لماذا فشل اللبنانيون في بناء الدولة الوطنية؟

تاريخ الإضافة الثلاثاء 5 نيسان 2011 - 6:23 ص    عدد الزيارات 854    التعليقات 0

        


 

لماذا فشل اللبنانيون في بناء الدولة الوطنية؟

كانت النخبة المسيطرة في لبنان لصيقة بالقوى الغربية التي أنشأت الكيان، في فهمها لمشروع الدولة-الأمة. وسوف يتبيّن في ما بعد، أن قطاعات النخبة المسيحية الأكثر حماسة لنموذج الدولة-الأمة الغربية، لجهة الإنطلاق من وجود إثنية مسيطرة تعطي هويتها للبلاد، ووجود مجال سياسي متجانس ثقافياً، ولجهة الشوفينية والإستعلاء على الشركاء، كانت الأكثر خطراً على الدولة الوطنية الجديدة. يركّز المؤرخ الكبير كمال الصليبي على هذه النقطة بالذات كسبب في فشل الكيان اللبناني كدولة-أمة (الصليبي، 1990). وبالنسبة له، لم يكن في فكرة "اللبنانية" التي حملت لواءها هذه النخبة ما ينشئ مشكلة، ولم يكن فيها ما ينتج بالضرورة ممارسة متطرفة أو عنيفة. إلا أن كون لبنان بلداً ذا هوية خاصة بقي موضع جدل بعد نشوء الكيان. يحمّل الصليبي هذا الفريق ذاته من المسيحيين مسؤولية العجز عن تسويق هذه الفكرة لدى الشركاء المسلمين. ويعزو هذا الفشل إلى حماسة هؤلاء الفورية للهوية اللبنانية ونهائيتها ورفضهم فكرة كونها مصطنعة، كغيرها من الهويات الوطنية الجديدة التي ولدت في العالم العربي بعد الحرب العالمية الاولى، والتي لم يتنكر أصحابها للأفق القومي المشترك، ونالوا في الوقت عينه إعترافاً من قبل الآخرين بواقعهم الجديد (ص 51). ويضيف إلى ذلك، مسلكية هذا الفريق من اللبنانيين الذي أراد صفع العرب بفشلهم على المستوى القومي في كل مناسبة (ص 52). وقد رأى أن الشرط الوحيد الذي كان يمكن أن يجعل من الهوية الوطنية اللبنانية مشروعاً ناجحاً هو وضعها بشكل "عقلاني وواقعي ضمن إطار الإعتراف بعروبة البلد أساساً (...)" (ص 78 و 273).
والتزمت الدولة اللبنانية على الدوام أجندات القوى العظمى الغربية في علاقاتها مع الدول العربية. وجاهرت برفض العروبة حين أصبح الشعور بالإنتماء القومي العربي، المشترك الذي يضمن وحدة الكيانات التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الأولى. أي أن هذه النخبة تخلّت عن موروث ثقافي كانت تعود إليه في معرض الإدعاء والمباهاة فقط، هو دور المسيحيين اللبنانيين في نشأة الحركة القومية العربية.
وعند الباحثة جندزير (Gendzier، 1988)، أن القاعدة الرئيسية في تعاطي الولايات المتحدة مع لبنان، كانت الإنتفاع من العلاقة بنخبة سياسية جرى تعريفها في وقت مبكر بعد الحرب العالمية الثانية، بوصفها متحيّزة على نحو حاد للغرب وسياساته (ص 189). وقد تم تصنيف لبنان خلال عقد الخمسينات كـ"حليف مثالي"، أخذاً في الإعتبار لتوجّهاته الأيديولوجية ولكون نخبته موضع ثقة (ص 197).
ولم تقطع التجربة اللبنانية مع موروث عثماني، عنوانه إستقواء النخب على الدولة في فترة انحطاطها، أو ما يسمى "سياسة الأعيان" في الأقاليم، ورفض وجود دولة قوية. وقد منعت ليبرالية الدولة اللبنانية الإقتصادية وإفساحها المجال لاستغلال مقولة "الإستقلال الذاتي للطوائف في إدارة شؤونها"، هذه الدولة من أن تكون عامل بناء وطنية لبنانية تدمج بطريقة جديدة مكوّنات المجتمع اللبناني، ومنعتها من فرض سيادتها الداخلية تجاه هذه المكوّنات.لم تتخلّ الدولة عن ممارسة سيادتها الداخلية خلال حقبة الإستقلال، لأنها تركت التعبيرات "الثقافية" والمواقف الأيديولوجية المختلفة تعلن عن نفسها، بل لأنها سمحت باستغلال ذلك من قبل السياسيين، بما يضرب وحدة الدولة-الأمة الجديدة.
الحرب الأهلية كإستراتيجية إفتعال للنزاع (Strategy of Conflict) إعتمدتها نخبة الستاتيكو (Status quo Elite) لنزع التعبئة (Demobilization)
لم يُعالَج بشكل جدي الدور الذي لعبه تحقّق الزعماء المسيحيين التقليديين من أن البساط يُسحب من تحت أرجلهم، في استعجال حسم الصراع عسكرياً. لكن عنصر التخريب من الخارج، أو "الحرب التخريبية" يبقى عنصراً رئيسياً في تفسير ما حصل عام 1975. يمكن تصنيف كتاب شولز (Schulze، 1998) في فئة الكتب الرديئة في ما يخص الإضاءة على بدايات الحرب الأهلية في لبنان. فهو لا يتجاوز في عرضه ما يعرفه الكلّ عن علاقة الإسرائيليين بالداخل اللبناني. وخلال حقبة ما بعد الحرب، إستخدِم تعبير "الإحباط"، للتعبير عن واقع الإنسحاب من الشأن العام وحالة الإنكفاء وفقدان الدوافع للبقاء في هذه البلاد وتحسين شروط هذا البقاء لدى المسيحيين على وجه الخصوص، وللتعبير عن واقع نزع-التعبئة (demobilization) الذي فرضته قوى الحرب على هؤلاء منذ عام 1975. لكن هذا التعبير إستخدم فقط في معرض كيل الإتهامات للآخرين.

