تصدع الليبرالية الأميركية... والانقطاع من العالم والانغلاق على الداخل الأضيق

تاريخ الإضافة الأربعاء 23 آب 2017 - 8:57 ص    عدد الزيارات 837    التعليقات 0

        

تصدع الليبرالية الأميركية... والانقطاع من العالم والانغلاق على الداخل الأضيق...

الحياة..مارك ليلا ..

الحماسة تملأ كلام الديموقراطيين عن احتمال الفوز من جديد بالبيت الأبيض في 2020. ولكننا ننشغل بالمستقبل ونغفل الحاضر إغفالاً خطيراً. فالرئاسة الأميركية لم تعد ما كانت عليه. ففي الجيل الأخير، فاز بيل كلينتون وباراك أوباما بالرئاسة وحاز كل منهما أغلبية مريحة. ولكنهما تعثرا بعقبات الجمهوريين في الكونغرس والمحكمة العليا اليمينية الميل وإمساك الجمهوريين أكثر فأكثر بإدارة الولايات وحكوماتها. ولم تفلح أي من الخطوات التي أقدم عليها كلينتون ثم أوباما في الحؤول دون انجراف الرأي العام الأميركي إلى اليمين. وحتى حين يقترعون للديموقراطيين أو يؤديون بعض سياساتهم، يلفظ معظم الأميركيين- بما فيهم الشباب والنساء والأقليات- صفة «الليبرالي». فهم يرون أننا نخبويون ومنقطعون من الواقع، وفي معزل عنهم. وآن أوان الإقرار بأن الليبرالية الاميركية تعصف بها أزمة عميقة: أزمة في الخيال والطموح في أوساطنا (القادة والمثقفين و»النخب»)، وأزمة ثقة في أوساط شطر واسع من الجمهور. ولكن لماذا من يُفترض بهم النطق باسم الشعب الأميركي والدفاع عنه لا يأبهون بكسب ثقته؟

وأطاح رونالد ريغن رؤية الـ «النيو ديل» إلى أميركا، وهذه الرؤية كانت دليلاً لنا. ومن طريقها رسم فرانكلن روزفلت صورة مكان يتلاقى فيه المواطنون في جهد جماعي لبناء امة قوية وحماية بعضهم بعضاً. وكان لسان حال الجهد هذا هو التضامن و(تكافؤ) الفرص والواجبات العامة. ولكن ريغن رسم صورة أميركا أكثر تذرراً وفردانية حيث يزدهر المرء حين يعتق من قيود الدولة، ورجحت كفة لازمة الاعتماد على النفس، وتقليص الحكومة. وعوض أن نطور، نحن الليبراليين، رؤية جديدة طموحة إلى أميركا ومستقبلها تُلهم الناس من مشارب الحياة المتنوعة وفي كل منطقة من البلاد ليلتقوا بصفتهم مواطنين، غرقنا في عالم سياسة الهويات التقسيمي والتصفيري (محصلته صفر)، وخسرنا حسَ ما يجمعنا أمةً. وما ضاع في عهد ريغن هو ضمير «نحن» الليبرالي- الديموقراطي.

والحق يقال إن الغموض هو نواة كل انتحار، وليست قصة تحول سياسة تضامن ليبرالية ناجحة إلى سياسة ليبرالية فاشلة ترفع لواء «الاختلاف»، بسيطة. وقد يكون البدء من لازمة «الشخصي هو السياسي» السبيل الأمثل إلى فهم ما يحدث. فهذه العبارة صاغتها الناشطات النسويات في ستينات القرن الماضي، وراجت في أوساط اليسار الجديد في تلك الأيام. وقُصد بها الإشارة إلى أن ما هو خاص- الجنسانية، والعائلة، ومكان العمل- هو سياسي وأن دوائر الحياة كلها هي مدار نزاع قوى وسلطة. ولكن للعبارة هذه معنى آخر، هو معنى رومنطيقي: فما نرى أنه عمل سياسي ليس سوى عمل شخصي فحسب، وعلامة تعبير عن الذات وعن تعرفها نفسها. واليوم، يقال حياتي السياسية هي مرآة هويتي. ومع الوقت، رجح المعنى الرومنسي للعبارة هذه على كفة المعنى الراديكالي، ورسخت الفكرة هذه في اليسار رسوخاً قلبها رأساً على عقب فصار السياسي صنو الشخصي. وواصل ليبراليون وتقدميون الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية في العالم، ولكنهم أرادوا تبديد الفصل بين ما يشعرون به وما يفعلون في العالم. ورغبوا في أن يكون التزامهم السياسي مرآة فهمهم ذواتهم وتعريفهم إياها كأفراد.

