وثيقة الوفاق الوطني عهد وعقد

تاريخ الإضافة السبت 19 شباط 2011 - 7:26 ص    عدد الزيارات 1121    التعليقات 0

        

وثيقة الوفاق الوطني عهد وعقد

 


 
بقلم الوزير السابق إدمون رزق

 

بعد تسعين سنة من اعلان <دولة لبنان الكبير> (1)، لا يزال هذا الوطن الصغير ينشدُ وحدته، ويجهد لاقامة جمهوريته الحديثة·

 خلال تسعة عقود، ظلّ لبنان حُلم أجياله، أمنية اصدقائه وقيلة إخوانه، أُطلقت عليه تسميات ونعوت كثيرة، فهو: نموذج حضاري، صيغة فريدة، بلد العيش المشترك والتعايش والحياة الواحدة، أرض الحوار بين الأديان، مختبر تلاقح الحضارات، مهدُ الأبجدية، مدينة الله والمركز الدولي لعلوم الانسان والانماء(2)، وهو جسر العبور بين الشرق والغرب، الجامعة والمستشفى والمنتجع، العربي الجذور العالمي الحضور، مقبرة الفاتحين ولعنة المحتلين، توأم التاريخ، واحةُ الحرية وموئل الأحرار·· إنه وطنُ الأرز الخالد الوارد ذكرُهُ في الكتاب المقدس، مدنُه ممالكُ فينقيا وهياكل الرومان، وعاصمته أُمُّ الشرائع!

هذه المعاني والمضامينُ الشعرية الطموحة، التي تجسدُ قيماً انسانية، وإبداعاتِ فكرية، وتاريخاً مجيداً، على مساحة جغرافية ضيقة، تحتوي أعلى نسبة من المواقع المصنّفة تُراثاً عالمياً، تبدو مهدّدة باستمرار في شكل مأسوي·

من هذا المنطلق، وفي خضم تطورات مقلقة، وسط انقسامات حادة، وصراعات قاسية، وتمدد عدواني، وهجمات ارهابية، لا توفّر بلداً في العالم، رأت <لجنة الثقافة والتراث> المنبثقة من نقابة المحامين في بيروت، تقديم طرح موضوعي، لما يعتبر الكثيرون ويعلنون، ان <وثيقة الوفاق الوطني> لا تزال تمثله من فرصة لانقاذ الجمهورية اللبنانية المهتزّة·

بداية، احرصُ على التوضيح اننا لسنا في وارد خوض جدلية سياسية، ولا في صدد تقاذُف التبعات والأوزار، فلبنانُ في محنة مشهودة، وجميع اللبنانيين، ولو غيرُ ضالعين، معنيون ومسؤولون· الوطنُ في خطر، وهذا أوانُ الوطنية· المعرفة حق والشهادة واجب! عود الى بدء

في ظروف صعبة، بل مستحيلة، سياسياً واقتصادياً، أمنياً ومعيشياً، وفي ظل اختلال كبير للتوازنات، وانهيار بنيوي ذريع، نتيجة عوامل خارجية، وتفكك داخلي، وفراغٍ غير مسبوق لأكثر من سنة، في رئاسة الجمهورية، انعقد مؤتمر الطائف، للنواب اللبنانيين، من جميع الطوائف وسائر المناطق، برعاية عربية أخوية كريمة، ومواكبة دولية خيّرة(3)·

تفاصيل ذلك الحدث ومجرياته معروفة، فلن نستعيدها، نكتفي بالقول إن المجلس النيابي المنتخب سنة 1972، قبل المؤتمر بسبع عشرة سنة، في آخر تعبير حُرّ عن إرادة الشعب، والذي كان قد فقدَ خمسة وعشرين من أركانه، بقي يومذاك المؤسسة الشرعية الوحيدة الموحدة، في هيكلية الدولة اللبنانية المفتتة على كل مستوياتها، هنا أفتح مزدوجين لأُضيف: إن ستة وثلاثين من الذين حضروا المؤتمر، وعشرة من احد عشر تغيّبوا عنه، قد لاقوا وجه ربّهم بعده، فلم يبقَ من شهود الطائف الاثنين وستين سوى ستة وعشرين·· يُشرفني أن أكون واحداً منهم·

