لبنان بين الانتفاضات العربية وتحديات التغيير([) (1)

تاريخ الإضافة الجمعة 12 آب 2011 - 5:14 ص    عدد الزيارات 970    التعليقات 0

        

مع تصاعد الانتفاضات العربية، سجل لبنان مجموعة من التحركات المحدودة الطابع والعدد نجحت في اخراج المواطن من دائرة الاصطفاف السياسي الذي امتازت به التظاهرات في لبنان خلال السنوات الأخيرة. فالتظاهرات الكبرى التي شهدها لبنان خلال السنوات الماضية، وعلى الرغم من عديدها المرتفع نسبياً، إلا أنها لم تكن ترفع أي مطالب اجتماعبة أو سياسية ترتبط بالشؤون المطلبية للمواطنين، في حين أن التحركات المبنية على مطالب اجتماعية كانت محصورة وهامشية.
أما في الآونة الأخيرة، فالأمر اختلف ولو نسبياً. فـ«انتفاضة» السجون، في نيسان الماضي اندلعت على خلفية مطالب للمساجين بتحسين ظروف سجنهم والمطالبة بالحصول على عفو عام، وساهمت في إطلاق عجلة إصلاح السجون. وإلى جانب المكتسبات التي حققها السجناء لتحسين ظروف سجنهم، فإن مشاريع القوانين المقدمة لإصلاح السجون والمساهمات المالية المقدمة والوعود الإصلاحية خلال الفترة القصيرة الماضية يفوق ما قدم خلال السنوات العشرين الأخيرة التي تلت انتهاء الحرب الأهلية. كذلك كان لـ«انتفاضة» البناء التي أشعلها قرار الدولة هدم التعديات على الأملاك العامة بعد سنوات من الاستباحة وغياب رقابة الدولة، رمزية ينبغي التنبه إليها، آخذاً بعين الاعتبار دلالاتها التي تشير إلى أنها «انتفاضات ضد القانون» وليس «انتفاضات لتحقيق دولة القانون» وخصوصاً أن الذين تمردوا على القرار يعتبرون أن القانون الموجود يمثل زعماء الطوائف، ويوجد صعوبة كبيرة في التحرر منه. كذلك تبرز التظاهرات التي قامت بها مجموعات نسائية أمام دار الإفتاء للمطالبة برفع سن الحضانة، لتشكل أول تعبير لأشخاص ينتمون الى طائفة معينة يطالبون بحقوق شخصية وخاصة من الطائفة التي ينتمون إليها وليس من الدولة. أمّا التحرك الأوسع فتمثل في تظاهرات إسقاط النظام الطائفي، التي استلهمت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» من التحركات العربية.
وعلى الرغم من بروز هذه التحركات الاحتجاجية، قد يكون من الخطأ الرهان كثيرا على قدرتها على تحقيق التغيير لأن الهدف منها كان محاولة تحصيل حقوق محددة أكثر من محاولة العمل على تغيير قوانين أو إعادة بناء نظام جديد.
كذلك، فإن تظاهرات إسقاط النظام الطائفي التي شهدها لبنان طوال أسابيع لم تخضع لنفس نمط الاحتجاجات التي شهدتها الدول العربية. فبينما بدأت الأحداث في تونس ومصر محدودة ومن ثم توسعت حتى بلغت حد تهديد النظام نفسه، فإن التظاهرات في لبنان بدأت بزخم قوي ثم تراجعت. إذ واجهت مشاكل بين المنظمين وانقسمت، وصولاً إلى مرحلة نصب الخيام الفارغة.
وبما أن لبنان لم يشهد نفس نمط الاضطرابات التي شهدتها باقي دول المنطقة، والتي وصلت إلى تحدي أساس النظام وجوهره، يمكن القول إن لبنان لم تصله تداعيات الاحتجاجات العربية ولم يتأثر بها إلى المرحلة التي تتوحد فيها أعداد كبيرة من اللبنانيين وتخرج بعشرات الآلاف إلى الشوارع خلف مطلب تغيير النظام أو إسقاطه.
