فهم الاستقرار وعدم الاستقرار في السعودية

تاريخ الإضافة السبت 5 آذار 2011 - 5:21 ص    عدد الزيارات 1031    التعليقات 0

        


 

فهم الاستقرار وعدم الاستقرار في السعودية

- أنطوني كوردسمان - واشنطن

ليست السعودية محصَّنة ضد الاحتجاجات والاعتراضات، ولطالما تخبّطت مع تحدّيات الإصلاح. بيد أن أكثر ما يلفت النظر في المملكة العربية السعودية خلال الأسابيع الأخيرة للأزمة هو غياب أي تحدٍّ أساسي للحكم والطريقة التي يسيّر بها شؤون البلاد.
قد لا يستمرّ الوضع على هذا النحو. بدأ مزيد من المثقّفين والشبان السعوديين العلمانيين يرفعون رسائل وعرائض، ويطالبون بإصلاح أسرع وتيرة. وتذهب بعض الأصوات الأكثر تطرّفاً أبعد من ذلك، فتطالب بـ"أيام غضب"، في انعكاس لدعوات مماثلة في تونس وليبيا. في الشرق الأوسط اليوم، تبدو التظاهرات محتومة في بعض البلدان، ولا يستطيع أحد أن يضمن استقرار السعودية المستقبلي في هذا الزمن المضطرب.
في الوقت نفسه، ثمّة أسباب وجيهة تبعث على الأمل بأن السعودية ستستمرّ في سلوك المسار الذي يقود إلى الإصلاح والتغيير السلميَّين. لا تتكلّم أقلّية صغيرة وعالية الصوت باسم أمّة بكاملها، وقد يتبيّن أن الاستقرار السعودي قويّ بما يكفي بحيث يُساهم في الإصلاح بدلاً من تهديد النظام.

تاريخ من المخاوف في مقابل تاريخ من الاستقرار
أحد الأسباب هو تاريخ المملكة. تُطلِق كل أزمة في الشرق الأوسط منذ أيام عبد الناصر موجة جديدة من التكهّنات عن السعودية ومستقبل الملَكية. لكن انقضى أكثر من نصف قرن على انطلاقة تلك التكهنّات، ولم تُغيِّر السعودية نظامها. لقد أظهرت بلدان أخرى في المنطقة بوضوح شديد أن تاريخاً من الاستقرار ليس ضمانة للمستقبل، لكن من المهم الإشارة إلى أن الاستقرار السعودي ناجم عن أن الحكومة السعودية تبادر، عند كل موجة تغيير، إلى إجراء الإصلاحات الضرورية للحفاظ على الدعم الشعبي.
قد يكون الملك الحالي – الملك عبدالله بن عبد العزيز – في أواخر ثمانيناته، وهو قاد حكومة انتهجت باستمرار سياسات جعلته رمزاً للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي في نظر عدد كبير من السعوديين إنما قبل وقت طويل من الأزمة الراهنة. وتعامل في الوقت نفسه مع واقع أن الشعب ورجال الدين السعوديين يلتزمون بعمق شكلاً متزمّتاً من الإسلام ويقاومون التغيير الاجتماعي عندما يبدو أنه يتعارض مع الممارسات الدينية والاجتماعية التقليدية، وأن المجتمع السعودي تُحرِّكه قيمه ومطالبه الداخلية المختلفة تماماً عن قيم العلمانية الغربية ومطالبها.
إنه أمر لافت أنه عند انطلاقة هذه الموجة الجديدة من الأزمات، لم يردّ الملك عبدالله بموجة من الإجراءات الأمنية المشدَّدة. بدلاً من ذلك، أصدرت حكومته مجموعة من المراسيم الملكية التي استثمرت مليارات الدولارات في تعزيز الاستقرار من خلال تلبية حاجات الشعب. وقد أعلنت الحكومة السعودية أن هذه الاستثمارات تشمل:
- 10.6 مليارات دولار (40 مليار ريال سعودي) في تمويل جديد للقروض السكنية من خلال صندوق التنمية العقارية.
- 7.9 مليارات دولار (20 مليار ريال سعودي) لتمويل زيادة رأسمال بنك التسليف السعودي.
- 266 مليون دولار (مليار ريال سعودي) للسماح للضمان الاجتماعي بزيادة عدد أفراد الأسر المشمولين بالتغطية.
- 319.9 مليون دولار (1.2 مليار ريال سعودي) لتوسيع الخدمات الاجتماعية.
- 933 مليون دولار (3.5 مليارات ريال سعودي) لمساعدة المعوزين على تصليح منازلهم وتسديد فواتير خدمات المرافق العامة.
- 126.9 مليون دولار (476 مليون ريال سعودي) لدعم البرامج الخاصة بالطلاب المعوزين في وزارة التربية.
- 3.9 مليارات دولار (15 مليار ريال سعودي) لدعم الهيئة العامة للإسكان.
- زيادة رواتب موظّفي الدولة بنسبة 15 في المئة.
- زيادة بنسبة 50 في المئة في المخصّصات السنوية للمنظمات الخيرية لتصل إلى 120 مليون دولار (450 مليون ريال سعودي).
- 26.7 مليون دولار (100 مليون ريال سعودي) تُخصَّص سنوياً لمشاريع الصندوق الخيري الوطني.
يبلغ مجموع هذه الاستثمارات حوالى 36 مليار دولار، ومن الواضح أنها تهدف إلى نزع فتيل التململ الشعبي. وفي الوقت نفسه، لا يمكن اعتبارها تهافتاً مفاجئاً على الاستثمار في الوظائف والسكن والخدمات الطبية والتعليم. فهي تعكس نصف قرن من استثمار الحكومة السعودية في الأولويات نفسها التي حرّكت المطالب الأساسية للمتظاهرين في مصر وتونس، وشكّلت نقطة تركيز العدالة الاجتماعية التي كانت في صلب الجزء الأكبر من الاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط.  ليست هناك مؤشّرات كثيرة في التاريخ تُظهر أنه يمكن اعتبار الاستقرار السعودي أمراً مسلَّماً به. فالمسألة بكل بساطة هي أن السعودية محورية جداً للمصالح الاستراتيجية الأميركية والعالم. تؤدّي صادرات النفط السعودية دوراً أساسياً في استقرار ونموّ اقتصاد يصبح أكثر عالمية بصورة مطّردة، ولا تشير التوقّعات الأخيرة لوزارة الطاقة الأميركية إلى أي خفوضات أساسية في المستوى المباشر للاعتماد الأميركي على واردات النفط حتى سنة 2025.
السعودية مهمّة لأمن المنطقة واستقرارها بقدر أهمّيتها لاقتصاد العالم. إنها أساس الجهود التي يبذلها مجلس التعاون الخليجي لإنشاء دفاعات محلية، والتعاون الاستراتيجي الأميركي مع دول الخليج الجنوبية. وتؤدّي دوراً محورياً في موقع الثقل الموازن في وجه إيران الراديكالية والأكثر عدوانية، وهي مصدر المبادرة التي وضعتها الجامعة العربية للتوصّل إلى سلام مع إسرائيل، وأصبحت شريكاً أساسياً في الحرب على الإرهاب. الوضعية الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط رهن بوجود نظام صديق ومعتدل في السعودية.

