات والأنظمة الإجتماعيّة.
وأعتقد أنّ كلّ المراقبين الموضوعيّين يوافقونني الرأي بأنّ الصين هي عامل سلام واستقرار في العالم.
بقلم ليو تشيمينغ
(السفير الصيني لدى لبنان)