الديبلوماسية "الخرقاء" لواشنطن لن توقف إيران نووية...

تاريخ الإضافة السبت 26 آذار 2022 - 6:19 م    عدد الزيارات 1152    التعليقات 0

        

الديبلوماسية "الخرقاء" لواشنطن لن توقف إيران نووية...

المصدر: النهار العربي.... مات الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، إذ فقد ذلك الاتفاق كل معنىً له. لكن ما حققته إيران منذ ذلك الحين، أي منذ انسحاب رئيس الولايات المتحدة حينها، دونالد ترامب، من الاتفاق عام 2018 انسحاباً لا رجعة فيه، كان اتقان العمليات النووية، وتطوير طرق جديدة للدفاع عن مواقعها النووية. غير أن الملاحظ أكثر من ذلك هو أن إيران لا تستطيع ولن تتخلى عن مشروع وطني استثمرت فيه غاية الاستثمار على مدى عقود عديدة، ودفعت ثمنه أموالاً طائلة ودماء. المسألة إنما هي مسألة احترام الذات، وفن الحكم، والأيديولوجيا، وإدراك التهديد. وحتى مع وجود أفضل النوايا وأشد الالتزامات صرامة، لا يمكن إحياء الاتفاق النووي القديم على نحو مستدام؛ كما أنه لن يكون مستقراً. لن تترتب سوى قلة من العواقب سواء تم التوقيع على اتفاق بشأن الصفقة في فيينا أم لا. من المهم التوصل إلى ترتيبات بشأن الجوانب التقنية النووية، على أن الاتفاق سيكون ناقصا إن لم يكن راسخاً في بيئة سياسية وثيقة الصلة به. إن الصراع ليس تقنياً؛ بل هو صراع سياسي. لا تحيد السياسة والترتيبات التقنية قيد أنملة عما هي عليه، تسير بحسبهما معالجة السياسة والتفاصيل الأخرى. ولقد بدأ العفن في الظهور على الاتفاقية قبل فترة طويلة من انسحاب ترامب، إذ تغير المناخ السياسي عندما لم تشعر إيران بأن العقوبات قد رفعت حقاً، وكذلك عندما أصبحت الولايات المتحدة محبطة على نحو متزايد من سلوك إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي. لم يضطر الجانبان إلى الانسحاب إلى حين ماتت روح الصفقة في نهاية المطاف. ليست لدى الولايات المتحدة في الوقت الراهن سياسة شاملة ومتماسكة بشأن إيران. تمضي أميركا قدماً في خطوات متفرقة دونما أساس سياسي. إن "إعادة إيران إلى الصندوق" أمر غير قابل للتحقيق ولن يبدأ في حل المشاكل التي تمثلها إيران النووية. تم التوصل إلى اتفاق عام 2015 لأنه كان جزءاً من اعتبارات سياسية أوسع، وإن كانت غامضة. واليوم، يختلف السياق السياسي تماماً، والمفاوضات تسير كما لو أنها لا تزال في عام 2015، عندما كان كلا الطرفين أكثر استعداداً للثقة ببعضهما، وكان توقع التعاون بشأن القضايا الأوسع نطاقا أكثر وضوحاً. وبعد سبع سنوات مضطربة، تحطمت تلك الآمال المبكرة الناشئة بشكل لا رجعة فيه.

