عون «عكس التيار» في السياسة فماذا عن التنظيم؟

الانتقال الصعب من شخصية «الجنرال» إلى مؤسسة الحزب

تاريخ الإضافة الجمعة 10 تموز 2009 - 6:37 ص    عدد الزيارات 4229    التعليقات 0    القسم محلية

        


اتسمت الحالة العونية منذ انطلاقتها في بداية التسعينات أفراداً لا مجموعات، بصفات عديدة، استثنائية، لا تجدها في كلّ زمن. معظم هذه الصفات تعطي «التيار الوطني الحر» ولا تأخذ منه. كان العونيون بمعظمهم، شباباً في مقتبل العمر، طلاب جامعات، يجمعهم الاندفاع والحماسة والجري وراء قضية يمثلها رمز أوحد هو العماد ميشال عون. لم تكن للمصلحة الشخصية مكان في أذهان هؤلاء الشباب، لا منصباً نيابياً أو وزارياً أو إدارياً، ولا حتى موقعاً قياديّاً في «التيار». كل الطموح مختزل في تفادي شرك السلطات الأمنية، أو العكس، أي الوقوع في أسرها للخروج «أبطالاً» من «المعتقلات». كانت روايات «المعتقلين» تتناقل على ألسن العونيين كـ«أساطير الملاحم البطولية».
كانت تلك الأيام بسيطة في حركتها، في آلية التواصل وفي متطلباتها... وكانت تفرض على من قرر الانضمام إلى تلك الحركة شروطاً صعبة: شجاعة، نكرانا للذات، وتضحية في سبيل الأفكار السياسية. لا مجال لمنافسة داخلية طالما أن «التيار» يرتكز في بنيانه الهرمي ـ التنظيمي إلى قرارات قائد واحد تصلهم إما عبر الانترنت، أو عبر المناشير، ونادراً ما يتمكن البعض منهم بالتواصل معه هاتفياً. تلك البيانات كانت العمود الفقري للتيار ومصدر بقائه واستمراره على قيد الحياة.
لم يخطر ببال هؤلاء الشباب، أن رقعة العونيين ستنمو مع الوقت، لتطال أطراف الوطن من شماله إلى جنوبه مروراً بغربه، وإن بنسب مختلفة، لتشكل امتداداً فسيحاً لنواة صغيرة ولدت على أيدي بعض الطلاب. ولذا لم يكن بمقدور ذلك التنظيم الطري العود استيعاب التسونامي التي هبطت على «التيار» بعد عودة قائده من المنفى في العام 2005، وحملت إليه آلاف طالبي الانتساب، لا سيما وأن التنظيم بدا غير قادر على تأطير هذه الهجمة.
أولى أفكار تأطير الحالة العونية طرحت عقب الانتخابات البلدية التي جرت عام 1998، حيث عقدت خلوة انبثق عنها الاطار التمهيدي لـ«التيار» الذي أشرف على حركته لسنوات عدّة. وأنشئت يومها الجمعية العامة التي ضمّت كلّ الهيئات المنتخبة والهيئات المركزية. كما انشئت الهيئة السياسية التي كانت بمثابة «الساعد» السياسي والتفكيري لـ«التيار». ولأنّ الانتخابات البلدية كانت الاستحقاق الأهم الذي يشارك فيه «التيار» في تلك الحقبة، كان لابدّ من «نفضة» تنظيمية، قبل أن يضع «التيار» رجليه في «زواريب» الانتخابات البلدية التي جرت عام 2004. وعشية هذا الاستحقاق شهد «التيار» ولادة تركيبة تنظيمية جديدة ارتكزت إلى عمل المناطق خصوصاً وأنّ انتشار «التيار» بدأ ينمو بشكل لافت.
أمّا فكرة تحويل «التيار» إلى حزب منظّم، فقد «لمعت» خلال خلوة باريس الأخيرة التي عقدت في شباط العام 2005، قبيل عودة الجنرال إلى بيروت. وبالفعل اقرّت الهيئة التأسيسية لـ«التيار» النظام الداخلي للحزب بالتصويت عليه في جلسة عقدت في العاشر من حزيران من العام 2006 برئاسة العماد عون، واستمرّت ثلاث ساعات. بلغ عدد الحاضرين في الجلسة 116، اقترع 62 منهم لمصلحة النظام وعارضه 54، وغاب أربعة أعضاء. ومنح التوتر السياسي يومها، عذراً لقيادة «التيار الوطني الحرّ» لتأجيل استحقاقها الداخلي لأكثر من مرة.
