الاحتجاجات الشعبية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط (5): فهم الصراع في ليبيا

تاريخ الإضافة الأحد 19 حزيران 2011 - 8:52 ص    عدد الزيارات 760    التعليقات 0

        

 

الاحتجاجات الشعبية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط (5): فهم الصراع في ليبيا
 
Middle East and North Africa Report N°10717 يونيو 2011
ملخص تنفيذي
تنشأ طبيعة الأزمة الليبية اليوم من الأثر المعقّد لكن غير الحاسم حتى الآن للتدخل العسكري الذي تم بتفويض من الأمم المتحدة والذي يقوده رسمياً الآن حلف شمال الأطلسي. وقد تحولت هذه الأزمة فعلياً إلى حرب أهلية. لقد أدى تدخل حلف شمال الأطلسي إلى إنقاذ الطرف المعادي للقذافي من هزيمة فورية لكنه لم يحسم الصراع لصالح هذا الطرف. رغم أن الحجج التي سيقت لتبرير هذا التدخل تمثلت في حماية المدنيين، فإن أعداداً كبيرة من هؤلاء المدنيين باتوا ضحايا لهذه الحرب، سواء كقتلى أو كلاجئين، في حين أن حكومات الدول الغربية الكبرى التي تدعم حملة الحلف لا تخفي حقيقة أن هدفها هو تغيير النظام. النتيجة على الأرض وبحكم الأمر الواقع هي أن البلد انقسم بين الشرق الذي تسيطر على معظمه المعارضة والغرب الذي يسيطر النظام على معظمه مع تصلّب مواقف الطرفين وتحولهما إلى كيانين سياسيين واجتماعيين واقتصاديين متمايزين. ونتيجة لذلك فمن المستحيل فعلياً على التيار المناصر للديمقراطية، والرأي العام الذي يُعبَّر عنه في معظم أنحاء ليبيا (وطرابلس على وجه الخصوص) التعبير عن نفسه وأن يكون طرفاً مؤثراً في المعادلة السياسية.
في نفس الوقت، فإن الحملة العسكرية الطويلة، وما ترتب عليها من عدم استقرار، تشكّل تهديدات استراتيجية لجيران ليبيا. فإضافة إلى التسبب بأزمة لاجئين على نطاق واسع، فإنها تزيد من مخاطر تسلل القاعدة في المغرب الإسلامي، حيث تتواجد شبكات نُشطائها في الجزائر، ومالي والنيجر. كل هذا، مضافاً إليه المرارة المتنامية لدى الطرفين، سيشكّل إرثاً ثقيلاً لأية حكومة تأتي بعد نظام القذافي.
هكذا، وكلما استمر الصراع العسكري في ليبيا لفترة أطول كلما ازدادت مخاطر تقويض الأهداف المعلنة للمعسكر المعادي للقذافي. رغم ذلك، وحتى الآن، فإن قيادة هذا الطرف وداعميه في حلف الأطلسي يبدون غير مهتمين بتسوية الصراع من خلال المفاوضات. إن إصرارهم، كما فعلوا حتى الآن، على رحيل القذافي كشرط مسبق لأية مبادرة سياسية من شأنه أن يُطيل من أمد الصراع العسكري وأن يعمّق الأزمة. بدلاً من ذلك، ينبغي أن تعطى الأولوية للتوصل إلى وقف إطلاق النار والشروع في المفاوضات حول كيفية الانتقال إلى نظام سياسي يحل محل نظام القذافي.
