الوجود المسيحي في المشرق العربي: من الشراكة إلى الاضمحلال·· فخسارة معطى اقتصادي وثقافي ووطني

تاريخ الإضافة الأربعاء 4 أيار 2011 - 6:49 ص    عدد الزيارات 995    التعليقات 0

        

الوجود المسيحي في المشرق العربي: من الشراكة إلى الاضمحلال·· فخسارة معطى اقتصادي وثقافي ووطني
الدكتور عبد الرؤوف سنّو

 


 
 تتناول هذه الورقة أوضاع المسيحيين في بلدان المشرق العربي، وتحاول الإجابة على أسئلة عدة أهمها: هل يتمتع المسيحيون بكامل الحقوق كمواطنين أسوة بالمسلمين؟ هل يتعرضون بالفعل لاضطهاد الدولة والمجتمع؟ لماذا يكون المسيحيون ضحايا ردات فعل إسلامية متعصبة لا تميّز بينهم وبين الغرب وسياساته؟ هل يوجد تعصب في أوساط المسيحيين؟ وأخيراً، هل هناك أمل في أن تؤدي الانتفاضات في العالم العربي على الأنظمة القمعية إلى إعادة دمج المجتمعات العربية على أساس مدني - وطني بعيداً عن الطائفية السياسية والمجتمعية الهدامة؟

إشكاليات التعايش الصعب عرف العرب في المشرق العربي "الآخر" بصورة أجناس وعقائد وثقافات مختلفة· فكان هناك "الآخر" اليهودي، والمسيحي المحلي، والصليبي، والبيزنطي، والفارسي، والمغولي الخ··· ومن بين كل هؤلاء، كان المسلمون أكثر التصاقاً بالآخر المسيحي المحلي، نظراً إلى أن المنطقة التي افتتحوها في مصر وبلاد الشام والعراق كانت في الأصل نصرانية، إلى جانب حاجة الدولة الإسلامية إلى خبرات النخب المسيحية في الإدارات وفي عملية النهوض بالحضارة الإسلامية والنهضة العلمية·

ومن الثابت، أن المسيحيين كانوا قبل الإسلام واستمروا معه جزءاً أساسياً من نسيج مجتمعاتهم العربية، لهم إسهاماتهم الجليلة في إنتاج الحضارة العربية الإسلامية، حتى أنهم اعتُبروا بوابة الإسلام ووسائطه على الغرب وحضارته· وعندما كان الحديث يتناول في الماضي وفي الماضي القريب أوضاعهم في المشرق العربي، كان يتركز حول دورهم المحوري في صناعة الشخصية المشرقية -العربية وإسهاماتهم في النهضة العربية، سواء من حيث الثقافة والتربية، أو من حيث الاقتصاد والاجتماع، أو من حيث التزامهم بقضايا أمتهم·

أما اليوم، وفي ظل الأوضاع التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، بوجود أنظمة قمعية تطاول المسلمين والمسيحيين على حد سواء· وفي ظل انكسار الأنظمة العربية وتقهقرها تاريخياً أمام إسرائيل والغرب، وغياب أفق لمشروع نهضوي عربي، وفي المقابل نمو الأصوليات الإسلامية المطالبة بالعودة إلى الحكم الإسلامي، مع ما يستلزمه من انقسام مجتمعي على أساس سيادة الدين الإسلامي، يتركز الحديث على معاناة المسيحيين التي تسبب لهم الإحباط وهجرتهم المتنامية، وتؤثر نتائجها السلبية في شخصية العالم الإسلامي وفي مستقبله ومصيره وسمعته· وهذا يحدث في ضوء إشكاليتين:

الأولى: تزامن هجرة المسيحيين نحو الغرب مع ما يُسمى بالإرهاب "الإسلامي" ضد المجتمعات الغربية، ما يؤدي في الغرب إلى الخلط بين الإسلام المعتدل والمتسامح وبين الإسلام "الإرهابي"، وبالتالي تُطرح هناك مقولة عدم إمكان التعايش مع الإسلام الذي يسبب فرار المسيحيين من البلدان ذات الأكثرية الإسلامية، ما يغذي بالتالي الحقد لدى الغرب المسيحي على الإسلام والمسلمين·

