الحركات الشعبية في المنطقة العربية: إشكاليات التغيير ومقوّماته (1/2)

تاريخ الإضافة الجمعة 30 كانون الأول 2011 - 6:16 ص    عدد الزيارات 896    التعليقات 0

        

 

الحركات الشعبية في المنطقة العربية: إشكاليات التغيير ومقوّماته (1/2)
د· خالد قباني
 تشهد المنطقة العربية أحداثاً وتحركات شعبية، لم ترَ مثيلاً لها منذ انطلاق حركات التحرير الوطنية والتي انتهت باستقلال دول هذه المنطقة وبدء تجربة الحكم وبناء الدولة ·
ولعل السمة الواضحة في تحركات اليوم، أنها تأتي للمطالبة في حدها الأدنى، بالإصلاح السياسي، تحت شعار إصلاح النظام، وما يستتبع ذلك، من إصلاح اقتصادي واجتماعي، وفي حدها الأقصى، بتغيير النظام، بما ينطوي عليه هذا المطلب، من تعديل للدستور أو وضع دستور جديد، يعيد بناء الدولة على أسس جديدة · وما يقتضي التوقف عنده، أن هذه الحركات الشعبية قد فاجأت الجميع في المنطقة وخارجها، وفاجأت أكثر ما فاجأت السلطات السياسية في كل من هذه الدول التي اجتاحتها التظاهرات والتحركات، سواء بتوقيتها أو بحجمها أو بعفويتها أو بقوة اندفاعها وعدواها، أو بالشعارات الجريئة التي رفعتها، ولم تكن قد سبقتها مقدمات أو معطيات أو مطالبات على نحو ينبىء بقدوم العاصفة، أو برياح تمهد أو تنذر بهبوب العاصفة، فكانت كالسيل الجارف الذي لا قدرة على رده أو منعه أو إيقافه·
ولا يعني القول، أن هذه الحركات الشعبية قد فاجأت الجميع، بدءاً من تونس امتداداً إلى الأردن، فمصر، فاليمن، فالبحرين، فسوريا، فالمغرب، عدم وجود الأرضية المهيأة لهذا الانفجار الكبير، أو غياب الأسباب الداعية إلى حدوث مثل هذا الإنفجار، الذي سمي بالربيع العربي، لما يحمل من آمال وأماني بل وأحلام، لدى الشعوب العربية بالتغيير، أو على الأقل فتح آفاق التغيير والتطلع إلى حياة أفضل ومستقبل واعد، بل، على العكس من ذلك تماماً، فكل الأسباب كانت متوفرة، ومنذ زمن طويل، يعود إلى فجر استقلال هذه الدول، وتحولها إلى دول مستقلة، أقلها منذ نصف قرن من الزمن، لم تستطع خلالها أن تبني استقلال الدولة، ولا امنت لشعوبها الحرية ولا كرامة العيش والإنماء المطلوب، فاهتزت الأرض التي وقفت عليها الأنظمة ردحاً طويلاً من الزمن معلنة أنه آن أوان التغيير·
وتتشارك الدول العربية التي تشكل مسرحاً للحركات الشعبية في كثير من المعطيات، لجهة أنظمة الحكم وأوضاعها الاقتصادية والسياسية، وتتشارك أيضاً في المعاناة ذاتها، على مستوى التردي الاقتصادي والتخلف الاجتماعـي، إلا أنه تبقى هناك خصوصيات تميز كلاً من هذه الدول، ومنها التركيبة الاجتماعية القبلية أو الطائفية أو الطبقية أو الأتنية، بما يؤثر تأثيراً مباشراً على مسار التغيير أو طبيعة منحاه السياسي ·
وتجتمع هذه الحركات الشعبية على مقولة واحدة تشكل محور كل الشعارات التي ترفعها أو المطالب التي تنادي بها، وهي الحرية والكرامة، أي حق الإنسان في أن يكون إنساناً، يتمتع بحقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن لقوة أو سلطة أن تحرمه منها، والكرامة الإنسانية، أي حق الإنسان بالعيش بكرامة وعزة، وأن لا يعيش مهاناً أو مذلولاً أو مضطهداً أو مهمشاً ومجرداً من إنسانيته ·
