نحو دستور تركي جديد يحدد سقف الديموقراطية في الشرق الأوسط

تاريخ الإضافة الخميس 23 حزيران 2011 - 6:43 ص    عدد الزيارات 771    التعليقات 0

        

نحو دستور تركي جديد يحدد سقف الديموقراطية في الشرق الأوسط
الاربعاء, 22 يونيو 2011
أنقرة - يوسف الشريف

في آخر برنامج حوار له قبل الانتخابات البرلمانية بيومين، كان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم رجب طيب أردوغان أمام صحافيي قناة «أن تي في» الإخبارية التركية، وفي ختام ذلك اللقاء الذي مر في جو من الديبلوماسية والسلاسة بعيداً عن الأسئلة المحرجة، توقف الصحافي روهشان شاكر - أحد المشاركين في تقديم البرنامج - ليقول لأردوغان أن المدرس المتقاعد الذي توفي اثر نوبة قلبية بسبب الغاز المسيل للدموع الذي استخدمته الشرطة التركية بإفراط شديد لتفريق تظاهرة ضد موكبه في مدينة هوبا قرب ساحل البحر الأسود قبل أسبوعين، كان رجلاً طيباً وقريباً له، وأن جميع معارف ذلك المدرس المتقاعد وأصدقائه انزعجوا كثيراً من تعليقه على حادثة موت ذلك الرجل بشكل مستهزئ وغير مبال، وكأن الرجل كان يستحق الموت خنقاً بتلك الصورة البشعة لأنه خرج في تظاهرة ضده، وبمقدار ما كان ذلك الموقف محرجاً في ختام البرنامج الحواري بمقدار ما شكل فرصة لأردوغان كي يحسن من صورته أمام شريحة مهمة من الناخبين وهم اليساريون، لكن الصحافي شاكر فشل في دفع أردوغان للترحم على المدرس الميت أو قول أي كلمة تنم عن أسفه عن موت ذلك الرجل على يد رجال حمايته، وبدلاً من ذلك توقف أردوغان عند رجل الأمن الذي يرقد في غيبوبة بعد سقوطه من الحافلة التي كانت تقله بسبب انطلاق سائقها بسرعة مفاجئة للهروب من التظاهرة التي رشقت الباص بالحجارة.

هنا بدا أن أردوغان يتعاطف فقط مع الذين يقفون في صفه، لكنه لا يكن أي مودة لأولئك الذين يخالفونه الرأي، لدرجة أنه يرفض حتى أن يترحم على من توفي منهم، ما يدفع للتساؤل: هل يمكن لهذا الرجل أن يحتكر هو وحزبه خط الدستور الجديد لتركيا الذي من المفترض أن يحتوي مختلف التوجهات السياسية والفكرية ويرسم مستقبلها السياسي، والاعتقاد بأنه سيأخذ في الاعتبار رأي الآخر ومطالبه ويحترمها حتى بعد حصوله على نصف أصوات الناخبين في انتخابات تشريعية، يقول منافسوه فيها إنه فاجأهم بأسلوب بعيد من اللياقة والأعراف السياسية في الدعاية الحزبية، إذ لم يتردد أردوغان عن ضرب منافسيه تحت الحزام مستعيناً بفضائح القوميين الجنسية التي نشرت على الإنترنت، ومشهراً بهوية غريمه كيليجدار أوغلو الطائفية العلوية، وهي مخالفات أقر بها أردوغان بعد فوزه طالباً العفو والسماح؟

احتكار الدستور الجديد

يخطئ كثيرون في ظنهم أن عدم حصول حزب العدالة والتنمية الحاكم على 330 مقعداً في البرلمان الجديد سيثني زعيمه رجب طيب أردوغان عن التفكير في فرض دستور جديد على مقاسه للاستفتاء المباشر من دون الأخذ برأي المعارضة، فأردوغان قد يسعى إلى ذلك راغباً أو مضطراً، ولن تقف في طريقه المقاعد البرلمانية الأربعة التي يحتاجها للوصول إلى رقم 330 الذي يسمح له بطرح أي مشروع دستوري على استفتاء شعبي مباشرة، فالتصويت السري على أي مشروع كهذا في البرلمان سيمكنه من الحصول على أربعة أصوات من المستقلين أو من أحزاب المعارضة من خلال صفقة ما أو تأييد خفي.