الثانية: إن استهداف الإسلام من قبل دول غربية مسيحية، وآخرها الصور الكاريكاتورية للنبي محمد(#)، ومنع ارتداء البرقع في الأماكن العامة في فرنسا، وحرق المصحف في الولايات المتحدة الأميركية، يعزز ربط بعض المسلمين بين "المسيحي" (= الغرب العلماني) في الخارج الذي يهاجم "دار الإسلام" تحت ذرائع مكافحة الإرهاب، أو يمارس شتى أنواع الضغوط على المسلمين المقيمين في العالم الغربي، وبين المسيحي الذي يعيش في ظل أنظمة إسلامية وعربية· فيجري تهميش المسيحي المحلي من قبل الأنظمة الحاكمة، أو تخوينه على يد مجتمعه العربي الإسلامي، وصولاً إلى المطالبة باستئصاله· ويستمر هذا منذ الحملات الصليبية حتى احتلال أفغانستان والعراق، ولا ننسى أن عدم حلّ المشكلة الفلسطينية بشكل عادل يتسبب بتنامي الأصولية المسلحة، أو بإطلاق الصواريخ عشوائياً من غزة الأصولية على إسرائيل، والتي هي أيضاً "صواريخ" على الغرب المسيحي الذي يدعم الدولة العبرية· كما يؤدي الحقد على الغرب الظالم، من وقت إلى آخر، إلى اغتيال مسيحيين أجانب، كما حدث في حالة ناشط السلام والصحافي الإيطالي فيتوريو أريغوني في غزة قبل أسبوعين·

وفي ضوء المواقف منهم، وجد المسيحيون في المشرق العربي أنفسهم تاريخياً في مواجهة ثلاث مسائل:

1 - عدم دمجهم سياسياً في دولهم أو الحفاظ عليهم كمعطى وطني·

2 - عدم دمجهم اجتماعياً في كثير من مجتمعاتهم الإسلامية، أو عدم قبولهم مثل هذا الاندماج للحفاظ على ثقافتهم وشخصيتهم·

3 - الصراع بين الإسلام الأصولي "الإرهابي" وبين الغرب، وانعكاساته وتداعياته عليهم·

حاضر متشبث بالماضي صحيح إن غياب الديمقراطية في العالم الإسلامي يصيب المسيحيين والمسلمين على السواء، كما الإرهاب "الإسلامي"، لكن الصحيح أيضاً أن المسيحيين، بسبب حجمهم الديموغرافي وضعف تمثلهم في النظام والسلطة، ونظرة "الآخر" إليهم، ومهادنة الغرب لأنظمة حكم عربية ظالمة وقاهرة وفاسدة، جعل ويجعل معاناتهم أكبر، ما يشكل عائقاً أمام تمتعهم بكامل حقوقهم كمواطنين متساوين بالمسلمين· وهذا يعود إلى أن بعض المجتمعات العربية التي يعيشون في ظلها وتدّعي الإسلام، أو تطبق الشريعة الإسلامية، أو تستلهم منها، تستعيد بفخر تجربة تاريخية سياسية -اجتماعية حول الانقسام المجتمعي على أساس مسلم ومسيحي· لقد قام الإسلام على التمايز المجتمعي بين المسلمين والمسيحيين، باعتبار أن المسلمين هم وحدهم الأمة صاحبة السيادة، فيما المسيحيون مواطنون من الدرجة الثانية عليهم التزامات تجاه الدولة والمجتمع الإسلاميين، من دون أن تُقدم لهم الحماية وفق ما يقتضيه نظام "أهل الذمة" في الأصل، بأن يكون الذمي في حماية الدولة الإسلامية ورعايتها·

إن الانقسام في المجتمعات الإسلامية، والعربية تحديداً، بين مسلم ومسيحي، منع عملية حصول اندماج مجتمعي في الماضي، ويستمر هذا في الوقت الحاضر· صحيح أن الولاء للدولة هو الذي يحدد موقف السلطة من المسلم والمسيحي على حد سواء، إلا أن في التاريخ الإسلامي الوسيط والحديث شواهد كثيرة على معاملة سيئة للمسيحي، رسمياً واجتماعياً، يُضاف إلى ذلك عدم الثقة به، وصولاً إلى اتهامه بالتآمر مع الخارج ضد الإسلام، كلما تعرّضت "دار الإسلام" لخطر مسيحي آتٍ من الخارج: بيزنطي، صليبي، استعماري، وبالتالي تحميل المسيحي المسؤولية ما تتعرّض له "دار الإسلام"، أو دفعه إلى الفرار والهجرة، وما ينتج عن ذلك من خسارة البلدان العربية والإسلامية للمسيحيين كوطنيين ورجال اقتصاد وكوادر علمية وفنية وثقافية خلاقة منفتحة على الغرب·