حقبة ما بعد 2005
زج الاميركيون لبنان مجدداً في أتون الإنقسام الأهلي، عندما قرّرت الولايات المتحدة معاقبة سوريا، وعملت على إصدار القرار 1559. كان ذلك للمرة الثالثة منذ إستقلال هذا الكيان. إستعاد لبنان وظيفة تعود إلى أيام الأمير بشير الثاني، كساحة تُتابع عبرها أهداف إقليمية وكونية بواسطة الأفرقاء اللبنانيين المنقسمين.
"الطوائف" محل "النخب" كـ"وحدات تحليل"
وعلى مدى سنوات الحرب الأهلية، كان كلما أثار زعيم من درجة عاشرة موضوعاً خلافياً لدفع بيادقه إلى الأمام، تصبح المسألة صراعاً بين المسيحية والإسلام ومشكلة ذات بعد كوني. يصار على الدوام في قراءة الواقع اللبناني للخلط بين مستويين، أو الأصح، إستخدام "الطوائف" محل "النخب" في الحديث عن الأجندات السياسية المختلفة. وفي حين أن نخباً بعينها تعتمد أجندات محدّدة، يصار في التحليل لنسبة هذه الأجندات إلى طوائف بكاملها، واعتبار هذه الأخيرة مسؤولة عن هذه الأجندات. هل يصح إستخدام "المجموعة الإثنية" أو "الطائفة" أو "المذهب" محل "النخب" كـ"وحدة تحليل" (Unit of Analysis)؟
رأى أسامة مقدسي أن الإختزال المتمثل باستخدام "الطوائف" في معرض الحديث عن اللاعبين المحليين هو من إختراع القناصل في القرن التاسع عشر (مقدسي، 2000: 69). يتوافق هذا الإختزال مع ما تقترحه المدرستان الليبرالية والواقعية في ميدان العلاقات الدولية. تدرّس المدرسة الواقعية أن الدول تدخل في نزاعات مع بعضها البعض، ويكون الدفاع عن أمنها أحد محدّدات علاقاتها الخارجية. تُعتمد الدولة بالتالي كـ"وحدة تحليل" في دراسة هذه العلاقات. لكن هاتين المدرستين إستخدمتا الإطار النظري ذاته في دراسة "النزاعات الإثنية". أي افترضتا أن "المجموعات الإثنية" هي "وحدات تحليل" كما الدولة، ولو أنها لا تملك وجوداً مؤسسياً كما الأخيرة. وافترضتا وجود مجموعات طائفية متراصة (indifferenciated) لا فوارق أو اختلافات بين مكوناتها (Gagnon، 2004: 198). كما افترضتا أنها هي الأخرى تتعرّض للتهديد من خارجها، وتدخل في نزاعات مع هذا الخارج.
جسّدت مقاربة بريسلر للنظام السياسي في لبنان نقيض تلك التي لا ترى له مكوّنات غير الطوائف. تمثل سلطة الزعيم العنصر الأساس في تعريف هذا النظام (Preisler، 1988: 112). ويركّز الكاتب على حقيقة أن السلطة التي يمارسها السياسيون تجد مقوماتها في الواقع المحلي، وأن هذا ما يتيح لهم التمتع بإستقلالية نسبية تجاه السلطة المركزية. وتشكّل القوى السياسية بمجموعها نظاماً سياسياً لا يحتاج في الحد الأقصى إلى دولة لكي يستمر. وقد يكون أمراً ثانوياً بالنسبة للأقطاب المحليين الإهتمام بمن تكون السلطة المركزية ممثّلة، أبطرف داخلي أم بطرف خارجي. وعبّر مايكل جونسون هو الآخر عن استناد السلطة إلى قاعدة محلية، من خلال تعريف النظام السياسي في لبنان بوصفه قائماً على الاستزلام السياسي النيو-البطريركي الطابع (Neopatriarchal Clientelism) (Johnson، 2002: 19).