عهدٌ وعقد جسّدت <وثيقة الوفاق الوطني> عهداً لتوطيد حياة كريمة بين اللبنانيين، ومثّلت <عقداً> لشراكة المسؤولية، في بناء دولة·

لم تنقض أيّاً من الثوابت والمسلّمات، ولم تغيّر طبيعة العلاقة التاريخية بين مكوّنات المجتمع اللبناني، بل عدّلت بعض قواعد المشاركة في الحكم·

جميع المبادئ الأساسية، والقيم المعنوية، التي تشكّل موروثاً وطنياً جامعاً، وثقافة تراكمية محفوظة في الوعي الجماعي، ظلت المصدر المباشر لإستلهام الخيارات، واستنباط العيارات، وأخذ المواقف، فكان المؤتمر مجالاً لتأكيد الوحدة في الاختلاف، لا ميداناً للمواجهة وتفجير الخلاف·

مرة بعد، لا نتطرق الى تفصيلات الأداء، وطبيعة المناقشات، مركزين على التعاطي مع الحالية المداهمة، التي تنذرُ بتصفية الكيان اللبناني·

الروح والنص من الدارج في الحديث عن اتفاق الطائف استعمال عبارة <نصاً وروحاً> فثمة الكلمة المكتوبة، والارادة التي أملتها، أي النيةُ والقصد· لذلك أبداً بالجزم أنّ المجتمعين، بالرغم من تنوع الاجتهادات، والتجاذبات العابرة، شكّلوا فريقاً واحداً حول أولوية مطلقة هي: منعُ سقوط الجمهورية اللبنانية·

التزاماً لهذا الهدف المركزي الثابت، سأتطرق الى صلب الوثيقة، معتمداً منهجيّة مختصرة بالاجابة على سؤال محوري مزدوج: ما هي، وما ليست هي: تحت عنوانين اوليّين: 1 - المبادئ العامة، 2 - الاصلاحات السياسية·

أولاً - المبادئ العامة هذه المبادئ التي وردت في مطلع الوثيقة، اصبحت بحذافيرها مقدمة للدستور المعدل، مع اضافة <التزام الاعلان العالمي لحقوق الانسان> على الفقرة <ب>، لدى اقرارها في المجلس النيابي·

إنّ المبادئ الاساسية للجمهورية في الوثيقة والدستور كليهما، واضحة جازمة، ويفترض انها باتت معروفة، لا تحتاج الى شرح·

ومع ذلك فلا ضير في تذكير سريع:

<لبنان وطن سيد حر مستقل نهائي لجميع ابنائه، واحد ارضاً وشعباً ومؤسسات>·

إذاً، ليس لبنان ولاية، ولا دويلة، ليس تابعاً، ولا مرتهناً، ولا موقتاً، ليس يتيماً يُقهر ولا سائلاً يُنهر· هو غير قابل للتجزئة، أي ليس مؤلفاً من أحياء مقفلة، ومناطق محرمة، واقطاعات، ولا مجال فيه لفرض أمن ذاتي خاص، مختلف· الشعب واحد، أي لا عنصرية، لا طبقية، لا تصنيف، لا فرز، لا تمايز، ثماني عشرة طائفة ومذهباً متساوية، متكافئة، التعدد الثقافي إثراء، قيمة وطنية مضافة للجميع، علىما يحدّده بهجت رزق في بحوثه المعمقة حول <الهوية اللبنانية؛ التي يصفها بأنها <مُفردٌ وجمعٌ معاً>(4)·