لم تنفع آليات الديموقراطية المعروفة، من انتخابات وسواها، من ضمان انتقال سلمي للسلطة أو تحقيق مبدأ التداول في السلطة، وقد يكون مرد ذلك لعيب في النظام الانتخابي، ولقدرة من بيده الحكم في التأثير على الانتخابات لتوجيهها بما يخدم الطبقة الحاكمة واستمرارها، وبالتالي، عدم تأمين انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة ·
كما لم تنفع هذه الآليات في ضبط أعمال الحكم والإدارة، من خلال المؤسسات الدستورية، ولا سيما، من خلال البرلمان، الذي يقوم بدورين أساسيين: التشريع من جهة، والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، عبر طرق التحقيق والمساءلة والمحاسبة من جهة ثانية، لوقوع البرلمان تحت قبضة وضغط الحكومة ·
كما لم يتمكن القضاء من لعب دوره، في حماية الحقوق والحريات الفردية، وأن يشكل رادعاً لبقية السلطات في عدم مخالفة القانون وتجاوز أحكامه، أو في تأمين العدالة، نظراً لعدم تحول القضاء إلى سلطة مستقلة ·
ولأن كل الآليات المعتمدة في الدول المتقدمة، للتغيير وتجديد بنية الحكم، وتحضير النخب لاستلام السلطة لم تنجح، حدثت هذه الانتفاضات الشعبية في المنطقة العربية، مطالبة بالتغيير، ومتولية، بنفسها، ما عجزت المؤسسات السياسية والدستورية، عن القيام به، وفقاً للآليات الديموقراطية، التي تؤمن، عملية التغيير والتحول الديموقراطي بشكل لا يطيح بأمن البلاد ولا بالاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ·
إلا أن هذه الانتفاضات الشعبية، وإن استطاعت، بزخمها وصدق مقاصدها، واندفاعها، أن تُحدث عملية التغيير في قمة السلطة، أو هي في طريقها إلى ذلك، إلا أنها وجدت نفسها، أو ستجد نفسها، أمام تحد كبير، في مواجهة متطلبات الحكم وتأمين بنياته ومستلزماته، وذلك لأن السلطات الحاكمة التي استمرت في إدارة البلاد عقوداً من الزمن، لم تترك مجالاً لقيام قيادات بديلة، ولم يتهيأ المجتمع لأحداث النقلة المفاجئة، فالأحزاب تشكو من حالة الضعف والتشرذم، والمجتمع المدني، غير منظم وغير معدٍ لاستيعاب عملية التغيير السريعة، ما جعل قادة هذه الانتفاضات في حالة من الضياع وعدم وضوح الرؤيا، مما يخشى معه انحراف هذه الحركات والانتفاضات الشعبية عن مسارها الطبيعي وعن مقاصدها، بما يضع هذه المنطقة، لا سيما، في ظل تنازع القوى والمصالح الدولية وتنافسها واستقطاباتها، في حالة من التبعية والفوضى وعدم الاستقرار ردحاً طويلاً من الزمن ·
واليوم تجد هذه الحركات الشعبية نفسها، على اختلاف توجهاتها، واقعة في اشكالات كبيرة، لا سيما لجهة التغيير المطلوب، والقيادة التي تتولى عملية التغيير، وتوفير التشريعات والمؤسسات القادرة على تحقيق الأهداف المرجوة من هذا التغيير، وذلك لأن في خلفية هذه الإشكالات، أزمات تعاني منها المنطقة العربية وهي ذات أبعاد ثلاثة : أزمة الديموقراطية وارتباطها بالنظام السياسي، وأزمة التربية ودورها في بناء الدولة، وأزمة التنمية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي قضية العدالة الاجتماعية·