مع نشوء الدولة القومية العربية بعد الحرب العالمية الأولى، كان من المنتظر أن يطرأ تحسّن على أوضاع المسيحيين العرب، نظراً إلى الطروحات العلمانية والمساواة التي طرحتها بعض الأحزاب والأنظمة الحاكمة، وإلى أن كل دساتير الدول العربية كفلت المساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين المواطنين علي أساس الدين أو اللون أو العرق· لكن هذا لم يحدث للأسف إلا في حالات قليلة ومرحلية، على الرغم من نشوء أحزاب علمانية، كحزب الوفد في مصر، والحزب الشيوعي، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا ولبنان· لقد دعا المسيحيون مبكراً إلى التمايز بين الإسلام والقومية العربية، وأن تكون القومية العربية قاعدة التلاقي بين الشعوب العربية· لكن خلط المسلمين بين الإسلام والقومية العربية ومحاولتهم التوفيق بينهما بالحديث عن "عروبة الإسلام، تسبب بتباعد بين المسيحيين والمسلمين أثناء النضال من أجل التحرر من الهيمنة الاستعمارية·

وعلى الصعيد الاجتماعي، صحيح أنه لا يمكن الحديث عن اندماج مجتمعي بين المسلمين والمسيحيين بالمعنى الصحيح قبل تنامي المد الأصولي الإسلامي في العالم العربي، إلا أن ذلك لم يتسبب بكسر حاد بين أبناء الطائفتين· وفي الماضي وكما اليوم، لا يزال لدينا بعض المسلمين العلمانيين الذين يتقبلون المسيحيين والتعايش معهم، ولدينا مسلمين لا يجنحون إلى العنف، لكنهم يفضلون انقسام مجتمعي على أساس مسلم و"أهل ذمة"· وفي الفترة الأخيرة، مع نمو الأصولية المتطرفة وثقافة عدم التعايش مع "الآخر" المسيحي، بالتزامن مع السياسة الأميركية المدمرة في المنطقة، بدأ مسلمون يعتبرون أن الإسلام كدين هو المستهدف، وأخذوا ينظرون إلى دينهم على أنه هويتهم بدلاً من هويتهم الوطنية، ويسعون إلى إقامة دولة ومجتمعاً إسلاميين· وهذا ما أدى إلى التباعد بين أبناء الطائفتين، وجعل مسلمين أصوليين متشددين يستهدفون "الآخر" المسيحي في الداخل، وصولاً إلى تخوين كل ما له علاقة بالغرب ثقافة ودين، حتى المسلمين· واليوم، لم يعد "الآخر" هو المسيحي فحسب، بل أصبح هناك "آخر" ضمن المسلمين، وخاصة بين السنّة والشيعة في العراق ولبنان والبحرين·

المسيحيون في لبنان وسوريا: من الريادة إلى التهميش كان المسيحيون في لبنان وسوريا على سبيل المثال، رواد الحركة القومية في الحقبة الأخيرة من الحكم العثماني· لكن ما أن أصبحت القومية العربية مشروعاً إسلامياً خلال ثورة الشريف حسين بن علي، حتى تقوقعوا في لبنان وراء مقولات جعلتهم غرباء في وطنهم الكبير· ومع استقلال لبنان، اخترع الموارنة منهم، ومعهم بعض السنة، نظاماً طائفياً - سياسياً فريداً يقوم على حصول كل طائفة على نصيب في السلطة وفق حجمها الديموغرافي، أسموه "الديمقراطية التوافقية"· لكن هذا النظام لم يصمد أمام تغيّر الديموغرافيا لصالح المسلمين ودعواتهم مع اليسار اللبناني إلى إزاحة المسيحيين عن مراكز السلطة العليا وقواعد الاقتصاد· فكانت حرب عام 1975 - 1990، التي زادت من التباعد بين أبناء الطوائف، وأدت إلى رفض متبادل للآخر من قبل المسيحي والمسلم· صحيح أن رئاسة الجمهورية اللبنانية ظلت عرفاً للموارنة حتى اتفاق الطائف العام 1989، ثم دستورياً بعد ذلك بموجب الاتفاق المذكور، إلا أن تغيير موازين القوى دستورياً وسياسياً بعد ذلك، والإدارة السورية السيئة قصداً في إدارة العلاقات السياسية والاجتماعية في لبنان، وخلافات المسيحيين الداخلية المميتة، وخاصة داخل الطائفة المارونية، أصابت المسيحيين بالتهميش وبالتالي بالإحباط، فازدادت هجرتهم·