***

إذا أمكن التوصل إلى اتفاق بشأن الاتفاق النووي، وهو احتمال مرجح، فسيكون ذلك انتصاراً مطلقاً للإيرانيين، لا يختلف عن انتصار "طالبان" في أفغانستان وانتصار "الحرس الثوري" الإسلامي. لطالما اعتقد الأميركيون أن الصراع على السلطة في إيران كان بين المتطرفين والمعتدلين، أو بين الأصوليين والإصلاحيين. وهذا أمر يبسط الأمور. فالصراع الحقيقي، الذي لا يدري أحد بشأنه في كثير من الأحيان، كان بين "الحرس الثوري" الإيراني من جهة والدولة الرسمية وجيشها من جهة أخرى. فبينما يدافع الجيش عن الدولة، يدافع "الحرس الثوري" عن الثورة. والتوتر بين الطرفين واضح. لا يختلف الأمر عن التوتر في الاتحاد السوفيتي بين رؤية "الاشتراكية في بلد واحد" لجوزيف ستالين وبين "الثورة الدائمة" لليون تروتسكي. أنشئ "الحرس الثوري" الإيراني لمواجهة نفوذ وقوة الجيش النظامي، كما وحماية النظام الإسلامي من الاقتحام والانقلابات، وغالباً ما يتحدى القوات المسلحة النظامية، ولا يرى ذراعها الاستخباراتية دائماً الأمور بنفس رؤية وكالة الاستخبارات الإيرانية الرئيسية لها. أبرم اتفاق عام 2015 بين القوى العالمية من جانب، والدولة الإيرانية ممثلة بالرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف من جانب آخر. لم يكن "الحرس الثوري" حاضرا بشكل ملائم في تلك المحادثات. لم يرق له الاتفاق. كان انتقاده صريحاً وصاخباً في بعض الأحيان، بينما كان في أحيان أخرى موارباً وخبيثاً. كان على "الحرس الثوري" أن يتماشى مع الصفقة، لأن تلك كانت رغبة المرشد الأعلى، والذي لم يتخذ من جانبه موقفاً قوياً سواء مع الصفقة أو ضدها، ولكنه سمح لها بأن تتم متربصاً بانهيارها. كان المرشد الأعلى خلسة، وأحيانا علناً، يقف في صف "الحرس الثوري". مع جريان عملية فيينا، أخذ ميزان القوى الداخلي الإيراني في التحول، واشتد ذاك التحول بسبب الاستياء من العوائد الاقتصادية الواهية للصفقة الأصلية، والانسحاب الأميركي منها، والهجمات الإسرائيلية على المواقع النووية وعلمائها، وتوسيع نطاق وصول "الحرس الثوري" في المنطقة. كان "الحرس" دائما يضع نصب عينيه الاستيلاء الكامل على الملف النووي من الدولة. لقد وفرت فيينا الفرصة والدفع لذلك، وكانت الإدارة الأميركية، عن غير قصد، شريكاً في هذا الجهد. ودون علم منها، ساعدت الولايات المتحدة "الحرس الثوري" على الانتصار. فتعثر الولايات المتحدة في عكس انسحاب ترامب من الصفقة، والتراخي في رفع العقوبات، دفعا بالحرس الثوري الإيراني إلى تسنم موقع مركزي. إن التفكير في إزالة تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية أجنبية ليس فكرة لاحقة ظهرت في اللحظة الأخيرة. بل إن تلك الفكرة هي تطور طبيعي لمحادثات فيينا. تم السماح لإيران، مع القليل من المقاومة الأميركية، بتحديد شكل وهيكلية وجدول الأعمال، والتقويم والسرعة ومستوى المشاركين في المحادثات، لتناسب أهدافه إيران، ويا له من إنجاز لا يصدق. خطت الولايات المتحدة خطوة خاطئة. لقد أسبغت على الإيرانيين هدايا مرضية: إزالة الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن من قائمة الإرهاب التابعة لوزارة الخارجية، والضغط على السعوديين لإنهاء الحرب هناك من جانب واحد، وإعادة تقييم المبيعات العسكرية الأميركية إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتراجع بهدوء عن الدعم لاتفاقات إبراهيم من خلال خفضها، والعودة إلى الخطاب القديم حول السلام العربي الإسرائيلي. جرى رفع حفنة من العقوبات، التي تستهدف قطاع الطاقة الإيراني، كدليل على انتهاج واشنطن حسن النية، وسحبت القوات المقاتلة الأميركية من العراق، وتم الانسحاب بشكل خجول من أفغانستان. وكان الانسحاب من أفغانستان لحظة محورية. لقد أثبت الانسحاب لإيران أن الولايات المتحدة ستغادر تحت الضغط، وأنها عجزت في نهاية المطاف عن خوض حرب غير متكافئة، وأنها أيضاً كانت غير كفؤة حتى في هروبها، وأنها لا تنقذ حتى أقرب مجموعاتها، وأنها ستترك الميدان لمن يجاهرون بالعداء ضدها، وأنها يمكن أن تكون يائسة بما يكفي للاعتماد على قطر الصغيرة لإنقاذها وتمثيلها أمام "طالبان"، التي حاربتها الولايات المتحدة لمدة 20 عاما. ومن السذاجة الاعتقاد بأن الإيرانيين لم يلاحظوا كل هذه العوامل، وأنهم لم يلعبوا دوراً مركزياً في تشكيل نهجهم في المحادثات في فيينا. وفي قطر، أرادت القوى الجديدة في إيران، تماماً مثلما أرادت "طالبان" في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، شيئين اثنين