وتأسيساً على ذلك، يبقى السؤال الأهم: لماذا لم يحصل هذا الأمر في لبنان؟ ولماذا استطاع النظام بطريقة ما حتى الآن على الأقل امتصاص هذه التحركات؟ وفي السياق، يمكن القول إن لبنان يفتقد ثلاث إرادات لتغيير النظام اللبناني أو إصلاحه جديا وعميقا، أولاها عدم وجود إرادة داخلية جامعة وقوية لغاية الآن. فلا اقتناع شاملا لدى كل الطوائف في لبنان على التقدم خطوة في هذا المجال. وعدم اقتناع جميع الطوائف، يؤدي إلى إمكانية بروز مشاكل غير محصورة وإبراز هواجس لدى بعض الفئات اللبنانية من قبيل الخوف على المصير، وسيطرة طائفة دون أخرى على البلد. كما أنه لا قوة أقوى من الطوائف قادرة على أن تفرض رأيها بضرورة تغيير النظام أو تضغط باتجاه إلغائه.
كذلك يفتقد لبنان وجود إرادة إقليمية لدعم مشروع تغيير النظام وإصلاحه، بالإضافة إلى غياب الدعم الدولي لمثل هذه الخطوة. ولذلك من الصعب الحديث عن عملية تغيير أو إصلاح قوية في لبنان تنقل النظام من مكان لآخر، ولا سيما أنه في جميع المراحل التاريخية اللبنانية، لعبت الأطراف الإقليمية والدولية دوراً أساسياً في دفع اللبنانيين لتبني خطوات لم يكن من الممكن أن يتخذوها، بما في ذلك الإصلاحات التي تم الاتفاق عليها خلال الطائف.
يضاف إلى ما ذكر، أن النظام اللبناني، طائفي الطابع. وإن كان بالتأكيد يحتاج إلى إصلاح عميق، إلا أنه في الوقت نفسه يمتلك نوعاً من الشرعية على غرار الشرعية التي يمتلكها زعماء الطوائف فيه، ما يمنحهم دائما القدرة على التعبئة في وجه معارضي النظام الطائفي.
هذه التركيبة التي يقوم عليها النظام اللبناني، ولدت ديناميتين. الأولى ممثلة بضعف بنية الدولة بعدما غدت الطوائف أقوى من الدولة، إلى حد جعلت من النظام محيّداً بضعفه. وبسبب ضعف الدولة، تولدت تعددية في بنية النظام اللبناني، تسيطر فيها الطوائف وتحديداً زعماءها، وأصبح معها من المستحيل أن يتمكن زعيم واحد من السيطرة على مقاليد الحكم، ما يجعل من عملية إسقاط النظام اللبناني أصعب، على اعتبار أنه لا يملك رأساً محدداً لإسقاطه، على عكس الوضع في الدول العربية التي تشهد احتجاجات.
وبالتالي فإن النظام في لبنان، إذا ما قورن بالبناء في اليابان الذي يستخدم دعائم ضد الزلازل، فيمكن القول إنه يمتلك ما يكفي من الرخاوة التي تحميه وتمنعه من السقوط ولكنه يبقى نظاماً رخواً.
وتأسيساً على ذلك، لا ينبغي التعجب بنجاح النظام الطائفي في لبنان بامتصاص العديد من الديناميات والنزعات الإصلاحية، ولا سيما أن من يرغبون في تغيير النظام لا يمتلكون تصوراً واضحاً للسبيل الأنسب لتحقيق التغيير، وتحديد ما إذا كان الأفضل العمل على تحقيق ذلك عبر مسار تطوري للنظام «evolutionary» ينطلق من مؤسساته أو عبر مسار ثوري «revolutionary». المسار التطوري يفترض أن تتم محاولة تغيير النظام من خلال مؤسساته، التي هي طائفية بطريقة أو بأخرى، وذلك على غرار الخطوات التي أوصلت إلى اتفاق الطائف، وخصوصاً أن هذا المسار طويل ولا يتبع بالضرورة خطاً مستقيماً. كذلك فإن هذا الخيار يتطلب حتماً الأخذ بحسنات النظام الطائفي في لبنان وخاصة التعددية التي تضفيها على المشهد السياسي في لبنان ومحاولة تحييد أو إزالة السلبيات، وهو ما يمكن أن يتم عبر إعتماد إجراءات محددة كان قد مهد للبعض منها اتفاق الطائف مثل إنشاء الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية. أما الإجراءات الأخرى، فتتضمن مروحة واسعة من