اجتماعياً، يتقوقع كل من المسلمين والمسيحيين في لبنان في أحياء خاصة بهم، خصوصاً بعد الحرب، لكن العلاقات الوظيفية والبروتوكولية ظلت قائمة بينهم، من دون أن تعني حالة من العيش المشترك التي يتغنى به اللبنانيون· وعلى عكس مصر، هناك تسامح في إقامة دور العبادة، حيث تتلاصق المعابد تقريباً، من دون أن يؤدي ذلك إلى صدامات· مع ذلك، فحالات الزواج المختلط القليلة جداً، لا تؤدي إلى اندماج مجتمعي حقيقي· كما أن الدعوات إلى إلغاء الطائفية السياسية، كما ورد في اتفاق الطائف، تعزز مشاعر الخوف والشك لدى المسيحيين، من نظام أكثري يهيمن عليه المسلمون ويسعى إلى زيادة تهميشهم، على الرغم من أن المسلمين وافقوا في اتفاق الطائف على المناصفة بينهم وبين المسيحيين، بغض النظر عن الحجم الديموغرافي للآخرين، وذلك في سبيل وضع أسس لتعايش جديد· لكن ما يقلق المسيحي في لبنان، هو شعوره بأنه مستهدف جراء نمو التيارات الإسلامية المتطرفة، كفتح الإسلام، وجند الإسلام، وحزب التحرير الإسلامي ومشاريعها لإقامة إمارات إسلامية، بل إن هناك مخاوف حقيقة لدى المسيحيين والمسلمين السنّة من أن يتلاشى دورهم جراء سيطرة حزب الله الشيعي على الحياتين السياسية والاجتماعية في لبنان، وتطبيق مقولة "ولاية الفقيه"، ما يزيد من الاحتقان المذهبي والطائفي، فيغادر المسيحي والمسلم وطنهما يداً بيد إلى بلاد الاغتراب·

بالنسبة إلى سوريا، ومقارنتها بمصر والعراق ولبنان، تغيب عنها المسألة الطائفية في ظل نظام يرفع شعارات العلمانية، على الرغم من تأكيد الدستور السوري وجوب أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً، وأن الإسلام هو مصدر التشريع، من دون أن يعني ذلك أن الإسلام هو دين الدولة· ويتمثل المسيحيون في مجلس الشعب السوري وفي الوزارة بشكل ضئيل جداً، لا يتناسب مع حجمهم الديموغرافي· وأقصى ما يحصلون عليه هو وزيرين أو ثلاثة وزراء، و17 مقعداً نيابياً من أصل 252· وكان فارس الخوري مسيحياً من أبرز رجالات الاستقلال وزعماء "الكتلة الوطنية" السورية الذي تسلم رئاسة البرلمان ثم رئاسة الوزارة عام 1947· ولعب المسيحيون أدواراً بارزة في تأسيس الأحزاب العلمانية داخل سوريا وخارجها، ومن أشهرهم الدمشقي ميشال عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث·

وعلى الصعيد الاقتصادي، احتل مسيحيو سوريا مراكز مرموقة، وفي المهن (سوق الصاغة على سبيل المثال) والأعمال الحرة· لكنهم تأثروا سلباً بالمراسيم الاشتراكية على يد حزب البعث منذ عام 1963 وتأميم المدارس والمؤسسات الاجتماعية، ما جعل برجوازيتهم تهاجر إلى لبنان· ومع أنه حدث في مطلع عام 2008 قتل أحد المسيحيين أمام متجر لبيع المشروبات الروحية في مدينة دير الزور، إلا أنه لا يمكن مقارنة هذا الحدث الفردي بأحداث صعيد مصر الطائفية· ما يسبب هجرة المسيحيين السوريين ليس الأوضاع الاجتماعية أو التعايش مع المسلمين، ذلك أنهم يمارسون شعائرهم واحتفالاتهم الدينية بكل حرية، وإنما سوء الأوضاع السياسية، وغياب الديمقراطية والنظام الشمولي، وتنامي الاتجاهات الإسلامية المتشددة في البلاد· وكما في لبنان، يعيش مسيحيون سوريون في قرى خاصة بهم، وهناك في المدن السورية أحياء ذات كثافة مسيحية· لكن شدة النظام تفرض نفسها على العلاقات المجتمعية، فلا يطال "الأنا" المسلم"الآخر" المسيحي بسوء ·