هما: الوقت والغطاء الدبلوماسي الواقي. وقد حصلوا عليها تماما مثلما حصلت "طالبان" عليهما. لقد حصل "الحرس الثوري" على وقت ثمين من الولايات المتحدة مقابل مجرد الظهور في فيينا. واستغلت "طالبان" الوقت للاستعداد للاستيلاء على كابول تحت حماية المفاوضات الدبلوماسية التي أنهت الهجمات العسكرية الأميركية. وفي فيينا، استخدم "الحرس الثوري" الوقت للمضي قدما في الملف النووي، ومضايقة الوجود الأميركي في المنطقة من خلال مهاجمة أهداف أميركية في كل من العراق وسوريا، تحت غطاء المحادثات التي منحت الحماية من الضربات العسكرية الأميركية وحماية من الهجمات العسكرية الإسرائيلية. وصل الأمر إلى أنه لم يكن على إيران التفاوض مباشرة مع المسؤولين الأميركيين. وبالمقابل، فإن ما حصلت عليه الولايات المتحدة لم يكن واضحاً. لقد سقطت أفغانستان في أيدي "طالبان"، وحقق المشروع النووي الإيراني نموه الأكثر بروزاً، وهو الآن تحت رعاية "الحرس الثوري" إلى حد كبير. ترفض الإدارة الأميركية الاعتراف بأنها أخذت على حين غرة، وبقيت تقدم روايات أكثر إشراقا. لدى طهران استراتيجية واضحة وشاملة ومتسقة. حيث انها منذ وقت مبكر قالت إنها غير مهتمة بالمفاوضات. انسحبت الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وبات عليها الآن العودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات عن طهران. من غير الواضح ما هي الاستراتيجية الأميركية. إن التأكيد على أولوية "الدبلوماسية"، وإدخال الأوروبيين في المحادثات، وذلك عندما دعت واشنطن باستمرار إلى الانخراط المباشر مع الإيرانيين، والتلويح ب "مواعيد نهائية" غامضة، والتهديد بخيارات "أخرى" أو "جميع" الخيارات في حالة فشل المحادثات، لا يسن استراتيجية. لم يعد هناك حديث عن صفقة "أطول وأقوى وأوسع" أو عن برنامج إيران الصاروخي أو أنشطتها الإقليمية. حظيت إيران بدعم روسيا والصين، اللتين تظاهرتا بأنهما طرفان محايدان يتماشيان مع الأوروبيين، لكنهما كانتا في الواقع تطوران تحالفاً استراتيجياً مع إيران في كل جانب أبعد من القضية النووية. لقد كانتا تضخان التفاؤل والمودة اللذان أبقيا المناقشات مستمرة، وهو ما تريده إيران. اعتقد الأميركيون أن روسيا والصين كانتا مهتمتين بتحول إيران إلى الطاقة النووية مثلهما. لكن هذا ليس هو واقع الحال. فقد لا تكون روسيا والصين سعيدتين كثيراً بإيران النووية، لكن أولوياتهما الجيوستراتيجية تكمن في جانب آخر، هو مواجهتهما مع الولايات المتحدة. تبتغي روسيا والصين أن يكون لهما مقعد على الطاولة، لكن حساباتهما تتعلق بقضايا أخرى. لم تستفد الولايات المتحدة على أفضل وجه من انعدام الثقة التاريخي بين الفرس والروس، والذي يعود إلى قرون مضت. بل لقد غدت المصالحة بينهما من خلال عدم الوقوف عند العلاقات الجديدة الناشئة بين البلدين. تسعى إيران جاهدة للاستفادة من الأزمة الأوكرانية لتعزيز مصالحها الخاصة، مثل بيع نفطها -الذي طال انتظاره- بالأسعار المرتفعة الحالية، كما استفادت من كون دعم الغرب لروسيا أمراً مستبعداً الآن، كما يتضح من تكتيك المماطلة الواضح المتمثل في ربط الصفقة بالعقوبات المفروضة على روسيا. وبعدما استفادت إيران إلى أقصى حد من المحادثات واستنفذتها، أصبحت مستعدة للانتقال إلى المرحلة التالية من استراتيجيتها، وتوقيع اتفاق يسمح لها بمواصلة خططها تحت حدود جديدة مع وجود الكثير من الفرص. إن التوصل إلى اتفاق لإيران ليس نهاية اللعبة، بل هو محطة في رحلة طويلة من مواجهة أعدائها ودعم قوتها. ليس الاتفاق مهما في حد ذاته، فالاتفاق النووي أقل إثارة للقلق من العوامل الأخرى، أي بقاء النظام الإيراني وأمنه، والقدرة على إبراز القيادة والصعود والتفوق الإقليمي. إن طرد القوات الأميركية من الشرق الأوسط، وتقييد الوصول الأميركي، ظاهران بشكل بارز في الخطط الإيرانية. تقوم إيران إلى ذلك ببناء ودعم مؤسسات موازية في جميع أنحاء المنطقة، للتنافس مع هياكل الدولة التقليدية الموروثة من الغرب. ليس من الواضح تماماً إلى أين ستنتهي هذه الرؤية؛ فهي عمل ما يزال قيد التنفيذ. إن "الحرس الثوري" الإيراني في إيران، وقوات الحشد الشعبي في العراق، والميليشيات المختلفة في سوريا، و"حزب الل"ه في لبنان، و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الأراضي الفلسطينية، والحوثيين في اليمن، وغيرهم في أماكن أخرى، هي أجزاء من المشروع نفسه، وهي جزء لا يتجزأ من استراتيجية "الحرس الثوري" الإيراني. وهي موجودة بشكل غير مباشر في فيينا.

