نحـــو عقــدٍ جــديــد بين الدولـــة والمجــتــمــع

تاريخ الإضافة الإثنين 28 آذار 2011 - 7:55 ص    عدد الزيارات 1101    التعليقات 0

        

نحـــو عقــدٍ جــديــد بين الدولـــة والمجــتــمــع
بقلم غسان سلامة

أتحدث أمامكم(•) بصفتي الشخصية، ولا أعبر بالضرورة لا عن رأي حكومة غادرتها ولا عن رأي منظمة دولية عملت لها أو أعمل.
تمر منطقتنا من العالم بحالٍ من الارتباك لا تخفى على احد، فالأحداث العميقة الأثر، والتحولات المتزامنة، وانتقال القوة الأعظم من سندٍ للاستقرار إلى داعيةٍ للتغيير، ناهيك عن الجروح المفتوحة في غزة والنجف ودارفور وغيرها، ُتحدث قلقاً في النفوس وتحفزاً في الأذهان وارتباكاً في القرار، وهي بالذات علامات الانتقال من حالٍ إلى أخرى، نأمل بأنها أفضل ونخشى أن تزيد في أوضاعنا سوءاً. ونبدو جميعا وكأننا انتقلنا من حال المبادرة إلى حال الاكتفاء بالتلقي، وكنا في حال المخاطب فبتنا في وضع المتهم، وكنا نفاوض وبتنا نتقي الشر وكنا نحاول التأثير على الآخر وبتنا نكتفي بمحاولة خجولة للحد من تأثيره علينا.
من هنا بالذات، فإن التحدي الأول الذي يواجهنا هو وضوح الرؤية. فالرؤية لا تكون واضحة إن تحكّم الحدث المتلاحق بأذهاننا. والرؤية لا تكون واضحة إن لم نعتبر جذرية التحولات الضاربة بنا فبقينا عند قشرتها، أو هامشها، أو النافل منها. والرؤية لا تكون واضحة إن قادنا هول تأثرنا برأي الآخر وبإرادته للإقرار المتعجل بعجزنا عن التأثير والمبادرة والفعل.
وضوح الرؤية يقضي على العكس بلحظ ما هو جارٍ لنا، وإني أرى فيه معالم لمشروع وصاية على دولنا ومجتمعاتنا. هناك من قررّ أننا، بعد عقود من الاستقلال، قد عجزنا عن إدارة شؤوننا بما يلائم مصالحه أو يتماشى مع التحولات الجارية في العالم، فقرّر أن يتدّخل مباشرة في شؤون المنطقة ليسرّع من تحولٍ عجزت دولنا عن المبادرة له، أو هي تلكأت في تنفيذه عندما زعمت أنها اقتنعت بضرورته.
فالرابط بين التدخل العسكري المباشر، والمرابطة العسكرية الطويلة الأمد، والرقابة على التحويلات المالية، والنصح الديبلوماسي، والضغط السياسي، الرابط بين كل هذه الوسائل، واحد وهو إنشاء نظام من الوصاية على منطقة باتت متهمة لا بالقصور عن اللحاق بالركب الدولي وحسب، بل بتصدير العنف إلى شوارع نيويورك ومدريد وبالي، وبالعجز عن حل النزاعات كما عن تبديل السياسات أو عن تغيير القيادات.
ويقيني أننا لو كنا على طول هذه الكرة الارضية، نشكل هامشا مقصياً، أو منطقة معزولة، أو مساحة من الفقر والعدم، لما تجشّم أحد مخاطر محاولة وضعنا تحت وصاية. لكن القدر قد شاء أن تقع منطقتنا على مفترق قارات ثلاث، وعلى محور تواصل حساس. وشاء القدر أن تختزن منطقتنا ما لا حاجة لنا للتذكير بأهميته من نفط وغاز. وشاء القدر ثالثاً أن تكون أديان ثلاثة كبرى قد انطلقت من عقر دارنا بحيث بات اليهودي في نيويورك أو المسيحي في روما أو المسلم في كوالالامبور، يعتبر أنه معني شخصيا بما هو حاصل لنا وبنا، بينما يشيح النظر عن مناطق أخرى حُرمت من هذه الشحنة الرمزية التي تنبعث من بيت لحم والقدس ومكة والمدينة ومشهد والنجف.
وهذا هو جوهر محنتنا الراهنة: أننا، بأدياننا، وبنفطنا، وبموقعنا على خريطة العالم نعني للعالم الواسع أكثر بكثير مما نقدر على تحملّه. لذلك فهو لن يدعنا وشأننا، بل هو وضعنا تحت المجهر، وهو يسعى اليوم، لوضعنا تحت نوع من أنواع الوصاية. فمن لديه هذه الثروات المادية أو الرمزية ولا يُحسن إدارتها بما يلائم رأي القوي، فهو سيرى القوي مقبلاً للقيام بنفسه بما لم يتمكن أن يقنعنا القيام به.