أقباط مصر: تهميشهم منذ ثورة 1952 وصف سعد زغلول مشاركة الأقباط بفعالية في ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني بـ "الوحدة المقدسة"· أراد الزعيم الوطني زغلول أن يُفهم المصريين أن لا تمايز في الوطنية بين مسلم ومسيحي· وقد استفاد الأقباط من الحقوق التي كفلها دستور عام 1923 في ترشيح أنفسهم على قوائم حزب الوفد، وكان البعض منهم ينجح بأصوات المسلمين· وقد استفاد الأقباط في العشرينات من مناخ الوطنية المصرية، فحسّنوا مواقعهم في الإدارات الرسمية وفي الحكومات الوفدية· ولعل أسرة غالي القبطية مثال على قبول المسلم للآخر، على الأقل ضمن النظام الحاكم آنذاك، حيث تبوؤات مراكز وزارية عالية قبل الثورة وبعدها، وخاصة في وزارتي المال والخارجية، كبطرس غالي (1908 - 1910) وكذلك يوسف وهبي خلال العام 1919· وهذا ينطبق على مكرم عبيد، النائب عن قنا ورئيس نقابة المحامين، وسكرتير عام حزب الوفد، وهو القائل: "مصر ليست وطناً نعيش فيه، ولكنها وطن يعيش فينا"· وبين العامين 1928 و1931، شعل القبطي ويصا واصف منصب رئيس المجلس النيابي، وهو المنصب الثاني في مصر بعد الملك· وبما أن حركة الضباط الأحرار خلت من أي ضابط قيادي قبطي تقريباً، فقد بدأ منذ ذلك الحين خروج الأقباط من اللعبة السياسية في مصر·

كما لعب المسيحيون دوراً اقتصادياً مؤثراً في تاريخ مصر، وهذا يعود إلى تهميشهم قصراً عن الحياة السياسية في العهد العثماني، فلجأوا إلى الاقتصاد والثقافة وتأسيس المدارس· لكن التقييد على الحريات العامة وسياسة التأميم التي اتبعتها الثورة المصرية، وإلغاء مجالس الملة والمحاكم الروحية، والوحدة مع سوريا، فضلاً عن دعوات الإخوان المسلمين لأسلمة الدولة والمجتمع، أصابت الأقباط أكثر من غيرهم من فئات المجتمع المصري· ففي حين فاز الأقباط بـ 20 مقعداً برلمانياً في انتخابات العام 1924، تقلصت أعدادهم إلى 3 نواب في انتخابات العام 1931، بسبب الدعاية الدينية للإخوان المسلمين ضد المرشحين الأقباط· وبين عامي 1953 و1981، لم يتجاوز عدد الوزراء الأقباط في الحكومات المصرية 22 من أصل 452 وزيراً·

خلال المرحلة الأولى من حكم الرئيس عبد الناصر، وطوال عهد السادات، نمت التيارات الإسلامية لحسابات سياسية داخلية· فجعل الأول الإسلام دين الدولة، والثاني مصدر التشريع الرئيسي، رغم أنه لم يُطبق بشكل حاد· فكان هذا أول اغتيال للدولة المدنية المنشودة من قبل الأقباط· فسجل عصر السادات أحداثاً طائفية خطيرة في صعيد مصر· إشارة، إلى أنه لم يعد بإمكان أي قبطي أن يصل إلى مجلس الشعب، ما كان يستوجب من رئيس الجمهورية في عهود ناصر والسادات ومبارك، أن يعيّن بنفسه 10 أعضاء من المجلس، غالبيتهم مسيحيين وفق مقاييس السلطة· وفي انتخابات 2005، فاز مسيحي واحد لمجلس الشعب، وهو وزير المالية يوسف بطرس غالي، وهناك مسيحي آخر في الحكومة المصرية· وبعرف الأقباط في مصر أنهم لا يستطيعون الفوز في انتخابات مجلس الشعب من دون أصوات المسلمين، وهو متعذر في ظل الانقسام الطائفي المجتمعي الذي يغذيه النظام كي يضمن بقاءه في السلطة· كما لا يمكن للقبطي أن يتبوأ منصب رئيس جامعة في مصر، أو أن يُعين قائد للجيش المصري، وتُقفل أبواب الجسم القضائي أمامهم بشكل عام الخ···