***

هناك ثقبان أسودان يبتلعان كل شيء ولا يمكن التغلب عليهما في النهج الأميركي تجاه القضية النووية الإيرانية: فلئن كان انسحاب ترامب عام 2018 من الصفقة الإيرانية "كارثياً"، كما يواصل فريق خليفته جو بايدن تذكيرنا، فلماذا لم توقف الإدارة الجديدة الانسحاب من جانب واحد وعلى الفور وتعكس مسار ما تعتبره سياسة كارثية؟ ..... من المؤكد أنه لا ينبغي السماح بوقوع كارثة، ولو ليوم إضافي واحد، سواء كان ذلك مع المفاوضات أو بدونها. كان الأميركيون قلقين من الظهور بمظهر الضعفاء، ولكن تشير هل التنازلات الأميركية في بداية المحادثات إلى ضعف أميركي أكثر مما تشير إليه التنازلات الإضافية في المستقبل؟ في الواقع، قد يكون منح المزيد من الوقت في ظل العقوبات مناسباً لخطط إيران. كثيراً ما حسبت إيران أن الفائدة اليومية من تطوير برنامجها النووي تفوق المعاناة اليومية جراء العقوبات. ومن المفارقات أن الرفع المبكر للعقوبات ربما وفر النفوذ الذي من الواضح أن العقوبات نفسها فشلت في القيام به، حيث كانت إيران ملتزمة علنا بالالتزام باتفاق عام 2015. لو تحركت الولايات المتحدة بسرعة للانضمام إلى الاتفاق ورفع العقوبات، لكان على إيران أن ترضخ بسرعة وأن تمتثل. كان ميزان القوى لا يزال في صالح الدولة الإيرانية، بعيداً عن "الحرس الثوري" الإيراني، الذي لم يكن إحياء الصفقة القديمة أولوية قصوى بالنسبة له. يبدو أن إدارة بايدن تشير إلى أن استراتيجية ترامب للانسحاب كانت تسير على ما يرام إلى حين اختتام المفاوضات. ولا يبدو أن لدى إدارة بايدن بديلاً أفضل لاستبداله به. جادل ترامب باستمرار بأن الانسحاب من الصفقة وفرض المزيد من العقوبات كانا طريقاً للمحادثات. إن سياسة ترامب، التي تعرضت لكثير من الانتقادات، هي بالضبط ما دافع عنه بايدن: فرض العقوبات إلى أن تأتي إيران إلى طاولة المفاوضات وتتفاوض على صفقة جديدة. من السخف أن ما تعتبره الإدارة الأميركية نفوذها الأكثر قوة من حيث الضغط مع إيران (أي العقوبات) هو في الوقت نفسه عنصر حاسم في ما تعتبره الإدارة نفسها إجراء معيباً وخطيراً، حقق عكس ما كانت تقصده الإدارة وكان مسؤولاً عن تقدم إيران النووي. ربما فكر البعض في واشنطن "علام العجلة؟ دعونا نترك الإيرانيين يكتوون أكثر بنار العقوبات" وذلك خطأ. كانت إيران تتألم، واعترفت بذلك علنا، لكنها لم تكن تتلوّع. لقد نسيت واشنطن أن الملالي يخضعون للعقوبات منذ أكثر من 40 عاما، لكنهم بالكاد غيروا موقفهم السياسي. ولم تكن هناك مؤشرات على أن المزيد من الضغط سيؤدي إلى النتائج المرجوة. لا تظهر اللقطات المصورة الأخيرة من طهران بؤساً وخراباً. ومن المؤكد أن تلك اللقطات تؤكد على وجود ازدهار أكبر من بغداد أو القاهرة على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه، يحتفى بالمعاناة التي تتمتع بقيمة سامية في الإسلام الشيعي، حيث لا تختلف عن المسيح على الصليب بالنسبة لبعض المسيحيين، الأمر الذي ليس مفهوما على نحو جيد من قبل أولئك الذين يدعون إلى فرض عقوبات أكثر أو أطول أمداً. إن رفع العقوبات الأميركية مهم بالنسبة لإيران، لكنه ليس المهمة الأكثر إلحاحاً، باستثناء كونه دقاً