فماذا يريد القوي فعلاً لنا ومنا؟
أنه يريد أولا منا أن نقبل بإعادة النظر بمبدأ السيادة الوطنية لا تعدياً بالمطلق، وإنما لأن مفهوم السيادة قد تغير بعد انتهاء الحرب الباردة، و لاعتقاده بأن دول العالم الثالث قد استفادت أكثر من اللازم من ذلك المفهوم فحاولت أن تجعله ذا طبيعة مطلقة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مستفيدة من تنافس القطبين على استدراج تأييدها. أما وقد سقط القطب السوفياتي فإن الغرب بمختلف دوله يسعى للتخفيف من مضمون السيادة ومن استفراد الدول بشعوبها، تفعل بها ما تشاء، وبخيراتها توظفها كما ترى. والأوروبيون تجاوزوا مبدأ السيادة لمصلحة اتحادهم في الصناعة، و في الزراعة وصولا إلى توحيد العملة، أما الاميركان فهم يزيدون من التمسك بسيادتهم ويعطون أنفسهم حق تجاوز سيادة غيرهم. وتساهم مختلف تجليات ثورة المعلومات المتسارعة في تقليص مفهوم السيادة والسيطرة على الحدود، كما أن نظام السوق يقلص تدريجيا من تحكم الدولة بالاقتصاد وبالتالي بالمجتمع. ويؤدي الانتقال السريع للرساميل والأفكار والمعلومات الدور نفسه حتى باتت السيادة في أعين كثيرين لا تعني السيطرة على مساحة من الأرض بعينها بقدر ما تعني الحق بمقعد على الطاولة المفتوحة في غير مكان للتفاوض حول القضايا العالمية.
يضاف إلى هذا التحول المفهومي، تحول آخر يقضي باعتبار الإرهاب لا وسيلة لجأت إليها جماعات كثيرة متنوعة عبر التاريخ بل نوع من الخصم القائم بذاته كما كانت الشيوعية في السابق. ونحن مدعوون بالتالي لا للقبول بتحديد قليل الدسم لسيادتنا وحسب بل لتحديد موقف من الإرهاب نجرّ إليه جراً. فمن ليس ضده هو بالضرورة متواطىء معه. ليس بيننا من يؤيد الإرهاب طبعا ولكن بودّنا أن نتوافق مسبقا على تحديد الإرهابي. غير أن اشتراكنا في تحديد الإرهاب دونه عقبات أهمها استيلاء القطب الأقوى على حق وضع القواميس والمعاجم، واستيلاؤه أيضا على الحق بتحديد الوسائل الناجعة لمحاربة هذه الظاهرة، وبتحديد دورنا في هذه الحرب، كما يعطي نفسه الحق بتطبيق انتقائي للقانون الدولي في هذه الحرب الشاملة، فاتفاقيات جنيف غير مطبقة في أبو غريب بل هي غير مقبولة أساساً في غوانتانامو، والحرب الوقائية (ولا أقول الاستباقية) باتت مشروعة على الرغم من لا شرعيتها. والخلاصة أن كل من يدعو لدرس الظروف الواقعية التي تؤدي للعنف بات متهماً بتبرير الإرهاب وكل من ينتقد إسرائيل بالذات بات مشتبهاً بمعاداته للسامية.
أما التحول المفهومي الثالث فيتعلق بوسائل القوة، فإذا كانت السيادة باتت نسبية وإذا كنا متهمين بالتساهل أو بالتواطؤ مع الإرهاب، فلن يدعنا الغرب نتملك وسائل تسلحية متقدمة، إما لأننا دول مارقة سنستعملها في المجال الخطأ أو لأننا دول ضعيفة سنجعلها تصل إلى أيدي الإرهابيين. هكذا تؤدي إعادة النظر في مفهوم السيادة إلى إعادة النظر في تحديد حاجاتنا الدفاعية بحيث تكون بالضرورة مكملة للجهد العسكري الذي يقتضيه إنشاء نظام الوصاية على المنطقة.
في خضم هذه التحولات المفهومية، جاء من يدعونا للإسراع بإصلاح ذواتنا بعدما تأخرنا كثيرا عن ذلك. ويشعر عموم العرب بقدر من الحرج إزاء هذه الدعوات الملحاحة، فالأنظمة تأبى أن تُقدم على إصلاحاتٍ تدفعها للمغامرة بمستقبل وجودها. والناس، كل الناس، في الموالاة كما في المعارضات المتنوعة، لا يهللون لإصلاح يدعى إليه من الخارج، أو هو يتجاهل همومهم الوطنية والقومية الكبرى، أو هو متشابك مع دعوات واضحة لتوسيع رقعة حلف شمال الأطلسي نحو منطقتنا بحيث يشكل إطارا مؤسسيا للوصاية عليها، أو هو إصلاح يقوم على اخذ الكل بجريرة أفعال البعض. ولا يخفف من هذا الحرج الشامل إلحاح الغرب على الاختباء وراء تقرير التنمية العربية بصفتها تشخيصا عربيا لأحوالنا، ولا الضغط على القمة العربية بحيث لا يسمح لها بالانعقاد إلا وقد تبنت خطابا إصلاحيا وظيفته شرعنة مشروع الوصاية بإعطائه نوعا من التأصيل الزائف، كي تأتي الضغوط الخارجية في المقبل من الزمن وكأنها نوع من الاستجابة لدعوات صادرة من المنطقة تدعو القوي لإدارة عملية إصلاحها.