إن التعصب والجهل في مصر، مدنها، ومحافظاتها في الصعيد تحديداً، يجعل النزاعات بين المسيحيين والمسلمين التي ليس لها علاقة مباشرة بالدين، أن تتحول إلى دينية، رغم كل ما يوحّد بين أبناء الطائفتين من فقر وتهميش من جانب الدولة والنظام· إن زواج مسيحي من مسلمة، وبناء كنيسة مقابل مسجد، وعرض مسيحي على الأونلاين شريط فيديو يظهر مسلمة في أوضاع جنسية (2009)، وتوزيع مناشير وملصقات تحريضية طائفية، وخلاف على قطعة أرض، حتى نحر خنازير المزارعين المسيحيين بذريعة أنفلونزا الخنازيز - كلها مسائل تثير العنف والشغب، خاصة في ظل تقاعس السلطة أو تواطئها· وما حادثة الكنيسة في عين شمس في كانون الأول 2008، وحادثة نجع حمادي في كانون الثاني 2010، وتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية 2011، سوى أمثلة على رفض الاعتراف بالأخر والعيش معه· ولا يبدو أن السلطات المصرية بريئة من التحريض على تلك الأحداث· فالاتهام الذي وجّه إلى وزير الداخلية حبيب العادلي بمسؤوليته عن تفجير كنيسة الإسكندرية، يندرج ضمن سياسة النظام للإبقاء على الشرخ بين المسيحيين والمسلمين، كي لا تتكوّن جبهة وطنية واحدة تعارض نظام حسني مبارك· إن نظرة الشك إلى "الآخر" القبطي، تنسحب على معظم مؤسسات الدولة، مدنية وعسكرية· فعندما عين أنور السادات الفريق فؤاد غالي، وهو قبطي، قائداً لفرقة المشاة الثامنة عشر، اعترض عدد من المصريين على ذلك، ومنهم عسكريون، وكانت حججهم أنه لا يمكن أن يؤتمن مسيحي على قضية وطنية، وكأن المسلم هو وحده من يؤتمن على مصر· واللافت، أن السلطات المصرية تتعاطى مع أحداث طائفية من هذا النوع على أنها مسألة أمنية نتيجة الجهل والعمل الفردي· إن فيلم "حسن ومرقص" هو نموذج لحالة الانقسام المجتمعي المصري، وحالات التعصب الطائفي لدى الشارع المصري لكل من المسيحيين والمسلمين·

مسيحيو العراق: من محاسن الانتداب البريطاني ودكتاتورية صدام حسين إلى مساوئ الاحتلال الأميركي في العراق، تعرّض المسيحيون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخلال الحرب العالمية الأولى إلى هجمات الأكراد، لكن وضعهم تحسّن تحت الانتداب البريطاني، حتى أنهم اتهموا بالعمالة له، بعدما تلاعب الإنكليز بمشاعرهم لتأسيس دولة مسيحية مستقلة، ثم تخلوا عنهم· فأجهضت محاولتهم على يد الدولة العراقية، واضطر الآلاف منهم للهجرة إلى سوريا· وبعد الثورة العراقية، عاد وضعهم يزداد سوءاً، ومع حكم حزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين، استقر وضعهم من الناحية الاجتماعية، ليس بسبب تقبل المسلم للآخر المسيحي، بل بسبب قسوة النظام العراقي وإمساكه بالشعب العراقي ومكوناته بالحديد والنار، وقد لعب بعض المسيحيين أدواراً مقربة من النظام، كالكلداني طارق عزيز، ومع ذلك استمرت هجرتهم· وبعد تفجر الوضع في البلاد، منذ الاحتلال الأميركي الذي كشف الغطاء عن المسألة الطائفية المتجمرة، نمت تيارات إسلامية أصولية متشددة تعمل على اقتلاع منهجي للوجود المسيحي، من تدمير للكنائس وقتل المسيحيين وقياداتهم الدينية، من دون أن يكون هؤلاء مسؤولين عن استجلاب الأميركيين إلى العراق· ويتمثل المسيحيون العراقيون اليوم بـ 5 نواب في مجلس مؤلف من 275 نائباً، وبوزير واحد في الحكومة الفيدرالية· وكما في مصر، توزع منشورات تدعو للاقتصاص من المسيحيين، ويوصفوا بالخونة والعملاء، ما يستوجب طردهم من البلاد· وجراء ذلك، تآكلت في الآونة الأخيرة أعداد المسيحيين بشكل كبير، وفُتحت أبواب المهجر أمامهم، مما يتسبب بخسارة وطنية واقتصادية للعراق، وتلويث سمعة العراق·

الأردن وفلسطين: وضع مميز وتذويب المسيحيين على يد إسرأئيل يتمتع المسيحيون في الأردن بوضع خاص مميز في ظل رعاية ملكية، وهذا يبدو بوضوح في ضوء المقاعد التي يحتلونها في المجلس النيابي التي تفوق نسبة أعدادهم من إجمالي الشعب الأردني· ووصل الأمر مؤخراً إلى حد انتخاب عضو مسيحي في الهيئة الإدارية لأحد الأحزاب التابعة الإخوان المسلمين (جبهة العمل الإسلامي)· كما للمسيحيين الأردنيين حضور مميز في الاقتصاد والمهن الحرة والحياتين الثقافية والنقابية· مع ذلك، يشعرون بقلق من نمو التيارات الإسلامية وتأكيد هوية دينية بدلاً من الهوية الوطنية، وبخاصة في مواد التعليم الرسمي· وفي فلسطين، تقوم إسرائيل بتهجير المسلمين والمسيحيين على حد سواء· وبما أن أعداد المسيحيين أقل بكثير بالنسبة إلى الفلسطينيين المسلمين، فإن آثار الهجرة تظهر عليهم بوضوح، ولم يعد يتعدى الوجود المسيحي هناك نسبة 1%، ما يجعله سطحي التأثير في المجتمع الفلسطيني· فضلاً عن ذلك، تسهم سياسة إسرائيل القمعية، ونمو التيارات الأصولية في تحفيز المسيحي الفلسطيني على الهجرة· وتحاول الدعاية الصهيونية التسويق بأن الإسلام والمسيحية هما عدوان، وأن المسيحية واليهودية يتعرضان للمظلومية الإسلامية نفسها، ما يحتم تعاونهما معاً· لكن المسيحيين يتمسكون بعروبتهم ويدافعون عنها، وكانوا من أوائل من تصدى لمشروع تهويد فلسطين، ومن حمل السلاح من أجل تحرير فلسطين·