وبفعل الإلحاح، كانت الأصوات تتعالى من الداخل لتحديد موعد للانتخابات الداخلية لتضع قطار التنظيم على سكة التنفيذ. التحضيرات باتت جاهزة، المواعيد حددت، الترتيبات اللوجيستية انتهت، والتنافس على المواقع أخذ موقعه. ولكن الانتخابات أولاً وتطبيق النظام الداخلي الجديد بمفاصله القيادية الأساسية ثانياً، كانا يخضعان للترحيل من موعد إلى آخر، لماذا؟
كان العماد عون قد طلب من الهيئة المركزية التي ضمّت في حينه خمسة عشر قيادياً في «التيار» (بعضهم صار نواباً أو وزراء فيما البعض الآخر استبعد عن دائرة القرار)، وضع تقرير عن حال «التيار» في محاولة لتقدير مكامن الخلل وطرح رؤية للحول، على المستويات كافة تنظيمياً، إدارياً، إعلامياً... أنهت الهيئة مهمتها وتقدمت للعماد عون بتقريرها، علماً بأن مكامن الخلل باتت محفوظة عن ظهر قلب، إذ سبق لهذه القيادات أن وضعت الأصبع على الجرح خلال خلوة عقدت في زحلة في خريف العام 2006، وفي ذهنها أن هذه الورقة ستترجم عملاً على الأرض، وستطلق قطار التنظيم تحضيراً للاستحقاقات القادمة. ولكن الورقة بقيت حبراً على ورق، وبدا لواضعيها أن مهمتهم تنتهي عند «محطة» التقييم، فكان لا بدّ للهيئة من تقديم استقالتها...
السير بعكس التيار
وبدلاً من التقدم خطوة نحو الإصلاح، كان «التيار» بنظر أبنائه يرجع خطوات إلى الوراء. وشعر الكثيرون ممن باتوا في مصاف «الحرس القديم» (مع ضخّ الدم الجديد) أن «قائد الرابية» يطنّش على طموحاتهم الحزبية، لأسباب بقيت ملكه، كان لا بدّ من خطوة ما ولو من باب الضغط لاقناع موقع القرار بضرورة السير في مشروع الحزب عاجلاً وليس أجلاً. كان لا بدّ من لوبي ضاغط باتجاه تسريع وتيرة العمل لنقل التيار من حالته العفوية إلى حزب منظم تحكمه القوانين الداخلية وتقيه شر الهبوط في مطبات الارتجال والاستئثار. وتداعى حشد من قياديي التيار المؤمنين بضرورة التنظيم أو «الإصلاحيين»، وكثفوا لقاءاتهم الثنائية والثلاثية، وفي بالهم السعي إلى القيام بخطوة قادرة على إيصال كلمة موحدة إلى الجنرال. اتفقوا على عقد لقاء موسع في فندق «سانتشري بارك» لوضع ورقة موحدة تعبر عن وجهة نظرهم ، وتدفع باتجاه العمل المؤسساتي. وصلت أصداء «مشروع اللقاء» إلى الرابية وبشكل مضخّم، وقد يكون مفتعلاً، طلب العماد عون نقل الاجتماع إلى الرابية. التقى الجميع في 25 آذار، ألقى الحاضرون همومهم أمام «والدهم الروحي» وفضفضوا عن هواجسهم. أخذ النقاش منحى مغايراً وانتهى إلى جو غير ودّي.
كان الخوف من أن تكون الانتخابات الداخلية مدخلاً لشرذمة «التيار» وخلاف أبنائه فيما بينهم، هو المسيطر على أذهان قائده. أصداء التنافس بدت سلبية في تلك الفترة، فيما اعتبر البعض الآخر أن الانتخابات ستكون فرصة لسيطرة «الإصلاحيين» على قاعدة «التيار»، أو الخوف من وصول شخصيات تتمتع بالشعبية دون أن يكون لديها الكفاءة اللازمة لهذه المواقع. ورغم ذلك أجريت الانتخابات بعد تأجيل أكثر من مرة، وعلى عجل، بعدما أوصت الرابية بالتوافق، وإلا فالاحتكام لصناديق الاقتراع.