وهذا تجديد في اليسار. فالاشتراكية لم يشغلها الإقرار الفردي أو الإقرار بما هو فردي. وهي انشغلت بالثورة، وقسمت العالم إلى رأسمالي استغلالي وعمال مستغلين. وليبراليو الـ «نيو ديل» لم يأبهوا، شأن الاشتراكيين، بالهوية الفردية، ورفعوا لواء المساواة في الحقوق والحماية الاجتماعية. وفي حركات الخمسينات والستينات، رأى الليبراليون أن منح الأفارقة الأميركيين والنساء والمثليين حقوقهم وحقوقهن يندرج في سياق الاشتراك في إنسانية واحدة ومواطنة واحدة، ولم يدرجوا الحقوق هذه في سياق الاختلاف الشخصي. ورصوا صفوف الناس ولم يألبوا بعضهم على بعض. وبدأت الحال هذه تتغير مع انفراط عقد اليسار الجديد في السبعينات. ويعود هذا الانفراط إلى مسائل الهوية. فالسود كان لسان حالهم الشكوى من قادة حركات البيض العنصريين، والنسويات (لسان حالهن) الشكوى من التمييز الجنسي، والمثليات مما تبديه الناشطات النسوية من رهاب أمامهن. ولم يعد العدو الأبرز والأكبر هو الرأسمالية ولا الكارتيلات الصناعية والعسكرية. وبدأ الناشطون التقدميون والليبراليون الراديكاليون الانشغال بحركات اجتماعية ترفع لواء مسائل مفردة. وفي سياق سياسات الحركات هذه، القوى كلها تبتعد من المركز وتنأى عنه، وتنفخ في التذرر إلى فصائل أصغر وأصغر كل منها شاغله الهوسي هو مسائل مفردة.

واليوم، نتائج هذا الانعطاف جلية. فالهدف الديموقراطي الكلاسيكي (جمع الناس من منابت مختلفة في مشروع مشترك) تربعت محله أشباه سياسة تعلي شأن اعتداد الفرد بنفسه وتضيق تعريف الذات تعريفاً إقصائياً. وهذه المقاربة إلى السياسة تبث في الثانويات والجامعات حيث تحصّل النخبة الليبرالية تعليمها. وإلى الستينات، كان أعضاء الحزب الديموقراطي يتحدرون من الطبقات العاملة أو من المزارع وكانوا يحصلون تحصيلهم السياسي في النوادي أو في المصانع التي تهيمن عليها النقابات. ولكنهم اليوم يتحدرون من الجامعات والثانويات، ومن مهن وثيقة الصلة بالقانون والصحافة والتعليم يهيمن عليها الليبراليون. واليوم، يتم التحصيل السياسي الليبرالي في أماكن بعيدة جغرافياً واجتماعياً من المجتمع الأوسع- وتحديداً من الناس الذين كانوا قاعدة الحزب الديموقراطي.

ويستوقفني أنا الأستاذ الجامعي التباين بين طلابي المحافظين والتقدميين. وعلى خلاف التنميط السائر، يميل المحافظون إلى ربط التزاماتهم بسلسلة أفكار سياسية ومبادئ. ولكن الشباب اليساري يميل واحدهم إلى القول إنه ملتزم السياسة بصفته فلان الذي يهتم بالمسائل الفلانية، ولا يحبذون النقاش. وفي العقد الأخير، تسربت عبارة من جامعاتنا إلى وسائل الإعلام ومفادها القول «بصفتي فلان أقول...». والعبارة هذه ترصف جداراً بين المتكلم ومحادثيه الذين لا يشاركونه الرؤية. وفي الماضي، كانت النقاشات في الجامعة تبدأ بـ «أعتقد أن المسألة هي...، وإليكم ما أسوقه من حجج». واليوم، صارت النقاشات تبدأ بـ «أنا فلان وأشعر بالمهانة من زعمك». وما تربع محل النقاش والمحاججة هو محظورات تُرفع في وجه أفكار غير مألوفة وآراء مختلفة. والجامعات في الخمسينات والستينات كانت حاضنة أكثر جيل أميركي متطرف. فالشباب كانوا ساخطين على نفي حقوق ناخبين في الاقتراع في الخارج وعلى حرب فيتنام والانتشار النووي والرأسمالية والاستعمار. ولكن الجيل هذا حين بلغ السلطة ومراكز القوة، سعى إلى العودة عن السياسة في أوساط النخب الليبرالية، وشبّ الطلاب على الانشغال الهوسي بهوياتهم الشخصية، وعدم التزام قضايا العالم السياسية وكل ما هو خارج رؤوسهم.

* مؤرخ، عن «وول ستريت جورنل» الأميركية، 12/8/2017، إعداد م. ن.

 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,725,408

عدد الزوار: 6,910,571

المتواجدون الآن: 107