النخب وإفتعال النزاع الطائفي والمذهبي وسيلة للبقاء (Survival)
إستُخدِم تعبير "النظام الطائفي العميل"، للدلالة على أن ولاءات نخب الطوائف تذهب مباشرة إلى الخارج، أي إلى دول خارجية وأولياء أمر خارجيين (الزين، 2008). وقال آخرون في توصيف حقبة الوصاية أنه لم يكن هناك "نصاب داخلي" للسياسة في لبنان، بمعنى عدم وجود آلية ضغط ومحاسبة سياسية داخلية، تتيح للداخل أن يفرض نفسه على السياسيين. ويمثّل لبنان بالنسبة للباحث ريمون هينبوش حالة قصوى من اختراق الدولة من طرف قوى خارجية بالنسبة لها (Trans-State Penetration) (Hinnebusch، 1998: 150). واستُخِدم مفهوم كريستوفر كلافام حول "إنتقال المحاسبة السياسية للنخب المحلية إلى عهدة الخارج" (Externalisation of Political Accountability) في معرض وصف الحالة اللبنانية بعد عام 2005 (داغر، 2009).
ولعلّ أحد أهم نتائج الحرب الأهلية، تحوّل لبنان من دولة وطنية إلى ساحة تديرها قوى إقليمية من دول الجوار. ويكون تعامل أطراف خارجية مع بلد ما كمنطقة نفوذ، حين لا تكون هذه الأطراف معنية به إلا بحدود، أو أنها لا تطبّق المعايير التي تجعل منها دولاً في علاقاتها مع نخبه السياسية. وهي تتعاطى مع الأخيرة، من دون إخضاعها للمحاسبة على قاعدة الأصول التي تحكم أداء الدولة-الأمة، وتتعاطى مع البلد المعني لحل مشاكلها الخاصة، او لحل مشاكلها على حسابه، أو في إطار توكيد نفوذها وترسيخه.
وبدءاً من القرن التاسع عشر، كانت النخب اللبنانية تنسج علاقات مع القناصل بفعل ضعف السلطة المركزية العثمانية، واضطرار الأخيرة لأن تتقاسم مع القوى العظمى الأوروبية سلطتها على لبنان. نقل أسامة مقدسي عن العثمانيين ضيقهم بهذه النخب خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، مع بداية التدخّل الأجنبي في لبنان. وهم كما يقول، "كانوا يعرفون أن إعادة النظام والأمن لا يمكن أن يتمّا من دون إخضاع الأعيان المحليين، وإخراج مريديهم "الجهلة والمجانين والذين لا يمكن توقع ردات فعلهم" من الساحة السياسية" (مقدسي، 2000: 75). وقد انضوت النخب اللبنانية مع الإستقلال في فريقين لكل منهما أولياؤه الخارجيون.
وبعد 2005 وجد الناس أنفسهم مجدداً، في حالة عدم الإستقرار السابقة التي كانوا اعتقدوا أنهم تجاوزوها إلى غير رجعة. بدا الأمر وكأن تقبّلهم الأمر الواقع بعد الحرب مقابل شيء من الإستقرار لم يحصن بلادهم من العودة مجدداً إلى التوتر والحرب الأهلية. وقد استخدمت القوى الخارجية خلال هذه الحقبة قدرة النخب على تحريك الجمهور لتنفيذ أجنداتها. وأتيح للقوى السياسية المختلفة أن تلجأ بعد أقل من 15 سنة من انتهاء الحرب الأهلية السابقة، لإعادة بناء هويات طائفية ومذهبية (Social Construction of Identity) بالخطاب (Discourse) والأفعال (ِAction)، محتواها استعداء الآخرين (Antagonistic Ethnic Identity). وجرّبت هذه القوى في العديد من المرّات إستخدام العنف الطائفي والمذهبي (Ethnic Violence) لتحقيق مرادها.