أولاً :أزمة الديموقراطية والنظام السياسي : الديموقراطية ليست فقط نظام حكم يقوم على حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب، كما يُقـال، ولكنها نمط وأسلوب حياة · ولذلك فإن الديموقراطية لا تتحقق فقط عبر آليات أو نصوص دستورية وقانونية، او من خلال عادات وأعراف سياسية، بل إن هناك قضايا أساسية اقتصادية واجتماعية وإنسانية، يقتضي أخذها بعين الاعتبار، ويتبلور في ضوئها مفهوم الديموقراطية الذي يتعدى الإطار التاريخي أو الشكلي الذي كان يقتصر على حماية الحقوق والحريات الشخصية والعامة، ليتناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تحرر الإنسان وتجعله قادراً على ممارسة حريته وقناعاته، تلك الحرية التي تعتبر من مستلزمات الديموقراطية بل جوهر الديموقراطية ·
والديموقراطية، بمفهومها التقليدي، تؤمن مشاركة المواطن في الحكم، وهو ما يتم عبر الانتخابات النيابية التي تتيح للشعب اختيار ممثليه في البرلمان، ومن خلال الانتخابات يستطيع المواطن أن يعبر عن رأيه وخياراته، كما يمارس تأثيره على الشؤون العامة، ويضمن احترام حقوقه وحرياته عن طريق انتقاء سليم للحكام · وهذا يستوجب إيلاء قانون الانتخاب الأهمية التي يستحق، سواء من حيث تقسيم الدوائر الانتخابية، أو من حيث تأمين نزاهة الانتخابات، بما يمكن المواطن من ممارسة حقه بالاقتراع بحرية وبعيداً عن الضغوط · وقانون الانتخاب يشكل المدماك الأول في البناء الديموقراطي ·
ولعل اعتماد قاعدة التمثيل النسبي بدلاً من قاعدة التمثيل الأكثري هي أقرب إلى عدالة التمثيل السياسي لأنها تؤمن تمثيلاً عادلاً لمختلف التيارات السياسية في البرلمان، بحصول كل منها على مقاعد تتناسب مع الأصواب الشعبية التي نالتها في الانتخابات، وهو ما يؤدي إلى وجود أكثرية تحكم وأقلية فاعلة ومؤثرة تعارض، بحكم تمثيلها الشعبي، مما يعزز مفهوم المساءلة والمحاسبة، ويجعل الأكثرية الحاكمة أكثر حرصاً على احترام القانون والعمل على رعاية مصالح المواطنين، من أجل الاستمرار في الحكم · في حين أن نظام الانتخاب الأكثري من شأنه أن يضعف الأقلية المعارضة ويجعلها أقلية غير فاعلة ولا تأثير لها على مسار العمل الحكومي، لأنه يترك عدداً كبيراً من المواطنين، كما من التيارات السياسية دون تمثيل في البرلمان ·
ولكن الديموقراطية، في عصرنا الحاضر، تخطت هذا المفهوم الضيق للأمور، فلم تعد مهمة المواطن تقتصر على اختيار ممثليه في البرلمان وعن طريق انتخابات حّرة ونزيهة وشفافة، ومن ثم الانكفاء طيلة مدة ولاية المجلس التمثيلي، التي قد تستمر لمدة أربع أو خمس سنوات، ولكن بات دوره أن يشارك مشاركة فعالة بإدارة الشأن العام وإدارة الدولة، سواء من خلال المراقبة ومواكبة العمل العام وإبداء الرأي، عبر النقاشات أو الندوات أو التظاهرات أو الإعلام أو وسائل الضغط المختلفة أو مؤسسات المجتمع المدني، أو من خلال آليات الديموقراطية شبه المباشرة، كالاستفتاء والفيتو الشعبي والاقتراح الشعبي، التي تبنتها بعض الدول المتقدمة، لكي يبقى المواطن ساهراً ومساهماً عن قرب في إدارة الشأن العام وفي الرقابة على أعمال الدولة، في ظل تعددية سياسية تؤمن تلاقح الأفكار وتفاعل التيارات السياسية داخل المجتمع ·