على عكس الأحداث في تونس ومصر المجاورتين، فإن المواجهة التي بدأت في أواسط شباط/فبراير بين حركة الاحتجاجات الشعبية ونظام القذافي اتبعت منطق الحرب الأهلية منذ مراحلها الأولى، ومرد ذلك إلى تاريخ البلاد وبشكل رئيسي إلى الطبيعة الفريدة للنظام السياسي الذي أوجده العقيد القذافي ورفاقه في سبعينيات القرن العشرين. في حين أن مصر وتونس كانتا دولتين راسختين قبل استلام الرئيسين مبارك وبن علي للسلطة في عامي 1981 و1987 على التوالي، بحيث كان هناك وجود للدولة مستقلٌ عن حكمهما الشخصي ويمكن أن يستمر بعد رحيلهما، فإن العكس كان صحيحاً في الحالة الليبية. ونتيجة لذلك، فقد اتخذ النزاع شكل صراعٍ عنيفٍ يفضي إلى الحياة أو الموت.
بعد ثماني سنوات من الإطاحة بالنظام الملكي في عام 1969، أسس القذافي الجماهيرية ("دولة الجماهير") والتي تشكل إلى حدٍ كبير كياناً شخصياً يعتمد بشكل أساسي على حكمه. يتمثل أحد المبادئ التأسيسية للجماهيرية الليبية في المقولة التي يُعلنها الكتاب الأخضر والتي تقول بأن "التمثيل تدجيل" وبعدم السماح بأي تمثيل سياسي رسمي. في حين أن جميع دول شمال أفريقيا الأخرى كانت تدافع لفظياً على الأقل عن الحق في التمثيل السياسي و كانت تسمح بالأحزاب السياسية بشكل ما، رغم أن هذا التمثيل لم يكن مرضياً، فإن الجماهيرية لم تكن تسمح بأية أحزاب سياسية على الإطلاق، وكانت محاولات تأسيس أحزاب سياسية تعتبر خيانة. وقد ترتب على هذا الرفض الحاسم لمبدأ التمثيل إعاقة تطور أي شيء يشبه مؤسسات المجتمع المدني الرسمية والفعّالة. جدير بالذكر أن التعبير عن آراء ورؤى أيديولوجية متنوعة ووجود تيارات سياسية مختلفة، مما سمحت به دول شمال أفريقيا إلى حد ما على الأقل، كان محظوراً في ليبيا.
وقد كانت إحدى التبعات المصاحبة الأخرى لهذا المستوى المتدني من المأسسة اعتماد النظام على التضامن القبلي في بناء سلطته. لقد كانت المناصب الاستراتيجية داخل هيكلية السلطة – خصوصاً قيادة الوحدات الأكثر ولاءً في قوات الأمن – في يد أعضاء أسرة القذافي نفسها، وعشيرته وقبيلته وغيرها من القبائل المتحالفة معها على نحو وثيق. وفي نفس الوقت، وخصوصاً منذ أواخر الثمانينيات، ظلت قوات الجيش النظامية ضعيفة، وتفتقر إلى الرجال والعتاد، ولا تحظى بالثقة.
 