أرقام مفزعة: تفريغ المنطقة من المسيحيين؟؟؟ بناء على كل ما تقدم، تتراجع أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط باضطراد، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه اليوم، وسوف يستمر بالتأكيد في ظل ثقافة اضطهاد "الآخر" كأقلية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، فمن المتوقع أن يضمحل الوجود المسيحي: في مصر، حيث لا يتعد عدد الأقباط في العام 2010 (4.5) مليون نسمة وفق تقديرات الفاتيكان، أي 6% بعد أن شكل نسبة 10% من مجموع سكان مصر، اللهم إذا قام النظام الجديد في مصر بالدفاع عن الوجود المسيحي السياسي والاجتماعي بقوانين وإجراءات، وحادثة قنا اختبار لهذا النظام ولثورة 25 كانون الثاني· وفي سوريا، تراجعت أعداد المسيحيين من 20% العام 1945 إلى 7%، وهناك من يعتقد أن نسبة 7% تعود إلى العام 2000، وأن مزيداً من مسيحيي سوريا يغادرون بلدهم· وفي العراق، تراجعت أعدادهم من 1.4 مليون نسمة إلى ما بين 500 ألف و700 ألف نسمة· وفي لبنان، حيث وضع المسيحيين مختلف عن باقي البلدان العربية، تراجعت أعدادهم من 52% في عام 1932 إلى ما دون 30% في عام 2008، أي ما يزيد بقليل عن مليون نسمة· وفي الأردن، وعلى الرغم من رعاية الدولة لهم، تتراجع أعداد المسيحيين باضطراد، بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرغبة في الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية بالتزامن مع نمو التيارات الإسلامية·

استنتاج أثبتت الدراسة مسؤولية الأنظمة عما يحصل للمسيحيين، وكذلك المجتمعات الإسلامية بثقافتها القائمة على النظرة السلبية إلى "الآخر"· ولا نغفل الحقيقة عندما نقول، إن التعصب موجود في كلا الطرفين المسلم والمسيحي· لكن في ظل وجود أنظمة حكم إسلامية، فإن المسؤولية تقع على تلك الأنظمة، سياسياً واجتماعياً· لقد فشلت تجربة الدولة الوطنية في العالم العربي التي يمكنها احتضان الجميع بالعدل والمساواة في الحقوق والواجبات· إن النسبة القليلة المعطاة للمسيحيين للمشاركة في الحياة السياسية في العالم العربي لا تثمل حجمهم الديموغرافي، وإن ديمقراطية قائمة على التناسب الديمقراطي لا تؤسس لوطن، والأوضاع في لبنان شاهد على ذلك· صحيح أن الأنظمة العربية تقدم نفسها على أنها ديمقراطية وحامية للمسيحيين، لكن هذا يبقى في الشكل، ولن يحل المشكلة، ما لم تقم أنظمة وطنية حقيقية وتنتهي القضية الفلسطينية إلى حل عادل، ويتخلص المسلمون قبل المسيحيين من أغلال الأصولية الدينية·

وبرأينا، لن تخف حدة الصراعات الدينية في الشرق الأوسط وبالتالي هجرة المسيحيين، إلا انطلاقاً من الاعتراف بوجود مشكلة مسيحية، تقوم على ترابط محكم بين ظاهرتين: الأصولية الإسلامية المتطرفة، والعداء للإسلام في الغرب· وكل منهما مسبب للآخر ومكمّل له· إن وقف نزيف الهجرة المسيحية، لا يتحقق من دون أن تتراجع الأصولية المتطرفة، علماً بأن الأصولية ليست السبب الوحيد لهجرة المسيحيين، بل وجود أنظمة عربية حاكمة بعيدة عن الديمقراطية والعدالة تستفيد من الانقسام المجتمعي بين مسلم ومسيحيي للبقاء في سدة الحكم·