تعاطي "المجتمع الدولي" مع ما يسمى بـ"النزاعات الإثنية"، أو "التعددية الثقافية الليبرالية"
 
تُختصر في العادة مقاربتا المدرستين الواقعية والليبرالية بشأن النزاعات الداخلية في مختلف بلدان العالم، والمسمّاة "إثنية"، تحت عنوان واحد هو "التعددية الثقافية الليبرالية" (Liberal Multiculturalism). تقترح هاتان المقاربتان "الفرز والضم" للشعوب والمناطق والكيانات، على قاعدة إثنية أو طائفية أو مذهبية. لم يأت محتواهما من فراغ. بل هو وجد تسويغه في التجربة التاريخية ذاتها للبلدان الغربية، التي جعلت من التجانس "الإثني" (أو الثقافي)، شرطاً لنشوء مجال سياسي متجانس في كل منها. توفّر هاتان المقاربتان مسوّغاً فكرياً لعمليات تخريب العالم وتجزئة بلدانه المختلفة إلى مكوناتها "الإثنية" أو الطائفية. وتستخدم أجهزة السياسة الخارجية في الدول العظمى هاتين المقاربتين، وتعتمدهما أجهزة مخابرات هذه الدول للّعب بمصائر الشعوب.
وفي كتابه الثمين عن حروب يوغوسلافيا السابقة خلال التسعينات، أعطى غانيون أمثلة عن كيفية تعاطي كل من الصحافة والأكاديميين الغربيين مع هذه الحروب. أظهر على وجه الخصوص، عجزهم عن فهم ماهية هذه الأخيرة. وقد رأوا أنها حروب "إثنية"، ذاهبين في ذلك مذهب مفتعليها (Gagnon، 2004: 196-200).
وقد ردً منظّرون مثل توماس فريدمان تلك الحروب إلى الأحقاد القديمة التي سهّل ضعف السلطة الشيوعية وانهيارها خروجها إلى السطح. كان لتلك المقاربة هدف آخر، هو إظهار هذا الآخر الأوروبي كمتخلّف، والنظر إليه بازدراء وعدائية، بما يشكّل استمراراً مع ما كان قائماً خلال الحرب الباردة.
حاول أكاديميون آخرون أن يتجاوزوا سطحية هذه المقاربة، وتعارضها مع الوقائع التاريخية التي تظهر تعايش الناس المختلفين "إثنياً" بتناغم كامل على مدى مئات السنين. إعتمدوا المقاربة ذاتها التي ترى إلى هذه النزاعات بوصفها "إثنية" الطابع، لكنهم جعلوها أكثر تفذلكاً. مثّلت كتابات هورويتز (Horowitz، 1985) منذ الثمانينات نموذجاً لهذه المقاربات. وعند الأخير، يعمد مقاولون سياسيون لاستنفار "الإثنية" ضد الخارج، لكي يكسبوا بذلك مواقع سلطة في إثنيتهم. لكن مشكلة هذه المقاربة أنها افترضت أن المجموعة الإثنية تكون جاهزة على الدوام للإستجابة لسياسات "طرح الصوت" هذه، وأنها تتحرّك على الدوام وفق جدول أعمال "إثني". وهو ما تنفيه التجارب التاريخية، التي تثبت كل منها أن لجوء النخب لافتعال العنف الهاذي يعود إلى عدم استجابة الجمهور "الإثني" أو الطائفي للتعبئة التي تعتمدها. وتعوّل هذه النخب على نتائج العنف الذي تفتعله لخلق جماعة يشكّل الخوف والشعور أنها مهدّدة لحمتها، ولفرض خطاب وحيد ينفي وجود ما عداه.