الأفكار، بينها اعتماد مبدأ مداورة المناصب الرئيسية في الدولة، اعتماد قانون انتخابي نسبي، خفض سن الاقتراع وتأمين استقلال القضاء وإصلاحه، والدفع باتجاه تبني قانون الزواج المدني... هذا التوجه يتطلب في الوقت نفسه خلق رأي عام بديل حيث يستيطع الأشخاص التفكير بعيداً عن الطائفية، وخصوصاً أن الإصلاح الذي من الممكن أن تتم المراهنة عليه هو الإصلاح الذي يأتي من الأسفل، لأنه من غير السهل التوقع أن السياسيين الحاليين يمتلكون القدرة على إقامة إصلاح من الأعلى، إلا بضغط كبير من الأسفل.
حتى وقتٍ قريب، لو أراد اللبنانيون النظر من حولهم إلى الدول العربية الأخرى والأنظمة فيها، لم يكن من الممكن الحديث عن بديل يمكن الاستفادة منه لتحسين النظام، لأن النظام اللبناني على الرغم من مساوئه العديدة بما في ذلك طائفيته كان في نظر الكثيرين أفضل بكثير مما توفره الأنظمة العربية الأخرى. وحتى اللحظة، لا يمكن القول إنه كنتيجة للانتفاضات العربية، من الممكن للبنانيين رؤية نماذج أفضل يمكن التعلم منها. فما حصل في مصر لم ينجز حتى الآن، إذ ان التغيير الذي حصل في رأس النظام لم يؤد إلى معرفة تماماً ما ستكون عليه طبيعة النظام المقبل، بالشكل الذي يسمح بالقول ما إذا ستكون محاولة الاستفادة منه الأفضل للبنان. كذلك هناك ما لم ينجز بعد، سواء في ليبيا، اليمن، البحرين، وحتى سوريا، ما يتطلب بالضرورة الانتظار حتى انتهاء عملية تشكل الأنظمة السياسية في هذه الدول لتحديد كيفية الأستفادة منها، من دون أن يمنع ذلك من إمكانية الاستفادة في نطاقات أخرى وتحديداً على صعيد الإصلاحات القضائية والحقوقية في تونس ومصر.
ففورة الحرية التي يعيشها القضاة في تونس حالياً، وتكوينهم مجموعات للتعبير عن آرائهم وكيفية تفاعلهم مع المجتمع انطلاقاً من أن الوظيفة الأساسية لهم في فترة ما بعد الثورة تتركز على عملية المحاسبة وتأمين حقوق المواطنين، تقدم دروسا يجب التعلم منها، لأن تهميش الحياة القضائية والحقوقية يعتبر من أكبر المشاكل التي يواجهها لبنان.
في مقابل وجوب انتظار لبنان اتضاح معالم الأنظمة العربية الجديدة، تبقى إمكانية تصدير لبنان لنظامه السياسي إلى الدول التي تشهد انتفاضات رهناً بمسار تطور الأوضاع فيها. وبقدر ما تنجح التحركات في هذه الدول في اكتساب حقوق أساسية جامعة بعيداً عن مبدأ المحاصصة بالقدر الذي يتراجع النموذج اللبناني المتمثل بنظامه الطائفي المؤسساتي. في حين أن العكس قد يجعل من النموذج اللبناني هو النموذج المقترح، وخاصةً في الدول التي لديها موزاييك طائفي حيث سعت الأنظمة فيها للبقاء في الحكم عن طريق تعميق الانقسامات.
للبحث تتمة
[ تقرير المركز اللبناني للدراسات، حزيران 2011.. وهو ملخص لنقاشات طاولة مستديرة شارك فيها د. مارتن بك، نزار صاغية، د. باسل صلوخ، د. طلال عتريسي، سامي عطاالله ومايكل يونغ. أعدت التقرير جومانا فرحات

“حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية تخاطر بالخروج عن السيطرة..

 الإثنين 15 نيسان 2024 - 9:21 م

“حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية تخاطر بالخروج عن السيطرة.. https://www.crisisgroup.org/ar/middle… تتمة »

عدد الزيارات: 153,392,017

عدد الزوار: 6,890,379

المتواجدون الآن: 92