تساعد هذه السمات المختلفة للنظام السياسي في تفسير منطق الحرب الأهلية الذي ترسخ بسرعة بعد المظاهرات الأولى. لم تكن المطالب التي طرحت في الأيام الأولى لحركة الاحتجاج بوجوب رحيل القذافي تنطوي فقط على رحيله وتغيير النظام، بل على إسقاط وانهيار كامل للنظام الذي أسسه. إن التمييز بين الدولة من جهة والنظام من جهة أخرى، وهو ما كان حاسماً في تمكين الجيشين التونسي والمصري من العمل كقوى حيادية عازلة وكوسطاء في الصراع بين الشعب والرئاسة، كان أمراً مستحيلاً في الحالة الليبية.
ما من شك في أن الجماهيرية قد أصبحت نظاماً بائداً وأن شكلاً مختلفاً جداً للدولة – شكل يسمح بالحريات السياسية والمدنية – من شأنه أن يشكل نقطة البداية لإرضاء الرغبة الجامحة التي يعبر عنها الليبيون لإقامة حكومة تمثيلية وخاضعة للقانون. رغم ذلك، لم يكن أحد يتصور بأن من السهل العثور على مخرج من المأزق التاريخي الذي أوجده القذافي.
لقد كانت الثورة وما أعقبها من مجهود عسكري غير منظمة نسبياً. في حين حقق المجلس الوطني الانتقالي – وهو المؤسسة التي شُكلت لحكم المناطق التي تسيطر عليها المعارضة – بعض التقدم في بناء هيكليات سياسية وعسكرية في الشرق، فمن غير المحتمل إطلاقاً أنه اكتسب أو يمكن أن يكتسب القدرة على الاضطلاع بحكم البلاد بأسرها. إن الافتراض بأن الوقت يلعب لصالح المعارضة وأن النظام سرعان ما سيصبح دون ذخيرة أو وقود أو نقود (أو أنه سيفقد رأسه نتيجة عمليات القصف أو ستتم الإطاحة به من قبل الدائرة الضيقة المحيطة به) ما هو إلاّ محاولة لاستبدال عملية صنع السياسات على نحو جديّ بالتفكير الحالم والأمنيات. رغم أن مثل هذه التنبؤات قد تحدث – ومن الصعب تقييم أو تقدير موارد القذافي في غياب التقديرات التي يمكن الركون إليها – فإن الوقت لا يلعب بالتأكيد لصالح الشعب الليبي.
بالنظر إلى التكاليف السياسية والبشرية المتصاعدة، فإن التقييمات التي تقول بأن الاستمرار في الحملة العسكرية الحالية أو زيادة الضغوط ستجبر القذافي على الرحيل بسرعة تعكس رفضاً لإعادة النظر بالاستراتيجية الحالية والتفكير ببدائل أخرى غير التصعيد العسكري. لكن حتى في حال استمرار التصعيد واحتمال مواجهة النظام لهزيمة عسكرية ساحقة، فسيكون من التهوّر تجاهل احتمال ألاّ تكون الحصيلة تحوّلاً إلى الديمقراطية بل فراغاً طويلاً يمكن أن يُفضي إلى تبعات سياسية وأمنية خطيرة على جيران ليبيا وكذلك إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الخطيرة أصلاً.
إن استمرار المواجهة العسكرية سيؤدي إلى ارتفاعٍ في عدد الضحايا وانتشارٍ أكبر للدمار، وتعمق الانقسام الحاصل في البلاد، وزيادة مخاطر تسرب المتشددين الجهاديين. ستسوء الأحوال الاقتصادية والإنسانية في المناطق التي لازالت تحت سيطرة النظام الليبي، كما سيزداد العبء الاقتصادي وكذلك الأعباء السياسية والأمنية على جيران ليبيا، وهي أعباء بالتأكيد لا يرحب بها هؤلاء الجيران ولا يستحقونها. إن الآفاق المستقبلية لليبيا وأيضاً لشمال أفريقيا بشكل عام تُعتبر غير مبشرة ما لم يتم العثور على وسيلة لإقناع طرفي الصراع المسلح بالتفاوض والتوصل إلى تسوية تسمح بالانتقال المنظم إلى دولة ما بعد القذافي وما بعد الجماهيرية وتحظى بالمشروعية في نظر الشعب الليبي.
إن تحقيق اختراق سياسي هو أفضل الطرق على الإطلاق للخروج من الأوضاع المكلفة التي أفضى إليها المأزق العسكري. سيتطلب هذا وقفاً لإطلاق النار، ونشر قوات حفظ السلام لمراقبة وضمان وقف إطلاق النار بموجب تفويض من الأمم المتحدة، والشروع فوراً في مفاوضات جديّة بين ممثلي النظام والمعارضة للتوصل إلى اتفاقية بشأن التحول السلمي إلى نظام سياسي جديد وأكثر شرعية. من شبه المؤكد أن مثل هذا الاختراق يتطلب مشاركة طرف ثالث أو أطراف ثالثة تكون مقبولة للجانبين. ويمكن اعتبار مبادرة سياسية مشتركة بين الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي – الأولى تحظى بموافقة المعارضة والثاني يحظى بموافقة النظام – إحدى الإمكانات المحتملة التي من شأنها أن تُفضي إلى هذا الاتفاق. ويمكن لهذه المبادرة أن تبني على الجهود التي بذلها الاتحاد الأفريقي والمبعوث الخاص للأمم المتحدة، عبد الإله الخطيب. لكن لا يمكن حدوث أي اختراق دون أن تقوم قيادة الثورة وحلف شمال الأطلسي بإعادة النظر بموقفهما الحالي.
إن المطلب الذي يعلنونه بشكل مستمر بوجوب "رحيل القذافي" يؤدي إلى خلط منهجي بين هدفين مختلفين. إن الإصرار على ألاّ يكون للقذافي دور في النظام السياسي لمرحلة ما بعد الجماهيرية شيء، وهو أمر من شبه المؤكد أنه يعكس رأي غالبية الليبيين وكذلك العالم الخارجي. لكن الإصرار على رحيله الآن كشرط مسبق لأية مفاوضات، بما في ذلك المفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، يعني جعل هذا الموقف أمراً مستحيلاً وبالتالي يجعل من استمرار الصراع المسلّح أمراً محتوماً. إن الإصرار على أن يغادر البلاد وأن يواجه المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية يعني أنه سيبقى في ليبيا حتى النهاية وأنه سيستمر في القتال حتى تلك اللحظة.
 