إيجاد التوازن
لا يستطيع أحد تجاهل واقع أن القادة السعوديين يواجهون تحدّيات كثيرة قد تنفجر وتتحوّل اضطرابات شعبية إذا لم يجرِ التعامل معها بمهارة شديدة. عليهم أن يحاولوا الاحتفاظ بالسلطة والدعم الشعبي فيما يُكيِّفون تحرّكاتهم باستمرار لإيجاد التوازن المناسب بين التحديث والتقدّم الاجتماعي ورغبات سكّان محافظين جداً. عليهم أن يسعوا إلى إرساء التوازن الأفضل بين من يرّكزون على الحاجات العلمانية ويدعون إلى تغيير سريع والقادة الدينيين الذين ينصبّ تركيزهم الأساسي على الحفاظ على قيم شكل متزمّت من أشكال الإسلام. من أجل إرساء هذا التوازن، على الملَكية والنخب والتكنوقراط السعوديين أن يعملوا في نطاق منظومة وثقافة سياسيّتَين قلة من الأميركيين يفهمونهما، ويصعب تأطيرهما في سياق معيّن. ليست الملَكية السعودية من نوع الديموقراطية التمثيلية التي يألفها الأميركيون. فتجاربها المحدودة المتمثِّلة في مجلس وطني مختار بعناية وحكومات محلية ثمثيلية، تقدّمت ببطء وكانت شديدة المحدودية. في الوقت نفسه، أثبتت الملَكية السعودية أنها أكثر تكيّفاً وتجاوباً مع مطالب الشعب من العديد من الأنظمة الشرق الاوسطية التي تستعمل لقب الرئيس أو التي يحكمها قادة هم وليدو أنظمة ما بعد استعمارية أكثر سلطوية بكثير.
ربما يمسك كبار القادة في العائلة المالكة السعودية بزمام الأمور بقبضة قويّة، لكنهم يعتمدون بشدّة على التوصّل إلى إجماع داخل العائلة المالكة بكاملها (التي تضم الآن ما يزيد عن 5000 فرد)، ومع عائلات بارزة أخرى في السعودية، ومع التكنوقراط والمربّين، والمؤسسة الدينية والزعماء الأساسيين على غرار عائلة الشيخ. وعلى النقيض من معظم الحكومات في العالم النامي، يتيح المسؤولون السعوديون للناس قدرةً على التعبير مباشرةً عن شكاواهم ورفع عرائض، ويتمتّعون برصيد جيد في استباق المطالب الشعبية والتجاوب معها.