وهذا يعني أن الشعب لم يعد يتماهى مع ممثليه، وأن إرادة الممثلين، وإن كانت غير مقيـدة، لا تعبر، بالضرورة، عن إرادة الشعب، بل يبقى للشعب إرادته المستقلة، حتى إذا ما أساء نواب الأمة أو حكامها التعبير عن إرادة الشعب، يعود للشعب، بما يملك من حق ومن إرادة متميزة ومن مصالح، أن يعبر عن هذه الإرادة، بشتى الوسائل والأدوات الديموقراطية المتاحة· وهنا يبرز دور المجتمع المدني المتحرر من الوصاية السياسية الذي يلعب دوراً حيوياً في تعبئة طاقات الأمة وفي تحريك القوى الفاعلة في المجتمع من جمعيات وأندية ونقابات وصحافة وجامعات ومراكز أبحاث، دوراً يوازن سلطة الحكومة ونفوذها، ويكون العين الساهرة والرقيبة على ممارسة الحكم ·
هذا التطور لمفهوم الديموقراطية فرض الانتقال من مفهوم الدولة القانونية، إلى مفهوم الدولة الدستورية، أي الدولة التي يحكمها الدستور، أي القانون الأسمى، حتى إذا ما تعارض القانون، الذي يمثل ويعبر، في النظرية التقليدية للديموقراطية التمثيلية، عن إرادة الأمة، مع أحكام الدستور، وجب ترجيح أحكام الدستور في التطبيق، لأنه يمثل الإرادة العليا للأمة، وهذا ما أوجب وجود رقابة دستورية على القوانين، تتمثل في القضاء، لكي يمارس رقابته على دستورية القوانين، بما يفيد أن إرادة ممثلي الأمة لا تعبر عن إرادة الأمة أو الشعب إلا إذا جاءت متوافقة مع احكام الدستور، وبما يجعل القضاء الدستوري الأمين على الحقوق والحريات، والوجه الجديد للديموقراطية ·
وقيمة الدستور تكمن في أنه يمثل إرادة الأمة، وفي مدى احترامه من قبل الحكام والمواطنين على السواء، وفي أنه يشكل المرجعية الذي يحتكم إليه لحل مشاكل التنازع على السلطة، وفي ما يتضمن من شرعة للحقوق وللحريات التي تحفظ حقوق المواطن والإنسان وتكفل ممارسته لها في حمى القضاء، بما يحصنها من تحكم السلطة التنفيذية أو تدخلاتها أو تجاوزات السلطة التشريعية، من خلال إقرار تشريعات وقوانين تعيق حق المواطن في ممارسة حقوقه وحريته، كقوانين الطوارىء والأحكام العرفية، أو إنشاء المحاكم الإستثنائية التي لا تشكل ضمانة للعدالة ولحق الدفاع عن النفس والتي تعتبر مخالفة لأحكام الدستور، هذا الدستور الذي يجسد الشرعية، شرعية الدولة وقوانينها وأنظمتها وأعمالها، والذي لا يكتمل البناء الديموقراطي إلا بوجوده وبسموه، والذي يتبلور من خلال بناء المؤسسات الدستورية والسياسية التي تؤسس لبناء الدولة، أي دولة المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات·