أكثر ما كان موضع تشديد والحاح في الطائف، وتضمت نصاً الاتفاق والدستور: مسلّمات السيادة والحرية والاستقلال، الى موضوعات الانتماء العربي والالتزام الدولي· الى حماية الهوية وصيانة الأرض· قيل: لا توطين، اي لا تبذير في منح الجنسية، ولا تقسيم، اي لا تفريط بالوحدة، النظام الديموقراطي، البرلماني الحر، سياسياً واقتصادياً وثقافياً هو الخيار المحسوم· فصلُ السلطات وتوازنها وتعاونها هو المبدأ، فلا تداخل ولا طغيان، لا اخلال ولا اختلال، لا ارجحية ولا استقواء·

شرط الشرعية ألا تناقض ميثاق العيش المشترك، اي ألا يستأثر بالسلطة فريقٌ مطيّف، يحمل مشروعاً فئوياً·

بالوطنية، الحرية، الاستقلال، السيادة، الطموح الى تجاوز الطائفية في دولة مدنية، المُثل العليا جمعاء: أن نؤمن بها، لا ان ندّعيها فقط، ان نمارسها ونطبّقها بنزاهة·

ثانياً - الاصلاحات السياسية أ - المناصفة:

ارست وثيقة الوفاق قاعدة المناصفة بين المسلمين المسيحيين في تولّي السلطة، لكي تشمل مجلس النواب، الى جانب العرف المتّبع في مجلس الوزراء، ووظائف الفئة الاولى· على ان يزاد عدد النواب المسلمين تسعة ليصير المجموع مئة وثمانية·

المناصفة هي تأكيد المساواة في المسؤولية، وتجسد المشاركة، شرط صحة التمثيل، ان وحدة اللبنانيين هي اساس وحدة لبنان، والمشاركة هي ضمان الوحدة: لا شرعية لما يفرّق، ولا لمن يتفرّد· لا شرعية لمن يستأثر ويفرض· أي سلطة تفعل ذلك تنقض الميثاق، تعتبر غاصبة، بمثابة احتلال خارجي: عملية قهر، وقسر، وكسر، وأسر· وكما ان الاحتلال دعوة الى المقاومة، فإن التعسّف دعوةٌ الى الثورة·

إن انتاج السلطة في النظام الديموقراطي، يفترض ضمان الحرية المطلقة للشعب في اختيار ممثليه، فالتمثيل الصحيح هو تعبير عن ارادته الحقيقية· المشاركة البناءة تكون بين الممثلين الحقيقيين، المنخرطين في مشروع الدولة الراعية، العادلة، المؤهلة لمجاراة طموح أجيالها، وتشريع آفاق المستقبل أمام شبابها· لذلك لا يمكن أن تكون المشاركة مجرّد محاصصة، توزيع أسلاب وتقاسم مغانم·

المسؤولية هي محور المشاركة، مجالُها وبُعدها· المشروع المشترك، البرنامج، هو ركن الشراكة في الحكم· المسؤولية مزدوجة: عن القرار والتنفيذ، الالتزام والإلزام·

ب - الصلاحيات عدّلت الوثيقة أصول تسيير السلطة الاجرائية· نقلت بعض الصلاحيات من رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً· من الشخص الى المؤسسة مكتملة· لم تأخذ من شخص لتعطي شخصاً· لم تنتزع من طائفة لتمنح طائفة· فلا طائفة للمؤسسات، رئيس الجمهورية ماروني لكن الجمهورية ليست للموارنة، بل للبنانيين· رئيس المجلس النيابي شيعي، لكن المجلس ليس للشيعة بل للبنانيين، رئاسة الحكومة للسنّة، لكن الحكومة ليست للسنّة، الوزراء ينتمون الى طوائف، لكن الوزارات ليست للطوائف بل للدولة، والدولة للوطن·· وكلنا للوطن! ألغت الوثيقة صلاحيات غير قابلة للممارسة، ولم يسبق أن مارسها أي رئيس في لبنان، منذ الاستقلال حتى الطائف، لأنها تدخل في دساتير الأنظمة الرئاسية لا البرلمانية، أجهر هنا بأني كنت من أكثر الداعين الى تنزيه رئاسة الجمهورية عن الشخصنة، والنأي بها عمّا يورّطها في بازارات، ويجعلها طرفاً في صفقات من أي نوع، ايماناً بأن الرئيس هو الأوحد للدولة، المقام الأسمى والمرجع الأعلى·