المحافظة في مقابل الإصلاح
يجب أن يفهم المراقبون الخارجيون أيضاً مدى اختلاف الديناميات السياسية والاجتماعية السعودية عن تلك الموجودة في أي بلد آخر في الشرق الأوسط. طوال ما يزيد عن نصف قرن، تخبّطت الحكومات السعودية المتعاقبة مع التجاذبات بين العادات الدينية والاجتماعية والحاجة إلى التغيير. وفي معرض ذلك، كان الالتزام الشعبي السعودي بالقيم الإسلامية المحافظة يتطوّر باستمرار، إلا أنه يتعيّن على الملَكية السعودية أن تتقدّم رويداً رويداً وبحذر، وعليها أن تبرهن على الدوام شرعيّتها الدينية والتزامها الإسلام، ولا بد للإصلاح من أن يولّد سلسلة من التحدّيات والممانعة.
ليس لقب "خادم الحرمين الشريفين" الممنوح للملك لقباً شرفياً فارغاً من المعنى. فنجاح الحكومة السعودية في تبجيل الإسلام ودعمه، ومؤازرة تدفّق الحجّاج من مختلف أنحاء العالم إلى مكة والمدينة، وتبجيل القرآن، أساسي جداً في شرعيتها الشعبية.
في الوقت نفسه، ليست المحافظة الدينية السعودية تطرّفاً إسلامياً، وهي ذات تأثير معزِّز للاستقرار. فالمحافظة الدينية السعودية نفسها التي تفرض على الحكومة الحذر والتروّي في تطبيق الإصلاحات، تحدّ من إمكانات ظهور موجات مفاجئة من المطالبات الشعبية بتطبيق إصلاح علماني على غرار تلك التي شهدتها مصر وتونس. لا يزال كثرٌ في النخبة السعودية يواصلون دفع الإصلاح نحو الأمام، لكن ليست هناك مؤشرات قوية بأن المحافظة الشعبية السعودية سوف تنكفئ فجأة وتفسح في المجال أمام دعوات واسعة تطالب بمجتمع أو حكم أكثر علمانية.

الشرعية ومكافحة التطرّف
حِرْص الحكومة على الحفاظ على شرعيتها الدينية أساسي أيضاً في معركتها ضد الإرهاب داخل المملكة وخارجها. ونجاحها في الحفاظ على ثقة الشعب بالتزامها الإسلام يساعدها على شرح الأسباب التي مكّنتها من طرد "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" من المملكة وإرغامه على التمركز في اليمن.
ويشرح أيضاً لماذا تواظب تقارير وزارة الدفاع الأميركية وتلك التي تصدر عن وزارة الخارجية الأميركية سنوياً حول الإرهاب، على الثناء الآن على التقدّم والتعاون السعوديّين في التعامل مع تنظيم "القاعدة" وخطر الإرهاب الأكبر.
يطرح هذا النجاح في المعركة ضد التطرف تحدّيات خاصة به. للمملكة نظام قضائي مختلف جداً. فهو يسير ببطء على طريق التحديث، ويمكن أن تلجأ المحاكم السعودية وأجهزة الأمن الداخلي إلى القمع، ولا تزال تعاني من مشكلات جمّة. بيد أن التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية حول حقوق الإنسان أكثر إيجابية في تقويمه للسعودية مقارنةً بالعديد من البلدان النامية الأخرى. فضلاً عن ذلك، يعتمد النظام السعودي على الاستيعاب أكثر منه على القمع. فهو غالباً ما يستوعب الإصلاحيين والمعارضين المعتدلين في النظام بدلاً من إسكاتهم أو قمعهم. صحيح أنه يطارد ناشطي "القاعدة"، لكنه يملك واحداً من أبرز البرامج لإعادة تثقيف المتطرّفين الشبّان واستمالتهم في الشرق الأوسط.