وراء هذا الطرح أسباب عدة، الأول هو أن تجارب أردوغان السابقة أظهرت بأن صبره قليل في الحوار مع المعارضة، وأنه سريعاً ما يتجاوزها للذهاب إلى الشارع والاحتكام إليه، وقد لا يبدو ذلك مشكلة طالما أن الشارع هو الحكم الأخير في أي تشريع، لكن حزب العدالة والتنمية اكتسب خبرة في فنون السياسة ومكرها بحيث اصبح يستطيع استخدام الديموقراطية بالشكل الذي يناسبه، تماماً مثلما حدث في استفتاء أيلول (سبتمبر) الماضي على عدد من التعديلات الدستورية، حين تجاوز أردوغان ملاحظات المعارضة واعتراضاتها وضاق ذرعاً بها، وذهب مباشرة إلى الاستفتاء الشعبي بعد توفيره 330 صوتاً من حزبه للموافقة على مسودة التعديلات أولاً. وفي التصويت الشعبي لم يسمح للناخب بالاختيار أو الموافقة على جزء من التعديلات ورفض جزء آخر، وإنما طرحها في سلة واحدة، فأما أن يوافق الناخب عليها جميعاً بحلوها ومرها أو أن يرفضها كلها، وهو ما أثار نقاشاً حاداً في حينه، أدى إلى تراجع نسبة التأييد لتلك التعديلات من 80 إلى 58 في المئة فقط، احتجاجاً على الأسلوب الذي ساقه اردوغان على أنه الديموقراطية في أحلى صورها، حيث كان بين تلك التعديلات مواد لا تتفق مع الديموقراطية وفق وجهة نظر سياسيين ونخب يسارية. ولا يوجد ضمان اليوم بعدم تكرار التجربة ذاتها وبالأسلوب نفسه، فنظرية القوى الناعمة التي يتحدث عنها وزير الخارجية احمد داود أوغلو واصفاً السياسة الخارجية التركية الجديدة، تبدو مطبقة أيضاً في السياسة الداخلية للحزب الحاكم، الذي يقدم للناخب إصلاحات سياسية مهمة، لكنها مدمجة في سلة واحدة مع قوانين تزيد من هيمنته وسيطرته على مفاصل الدولة التي يفترض أن تكون حيادية في أي نظام ديموقراطي.

في هذا الإطار يقول المقربون من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إن في نتيجة الانتخابات التشريعية التي حصد فيها حزبه خمسين في المئة من الأصوات مؤشراً إلى ثلاثة أمور مهمة، الأول أن الشعب بات يثق تماماً بسياسات أردوغان ولا يصغي إلى الاتهامات الموجهة له بالسعي إلى هدم العلمانية أو إقامة دولة دينية، والثاني أن الشعب أشار من الآن إلى موافقته على صعود أردوغان إلى رئاسة الجمهورية في الانتخابات المقبلة، والثالث أن الشعب أوكل لحزب العدالة والتنمية الحاكم أمر تحضير دستور جديد وأنه يثق بطروحاته أكثر من بقية الأحزاب الأخرى. لكن ما ينساه هؤلاء أو يتناسونه أن أردوغان خلق استقطاباً سياسياً في تركيا مفاده «أنا ومن ثم البقية الباقية»، وأن بقية الأحزاب الثلاثة التي في البرلمان رغم كل اختلافاتها تتفق على مشترك واحد هو التصدي لطروحات أردوغان وسياساته، ما يعني أن انتصارات أردوغان المتكررة وسياساته المتحدية خلقت جبهة رفض تشكل في مجموعها الخمسين في المئة الثانية من الأصوات، فهؤلاء الذين يصوتون للحزب القومي أو الأتاتوركي أو الكردي، غالبيتهم تصوت لهم احتجاجاً على سياسة اردوغان وليس لهدف سياسي يؤمنون به أو لنجاحهم في تسويق أفكارهم.

باختصار فإن انتصار أردوغان في الانتخابات والذي يجب تهنئته عليه واحترامه وتقديره في عالم السياسية (بل دراسته كظاهرة سياسية جديدة وفريدة)، أحمد داود أوغلو (رويترز).jpg لا يعني ولا يسمح له باحتكار مستقبل تركيا السياسي كما يعتقد المقربون منه، وأنه على رغم كسبه نصف أصوات الناخبين، فإنه على عداء واضح لا هدنة فيه مع النصف الثاني.