وقد طالت هذه الانتخابات مسؤولي القرى والأقضية، ما يثبت أن «بيت القصيد» لا يكمن هنا وإنما في مكان آخر، وتحديداً في شكل القيادة. إذ أن المطلوب هو تشكيل قيادة تقف إلى جانب العماد عون وتساعده في مهامه وتنقل له هواجس الأرض وحقيقة المزاج الشعبي في المناطق خصوصاً أن التجارب والاستحقاقات، أثبتت أن ما كان يُنقل للعماد عون من المحيطين به، بأن الأرض متفهمة لخياراته السياسية بالكامل ومؤيدة لها، جاءت النتائج لتدحضها إلى حدّ ما.
وفي تنظيم «التيار» تتحمل قياداته الشابة جزءاً من مشكلة عدم مأسسته، فهي تواجه صعوبة في توحيد رؤيتها وكلمتها، أو حتى مشروعها، والخلافات الشخصية لها مكانتها في هذه المسألة وهي تساهم في عرقلة مشروع التنظيم، وتخفف من اندفاعة العماد عون باتجاه الاصلاح الحزبي، وإن كانت هذه القيادات تطمح جميعها إلى ترتيب البيت الداخلي وتتطلّع بحذر إلى التنظيمات المسيحية الأخرى التي بدأت تلملم أجنحتها وتستعد للمواجهة والتنافس على «طبق» الشعبية المسيحية.
وفي علاقة القائد بضباطه، الكثير من محطات المدّ والجزر ولكنها كانت تنتهي على الدوام إلى عودة الأبناء إلى المنزل الأبوي. ثمة تجارب عديدة شهدها «التيار» حول صعود نجم فلان وأفول نجم آخر، حول تنصيب فلان في موقع، وإبعاد آخر عن منصب، ولكن التجارب المرّة لم تحمل المبعدين إلى الطعن في ظهر «التيار». الالتزام بـ«التيار» هو ميزة هذا الفريق الشاب، الذي ناضل من اجل لا شيء في بداياته، وتعب من أجل قضية وليس من أجل منصب، وهذا ما يفسر التماسك الذي يميّز هذا التنظيم بخلاف أحزاب لبنانية تاريخية مزّقتها الانشقاقات الداخلية رغم «قبضة» الهيكلية التنظيمية. ولذا فإن مستقبل التيار هو الهاجس الذي يدفع بهم إلى البحث عن الوسائل التي تمنح التيار اوكسجين البقاء على قيد الحياة. عينهم على تجربة «القوات» التي تعمل على تنظيم صفوفها، فيما تجربة الحالة الشمعونية ماثلة أمام أعينهم.
لم ترض نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة الكثير من قيادات «التيار». حسابات الخسارة طغت على حسابات الربح. بنظر الكثير منهم، فشل «التيار» في استكمال اندفاعته التصاعدية، وكتلة الـ27 نائباً لا تروي الغليل، لأنه كان بالامكان تحقيق نتائج أفضل. بنظر البعض منهم، فان الانتخابات الطلابية والنقابية كان يجب أن تكون كافية لدق النفير، ولو كان جسم التيار أكثر صلابة وأكثر تنظيماً، لكان من الممكن تفادي المطب النيابي.
التبريرات التي أطلقت لم تقنعهم، وهم تمسكوا بعد الثامن من حزيران أكثر فأكثر بمطلب مأسسة «التيار». ويبدو أن العماد عون عاد والتقى مع من تربوا سياسياً على يديه، على نفس «الموجة»، يدرك جيداً أن الحملة التي تخاض بوجهه في الخارج من جانب القيادات المسيحية الأخرى، لا هوادة فيها، وهي ترمي إلى القضاء على زعامته، وهو توجه إليهم عبر موقع «التيار» الالكتروني بالقول أخيراً بعدما عدد أسباباً خارجية لخسارة التيار بعض اللوائح في الانتخابات، أن «هذا لا يعفينا من عملية تقييم صارمة لأداء التيار ومعالجة التقاعس والأخطاء وأسبابها، إذ أن في بعض الأحيان قد يسبب سوء الأداء السقوط، أما حُسنه فيخلق الفارق الإيجابي لصالح النجاح». ما يؤكد بإن المصلحة المشتركة تجمع بين جناحي الطائر، إذ لا «تيار» من دون عون ولا عون من دون «التيار».
عون ثم عون ثم عون