ليس واحداً من ثلاثة، ولا صاحب حصة في تشكيلة· أي تصنيف للرئيس ضمن مجموعة او فريق ينتقص الرئاسة، ويشكّل خرقاً ذريعاً للدستور· هو خارج اطار الندية· أي ليس له ندّ، لا مساوٍ ولا رديف· كل محسوبيّة على الرئيس تسيء الى هالة الرفعة الإلزامية· انه <فوق>، وكل محاولة لجعله جزءاً من تركيبة أو بنية <تحتية>، تبيد اساءة مزدوجة، للشخص والموقع، وترتد على كرامة الوطن·

ان لرئيس الجمهورية جميع الصلاحيات اللازمة لممارسة مهامه المحددة في المادة 49 من الدستور، فضلاً عن القيام بسائر التصرفات المبينة حتى المادة 63·

انه الرئيس الوحيد للدولة، رمز وحدتها، مؤتمن على دستورها واستقلالها وسلامة أراضيها· هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء·

موقعة فوق الحصص وأكبر منها جميعاً، انه صاحب القرار النهائي في تأليف اي حكومة· ما من قوة في العالم تلزمه توقيع اي اقتراح تشكيلة وزارية، لا يقتنع بها، ولا يرى فيها ضماناً اكيداً لمصلحة البلاد العليا· لا يدين بشيء لأحد غير الشعب: انه حامل امانته، أيّا تكن ظروف ترشيحه وانتخابه، هو هنا، الآن، وحتى آخر دقيقة من ولايته، وحده الرئيس، وهو مسؤول امام ربه وشعبه فقط! استطرد قليلاً لأقول ان المادة 27 من الدستور المعدلة سنة 1947 قد نصت: <عضو مجلس النواب يمثل الامة جمعاء ولا يجوز ان تربط وكالته بقيد او شرط من قبل ناخبيه>··· فهل يجوز ان تربط الرئاسة بشروط؟!

يمكن للمكلفين تأليف الحكومات، ان يرفعوا اقتراحاتهم اليه، او ان يعتذروا منه، للرئيس وحده ان يوافق او يمتنع·

هذه أحكام أكيدة لا يصح فيها اجتهاد، ولا يسري تعهد سابق ولا حق!

ان توقيع الرئيس ملك مطلق له، لا قيد عليه سوى ضميره، ولا مراجعة له إلا لديه·

في توقيع مرسومي تعيين رئيس الحكومة وتسمية الوزراء، لا شريك لرئيس الدولة، ولا بديل منه·

ضمن هذا السياق، نتوقف عند الفقرة 10 من المادة 53 من الدستور، التي اعطته حق توجيه رسائل الى مجلس النواب· ان الغاية من ذلك هي تمكينه من الاحتكام الى الشعب، عبر المؤسسة المفترض ان تمثله، عند مواجهة صعوبات في الاضطلاع بمسؤولياته· فله ان يطلب انعقاد مجلس النواب، ليخاطب الأمة، يصارحها ويدعوها الى موقف وطني·

رئيس الجمهورية هو الأقوى، بشرعيته ومشروعه، بصدقه ونزاهته، بايمانه وثقته، بحكمته وشجاعته، انه المسؤول عن احترام الدستور، عن المقدمة، كلمة كلمة، وعن المواد الخمس والتسعين، التي لا تزال معمولاً بها، مادة مادة، حتى آخر تعديلاتها في 21 ايلول 1990، التي ناط بي مجلس الوزراء وضع مشروعها، فحرصت على تضمينه احكام الوثيقة من دون اي تغيير في الترقيم·