عَكَس ما حصل في يوغوسلافيا السابقة، إستراتيجيات إفتعال للنزاع (Strategy of Conflict) إعتمدتها نخب بعينها كردّ فعل تجاه محاولات تغيير الستاتيكو القائم، ولفرض حالات نزع تعبئة (demobilization) على الجمهور وعلى النخب المضادة التي كانت تعرّض هذا الستاتيكو للخطر (Gagnon، 1994-1995). وهي نخب كانت مهدّدة بالفعل، بسبب الحراك السياسي والرغبة بالإصلاح الإقتصادي اللذين أعقبا سقوط الإتحاد السوفياتي. وقد لجأت لتلك الإستراتيجية لتغيير جدول الأعمال السياسي الوطني، وجعل "الصراع من أجل البقاء" العنصر الأساس في الشرعية التي توخّت الحصول عليها. وهي، وإن اعتمدت "النزاع الإثني" وسيلة، فإن هدفها كان إرساء حالة من التجانس السياسي، أي غياب المعارضة. ولضمان استمرار حالة التجانس السياسي هذه، كان لا بد من اللجوء تكراراً إلى افتعال "النزاع الإثني" للبقاء في السلطة (Gagnon، 2005).
ولقد وجد المنظرون الليبراليون أن البلدان التي تشهد نشوب نزاعات "إثنية"، تكون في الأساس غير متطوّرة لجهة وجود المؤسسات الديموقراطية فيها، وأن العامل "الإثني" هو ما يمنع تطورها، لأنه يُقحم العواطف والمشاعر "الإثنية" في المجال السياسي. ولعزل تأثير هذا العامل، إقترحوا أن تُمأسَس الإثنيات والطوائف، بل وأكثر من ذلك، أن يصار إلى فرز هذه الأخيرة جغرافياً، بحيث يصبح لكل إثنية مجالها الجغرافي الخاص والمتجانس. وافترض هؤلاء المنظّرون أن من شأن ذلك، أي "أثننة السياسة" (Ethnicization of Politics) وإضافة بعد جغرافي للإثنية (Territorial Homogenization)، أن يحققا للمجتمعات المعنية الإستقرار الذي تطمح إليه (Gagnon، 2004: 24).
وقد وجدت عمليات "التطهير الإثني" و"الفرز الجغرافي" التي حفل بها عقد التسعينات من يبرّرها في "المجتمع الدولي"، ويعطي شرعية لمفتعليها. وأظهرت مشاريع الحلول التي اقترحها الأكاديميون الليبراليون والواقعيون في شأن نزاعات يوغوسلافيا السابقة، وأهمها "إتفاقية دايتون" التي أنهت الحرب عام 1995، كما غيرها من الخطط التي جرى وضعها موضع التنفيذ، أن الحكومات الغربية ومنظّريها مشوا في نهاية المطاف في لعبة النخب التي افتعلت هذه النزاعات. وقد ترافق "الفرز والضم" اللذين تحققا، مع همٍّ حمله المنظّرون الغربيون بشأن "صون حقوق الأقليات". ويذكر غانيون أن أهل تلك البلاد لم يتعرّفوا إلى أنفسهم بوصفهم "أقليات" ضمن "أكثريات"، إلا بعد التدخّل الأوروبي الغربي.
ويستعرض غانيون كتابات ثمينة لمفكرين عديدين إنتقدوا "التعددية الثقافية الليبرالية"، منهم الأنتروبولوجي الأوسترالي من أصل لبناني، غسان الحاج. وينقل عن الباحثة تودوروفا تهكمها على الأوروبيين الغربيين الذين أتوا إلى يوغوسلافيا السابقة ليعلّموا أبناء تلك البلاد إحترام التعددية، في حين أنهم كانوا قبل خمسين عاماً فقط قد ارتكبوا أشنع ما جاء في تاريخ الإنسانية من عمليات تطهير إثني. وعند غانيون أن العكس بالضبط هو ما ينبغي أن يحصل، أي أن يتعلّم الأوروبيون الغربيون من تجربة البلقان التاريخية في قبول التعددية أساساً للبناء الوطني، كبديل من نظرتهم الخاصة لهذا الأمر القائمة على العنصرية (Gagnon، 2005: 18). ويقترح بديلاً على نقيض ما جاءت به "التعددية الثقافية الليبرالية"، متخذاً من مناطق يوغوسلافيا السابقة التي لم يطلها "الفرز والضم" نموذج حياةٍ مشتركة تقوم على التعددية.