لذلك بت تجد الإصلاحيين بيننا يتأففون من هذا الضغط الخارجي المتمادي بدلا من الفرح به أو من اعتباره سندا لهم في معركتهم الطويلة في سبيل التغيير. وبات اصلاحيون عديدون يشاركون الأنظمة القائمة ريبتها من هذه الدعوات لا بسبب مضمونها بل بالنظر للجو الملتبس المحيط بها. ويقيني أن الخلاف الجوهري هو في طرح الأسئلة المباحة وتلك الممنوعة. لقد قاد المحافظون الجدد في أميركا غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حملة ترفض طرح الأسئلة الحقيقية حول نمو الإرهاب. فهم يحاولون البحث عن أسباب ثقافية عميقة للخلاف مع الغرب ، في صلب الدين الإسلامي والتاريخ العربي تحت مسمى واحد هو"لماذا يكرهوننا"؟ أهم ما في سؤال كهذا تغييبه للسياسات الاميركية المحددة التي تثير حفيظة العرب، وكأن الكراهية لأميركا موجودة عضويا في ثقافتنا مهما تصرفت الحكومة الاميركية.
ولكننا نعلم أن هذا التشخيص غير صحيح. ونعلم أن في مجتمعاتنا انبهارا واسعا بالغرب وبتقدمه وبتفوقه وبالولايات المتحدة بالذات. لكن مآخذنا مرتبطة بمواقف وسياسات معينة تنتهجها الولايات المتحدة ونريدها أن تتغير. لذلك فالمعركة المفهومية حول السؤال المحوري عما جرى في 11/9 ولماذا جرى قائمة على قدم وساق. وإذ يشترك بعض العالم في دعوة أميركا للإصلاح عندنا فإننا نلحظ تعميقا متزايدا للاختلاف المفهومي بين أوروبا وأميركا حول سبل معالجة الإرهاب كما نلمس مواقف رافضة لاستسهال الحد من سيادة الدول في الصين وفي الهند والبرازيل. وبتنا نتفق مع كثيرين في العالم للقول بأن الإرهاب الأصولي ليس كالشيوعية وهو بالتالي عاجز عن إعادة توحيد المعسكر الغربي حول القيادة الاميركية كما كانت الأحوال أيام الحرب الباردة.
غير أن أهم العقبات على الإطلاق أمام جعلنا، أنظمة وشعوبا، ننساق إلى هذه الموجة الإصلاحية المصدرة إلينا، هي هشاشة السلطة الأخلاقية عند مصدّر هذه الموجة. فالذي يدعونا للانتقال السريع لسلطة القانون، وللحياة الديموقراطية، ولاحترام حقوق الإنسان عليه أن يكون مثل زوجة القيصر، فوق أي شبهة، كي تلقى دعواته الصدى المفترض. لكن دولة عظمى تدعو لاحترام حقوق الإنسان وتقوم قواتها بما قامت به في سجن أبو غريب، لا سلطة أخلاقية لها. ودولة عظمى تدعونا لتنشق نسمات الحرية وهي تمنع تنفيذ اتفاقيات جنيف عن سجناء معتقل غوانتانامو لا سلطة أخلاقية لها. ودولة عظمى تدعونا لاحترام القانون الدولي وتسمح لنفسها بتجاوز رأي أكثرية أعضاء مجلس الأمن الدولي، وترفض التصديق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وعلى بروتوكول كيوتو لا سلطة أخلاقية لها. ودولة عظمى تمنعنا عن التسلح المتقدم وتسمح لنفسها بسحب توقيعها على اتفاقيات سارية المفعول في مجال الحد من الأسلحة المتطورة لا سلطة أخلاقية لها. ودولة عظمى تشن الحملات المتتالية على بعض الدول العربية بينما هي تتواطىء مع سفرائها في واشنطن لا سلطة أخلاقية لها. ودولة عظمى تدعونا لحرية التعبير ثم تحمّل الإعلام العربي مسؤولية ما هو حاصل في غزة أو الفلوجة لا سلطة أخلاقية لها. ودولة عظمى ترى أنه من حق إسرائيل اغتيال القادة الفلسطينيين الواحد تلو الآخر، ومن حقها بناء جدار يجتاح القرى والبيارات في الضفة الغربية لا سلطة أخلاقية لها.
نعم، على من يدعو للإصلاح عند غيره أن يكون هو نفسه فوق الشبهات، وهذا بالذات بيت القصيد. وهذا ما يجعلني أقرّ بأن الضغط الاميركي في سبيل الإصلاح لن يتوقف وأن أقرر، من جهة أخرى، أن دونه عقبات كأداء . فبوش ليس كسلفه ويلسون سنة 1920 ولا كأيزنهاور سنة 1956 ، والرأي الغالب قي صفوفنا، موالاة ومعارضات، أن عليه الكثير من إصلاح ذاته كي يصبح مقنعا في دعوته لإصلاح غيره. ويقيني أن هذه المعركة الأخلاقية والثقافية والسياسية لن تنتهي لا بفشله في انتخابات الخريف ولا بإعادة انتخابه، فهل نبقى فعلا عند هذا الحرج والتأفف، هل نبقى نتأرجح بين إصلاح مفروض وآخر مرفوض. أم أمامنا طريق ثالثة؟
مهما كانت دعوات الخارج للإصلاح، ومهما آلت إليه، علينا أن نتوقف لحظة ونعتبر. فنحن أحفاد الكواكبي الذي حمل على الاستبداد منذ قرن ونيف، ونحن أحفاد سلامة موسى الذي عمل للحداثة ولتحرر المرأة، ونحن ورثة حركة نهضة عربية طموحة حملتنا إلى عتبة الاستقلال الوطني. وان كنا في العقود القليلة الماضية قد أشحنا النظر أكثر من اللازم عن إلحاحية التغيير فهذا لا يعني إننا نكتشف اليوم بالذات حاجتنا لإصلاح ذواتنا لأن دولة عظمى باتت تحدثنا عنها وتدعونا لمعالجتها.