وحده التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار ينسجم مع الهدف الذي أُعلن عنه في الأصل لتدخل حلف شمال الأطلسي وهو حماية المدنيين. أما حجة أن القذافي لم يوقف إطلاق النار فهي تتجاهل حقيقة أن قرار مجلس الأمن رقم 1973 لم يجعل مسؤولية تحقيق وقف إطلاق النار محصورة في طرف واحد وأن ما من وقف لإطلاق النار يمكن المحافظة عليه ما لم يلتزم به الطرفان. أما الشكوى من أن القذافي لا يمكن الوثوق به فهي شكوى يمكن أن تنطبق على أي عدد من القادة والزعماء على أحد طرفي أي حرب أهلية. الطريقة المناسبة للتعامل مع هذه القضية تتمثل في توفير الظروف السياسية - من خلال بذل الجهود الدبلوماسية المتظافرة للتوصل إلى إجماع دولي قوي يدعم التوصل إلى وقف إطلاق فوري وغير مشروط والشروع في المفاوضات الجادة – مما سيعزز من احتمال التزام القذافي بتعهداته.
ولذلك ينبغي أن يكون هناك عدة مبادئ لتوجيه البحث الفوري للتوصل إلى تسوية تفاوضية تتمثل فيما يلي:
وساطة تقوم بها أطراف ثالثة موثوقة من قبل الجانبين، ربما مقترح مشترك من قبل الاتحاد الأفريقي/الجامعة العربية؛
وقف إطلاق نار يتم على مرحلتين – أولاً، إعلان مشترك للهدنة بين النظام والمجلس الوطني الانتقالي للموافقة على قضايا مثل موقع خطوط السلام، ونشر قوات حفظ سلام وإيصال المساعدات الإنسانية؛ وثانياً، إعلان مشترك لوقف القتال وإعلان بدء المحادثات حول شكل وبرنامج الانتقال إلى دولة ليبية جديدة؛
ضمان ألاّ يُفضي وقف إطلاق النار فقط إلى وقف القتال بل أن يؤدي مباشرة إلى المفاوضات السياسية بين المجلس الوطني الانتقالي ونظام القذافي؛
التمييز بوضوح بين "رحيل" القذافي – بمعنى أن يتوقف عن الاضطلاع بأي دور سياسي أو سلطة – بوصفه أحد عناصر الحصيلة السياسية المتوخاة و "رحيله" فوراً، كشرط مسبق لما عداه؛
الإعلان بوضوح ومنذ البداية بأن لا القذافي ولا أيٍّ من أبنائه سيتولى أي منصب سواء في حكومة ما بعد الجماهيرية أو في الإدارة المؤقتة طوال المرحلة الانتقالية؛
الإعلان بوضوح بأن جميع الليبيين، بمن فيهم أولئك الذين خدموا حتى الآن في نظام القذافي، سيتمتعون بحقوق مدنية متساوية، بما في ذلك الحق في التمثيل السياسي، في دولة ما بعد الجماهيرية؛
أن يُعرض على القذافي بديل غير المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية؛
الإعلان بوضوح أن أية دولة في مرحلة ما بعد الجماهيرية ستقوم على مؤسسات حقيقية تقوم بوظيفتها على أكمل وجه؛ وأن تكون محكومة بسلطة القانون؛ وأن تضمن بوضوح مبدأ التمثيل السياسي، وهو ما يعني التعددية السياسية الحقيقية.
من الواضح أن الصراع الحالي يمثل خلجات موت الجماهيرية. أما ما إذا كان ما سيأتي بعدها سيحقق آمال الليبيين في الحرية والحكومة الشرعية فهو يعتمد بدرجة كبيرة على متى وكيف سيرحل القذافي. وهذا بدوره يعتمد على كيفية استبدال الصراع المسلح بالمفاوضات السياسية التي ستسمح للاعبين السياسيين في ليبيا، بما في ذلك الرأي العام الليبي بمجمله، بمعالجة الأسئلة الجوهرية المتعلقة بتعريف المبادئ المكونة لدولة ما بعد الجماهيرية والاتفاق على طرق العمل والمؤسسات الانتقالية في مرحلة التحول، ومدى سرعة تحقق ذلك. إن مسؤولية المجتمع الدولي عن المسار الذي ستتخذه الأحداث مسؤولية كبيرة للغاية. فبدلاً من التشبث بعناد بالسياسة الراهنة والمخاطرة بأن تؤدي إلى فوضى خطيرة، ينبغي له أن يتحرك الآن للتوسط من أجل التوصل إلى تسوية تفاوضية للحرب الأهلية ومن أجل بداية جديدة للحياة السياسية الليبية.
القاهرة/بروكسل، 6 حزيران/يونيو 2011

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,697,397

عدد الزوار: 6,909,061

المتواجدون الآن: 106