لإسفين رفيع داخل النخبة الحاكمة. كان لطهران نطاق معقد من المصالح والممارسات التي تحدد سلوكها عندما انخرطت في محادثات فيينا، بينما كان لدى الولايات المتحدة هدف أبسط: هو منع إيران من الحصول على قنبلة، وهو معظم ما كانت تدور حوله المحادثات. ويمكن مناقشة سلوك طهران الشائن في المنطقة وبرنامجها للصواريخ الباليستية في وقت لاحق. أما الثقب الأسود الآخر هو طلب إيران ب "ضمانات" بأن الاتفاق النووي لن يعاني من الإلغاء على غرار ما حدث أيام ترامب. عادة ما ينظر في الشرق الأوسط بعين الاستغراب إلى ديموقراطية مثل الولايات المتحدة، وذلك لأنها تتمكن من نقض ما عاهدت عليه من خلال نزوات شخصية بحتة. فهذا النوع من السلوك أكثر ارتباطاً بالطغاة والديكتاتوريين . من المفترض أن تكون الاتفاقات التي يتم التوصل إليها مع أميركا مؤسساتية وليست شخصية. وكان من شأن مدرسة "عدم وجود ضمانات" أن تثبت صحة إلغاء الالتزامات السابقة، وأن تضفي الشرعية عليها، وأن تجعل التعهدات المستقبلية بلا معنى لتحكمها دوافع خاصة. وكان من شأنها أيضاً أن تسمح لزعيم عربي مستقبلي، تحت ذرائع مختلفة، بأن يقرر الانسحاب من معاهدات السلام مع إسرائيل، بغض النظر عن المجاملات القانونية. وبالنسبة للإيرانيين، فإن غياب الضمانات يردد صدى أن الاتفاق النووي الموقع مع الولايات المتحدة لا يحظى بدعم سياسي أميركي كاف حتى يكون دائما، وبالتالي فإنه يتعين على إيران أن تخطو بحذر، وأن تكون أكثر حذرا في التخلي عن الأصول المادية بينما هي تختبر ثبات امتثال الولايات المتحدة للاتفاق، ما من شأنه أن يقوضه .ولعل الخطر الأشد، المتمثل في عدم السماح لإيران بالضمانات التي تسعى إليها، يكمن في مكان مختلف. فإذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة على تقديم ضمانات، فلا شك في أنها لن تتوقع من إيران أن تعطيها ضمانات هي الأخرى. وهذا يعني أنه إذا نشأت ظروف تشعر فيها إيران بالحاجة إلى أن تصبح نووية بالكامل وكان بأماكنها بسرعة الحصول على القدرة تلك القدرات، فإنه سيمكنها القيام بذلك دون إلغاء التزامها تقنيا بالاتفاق النووي الجديد، لأن الالتزام لا يتضمن أي ضمانات بعدم الانسحاب. يمكن لإيران الانسحاب دون خرق الاتفاق – وهي نتيجة مثيرة للسخرية. لن تنسحب إيران فجأة كما فعل ترامب. بل ستزحف نحو المخرج حاصدة الحد الأدنى من التصفيق. إن شرط عدم وجود ضمان؛ وأسبقية انسحاب ترامب؛ وتفسيرات النصوص؛ وتراشق الاتهامات بعدم الامتثال للاتفاقية؛ والخبرة اللازمة لتحييد العقوبات المستقبلية؛ وتعميق العلاقات مع روسيا والصين والأطراف الإقليمية؛ قد تسهم إلى جانب الهجمات الإسرائيلية المحتملة -التي ستدعي إيران أنها معتمدة من الولايات المتحدة- في تبرير الانسحاب الإيراني من الاتفاق. وإذا كانت تقديرات التقدم الإيراني في مشروعها النووي صحيحة، فقد لا يكون لدى الغرب الوقت أو الدافع اللازم لاستجماع ذكائه وموارده لمواجهة احتمال من هذا القبيل. وقد يؤدي إجراء المزيد من المحادثات إلى الإحباط، وقد تصبح الخيارات الأخرى بالية. سينهار الاتفاق النووي في جوهره، ما يتيح لإيران المزيد من الوقت والغطاء لتحقيق أهدافها.