لذا فالأَوْلى بنا العودة إلى تراثنا النهضوي والى استلهامه في عملية إصلاح جديدة شاملة، واسعة، طموحة أضعها تحت عنوان وحيد هو صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع، عقد لا يتنكر لتراثنا النهضوي، ولا يهدد هويتنا بل يخرجنا من سباتنا ويجعلنا ندخل في هذا القرن الجديد بأقدام ثابتة. وعوض أن نتلهى بابتداع خطاب إصلاحي أجوف، لا يغير شيئا من أوضاعنا ولكنه يكفي لتخفيف وطأة الضغوط الخارجية على حكوماتنا، فلننظر باستقلالية وشجاعة في مضمون الإصلاح الذي نحتاجه ويناسبنا. وهذا ما أنا مقدم عليه في معادلات عشر أراها تشكل معا مضمونا لعقد اجتماعي عربي جديد، ينبثق من عندنا، فيعزز مكانتنا في العالم بدلا من أن يكون شكلا جديدا من أشكال استتباعنا.
 

•• •
 

لذا فإني أشكركم لإتاحة هذه الفرصة للحديث في هذا المضمون أمام مؤتمر يبحث بالذات بالإصلاح الضريبي. فالضريبة هي جوهر العقد الاجتماعي وقلبه، واجب المواطن تسديدها وواجب الدولة حسن توزيع وطأتها وبالتالي حسن إعادة توزيع وارداتها. والضريبة بالتالي ركن أساسي وملموس من ذلك العقد الذي آمل أن نبدأ بإعادة بنائه وفق معادلات عشر.
المعادلة الأولى تقضي بالذات بخروج حكوماتنا من مأزقها المتفاقم بين مطرقة الخارج وسندان المجتمعات. لقد دأبت جلّ أنظمتنا في كل مرة خيرت فيها بين الرضوخ للضغط الخارجي وبين الاستقواء بمجتمعاتها على تفضيل التنازل للآخر بدلا من التنازل لأهلها. لذا علينا البدء بقلب هذه المعادلة وبالتنبه لأن الدول باتت قوية أساسا لا بأسلحتها ولا بنفطها ولا بتحالفاتها الخارجية بل بمستوى تماسك مجتمعاتها وبمدى تفاهم الدولة والمجتمع على الأهداف العليا للوطن. لذا يتضمن العقد بالضرورة حقوقاً للدولة على المجتمع في حماية الاستقلال السياسي والمالي والثقافي ولكنه يتضمن أيضاً واجباً على الدولة باعتبار المجتمع شريكا، له الحق بمساءلة الدولة على خياراتها وطبعا بتغيير قياداتها إذا رأى ذلك.
لقد رأينا دولا تتنازل للخارج عن الكثير الكثير مقابل حماية نظامها، وقد شاعت هذه الظاهرة أخيراً، فتعددت الأمثلة وعظمت التنازلات فهل نبقى على هذا المنوال أم نفهم أن الخارج يحصل على هذه التنازلات الموجعة دون أن يتمكن، وربما دون أن يرغب، من تقديم الضمان الحقيقي لبقاء النظام؟ هل بتنا نستهين التخلي عن عناصر واسعة من سيادتنا كي لا نعطي شيئا من المشاركة الحقيقية لمجتمعاتنا؟ هل إن الرضوخ لمطالب الدولة الأعظم، بل أحيانا لمطالب إسرائيل، بات أسهل علينا من تبني الديموقراطية والمشاركة السياسية واحترام حقوق شعوبنا؟ إنها المعادلة الأولى التي تحتاج قبل غيرها لانقلاب مفهومي عميق. فالثقة بين الدولة والمجتمع، والتي شهدت في العقود القليلة الأخيرة انخفاضا حادا بكل المقاييس المتوفرة، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح ضريبي من النجاح إلا بالاستناد عليها، تلك الثقة لا يمكن أن تتعزز إلا إذا شعر كل مواطن بأن دولته قد كفت عن استجداء الدعم الخارجي بهدف استمرار التحكم بمصيره بل قد بادرت على العكس، للاستقواء بمجتمعها كي تقاوم، معه وبه، مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل.