في البنية التنظيمية القائمة اليوم، العماد عون يختزل مركز القرار والسلطة في التيار، لا قيادة ولو شكلية، بعدما تقدمت اللجنة التنفيذية باستقالتها في خريف العام 2007، ومذاك الوقت لم تعين لجنة تنفيذية أخرى، فيما اللجان المتبقية هي لجان بحكم الأمر الواقع أو تصريف الأعمال، استمرت في عملها في ظل غياب الهيكلية التنظيمية تخضع لقرار ولرقابة العماد عون دون غيره. لا مقرات مركزية، ولا إدارات متخصصة ضمن هيكلية واضحة تحدد الصلاحيات والواجبات... ولذا فإن تكريس روحية العمل الجماعي في «التيار»، والتي كانت جوهر توصيات العماد عون من منفاه الباريسي، من شأنه أن يعزز حضوره السياسي والمناطقي والنقابي والجامعي نظراً لحجم الطاقات البشرية التي يضمها، والتي إذا ما جرى استثمارها وفقاً لقاعدة «الرجل المناسب في الموقع المناسب» فإن فرصاً مستقبلية كثيرة ستتاح أمام هذا التنظيم.
أما الحضور في الجامعات والنقابات، فهو مثير للغضب بالنسبة للعونيين، إذ أن «التيار» فشل في معظم الانتخابات النقابية التي خاضها خلال الفترة الأخيرة، وقد سجل أرقاماً قياسية في الهزائم في هذا المجال، وأسوة بالانتخابات الطلابية التي يتمكن فيها «التيار» من الدفاع عن معاقله الطالبية. وقد كانت نتائج الاستحقاقات النقابية والطالبية بمثابة انذار سياسي وتنظيمي. وبات مشهد الأمس متروكاً لحنين من عاشوه، يوم كان «التيار» في عصره الذهبي وتحديداً بين العامين 1994 و2002، يوم كانت الحركة الطالبية في «التيار» أشبه بمصنع لانتاج الكوادر العونية. وما أبعد الأمس عن اليوم...
لا شك بأن دور العماد عون محوري في دينامية «التيار» لا بل هو سبب استمراره، هو القائد الذي لا بد منه للبقاء، لأن التجربة الحزبية في لبنان لم تتمكن حتى الآن من تأمين مقومات استمرارها الذاتية، المبنية على عمل المؤسسات وديمومتها. هو الذي ساهم في إطلاق عشرات المناضلين إلى النجومية السياسية، إن من باب النيابة أو الوزارة أو عبر شاشات الاعلام. وقد يكون «التيار» من أكثر الأحزاب قدرة على استيلاد كادرات حزبية صاحبة حضور تتمتع بمقومات التأثير على الرأي العام. إلا أن العماد عون الذي ترأس المؤسسة العسكرية يدرك تماماً أهمية العمل المؤسساتي المنظّم ويعي فوائده على أي هيئة أو هيكلية حزبية، ولذا من المستغرب أن يفتقد «التيار» حتى اللحظة هذه الأساسات البنيوية التي لا يمكن لأي تنظيم أن يقف على رجليه من دونها.
تواجه الأحزاب المسيحية في مرحلة ما بعد ولادة الحكومة، تحديات متعاقبة، أولها غزو الإدارة العامة (التعيينات الادارية)، على يد محازبين أو مؤيدين لخطها، ثانيها انتخابات الهيئات الطالبية في الجامعات التي تعتبر المختبر الأول لحضور هذه الأحزاب و«الرحم» الذي تزرع فيه «بويضات» أفكارها، وثالثها الانتخابات النقابية التي تتهيأ عبرها للتغلغل في الرأي العام المسيحي... وبنظر العونيين فإن الفرصة مؤاتية لبدء ورشة تنظيمية تفتح فصلاً جديداً في كتاب «التيار»، تحت عنوان «التنظيم الشامل» لإعادة ترتيب البيت العوني... وثمة مؤشرات في الأيام الأخيرة بأن «الجنرال» راغب هذه المرة بعدم تفويت فرصة الانتقال نحو المؤسسة، لعله بذلك يجعل «التيار» أكثر رسوخا في الوجدان المسيحي.
 

 


المصدر: جريدة السفير

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,071,958

عدد الزوار: 6,933,531

المتواجدون الآن: 90