***

تعمل الاتفاقات عندما تكون السياسة التي تدمج فيها صحيحة؛ هذا ما حدث في عام 2015، على الرغم من هشاشة الوسط الذي جرت الاتفاقات فيه. وتعد اتفاقات أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على الرغم من اختلافها في طبيعتها، مثالا حيا على ذلك. إذ لقد تم التوقيع عليها قبل 30 عاما، وكان من المفترض أن تنتهي في غضون خمس سنوات، لكنها استمرت لمدة ثلاث سنوات، وعندما تغيرت السياسة، دخلت المفاوضات في جمود عميق، ولم تصل أبدا إلى وجهتها النهائية دون انسحاب أي طرف منها رسمياً. وكما تكشف اتفاقات أوسلو بوضوح، فإن قبول اتفاق وعدم إلغائه لا يضمن تنفيذه. وقد يلقى اتفاق في فيينا نفس المصير إذا تركت السياسة في مآزقها. تم إطلاق البرنامج النووي الإيراني في خمسينيات القرن الماضي بمساعدة من الولايات المتحدة. ولم يتوقف التعاون الغربي مع إيران في هذا البرنامج إلا بعد الثورة الإيرانية عام 1979. عندما تنظر إيران، بغض النظر عن النظام القابع في السلطة، حولها وترى نفسها محاطة من روسيا النووية والصين والهند وباكستان وإسرائيل -وأبعد من ذلك: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وكوريا الشمالية- فإنها تتساءل عن سبب كونها هي المتروكة لوحدها. تشعر إيران، بوصفها أمة فخورة ذات حضارة عريقة، بضرورة ثقافية عميقة تقضي بعدم استبعادها من النادي النووي. قد لا تكون مشكلة المنطقة والعالم أن إيران ستصبح دولة نووية، بل سلوك إيران الذي لا يخضع للاتفاق بشكل يبعث على الحيرة. في الواقع، ستكون هناك دائما مسارات تاريخية تستمد نشاطها من الروايات النفسية العميقة والوعي الذاتي الجماعي المكثف، الذي لا يمكن عكس مساره من خلال العنف أو الدبلوماسية، بل لا يمكن سوى تأخير مساره ليس إلا. إذا تم التوصل أخيرا إلى اتفاق بعد طول انتظار، فمن المرجح أن يترك المسؤولون الأميركيون والإيرانيون المحادثات وهم في نفس الحالة العاطفية، أي مستندين إلى مرجعيات ثقافية متباينة. بعد توقيع الإيرانيين على اتفاق في فيينا، فإن ما قد يتردد صداه في أذهانهم على متن الطائرة وهم عائدون إلى طهران هي التعاليم الإسلامية المعروفة المنسوبة إلى النبي محمد، تترجم هذه التعاليم بشكل حمال أوجه على النحو التالي: "لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين". وبينما يتنفس الأميركيون الصعداء في طريق عودتهم إلى واشنطن من العاصمة النمساوية، فلعلهم كانوا يصدحون بأنغام المغنية كيليس "قد تخدعني مرة واحدة، لكن لن أسمح لك بخداعي مرتين". لكن الإيرانيين والأميركيين على موعد مع خيبة الأمل.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,171,683

عدد الزوار: 6,758,737

المتواجدون الآن: 138