وترمي المعادلة الثانية إلى بناء صرح عربي فعال لا يعتبره أحد مهددّاً لاستقلاله أو لكيانه. الفروقات كثيرة بين سيرورة التوحد الأوروبي ومشاريع التوحد العربية. ولكن علينا الاعتراف بأننا فشلنا في إقامة جامعة عربية حقيقية ربما لسبب أساسي هو في حجم طموحنا. لقد اعتمد الأوروبيون على مسارين متدرجين، اولهما أفقي بالتوسع تدريجيا من 6 الى 9 الى 12 الى 15 فالى 25 ، وثانيهما عمودي أي قطاعي، بالبدء بالحديد والصلب ومنه للزراعة ومنه لسعر الصرف ومنه لتوحيد العملة فتوحيد التأشيرة. نحن توسعنا أفقيا مع استقلال كل دولة من دولنا ولكننا طلبنا الكثير من أول يوم، فلا توصلنا لتوحد نشده القوميون ولا إلى منظمة إقليمية فاعلة كان يرمي لها القطريون، ربما لأن دولنا ما زالت هشة لدرجة ما زالت معها تتمسك معها بكل تلابيب السيادة بينما دول أوروبا عريقة لدرجة أنها استفادت من سيادتها حتى الثمالة وباتت جاهزة للتضحية ببعض مكونات سيادتها لصالح اتحاد عُلْوي. ما زالت هذه الطريق مفتوحة أمامنا بل إنني أكاد أضيف أننا اليوم، والضغط العالمي مشتد علينا، أحوج من أي وقت مضى لاستيعاب حقيقة ان قيام سوق عربية مشتركة، وقيام جامعة عربية فاعلة ومبادرة، لم يعد خطراً على استقلال أي من دولنا أو تقليصا لهامش تحركها بل بات شرطا من شروط الذود عن ذلك الاستقلال. إني أعلم أن هذا انقلاب مفهومي ما زالت جلّ أنظمتنا عاجزة عن القبول به ولكن التجارب في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية باتت واضحة للعيان: ومفادها أن الاستقلال الفردي لم يعد خيارا واقعيا وان الاستقلال بمعناه المستجد يقتضي الانتماء إلى تكتل إقليمي فاعل. ولقياس المسافة التي تفصلنا عن هذه المعادلة الجديدة علينا أن نتذكر أن زعماءنا لا يناقشون صحتها من خطئها بل ما زالوا يعتبرون أن مجرد التئام قمتهم بعد أيام هو الإنجاز بعينه.
المعادلة الثالثة هي بين دول النفط ودول القحط. كانت الفكرة السائدة هي إن النفط قد قسم العرب إلى أغنياء وفقراء بينما كانوا قبله في أوضاع متشابهة. وهذا صحيح وإنما إلى حد. سيأتي يوم نعترف فيه للنفط بجميل التحفيز على الحالة الوحيدة الناجحة للتكامل العربي من خلال انشاء سوق عمل موحدة على طول المساحة العربية، اذ عمل عشرات الملايين من المصريين والسوريين واللبنانيين والتوانسة في بلدان لم يكن الواحد منهم يفكر حتى بزيارتها مثل ليبيا أو السعودية او العراق. وفي المقابل فان 300 الى 400 مليار دولار قد خرجت من دول النفط الى الدول المصدرة للعمالة في الربع القرن المنصرم . دلّوني على حالة واحدة مشابهة من التكامل ولن تجدوا! لكن الواقع يقضي بالاعتراف بأن هذا الانجاز غير المسبوق بات مهدداً بسبب سياسات توطين العمالة المتسرعة في دول النفط، كما بالكيد من جاليات عمالية بعينها في غير بلد نفطي، أو الاعتماد على العمالة غير العربية بزعم انها أقل اخلالا بالامن.
أنا أفهم ان سوق العمل، هي تماما كسوق النفط، باتت عالمية في طبيعتها. غير أنه في صلب أي عقد جديد قضية الهوية وعلى دول النفط أن تسأل نفسها فعلا إن كان من مصلحتها الطويلة الأمد الاعتماد على اليد العاملة بصفتها سلعة عادية تستأجر وتشترى وتباع وان تسأل نفسها إن كانت الدول المصدرة للعمالة ليست قادرة في ظروف معينة على استعمال جالياتها لخدمة أهدافها، وأن تسأل نفسها عن الكلفة العالية الي ستساق لدفعها من جراء الضغوط المتعلقة بحقوق الانسان وقرب تطبيقها لمصلحة العمالة الوافدة وان تسأل بالنهاية نفسها ماذا سيبقى لها إن كانت الارض أرضها والشعب شعب غيرها. أما دول العمالة فآن الآوان ان تسأل نفسها هل هيأت مواطنيها لتنافس حقيقي مع دول العالم الاخرى كي يفوزوا عن جدارة بالوظائف المتنافس عليها في دول النفط. فلا نضحيّن عن قصر نظر، لا من جانب ولا من آخر، بهذا الإنجاز الكبير، إنجاز سوق العمل العربية المتكاملة التي تطورت عفويا منذ نصف قرن والتي باتت تهدد سياساتنا المتسرّعة استمرارها.
وتسعى المعادلة الرابعة إلى توازن مبتكر بين الإصلاح العربي واعتبار خصوصية كل بلد من بلادنا. ذلك أنه إن كان من أمثولة نستخلصها من نحو نصف قرن من الاستقلال فهي أن كل التيارات التي سعت لتثبيت لون واحد، ملكي أو جمهوري، رأسمالي أو اشتراكي، ليبرالي أو ثوري، علماني أو إسلامي على عموم الساحة العربية، كل هذه التيارات قد فشلت. وعلينا عدم توقع لون واحد يطغى على 22 وحدة سياسية عربية في القريب المنظور من الزمن، غير أننا إن قمنا بعدد من الإصلاحات الضرورية، ولو بوتيرة مختلفة من بلد إلى آخر، فإننا قد نصل إلى وضع يقارن بذلك التشابه المذهل في أنظمة نحو 25 دولة باتت تشكل الاتحاد الأوروبي. ويقيني أن كثيرين سعوا وفشلوا في إنشاء قدر عال من التشابه بين الأنظمة العربية كنقطة انطلاق لتقاربها بينما العكس هو الصحيح إذ إن التشابه هو نوع من النتاج الطبيعي لمسارات متنوعة على فترة عقد أو عقدين مقبلين، تأخذ الظروف المحلية في الاعتبار ثم تسير قدما في عملية الإصلاح، بلا تسويف ولا تلكؤ فتكتشف بعد حين أن جلّ الأدوية لأكثرية الأمراض هي نفسها وان الفروقات الهائلة المزعومة في ما بينها ما هي إلا خطاب كيانات تسعى لشرعنة وجودها.