من هنا ندرك، أهمية النظام الديموقراطي وخطورته بالوقت نفسه، لأنه نظام حريات يترك للقوى السياسية والاجتماعية والحزبية، المؤثرة والفاعلة داخل المجتمع، وعبر التنافس المفتوح بين هذه القوى، أن تلعب دوراً كبيراً في قيادة البلاد ورسم السياسات وتقرير التوجهات المختلفة، ولذلك فإنه إذا لم تقترن الممارسة الديموقراطية للعمل السياسي بالأخلاق السياسية، أي الإلتـزام بقيم الحق والعدالة واحترام القانون والأمانة ونظافة الكف، يغدو النظام الديموقراطـي، موئلاً للفساد وسوء الإدارة، وبالتالي للفوضى وعدم الاستقرار · ولذلك فإن تجربة الديموقراطية، في الدول التي لم يصل الشعب فيها إلى مستوى من النضج والوعي السياسي، والتي تبنت تلك الدول أشكالها القانونية وآلياتها، دون أن تكون الديموقراطبة نتاج تربية راسخة في قلوب وعقول ونفوس المواطنين بما يجعلها نمط وأسلوب حياة، قد أثبتت فشلها، وشكلت الوجه الآخر للدول التي تقوم أنظمتها السياسية على الغلبة والاستبداد وعدم احترام إرادات الناس وحقوقهم وحرياتهم ·
وما يريده الشعب، ليس هو دائماً ما يريده ممثلوه او الحكام، فكل قانون، بحسب النظام التمثيلي التقليدي، يعبر عن الإرادة الشعبية، في حين لا تتحول كل إرادة شعبية إلى قانون · وهذا يعني أن إرادة الحاكمين قد لا تتناسب وإرادة الشعب وحاجاته وطموحاته، وهذا ما يؤول إلى الصراع بين إرادة الحاكم وإرادة المحكوم، وما يتولد عنه من ثورات وانتفاضات، بكل تناقضاتها وتعقيداتها، لأن الشعب تتنازعه أيضاً وتتواجد فيه كل التناقضات الطبقية والمصلحية والعقائدية مما يخشى أن تتحول الديموقراطية إلى اختبار للقوة بدلاً من أن تكون نظام أمان وأمن واستقرار، بما قد يستدعي وقد استدعى في حالات كثيرة، تدخل الجيش والقوى العسكرية لضبط الأمن والحفاظ على حياة الناس، الأمر الذي يفتح المجال للسلطة العسكرية إلى التدخل في الشأن السياسي، في حين أن الجيش يجب أن يبقى بعيداً عن السياسة، لكي لا تمتد الانقسامات إلى صفوفه، بحيث يبقى الضامن لاستقرار البلاد وأمنها، ولذلك، فإن الديموقراطية الفضلى بقدر ما تكمن في إيجاد وسيلة ناجعة لتسليم الحكم للشعب، تكمن أيضاً في اختيار أقدر الحكام لهذا الشعب ؟
والديموقراطية تسعى إلى بناء الدولة عبر المؤسسات، أي بناء دولة القانون والمؤسسات، أي الدولة التي تخضع في كل أعمالها ونشاطاتها لأحكام القانون، الدولة التي يخضع فيها الحكام والمحكومون لأحكام القانون، إلى القاعدة القانونية التي توجه سلوك الفرد والجماعات، بما يحفظ أمن المجتمع وسلامته وانتظام عمل مؤسسات الدولة والمرافق العامة ويضبط العلاقة بين الدولة والأفراد في إطار القانـون، وبما يحول دون ممارسة الحكم الكيفي ·
والقانون يُفهم بمعناه الشامل والواسع، أي جميع القواعد القانونية التي تنتظم بها أعمال الدولة، بدءاً من القانون الأسمى أو الأعلى، أي الدستور، وفقاً لهرمية القواعد القانونية، ويلعب القضاء في هذا المجال، دور المراقب والضابط لأعمال الإدارة، والضامن والحامي للحقوق الشخصية وللحريات العامة، والساهر على مبدأ الشرعية· وهذا يعني توفير المدماك الثاني لبناء الدولة الديموقراطية، أي دولة القانون والمؤسسات، وهو استقلال القضاء، واعتبار القضاء سلطة قائمة بذاتها، سلطة قضائية لا تخشى الدولة، تتولى إدارة شؤونها بنفسها، باعتبارها إحدى مؤسسات الدولة الدستوريـة، وتوفير كل متطلبات ومستلزمات هذا الاستقلال لجهة إبعاد تدخل أو تأثير السلطة التنفيذية على القضاء أو لجهة تعيين القضاة أو التشكيلات القضائية أو الموازنة المالية الكافية بما يؤمن للقاضي الضمانات القانونية والكفاية المادية لاستقلاله والحفاظ على كرامته ·