بناء الدولة الوطنية، أو تحسين المشترك كأفضل خيار
 
يعرّف كريستوفر كلافام "الشعور العادي بالإنتماء الوطني" (Banal Nationalism) بوصفه الحد الأدنى من مشاعر الإنتماء الوطني التي يحملها المواطنون، والتي تنجم عن عقود من العيش معاً ومن التجربة الوطنية المشتركة بحلوها ومرّها (Clapham، 2001: 3). يمكن تعريف ما يتقاسمه اللبنانيون اليوم على هذا النحو. ويمكن في ضوء ما تقدم، إختصار الخيارات أمام لبنان، وحصرها بإثنين:

"التعددية الثقافية الليبرالية" كخيار
 
يمكن اعتماد "التعددية الثقافية الليبرالية" كمنطلق للتفكير في مستقبل لبنان، وكمنطلق لصياغة إستراتيجيات النخب. ويكون لبنان معرّضاً في هذه الحالة إلى عمليات "فرز وضم" جديدة، شبيهة بما حصل خلال مراحل الحرب الأهلية. وماذا يمكن أن ينجم عن بعض المقاربات غير مشاريع تجميع للناس على قواعد طائفية أو مذهبية، أو افتعال عمليات تطهير طائفي أو مذهبي لمناطق مختلطة؟ وماذا قد ينتظر اللبنانيين في هذه الحالات، غير الكثير من الآلام ومجازر وجرائم وموت الأبرياء؟ وقد جرى نقض مفاعيل "الفرز والضم" اللذين حصلا في لبنان خلال الحرب الأهلية إلى حد ما، من خلال عودة المهجّرين إلى الجبل وسائر المناطق. وبقيت مشكلة تلك المناطق، أن الليبرالية الإقتصادية اللبنانية كان سبق لها أن دمرت ريف لبنان بمختلف مناطقه.