وتقضي المعادلة الخامسة بإنشاء توازن جديد بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات. فالديموقراطية الغربية قامت أولا على تحرر الفرد من الكنيسة، ثم من جماعته بالولادة حتى نقل ولاءه للجماعة الوطنية دون غيرها. لم يحصل مسار تاريخي مشابه في بلداننا ونخطىء إن نحن قبلنا باستيراد النظام الديموقراطي دون فهم الفلسفة الفردية التي يقوم عليه، في الوقت الذي ما زال فيه الأفراد في مجتمعاتنا يلوذون بعائلتهم وبعشيرتهم وبطائفتهم للحصول على الدعم والمساعدة في مختلف نواحي الحياة وهذا ما يفسر فشل الأنظمة التسلطية العربية في محاولتها إلغاء الولاءات التقليدية على تنوعها قسريا. قد يأتي يوم تتأصل فيه الحداثة في بلداننا لدرجة يتحرر فيها الفرد من أي ولاء آخر غير الولاء للجماعة الوطنية ولكن هذا اليوم ليس قريبا بنظري. لذا علينا العمل على إقامة توازن مبتكر بين حق الفرد بالتحرر من ولاءاته التقليدية فلا نأسره داخلها ولا نرغمه على البقاء في أحضانها من جهة وبين حقه باستمرار التمتع بالانتماء إلى عائلة أو قبيلة أو طائفة من جهة أخرى. وان كنا في لبنان قد غلبنا مأسسة الولاءات الجزئية على مصلحة الدولة، فإننا أيضا أسأنا للفرد إذ حشرناه، رغما عنه، في هويته الطائفية التي قد لا تعني له دائما شيئا يذكر. وفي غير لبنان، ألغيت الولاءات التقليدية اعتباطا، وإذ بها تعود للواجهة فور أن يشعر المواطن بوهن الدولة، كما هو حاصل اليوم في العراق. إني أدرك الصعوبة في ايجاد ميزان عادل بين حق الفرد بالانتماء لجماعة فئوية وحقه بالتحرر منها ولكن لا مناص لنا إلا أن نجد هذا الميزان في تشريعاتنا وفي قوانيننا الانتخابية كما في أحوالنا الشخصية، إن شئنا فعلا أن نخرج من حال التأرجح المضني بين متغن ٍ بالتراث حتى الملل ومفتتن بالغرب حتى الهبل.
وترمي المعادلة السادسة إلى قيام توازن ٍ جديد بين منطق الدولة ومنطق السوق. لقد كانت الدولة والسوق في بلداننا في صراع مستديم مرت فيه دول عربية عديدة لا بسيطرة الدولة، على السوق فحسب، بل بنوع من التأميم للاقتصاد وللخدمات الاجتماعية وللتعليم والثقافة بل ولمجرد التفكير. يدعونا العالم اليوم إلى تصحيح هذا الخلل وقد قامت به عدد من دولنا بقدر متفاوت من النجاح ومن الإصرار. لكن توازنا ضروريا ملحّ هنا أيضا. أفهم خصخصة لمختلف القطاعات الإنتاجية ولكن من التهور أن تخرج الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية بالكامل، فتغادر لا النقل والاتصال والصناعة والزراعة فحسب بل أيضا التعليم والصحة والإنجاب. وإذا نظر المرء إلى العقدين المنصرمين من التصحيح المالي لوجب عليه الاعتراف أن مجتمعاتنا عرفت مستويات أوسع، ولو انها ليست بالضرورة أرقى، من التعلّم و أرقاماً أفضل من إطالة العمر ولكن مستويات الفقر والبطالة كما الفروقات بين الدخول قد تفاقمت بصورة مريعة. وشعرت فئات وسطى كثيرة أن الدولة، بتبنيها لإرشادات صندوق النقد، وبانسحابها التدريجي من المسؤوليات المفرطة التي كانت قد أخذتها على عاتقها في السابق، فإنها قد كسرت العقد الاجتماعي الذي نشأ في الخمسينات والستينات.