ولا يتوقف دور القضاء على حماية الحقوق والحريات، ولكنه يشكل عنصر امان للمجتمع، وركيزة أساسية من ركائز استقرار النظام، كما يلعب دوراً هاماً في دعم الاقتصاد وتشجيع الاستثمارات والتنمية بقدر ما يوحي بثقة الداخل والخارج بالعدالة، وبقدر ما يلقى أيضاً من دعم واحترام من المجتمع ·
ومبدأ الشرعية يحول دون قيام السلطات العامة أو مؤسسات الدولة بما يخالف القواعد القانونية وفقاً لهرميتها، ويمنع على أي سلطة أن تتجاوز حدود صلاحياتها لمحددة لها في القوانين والأنظمة المرعية الإجراء ·
وتنضبط أعمال الدولة في إطار المؤسسات، وهذا يعني أن الأفراد الذين يتولون مسؤولية إدارة الشأن العام يتغيرون ويتبدلون، في حين يتّسم عمل الدولة ومؤسساتها بالدوام والاستمرار، لأن الدولة بمؤسساتها تتمتع بالشخصية المعنوية التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تزول بتغير الأفراد أو تبدلهم أو زوالهم، وبالتالي، فإن الدولة ومؤسساتها مستقلة عن الأشخاص الطبيعيين الذين يتولون إدارة شؤونها، ويترتب على ذلك أن الدولة لا تتأثر بتغير حكامها، ولا يمكن للمسؤولين أن يتصرفوا باعتبارهم مالكين للمؤسسات التي يتولون إدارة شؤونها، وأن أعمالهم وقراراتهم يجب أن تخضع للقانون وأن تلتزم بأحكامه، بحيث لا تسخر تلك المؤسسات لمصالحهم الشخصية أو السياسية أو الحزبية، بل يجب أن تعمل المؤسسات لصالح الشعب ولخدمة الناس، أي للخدمة العامة ·
إن الظاهرة البارزة والمشتركة في الأنظمة السياسية في دول المنطقة العربية، أنها، في معظمها، أنظمة سياسية شبه رئاسية، بمعنى ان تنظيم السلطات فيها، يقوم نظرياً على مبدأ الفصل بين السلطات، كما في الأنظمة السياسية البرلمانية، بحيث يكون للسلطة التنفيذية فيها، المتمثلة في رئيس الدولة، ملكاً كان أو أميراً أو رئيس جمهورية، الدور الأكبر في تسيير عجلة الحكم، بما يتمتع من سلطات واسعة، تبدأ بتعيين الحكومة وإقالتها، ولا تنتهي بحل البرمان، بحيث يغدو محور الحياة السياسية برمتها والقابض على السلطة ·
كما تتسم دساتير هذه الأنظمة السياسية باستهلالها بديباجات أو مقدمات تلحظ بصورة واضحة وموسعة، نصوصاً ضامنة للحريات والحقوق الشخصية، ولا سيما حرية الرأي والتعبير وحق الانتخاب والتجمع وتأليف الجمعيات، وغيرها من الحقوق الفردية، وكذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتؤكد على استقلال القضاء · إلا أن الممارسة والواقع لا ينسجم مع النصوص، وهذه ظاهرة أخرى من الظواهر السلبية والمشتركة بين الأنظمة السياسية لدول المنطقة، وهي ظاهرة عدم التطابق بين النصوص والواقع·