بالنسبة للذين يعتبرون ان الحكم هو مسألة صلاحيات، وخصوصاً الذين لم يعايشوا مراحل المعاناة اللبنانية، ارجو ان نتذكرّ معاً التجارب الآتية:

- سنة 1952 كان هناك رئيس تاريخي انتقلت اليه صلاحيات المفوّض السامي الرئاسية المطلقة، فلم يستطع ان يمارسها، وتنحّى عن الرئاسة بعد ثورة بيضاء، تاركاً أمانة الدستور في أيدٍ أمينة عملت على انتخاب الخلف خلال اربعة أيام منعاً للفراغ·

- سنة 1958 كان للبنان رئيس بارز مكتمل الصلاحية، والشخصية، انتهى عهده بثورة عنيفة، دون ان يمارس اي صلاحية فوقية، مسلّماً الامانة الى خصم سياسي أمين·

- سنة 1960 كان الرئيس قائداً تاريخياً، استقال ثم رضي البقاء حفاظاً على وحدة الوطن، ولم يمارس أيّاً من الصلاحيات التي يأسف عليها المنظرون·

- سنة 1969، وبالرغم من تمتع الرئيس الأكثر ثقافة في تاريخنا بالصلاحيات، وجد نفسه مضطراً للتهديد بالاستقالة للتوصل الى تأليف حكومة·

- سنة 1973، كان للبنان رئيس فارس، مكتمل الصلاحية، قام بمحاولة ممارسة صلاحياته، فألف حكومة اعلنت حال الطوارئ، لكنه تعامل مع الامر الواقع بواقعية، وجاراه رئيس الحكومة المعيّن، بشهامة مأثورة، مفضلاً الاستقالة على نيل ثقة منتقصة، كانت مضمونة، وكان نصاب الجلسة مكتملاً، ثم جُبه الرئيس الفارس بفتنة وتمرّد، قُصف قصره، فانتقل من بعبدا الى الكفور، ولم يستعمل ما يسمى صلاحيات·· لأن الجيش الوطني ليس مجموعة انكشارية لحماية السلطان·

- من 1976 إلى 1982 كان ثمة رئيس نبيل، مكتمل الصلاحية، نزف عذاباً وهموماً حتى الموت، وذاق الأمرين من دون أن يقدم على أي خطوة دراماتيكية·

- سنة 1982 استشهد رئيس الجمهورية المنتخب قبل أن يؤدي قسمه ويتسلم مهامه، ربما لأنه كان عازماً على استعمال صلاحياته!·

- سنة 1988 انتهى عهد الرئيس المكتمل الصلاحية، المنتخب بأكثرية كبيرة، بدون تأمين انتخاب خلف، فاستعمل صلاحية اقالة حكومة وتعيين أخرى، فأصبح البلد بين حكومتين وجيشين، وقامت في كل منطقة قيادات وادارات وأجهزة ودوائر، وسادت شرعية الميليشيات والخوات والبؤر الأمنية، وزواريب النهب والاجرام··· وبقيت الرئاسة شاغرة ثلاثة عشر شهراً ونصف الشهر!·

ظلت الرئاسة شاغرة فارغة، والصلاحيات ضائعة، والناس بين المهاجر والملاجئ، على قارعة الدنيا، ولم تقم محاولة واحدة جدية واعية مخلصة شريفة لانتخاب رئيس، حتى كانت العودة من الطائف وانتخاب الرئيس رينيه معوض، واستشهاده بعد سبعة عشر يوماً، في عيد الاستقلال، قبل أن يتمكن من مباشرة أي صلاحية!·

منذ ذلك الحين، في ظروف معروفة، تعاقب ثلاثة رؤساء، وتم تعديل الدستور مرتين لتمديد الولاية· حصلت تحولات، وما زال لبنان يفتش، لا عن صلاحيات وهمية، ولكن عن صحوة وطنية، يجسدها شعب حيّ، ويؤتمن عليها، رجال دولة· لذلك ارجو، كل مرّة يجري فيها حديث عن الصلاحيات، أن يتم تحديد نوعها وكيفية تطبيقها؟!·