الحفاظ على التزام التغيير
يُطلق كل تغيير في الملَكية جولة جديدة من المخاوف بأن الملك المقبل لن يسمح للسعودية بأن تتطوّر بالوتيرة الضرورية وتطبّق ما يكفي من الإصلاحات. المفارقة هي أن كثراً تخوّفوا، قبل ارتقاء الملك عبدالله إلى العرش، من أنه قد يكون محافظاً جداً ويقاوم الإصلاح. لكن عملياً، أصبح الملك عبدالله رمزاً للتقدّم الذي يطرح الآن تحدّياته الخاصة.
الملك عبدالله والقادة السعوديون الآخرون من أبناء جيله متقدّمون في السن، ولا يستطيع أحد أن يضمن حلول ملك جديد مكانه يركّز بالدرجة نفسها على الإصلاح. وفي مرحلة ما في السنوات القليلة المقبلة، سوف يكون على السعودية أن تنتقل من اختيار ملك من بين أبناء مؤسّسها – ابن سعود – إلى اختيار ملك من الجيل المقبل في العائلة المالكة. لقد طبّقت الحكومة إصلاحاً مهماً في تحديد آلية اختيار ملك جديد، وهناك عدد كبير من الأمراء الأكفياء والمتمرّسين في الجيل المقبل. بيد أن اختيار ملك جديد أمر مهم، وليست معالم هذا الانتقال السياسي واضحة بعد.
هذا وقد أظهرت العائلة المالكة قدرة لافتة على التعامل مع سياستها الداخلية، والتزمت ضمناً الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي على مر تاريخها الحديث. ليست الملَكية محصَّنة ضد الانتفاع الذاتي، لكنها دعمت الإصلاح التربوي واعتماد تكنولوجيات جديدة وإجراءات الرعاية الاجتماعية منذ تأسيسها. وقد تسارعت هذه الجهود كثيراً بعدما بدأت الصادرات النفطية تتحوّل "ثورة نفطية" في مطلع السبعينات.

نوعية الحكم
من السهل جداً التركيز على السياسة وتجاهل نوعية الحكم. بيد أن الواقع يبقى أن طريقة إنفاق الدول لأموالها هي معيار أساسي تماماً مثل السياسة في قياس "شرعيّتها". لطالما أظهرت الموازنة الوطنية والخطط الخمسية السعودية أن القادة السعوديين لا يكتفون بالحديث عن الإصلاح والتقدّم، بل ينفقون أيضاً مبالغ كبيرة على مختلف الجوانب الأساسية في الرعاية الاجتماعية.
تُبيِّن دراسة الموازنات السعودية والخطط الخمسية والتقارير الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي منذ منتصف السبعينات أن السعودية لم تعانِ من "مرض النفط". أُنفِق المال حيث هناك حاجة إليه، وحيث يساعد على الحفاظ على الاستقرار. لقد استثمرت الحكومة مبالغ طائلة في استحداث الوظائف وبذلت جهوداً حثيثة لخفض اعتمادها على العمالة الأجنبية. قد تكون نخبتها فاحشة الثراء، بيد أن السواد الأعظم من العائدات السعودية أُنفِق على الأمن القومي والسكان في شكل عام، بما في ذلك الفقراء والطبقة الوسطى التي تتوسّع بصورة مطّردة. وتضمّن هذا الاستثمار زيادات كبيرة في الخدمات الأساسية على غرار الكهرباء والمياه. وتحقّق توسّع شبه إعجازي في قطاع التعليم (الذي يشكّل الآن حوالى 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) والرعاية الصحية والسكن في وجه النمو السكّاني الهائل. أصبحت الخدمات الحكومية أكثر فاعلية بكثير فيما انحسرت إلى حد كبير الحواجز أمام الاستثمارات الخاصة السعودية والخارجية. وأصبحت شركة النفط الوطنية السعودية "أرامكو" نموذجاً للمستخدِم الذي يعتمد الكفاءة معياراً للتوظيف. وأنفقت المملكة المليارات تلو المليارات على إنشاء مدن صناعية في مختلف أنحاء البلاد وتوسيعها، فيما فتحت باقي اقتصادها، وسعت إلى استبدال العمّال الأجانب بعمّال سعوديين، وبدأت تطوير قطاعات اقتصادية جديدة على غرار التعدين ومصادر دخل جديدة مثل السياحة.