ولعل الأخطر من ذلك، هو أن مبدأ الفصل بين السلطات، وهو المدماك الثالث في بناء الدولة الديموقراطية، والذي يشكل الضمانة الحقيقية لمنع الطغيان أو الاستبداد أو التحكم بالقرارات السياسية، لا يراعى، بحيث تطغى فيها السلطة التنفيذية، بامتداداتها، وما تملك من قدرات وأجهزة إدارية ومالية وعسكرية، على كل من السلطتين التشريعية والقضائية، وتتحكم في مسار عمل كل منهما، بما يؤمن لها القبض على مقدرات البلاد، وبالتالي، احتكار القرار السياسي كما والحلول في بعض الحالات، محل السلطة التشريعية في التشريع، فينعدم دور البرلمان في دوريه : التشريعي والرقابي، أي في الرقابة على أعمال الحكومة، لا سيما في ظل نظام لا يقوم على مبدأ الفصل بين النيابة والوزارة، وبالتالي في المساءلة والمحاسبة، كما يستحيل استقلال القضاء نصاً بلا روح·
إن من المسلم به في الأنظمة السياسية التقليدية، وتحديداً في النظام البرلماني، أن رئيس الدولة يتولى ولا يتحمل أية مسؤولية سياسية، وأن الحكومة هي التي تتولى الحكم وتتحمل بالتالي المسؤولية أمام البرلمان، في حين أن رئيس الدولـة، ملكاً كان أو رئيس جمهورية، يبقى غير مسؤول ·
والمفارقة في الأنظمة السياسية في المنطقة العربية أنها أنظمة شبه رئاسية، تجمع بين النظامين البرلماني والرئاسي، يتولى فيها رئيس الدولة، بحسب الدستور، صلاحيات الحكم بكاملها، ويبقى غير مسؤول، حتى أمام من انتخبه، سيما وأن اختيار رئيس الجمهورية، في بعض دول المنطقة العربية، لا يتم من خلال انتخابات حرّة ومباشرة تعكس الإرادة الشعبية، ولكن عبر استفتاء على اسم المرشح الذي اختاره الحزب الحاكم والذي يملك الأكثرية في البرلمان، بحيث يحرم الشعب من حقه في الانتخاب الحر الديموقراطي، كما يحرم المواطن من حق الترشيح إلى هذا المنصب ·
وعليه، فإن المرتجى والمأمول، في منطقتنا العربية، إقرار مبدأ التقابل بين الصلاحية والمسؤولية، بحيث يكون المسؤول الفعلي عن الحكم هو من يتولى الصلاحية، وهذا يعني أن تكون الحكومة هي التي تملك الصلاحيات والاختصاصات التي تمكنها من تدبير شؤون البلاد وإدارة مصالح الدولة، بوصفها مسؤولة أمام البرلمان المنتخب من الشعب، وبكونها، تمثل الأكثرية النيابية وتنبثق عن هذه الأكثرية، لأن الانتخابات تفرز أكثرية وأقلية، في الدول التي تعتمد نظام الثنائية الحزبية، أو لأن الأكثرية تتشكل نتيجة تحالف بعض الأحزاب والقوى السياسية، في الأنظمة القائمة على التعددية الحزبية، فتخرج بحكومة ائتلافية تحكم بموجب برنامج حكومي محدد، ويلعب رئيس الدولة، في هذه الحالة، دور الحكم بين أكثرية حاكمة وأقلية معارضـة، ويؤمن بما ينيط به الدستور من اختصاصات السهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال البلاد ووحدتها وسلامتها، كما يؤمن إنتظام واستمرار العمل في المؤسسات الدستورية، باعتباره رمز وحدة الوطن، ولما لانتخابه من الشعب مباشرة من شرعية ورمزية ودلالة ·
ويترتب على ذلك كله، أنه لا يمكن حصر السلطة في يد شخص واحد أو هيئة واحدة، بل لا بد من توزيعها، لأن حصر السلطة أو احتكارها يؤدي إلى الطغيان والاستبداد، وبالتالي، إلى إهدار الحقوق والحريات، والقضاء على مبدأ ومفهوم المساءلة والمحاسبة الذي ينطوي عليه النظام الديموقراطي ·
 وزير سابق وأستاذ في القانون·
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,073,616

عدد الزوار: 6,977,585

المتواجدون الآن: 80