نعم لقد شعرت هذه الفئات بنوع من التخلي إن لم يكن بالخيانة من قبل الدولة وعبرّت عن سخطها في تحركات مدينية دامية على طول الثمانينات في المغرب أو تونس أو مصر أو الجزائر أو الأردن. وقد يعاجلك البعض بالقول أن هذه الهبّات المدينية قد توقفت. وهي فعلا توقفت إنما على زغل وبنوع ٍ من الغضب المكبوت على الدولة، فرأينا تلك الأوساط تعبر عن كبتها بالالتحاق بالتيارات المتطرفة، أو بابتداع صنوف متطورة من الاعتداء على أملاك الدولة وعلى عقاراتها، وباتت علاقتها بالدولة ملتبسة تتأرجح بين مطالبتها بالعودة للحماية السابقة وبين تجاهلها تماماً لمصلحة الروح الفردية أو الاعتماد على الجماعات الخيرية أو الدينية أو الحزبية. ويقيني أن الأمر غير صحي على الإطلاق وأنه على الدولة أن تخرج لا من العلاقة الأبوية الحاضنة المفرطة التي كانت للدولة تجاه المجتمع بل أيضا من الحرب الباردة القائمة حاليا بينهما. لقد كسرت الأنظمة العربية ذات الاقتصاد الموجّه عقدها الاجتماعي السابق مع المجتمع من جانب واحد، ثم تمكنت، بما لها من وسائل أمن وقمع، وبما في المجتمع من هشاشة في تنظيماته الأهلية والنقابية، من أن تخنق اعتراضات المجتمع على هذا التخلي الاحادي الجانب عن العقد السابق بينهما. هل نشأ عقد جديد؟ ليس فعلاً، وبالتالي فإني لا أستبعد العودة الى مطالبات اجتماعية قد تأخذ أحياناً منحى عنفياً، خصوصا إذا استمرت الهوة بين الثراء والفقر داخل مجتمعاتنا بالتعمق كما هي الحال منذ نحو عقدين.
وهذا ما يحملني للمعادلة السابعة التي ترمي لخلق توازن بين حاجة الدولة الطبيعية لفرض التنظيم لا سيما الضريبي منه على مختلف عناصر الإنتاج الاقتصادي وبين وجود قطاع اقتصادي غير رسمي أو حتى غير قانوني داخل مجتمعاتنا. لن أحدثّكم لا عن عزبة المكاوي ولا عن العشوائيات الشاسعة في قلب مدننا وضواحيها، لكن الحاجة لتدبير الحال قد دفعت بفئات واسعة من مجتمعاتنا لإتباع سياسة قضم منهجية لسلطة الدولة، من خلال تعدد وتوسع النشاطات الاقتصادية غير الملحوظة في الحسابات الضريبية المعتمدة. طبيعي أن يسعى وزراء المال لإدماج هذا النشاط العفوي داخل الدورة الاقتصادية وأن يحاولوا وقفه عندما يتجاوز القانون. ولكنكم، وفي هذا المجال بالذات، بحاجة لعقد جديد بين الدولة والمجتمع تتكفل فيه الدولة فاتورة إدماج الاقتصاد informal (وهو يشكل نسبة تراوح بين الربع والنصف من الإنتاج العام في غير بلد عربي) في الدورة الاقتصادية العامة، من خلال التعويض على المتضررين بفرص العمل، وبتأمينات اجتماعية وبظروف سكن وتعلم وتدريب تقنعهم جميعا بفوائد إخراج نشاطهم الإنتاجي من العتمة إلى الضوء .
والمعادلة الثامنة هي معادلة مبتكرة بين الأجيال. نحن في هذه المسألة بالذات أمام معضلة كبرى إذ تتضافر نتائج الفورة السكانية المتفجرة في الثمانينات من القرن الماضي، مع إطالة أمد الحياة، ودخول المرأة الى سوق العمل، وانتشار التعليم المسطّح، تضافر كل هذا وضعنا أمام تحدٍ حقيقي غير مسبوق: تحدي إدماج الأجيال الجديدة في العمل وفي المواطنية وفي النسيج الاجتماعي. وتعلمون أحسن مني أن نسبة نمو سكاني تصل أحيانا إلى 3% تثقل هيكل المجتمعات لفترة طويلة وتتحول إلى مشكلة حقيقية يوم الدخول إلى سوق العمل. وهذا ما نحن فيه من استمرار المعدلات عالية في أكثرية البلدان العربية، ومن نضوب فرص العمل فيها كلها تقريبا. وإذا كان العدد كبيرا والتدريب سطحيا، وإذا أصبحت الخدمة الإلزامية بالجيش إنشاء الله من مخلفات الأمس، وان كانت سوق العمل العربية أقل سيولة من السابق، وان كانت آفاق الهجرة للدول المتقدمة باتت حلما صعب المنال لا سيما في السنوات الأخيرة، فكلها عناصر تفسر الاختناق الحقيقي الذي دفعنا شبابنا إليه والذي يعبرون عن رفضهم له بألف وسيلة تثير فينا القلق بل والهلع أحيانا.
ويقيني انه على جيلنا، وعلى جيل الوفر الذي سبقنا، تحمل مسؤولية هذا الخلل. فالدول المتطورة تمر بمرحلة انكسار المعادلة بين كهول متكاثرين وشباب متناقصين، ولكن معادلتنا أصعب بإطالة عمر الكهول وبانفجار سكاني متزامنين. لذا لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت معالجة بطالة الشباب التي لا تخفى عليكم آثارها السياسية والاجتماعية بل والأمنية، والتي تناقصت أخيراً المتنفسات الإقليمية والعالمية للتخفيف من وطأتها، دون أن تلمس اهتماما أكبر بها لدى قيادات تبدو أحيانا وكأنها عاجزة عن مجرد تفهم خطورة هذه المسألة. لذا يجدر بنا أن ننظر في ميزانيتنا السنوية، وفي كل بند من بنودها، فنحكم على تكبيره أو تصغيره، وإبقائه أو محوه وفق معيار أول هو معيار تحفيزه على إيجاد فرص عمل جديدة، وهو معيار يجب أيضا أن نبدأ باستلهامه في تشريعاتنا المالية والاقتصادية بل أيضا في خياراتنا السياسية والديبلوماسية. ولقد آن الأوان بالذات لزملائكم وزراء الداخلية والدفاع ولمسؤولي الأمن في بلدانكم أن يسألوا أنفسهم إذا كان الأمن سيستتب بعد اليوم من خلال صفقات تسلحية جديدة أو خدمة عسكرية إلزامية أو من خلال التضخم في عديد القوى الأمنية أو على نقيض كل ذلك من خلال توجيه جزء كبير من هذه البنود الانفاقية إلى سياسات معالجة البطالة.