الخيار البديل: العروبة
وإصلاح الدولة
 
(1) ينطوي هذا الخيار على إعادة بناء اللحمة الوطنية على قاعدة الهوية العربية المشتركة لمختلف مكوّنات المجتمع اللبناني. وأول المعنيين بهذا الأمر هم المسيحيون. أفضل من عبّر عن هذا الخيار، هو الدكتور كمال الصليبي في مداخلته الشديدة الأهمية التي قدمها في سينودس الشرق الأوسط الذي عُقِد مؤخراً ("السفير" 25 أيلول 2010). وقد قال ان تعزّز شعور المسيحيين العرب بانتمائهم العربي وقبولهم بهذا الإنتماء كحقيقة تاريخية لا لبس فيها، واعتزازهم بهذا الإنتماء، هي العامل الأهم في صون وجودهم في الشرق. وأظهر نصه المخصّص لأصول الطوائف، إسلامية ومسيحية، أنها جميعاً ذات أصول عربية مؤكدة (الصليبي، 1988). وفي كتابه "بيت بمنازل كثيرة ..." وضع النقاط على الحروف بشأن أعمال مؤرخين كالبطريرك الدويهي ممن اهتموا بإنشاء أصول غير عربية للموارنة. وأظهر كتاب المؤرخ الدكتور عادل إسماعيل عن أصول "المردة"، (إسماعيل، 2000)، مدى الخفة التي تعاطى بها مثقفو الموارنة من رجال الدين مع أصول أبناء طائفتهم العرقية.
وبعد 1975، زادت شكوك المسيحيين اللبنانيين بشأن هويتهم. لم يعودوا يعرفون لأنفسهم هوية واضحة. وأدى الإلتباس لدى الموارنة على وجه الخصوص في معرفة من هم بالتحديد، إلى أن يهاجروا بوتيرة لم يشهدها تاريخهم الطويل، أي التجربة المستمرة منذ 1600 سنة، والتي قال فيها الدكتور الصليبي أنها جسّدت "قصة نجاح فريدة في الحوليات المسيحية في العالم الإسلامي" (الصليبي، 1990: 143).
والعروبة هي الملاذ أمام محاولات تخريب العالم العربي وتدميره من الداخل بالطروحات المذهبية. وهي عنصر لحمة أثبتت فاعليتها في صون كيانات عربية عديدة. وذلك رغم أنف البعض وتشاوف اللبنانيين الذي يجسّد تبجحاً في غير محله.
(2) هل تكفي العروبة لاستعادة دولة وطنية لبنانية قابلة للحياة، والتأسيس لمستقبل يحفظ شعب لبنان من التوتر الدائم والحرب الأهلية؟ طبعاً لا. المطلوب أيضاً هو إصلاح الدولة، كطريقة لتعزيز المشترك بين اللبنانيين. ولطالما برّر اليأس من الدولة فكرة الإفتراق في لبنان. إنضاف هذا اليأس إلى ما حصل خلال الحرب من تعميق للإختلاف بين المجموعات المكوّنة للوطن، ليسوّغ أكثر هذه الفكرة.
جدّد النظام السياسي نفسه من خلال تسييس الإنتماء العائلي بعد صدور الدستور اللبناني عام 1926. أصبح التمثيل النيابي مبنياً على تمثيل العائلات. أفاد منه المنخرطون فيه فتات منافع، على شكل وظائف في إدارات الدولة وإنفاق هامشي في ميدان البنى التحتية وعقود وصفقات مع الدولة لدى المحظوظين والقادرين. وحكم تمثيل نيابي كهذا تجربة لبنان التنموية على مدى الحقبة السابقة للحرب الأهلية. أفقر هذا التمثيل النقاش العام وحصره بمصالح ومناكفات ممثلي العائلات وجعل ممثلي الأمة غير قادرين على الإرتفاع بوصة واحدة فوق الإهتمامات المحلية وأولوية خدمة القاعدة الإنتخابية المحلية. ليس غريباً والحال هذه أن النقاش التنموي في لبنان كان الأضعف مقارنة بأي بلد نامٍ آخر، وأن مسار التنمية أدى خلال تلك الحقبة إلى نكبة ديموغرافية وتنموية، تمثلت بإفراغ الريف من أهله وبالهجرة الكثيفة من لبنان.
ويعكس مسار الإدارة العامة اللبنانية أنها اتخذت الإتجاه المعاكس للذي أخذته الإدارة العامة في البلدان المتقدمة. إنتقلت الإدارة العامة في تلك البلدان من إدارة ملحقة بالملك ومبنية على قاعدة الولاء لشخصه، إلى إدارة تحدد مهامها نصوص وضعية، وتؤدي مهامها وفقاً لهذه النصوص. أما الإدارة العامة اللبنانية فشهدت تراجعاً عن صفتها كإدارة وضعية، ثُبِّتت نصوصها خلال حقبتي الإنتداب وعهد شهاب.
واستُخدِمت الإدارة العامة بعد الحرب، قاعدة لبناء ولاءات للسياسيين. أي استُخدِمت على نحو أكثر اتساعاً من السابق لتوفير تنفيعات. أدى ذلك إلى تراجع غير مسبوق لكفاءات الإداريين. وساهم خوف السياسيين منها بدفعها إلى الحضيض أكثر. هل يعقل أن يستبدل الزعيم أزلامه الإعتياديين بأناس يراهم خطراً على موقعه؟ ألا يفضّل الزعيم مساعد مساعده على مساعده؟ وطغت خلال الفترة ذاتها الفكرة النيو-ليبرالية كما فهمتها نخب العالم الثالث، التي تقول أن التنمية يمكن أن تتحقّق بدون إدارة حكومية. أعطت مقاربة للإدارة همّشت الأخيرة على نحو إضافي، وجعلتها غير قادرة على بناء كفاية وطنية في أي مجال من المجالات. وفي ظل خطاب ينادي بالخصخصة، جرى تسخير الإدارة العامة لخدمة المصالح الخاصة للممسكين بالحكم. أدى ذلك إلى صبغ إدارات وقطاعات منها بصبغة فئوية (Factional)، وانتقص إلى حد كبير من شرعيتها.
وتؤكد أوضاع الإدارة العامة اللبنانية القاعدة التي تقول أنه بمقدار ما يطغى الطابع النيو-باتريمونيالي على الإدارة، أي استخدامها للمنفعة الخاصة، بقدر ما يؤدي ذلك إلى انحلالها، وأن بناء الدولة يقتضي نقيض ذلك، أي إدارة مستقلة عن قوى الضغط، وبالتالي غير مسيّسة، تعتمد قاعدة الكفاية في تنسيب أفرادها.
ويستخدم الباحثون الأكاديميون تعبير "تكوين الدولة" (State Formation) في تحليلهم لتجارب دول العالم الثالث. ويتخذ الكاتب هينبوش معياراً للحكم على المستوى الذي بلغه تكوين الدولة في البلدان العربية، هو قدرة الدولة على صون سيادتها الداخلية والخارجية (Hinnebusch، 2002: 12). ويعتمد كريستوفر كلافام المعيار ذاته في ما يخص الدول الإفريقية (Clapham، 2004). وفي البلدان العربية الأخرى، تواجه الدولة القوى التي ترى أن خطاب الهوية الذي تعتمده يخولها ممارسة وصاية على المجتمع، وتلك التي تتلخّص أجندتها السياسية بافتعال النزاع الطائفي والمذهبي. والثابت أن وراء دفق الهجرة النهائية من لبنان إلى الخارج غير المنقطع، شعور الناس أنهم متروكون لمصيرهم في مواجهة هذه القوى.
(اقتضى ضيق المساحة حذف المقدمة)