أسباب الفوز والتميز

يشبّه عدد من الكتاب والصحافيين الأتراك أردوغان برئيس مجلس إدارة شركة ناجح، وهو يستحق هذا التشبيه عن جدارة، فحملته الانتخابية ركزت على مشاريع ضخمة اقتصادية وإنمائية وإنشائية، وهو من خلال شبكة علاقاته مع رؤساء وزعماء دول العالم استطاع فتح العديد من الأسواق للتجار وأصحاب الشركات الأتراك للعمل في الخارج، كما أدار حملته الانتخابية بأسلوب علمي واستطاع أن يروج لمشاريعه بشكل واضح وراسخ، وهنا تجب الإشارة إلى أن الإعلام في تركيا لعب دوراً مهماً في مساعدته وإن جهوده للسيطرة على أكبر عدد من وسائل الإعلام قد أثمر، حتى أن عدد وسائل الإعلام التي استطاعت أن تتجرأ وتعلن انتقادها لحزب العدالة والتنمية الحاكم كان أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، وذلك بعد سقوط صحيفة راديكال اليسارية - كمثال أخير - في قبضة جماعة فتح الله غولان الدينية المتحالفة مع اردوغان، ما أدى إلى استقالة العديد من كتابها الجريئين والناقدين لسياسة الحكومة وتحول الصحيفة إلى الخط اليميني الموالي. كما أن الحملة الدعائية للحزب كانت الأكثر سخاء في تاريخ الجمهورية. استطاع أردوغان رفع شعبية حزبه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من 38 إلى 50 في المئة من خلال كاريزماه وحملته الانتخابية، بل استطاع اقتحام قلاع العلمانية في الساحلين الجنوبي والغربي، إذ ركز أردوغان على تلك المناطق التي رفضت التصويت له خلال الانتخابات السابقة، من أجل تأكيد أن حزبه يمثل تركيا بكل تنوعها السياسي والجغرافي والمناطقي، تمهيداً للقول إن ذلك يعطي حزبه الحق في أن تكون له اليد العليا في صياغة الدستور الجديد، لكن المعارضة استطاعت أيضاً أن تدخل مناطق كانت محظورة عليها مثل حزب الشعب الجمهوري الذي دخل المناطق الكردية للمرة الأولى منذ 18 سنة، كما أن الأكراد حققوا نتائج أفضل في جنوب شرقي تركيا على حساب أردوغان ورفاقه هناك.

ولكن، في النهاية، فإن الناخب التركي صوت للاستقرار السياسي الذي افتقده لسنين طويلة ووجده مع حزب العدالة والتنمية، وصوت لتحسن الاقتصاد الذي عمل عليه الحزب الحاكم بجدية، وإن كانت المعارضة تشير إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي من جديد دليل على استخدام الحزب الحاكم للديموقراطية بالطريقة التي تناسبه هو والتحايل أحياناً على بعض قوانينها، وهي أن الحزب ربط شريحة واسعة من الفقراء بدعم مالي واقتصادي لا يتوافق مع نظام الاقتصاد الليبرالي الذي يطبقه، إذ أنه على رغم ارتفاع نسبة البطالة التي قاربت 12 في المئة، وزيادة عدد العائلات المعوزة والمحتاجة، فإن المعونات المالية والعينية التي تقدمها الحكومة لشريحة واسعة من هؤلاء من موازنة الدولة، تبقيهم مدمنين على هذه الحكومة وسياساتها، خصوصاً أن الولاة في المحافظات الذين يفترض أن يكونوا على الحياد وغير تابعين للحكومة أو لحزب بعينه، يتصرفون كأنهم اتباع للحكومة والحزب وفي خدمة أنصاره، وهو ما تنتقده المعارضة بشدة.

لكن ذلك لا ينفي عمل الحزب بجدية على الصعيدين السياسي والاقتصادي خلال السنوات الثماني الماضية، ولكن أيضاً فإن الشعور ترسخ أيضاً بأن الحزب يساعد فقط من يصوت له ولا يلتفت إلى احتياجات المعارضين، وكمثال فإن خط المترو في العاصمة أنقرة لم يصل إلى المناطق التي لا تصوت للحزب في الانتخابات البلدية، على رغم أن المخطط الأصلي كان يفترض افتتاح هذا الخط قبل أربع سنوات.