أما المعادلة التاسعة فهي في علاقة الرجل والمرأة. أنفقتم وتنفقون مئات مليارات الدولارات على تعليمهن، فهل تنوون بعد ذلك إبقاءهن خارج الاقتصاد بجعلهن مجرد مستهلكات وخارج السياسة، بجعلهن مجرد مراقبات؟ إنني لا أجد لا في الشرع ولا في العقل، ولا في التحليل الاقتصادي ولا في الاقتناع الديموقراطي، ما يبرر أي تأخير إضافي في عملية فتح كل الأبواب أمام المرأة. بل إن تأخرنا في هذا القطاع، بالمقارنة لا مع أوروبا، بل مع مختلف الدول الإسلامية غير العربية، يجب أن يدفعنا لتبني لا مبدأ المساواة السياسية فحسب، بل أيضا آلية الكوتا التدرجية لمشاركة المرأة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، بحيث نعدد المحفزات التي تسمح لنا بالتعويض عن الزمن الذي أضعناه في هذا الصدد.
المعادلة العاشرة والأخيرة ترمي الى نشوء توازن جديد بين حماية الهوية وبين التواصل مع الآخر والتفاعل معه. إن أفضل الوسائل لجعل الآخر لا يحملنا مسؤولية نيويورك وبالي ومدريد، هو في أن نبادر بالاعتراف بما لنا من مسؤولية في إيجاد الظروف وإتباع السياسات التي جعلت هذه العمليات الإجرامية ممكنة. ولا يمكننا الاستمرار بمطالبة الآخر بتفهم الأسباب الكامنة وراء انتشار هذا العنف المتزايد دون أن نحاول بأنفسنا أن نتفهم تلك الأسباب وان نتمعن بالقرارات التي اتخذناها وتلك التي عجزنا عن اتخاذها والتي أدت إلى إنتشاره. ذلك أن لا مصلحة لنا بالانفصال عن العالم الأوسع الذي بات ينظر الى قدراتنا القيادية بقدر كبير من الريبة والشك والذي قد تدفعه لامبالاتنا بمسؤوليتنا الى تحميلنا المسؤولية بأكثر مما نستحق وعن مطالبتنا بأكثر مما لنا عليه طاقة.
لذا لا التمترس وراء السيادة والهوية كالعذراء المذعورة يفيدنا ولا الانبطاح والتساهل كالمرأة غير الشريفة يحل معضلتنا. من هنا يبرز انكبابنا على إصلاح أنظمتنا ومؤسساتنا وتشريعاتنا كشكل من إشكال تثبيت الذات قبل التواصل والتفاعل مع الآخر. وقد يقل احترام الآخر لنا بقدر تساهلنا مع مطالبه، وقد يزيد احترامه لنا بقدر إشعاره بأننا أقدمنا على إصلاح ذواتنا لا استجابة لنصائحه غير البريئة بل تلبية لحاجة مجتمعاتنا. أما الهوية فلا تحمى بالانغلاق بعدما رأينا عشرات الحضارات والثقافات تندثر بالذات عندما تقرر كسر الجسور مع الآخر والانغلاق على الذات. فموقع العرب في العالم مشروط بما يقدمونه فعلا لهذا العالم، مما يثريه فكرا ونموذجا وإبداعا.
لقد قلت في مطلع هذه الكلمة إن الإصلاح الوافد لنا من الخارج ملتبس، مريب، قد يكون حقاً أريد به باطل، وهذه في الواقع قناعتي وأنا أتلمس عناصر الوصاية التي تسعى الدولة الأعظم أن تنشئها في هذه المنطقة من العالم، وتسوقها بالدبابة حينا، بالضغط حينا، بالنصح حينا. لذا ميلي أكبر لرفضها من ميل زعمائنا الذين جعلوا وزراءهم يعملون جلسات وجلسات لإيجاد نص يخدر الخارج الضاغط بينما لا يعد الداخل المنتظر إلا بالقليل الغامض.
لكننا لسنا بحاجة لأي إصلاح إن كان لمداهنة القوي ومسايرته واتقاء شره. إننا بحاجة للإصلاح لأنه سنّة الحياة، ولأن مجتمعاتنا تنتظره وستصر عليه بقدر إصرارها على تحقيق المطالب الوطنية والقومية الكبرى. إن إصلاحا متجذراً في تراثنا، يلبي حاجاتنا، يصيغ عقدا جديدا بين دولنا ومجتمعاتنا ليس تسهيلا لتلك الوصاية التي نخشى وعن حق، أنه الرد الحقيقي عليها.

• بسبب ارتباطه الوثيق بالقضايا المطروحة راهناً في العالم العربي نعيد نشر هذا النص الذي قدمه الدكتور غسان سلامة أمام مؤتمر الاصلاح الضريبي في البلدان العربية (بيروت – 18/ 5/ 2004).
 


( وزير الثقافة الأسبق)      

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,675,549

عدد الزوار: 6,907,988

المتواجدون الآن: 106