المراجع:
- Clapham Christopher, "Rethinking African States", African Security Review, vol. 10, n. 3, 2001.
- Clapham Christopher, “ The Global-Local Politics of State Decay”, in Robert I. Rotberg (ed.), When States Fail: Causes and Consequences, Princeton, N.J.: Princeton University Press, 2004.
- Fearon James, "Ethnic Mobilization and Ethnic Violence", in Oxford Handbook of Political Economy, 2004, 16 pages.
- Gagnon V. P., "Ethnic Nationalism and International Conflict: The Case of Serbia ", in International Security, Vol. 19, n. 3, Winter 1994-1995, pp. 130-166.
- Gagnon V. P., "Liberal Multiculturalism and Post-Dayton Bosnia:Solution or Problem?", Presentation prepared for Workshop“Accomodating Difference in Bosnia-Herzegovina: Ten Years After Dayton”,Christian Michelson Institute, Institute for Human Rights, University of Oslo, Bergen, Norway, 2005.
- Gagnon V.P., The Myth of Ethnic War: Serbia and Croatia in the 1990s, Cornell¥ University Press, 2004.
- Gendzier Irene, “ The Declassified Lebanon 1948-1958: Elements of Continuity and Contrast in US Policy Toward Lebanon”, In Shehadi N., Haffar-mills D. (eds.), Lebanon: a History of Conflict and Consensus, London: I.B. Tauris, 1988.
- Haddad William W., “Nationalism in the Ottoman Empire,” in William W. Haddad and William Ochsenwald, eds., Nationalism in a non-national state: the dissolution of the Ottoman Empire, Columbus: Ohio State University Press, c1977.
- Hinnebusch Raymond, "Pax-Syriana ? The Origins, Causes and Consequences of Syria's Role in Lebanon", in Mediterranean Politics, Vol. 3, n. 1, Summer 1998, pp. 137-160.
- Hinnebusch Raymond, “ Introduction: The Analytical framework”, in Hinnebusch Raymond, Ehteshami Anoushiravan (eds.), The Foreign Policies of Middle East States, Lynne Rienner Publishers, 2002, pp. 1-27.
- Johnson Michael, “ The Neo-Patrimonial Lebanese State before 1975”, Contribution to the L.C.P.S. Workshop on: “ the Developemental State Model and the Challenges to Lebanon”, February, 15-16, 2002, Beirut.
- Karpat Kemal, " The Ottoman Ethnic and Confessional Legacy in the Middle East", in M. Esman, I. Rabinovich (eds.), Ethnicity, Pluralism, and the State in the Middle East, Ithaca: Cornell Univ. Press, 1988, pp. 35-53.
- Karpat Kemal, Ottoman Population, 1830-1914: Demographic and Social Characteristics, Madison, Wis.: University of Wisconsin Press, 1985.
- Karpat Kemal, “Millets and Nationality: The Roots of the Incongruity of Nation and State in the Post-Ottoman Era,” in Benjamin Braude and Bernard Lewis, Christians and Jews in the Ottoman Empire: The Functioning of a Plural Society, Volume 1: The Central Lands (NY: Holmes & Meier Publishers, 1982).
- Makdisi Ussama, The Culture of Sectarianism: Community, History, and Violence in Nineteenth-Century Ottoman Lebanon, Berkeley, CA: University of California Press, 2000.
- Preisler Barry Edward, Lebanon, The Rationality of National Suicide, Ph.D. Dissertation, Univ. of California, Berkley, 1988.
- Salibi Kamal, “Tribal Origins of the Religious Sects in the Arab East”, in Halim Barakat (ed.), Toward a Viable Lebanon, Georgetown Univ.: Centre for Contemporary Arab Studies, 1988, pp. 15-26.
- Schulze Kristen E., Israel's Covert Diplomacy in Lebanon, N. Y., St Martin Press, 1998.

- ألبر داغر، " التدخل الخارجي والفتنة الداخلية في التجربة اللبنانية"، الأخبار، 7 و 8 أيلول 2009.
- كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة: ألكيان اللبناني بين التصور والواقع، مؤسسة نوفل، 1990.
- عادل اسماعيل، المردائيون (المردة): من هم؟ من أين جاؤوا؟ وما علاقتهم بالجراجمة والموارنة؟، بيروت: دار النشر للسياسة والتاريخ، 2000.
- جهاد الزين، " أسئلة في لحظة إحتفالية"، "قضايا النهار"، 24/5/2008.
- جهاد الزين، "عن هذا النظام الطائفي العميل"، "قضايا النهار"، 30/5/2008.

ألبر داغر      

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,079,762

عدد الزوار: 6,751,810

المتواجدون الآن: 106