كما أن تراجع الأصولية والهجرة المسيحية يرتبطان بتراجع الكراهية للإسلام في الغرب، وتوقف الهجوم عليه·

وفي ضوء أوضاع المسيحيين الراهنة، كان من المتوقع أن تؤدي الانتفاضات في العالم العربي، وخاصة في مصر التي تشهد منذ 25 كانون الثاني هذا العام ثورة على النظام، إلى حدوث تغيير في العلاقات الاجتماعية وليس في النظام السياسي فحسب، فتوضع تلك العلاقات على أسس جديدة من التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وفق قوانين مدنية وطنية تنظمها وترعاها· لكن ما يحصل في قنا منذ أسبوعين برفض المسلمين محافظاً مسيحياً خلفاً لمحافظ مسيحي سابق، ورفع شعارات "إسلامية إسلامية قنا إسلامية"، وقيامهم بتظاهرات وقطع الطرقات وسكك الحديد، وأخيراً رضوخ السلطات المصرية لمطلب السلفيين بتجميد عمل المحافظ الجديد لمدة ثلاثة شهور، يطرح علامة استفهام كبيرة حول ثورة تغييرية قد تبدو مختلطة بالتعصب الطائفي الأعمى· وفي التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، يستخدم الإخوان المسلمون الدين في استقطاب الناس، وهذا لا يبشر بالخير· نحن لا نحتاج فقط إلى كسر الأنظمة السياسة الفاسدة والمسببة للانشطار المجتمعي، بل صياغة كسر العلاقات الاجتماعية البالية وإقامة علاقات اجتماعية وثقافة جديدة تزيل ما رسب من تحجر بذريعة الدين· وهذا لا يتحقق إلا في ظل المشاركة السياسية الحقيقية للمسيحيين وتطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة وسيادة القانون·

ثمة اقتراحات قد تخفف من حدة معاناة المسيحيين، وهي:

1 - أن تقوم الدول العربية بالتشريع في ما يتعلق بإقامة دور العبادة، وأن يسود القانون العادل الحازم في معالجة أية إشكالات تحصل بين أبناء الطائفتين·

2 - ألا تتعاطى الأنظمة العربية مع ما يحدث من صراعات دينية داخل بلدانها على أساس أنها مسائل أمنية فردية نتيجة الجهل، بل الإقرار بوجود حالات تعصب لدى الفريقين، وأن تتعاطى مع المسيحي كمعطى وطني له كامل الحقوق، وتنمي عنده شعور الانتماء عبر إعطائه كامل حقوقه الوطنية، وحصوله على دور أكبر وأوسع في الحياة السياسية·

3 - أن تضطلع المؤسسات الدينية والمدارس والجامعات بالتوعية الميدانية والتركيز على التعايش والمساواة بين الطائفتين، وترويج ثقافة الفصل بين المسيحي في الداخل وبين السياسة التي تمارسها الدول الغربية تجاه العالم الإسلامي· فالمسيحي غير مسؤول عما تقترفه أيدي الدول الغربية من مظالم ضد الإسلام والمسلمين، كما أن الدين المسيحي بريء من تلك المظالم·

4 - جعل مسألة الهجرة المسيحية قضية إسلامية بكل معنى الكلمة، بأنها تُفقد الشرق الإسلامي مكوّن مهم من مكوّناته المجتمعية في مجالات الاقتصاد والثقافة والعلوم والانفتاح على الغرب والتعايش بين الإسلام والمسيحية·

5 - ابتعاد المسيحي عن التقوقع على نفسه في مجتمعه والترويج لخصوصيته، فهو عامل مهم في إنتاج الحضارة الإسلامية والثقافة العربية المعاصرة· وعليه أن يفهم أن الهجرة ليست حلاً لمشكلاته· لقد طالب الفاتيكان المسيحيين العامين 1993 و1997 بالتعايش مع محيطهم الإسلامي، وشدد على وجوب انضوائهم تحت مظلة الثقافة العربية التي لهم فيها إسهامات جليلة 6 - ابتعاد المسيحيين عن الأوهام بأن الغرب يدافع عنهم ويحميهم· فالسياسات الغربية أثبتت أنها مؤذية للمسيحيين وللمسلمين معاً· 7 - أن تتوقف الدول الغربية عن دعم أنظمة عربية إسلامية دكتاتورية فاسدة، وتعمل بجدية على تخفيف معاناة المسيحيين· فخوف الغرب من أن تستلم الأصولية الإسلامية السلطات في البلدان العربية، جعله يتغاضى عن مساوئ الأنظمة الحاكمة، مفضلاً الأمن على الحرية·

 أستاذ في الجامعة اللبنانية

 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,162,522

عدد الزوار: 6,937,621

المتواجدون الآن: 113