التطلّع نحو المستقبل
لا يعني هذا أنه ليس هناك ما يدعو للقلق – مع أنه من غير المرجَّح على ما يبدو أن تواجه السعودية تململاً شعبياً واسع النطاق في هذه المرحلة. يثير كل تحوّل على رأس الملَكية السعودية أسئلة. تحتاج حقوق الإنسان وسيادة القانون إلى التحديث. ويجب التخلّص من التمييز الذي يتعرّض له الشيعة السعوديون، مع العلم بأن الأمور تحسّنت شيئاً فشيئاً، ولم تعد سوى قلّة من الشيعة تعتبر النظام الإيراني الأشدّ قمعاً بكثير نموذجاً يُحتذى.
لكن الأسباب الأساسية للقلق بنيوية، وقد يتبيّن في نهاية المطاف أن الاقتصاد والديموغرافيا يطرحان إشكالية أكبر بكثير من تلك التي تثيرها السياسة. على السعودية أن تتعامل مع الضغوط الديموغرافية نفسها، و"طفرة أعداد الشباب"، التي هدّدت أو أطاحت أنظمة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط. لا يزال المجتمع السعودي يتخبّط مع كل التغييرات الاجتماعية الجذرية التي نجمت عن الانتقال من عدد صغير من السكّان الفقراء الذين يتألّفون من حوالى 3.8 ملايين بدوي غير مثقَّف عام 1950 إلى أمة مستقرّة إلى حد كبير ومتمدّنة وأفضل علماً وثقافة بكثير.
لا يملك أحد رقماً دقيقاً عن معدّل التغيير الدائر حالياً، بيد أن تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) تشير إلى أن السعودية تملك الآن نسبة عالية من السكّان الشباب تماماً كما في البلدان التي يتحدّى شبابها في الوقت الراهن الأنظمة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. فبحسب هذه التقديرات، نحو 38 في المئة من سكّان السعودية البالغ عددهم 25.7 مليون نسمة هم في الرابعة عشرة من العمر وما دون، وينضم حوالى 280000 شاب و270000 شابة إلى سوق العمل سنوياً.
على الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومة السعودية، تناهز البطالة المباشرة 11 في المئة – ولا يأخذ هذا الرقم في الاعتبار التأخّر في الحصول على وظيفة، ومحدودية أعداد النساء اللواتي يسعين للتوظّف، والبطالة المقنَّعة. علاوة على ذلك، تشير تقديرات مكتب الإحصاء السكاني السعودي إلى أن عدد السكان في السعودية سيرتفع إلى 34 مليون نسمة في سنة 2030، على الرغم من الانخفاض الحاد في معدّل النمو السكاني الذي كان سائداً في الماضي.
وكما هو حال كل الدول في الشرق الأوسط، يعني هذا أن الاستقرار في المدى الطويل يطرح تحدّيات تذهب أبعد من الإصلاح السياسي. يتعيّن على السعودية إيجاد سبل أفضل لتعليم الشبّان بهدف الحصول على وظائف بدلاً من التركيز على تعليمهم الدين. وعليها أن تمنح النساء – ونسبتهن المئوية بين خرّيجي المدارس الثانوية والجامعات أعلى من نسبة الذكور – دوراً كاملاً في القوة العاملة والمجتمع.
أخيراً، على السعودية أن تتعامل مع واقع أن "الثروة النفطية" نسبية بالنسبة إلى السكان. يجب أن يُحدِث الحكم الناجح والبحث عن الاستقرار تغييراً في اقتصاد يعتمد الآن على العائدات النفطية لتأمين 80 في المئة من إيرادات الموازنة، و45 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، و90 في المئة من أرباح الصادرات. وتشير تقديرات وزارة الطاقة الأميركية أيضاً إلى أن هذه "الثروة النفطية" بلغت 5500 دولار فقط للشخص عام 2010، وهذه القاعدة الضيّقة للثروة هي التي تجعل إجمالي الدخل الفردي في السعودية في المرتبة الخامسة والخمسين في العالم.
ليس هذا الاعتماد على الصادرات النفطية فقراً، لكنه يساهم في شرح الفارق بين إجمالي الدخل الفردي السعودي الذي يبلغ حوالى 24000 دولار أميركي وإجمالي الدخل الفردي في الدول المجاورة ذات الكثافة السكّانية الضئيلة مثل قطر، 145000 دولار، والكويت، 51000 دولار، والإمارات العربية المتحدة، 40000 دولار (والولايات المتحدة، 47000 دولار). ويُظهر أيضاً لماذا من الضروري مواصلة الاستثمار السعودي في الوظائف والتعليم والتنمية من أجل منح المملكة مستوى من الاستقرار أعلى بكثير منه في معظم بلدان المنطقة، ولماذا ستظل نوعية الحكم السعودي في المستقبل والقدرة على إرساء التوازن المناسب بين المحافظية والإصلاح، أهم من السياسة التقليدية.


(أستاذ كرسي أرلي أيه بورك في الاستراتيجيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية - ترجمت النص نسرين ناضر)      

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,137,714

عدد الزوار: 6,936,405

المتواجدون الآن: 95