فوز كردي كبير ووداع للحلم الأوروبي

عندما خرج قياديون من حزب السلام والديموقراطية إلى الشارع بعد الانتخابات وأعلنوا أن فوز نوابهم على لوائح المستقلين يعتبر نجاحاً للحركة القومية الكردية وحزب العمال الكردستاني، فإنهم أزعجوا الكثيرين من حولهم، لكنهم كانوا يقولون ما يعرفه الجميع ويحاول التستر عليه، فالأكراد رفعوا عدد نوابهم في البرلمان من 20 إلى 36 وهو نجاح مهم وكبير، خصوصاً في الوقت الذي تحرم العتبة الانتخابية الأكراد من الدخول إلى البرلمان كحزب بسبب عدم حصول حزبهم «السلام والديموقراطية» على نسبة العشرة في المئة من مجموع الأصوات. وجاء هذا الفوز على حساب شعبية أردوغان في الشارع الكردي التي تراجعت بسبب انتهاجه خطاً قومياً في حملته الانتخابية، في محاولة منه لإقصاء القوميين من البرلمان وكسب مقاعدهم، لدرجة أنه تراجع في إحدى خطبه الانتخابية عن الاعتراف بوجود قضية كردية في تركيا، ليعود ويصحح قوله لكن بعد فوات الأوان.

هذا التقدم الذي أحرزه الأكراد سيقوي من موقف عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التفاوضي مع الاستخبارات التركية من سجنه في جزيرة إمرالي، حول شروط ترك عناصر الحزب للسلاح والثمن السياسي لحل القضية الكردية سلمياً، خصوصاً مع اقتراح زعيم المعارضة كمال كيليجدار أوغلو إعطاء الأكراد حكماً ذاتياً، حتى لو جاء الوعد في إطار حكم إداري وليس مبنياً على حل اثني جغرافي كما في العراق. كما أن رياح التغيير التي تهب على العالم العربي سيكون لها تأثيرها في القضية الكردية عموماً وفي تركيا أيضاً، خصوصاً مع طرح حزب العدالة والتنمية نفسه نموذجاً للتحول الديموقراطي السلمي في المنطقة، وما سيرتب عليه العمل بشكل أسرع من أجل حسم هذه القضية والالتفات إلى تداعيات الثورات العربية التي باتت تطرق باب تركيا أمنياً واجتماعياً بعد الاحتجاجات الشعبية في سورية.

في المقابل تجب ملاحظة غياب الحلم الأوروبي عن الحملات الانتخابية وعن مشاريع الأحزاب السياسية المستقبلية، بل حتى غيابه عن النقاشات الشعبية والإعلامية، إذ يبدو أن العضوية في الاتحاد الأوروبي أصبحت خارج نطاق التداول، عدا حالات الاستهزاء بوضع الاتحاد الأوروبي المالي والجار اليوناني تحديداً، فبعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاتحاد، واستمرار سياسات ساركوزي - مركل الرافضة منح تركيا عضوية كاملة وطرح صيغ بديلة، خفت بريق الاتحاد الأوروبي وجاذبيته، خصوصاً أن تركيا حققت المطلوب من معاييره في السياسة والاقتصاد وارتقت بديموقراطيتها واقتصادها إلى مستوى الاتحاد حيث أصبحت صاحبة أقوى سادس اقتصاد فيه، ومع انشغال سياسة تركيا الخارجية بشؤون الشرق الأوسط ونجاحها أردوغان في الحملة الانتخابية (رويترز).jpg في تثبيت أقدامها فيه، فمن الواضح أن الفترة البرلمانية الجديدة سيطغى عليها انغماس تركيا بشؤون جيرانها العرب وإيران، وهنا يخشى اليساريون أن يتعلم أردوغان من حكام الشرق الأوسط عادات جديدة، بدلاً من أن يصدر تجربته الديموقراطية اليهم. صحيح أن تركيا ما عادت بحاجة إلى المعلم الأوروبي الذي دربها على دروس الديموقراطية وحقوق الإنسان في السنوات العشر الأخيرة، إلا أن الاتحاد الأوروبي بقي المعيار والحكم بين الأحزاب التركية والسقف الذي يسعى إليه السياسيون المتنافسون على الحكم، وها هو الاتحاد الأوروبي يغيب عن الأجندة والتداول، ليتم الحديث اليوم عن الديموقراطية التركية الناشئة على أنها السقف الجديد للديموقراطية في الشرق الأوسط، وهو ما قد ينعكس سلباً على محاولة كتابة دستور جديد، على الأغلب سيعتبر أردوغان نفسه وحزبه وناخبيه الحكم الوحيد في التصويت عليه.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,233,913

عدد الزوار: 6,941,500

المتواجدون الآن: 134