كما ارجو من كل من يطالب بتعديلات وينادي بطائف 2 ودوحة 2 و3 و4··· أن يبين ماهيتها، ويقترح نصوصاً صريحة واضحة!·

جـ - مجلس الوزراء:

تأكيداً للمشاركة ومنعاً للتفرد، كان اشتراط حضور أكثرية الثلثين نصاباً لانعقاد مجلس الوزراء، واكثرية لاقرار مواضيع أساسية محددة، المشاركة المقصودة هي طائفية مختلطة، إسلامية ومسيحية، وليست سياسية بين موالاة ومعارضة، لم يخطر ببال أحد تأليف حكومات اضداد، تنصب متاريس التعطيل داخل مجلس الوزراء··· ولا فكّر أحد بثلث معطّل، أو تركيبة مفخخة، تحت ذرائع وتسميات شتى· لأن أياً من الحاضرين لم يتصور انه سيأتي يوم ينحدر فيه الأداء الوطني إلى هذا الدرك من الحطّة، ويبلغ الخطاب السياسي هذا القعر من الاسفاف، حتى ليستنفد معاجم السباب وموسوعات الشتيمة··· ولا تخيل أحد، في اسوأ كوابيس المنام، ان المقاعد الوزارية والوظائف العامة تصبح انعامات وترضيات واعتبارات شخصانية!·

أن تجربة الحكومة المعتبرة مستقيلة، المستندة إلى ما سمي <اتفاق الدوحة>، والتي قامت على محاصصة هجينة، وتسوية هشة، بعد مساومات معيبة، شكلت نقضاً للمعايير الديمقراطية، فمنعت قيام حكم صحيح ومعارضة بنّاءة· ولم تطبق مقاييس اي منظومة قيميّة للعلم والعمل· هذه التجربة الفاشلة، هي نتيجة مباشرة للتمادي في نقض وثيقة الوفاق الوطني· نذكر ذلك من باب الدلالة التعبيرية المجردة، خارج أي اصطفاف سياسي·

لذلك يجب العودة فوراً إلى المبادئ الديمقراطية الصحيحة، وتأليف حكومة توحي بالثقة، على أساس مؤهلات وطنية، اخلاقية وعلمية، لمنع المزيد من التشقق والتهافت في الكيان اللبناني·

د - الكفاءة والاختصاص من إنجازات وثيقة الوفاق التي أصبحت دستوراً، ما ورد في المادة 95 حول <الغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة··· من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة>·

لقد اوردنا شرطي <الاختصاص والكفاءة> مرتين في المادة نفسها، يقيناً أن ما يهم المواطن، بالنتيجة، ليس طائفة الموظف بل أهليّته لتولي الوظيفة· ولا حاجة للقول أن هذه الاحكام لم تطبق سوى في الحكومة الاولى بعد الطائف، ثم، ابتداء من 1991 حتى الآن، ابدلت <الكفاءة والاختصاص> بـ?<المذهبية والمحسوبية>·

هـ - إلغاء الطائفية لحظت المادة 95 من الدستور إنشاء <هيئة وطنية لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية>·

هذا، وتحاشياً لأي التباس، وفي مراجعة دقيقة لنص الوثيقة والدستور كليهما، يظهر جلياً أن الهدف الأساسي هو <الغاء الطائفية>، وليس <الطائفية السياسية> فقط، لئلا يتحوّل النظام اللبناني من المشاركة إلى إلغاء الآخر· أن أهمية لبنان في قلب المشرق العربي والعالم، تكمن في كونه حامل رسالة مسكونية، بتركيبته الإنسانية التي لا مثيل لها ولا بديل منها· وأستطرد لأقول: إن العام كلّه يتطلع إلى يوم يصبح مجتمعاً حضارياً واحداً، يلتزم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مصدراً اساسياً لتشريعاته المدنية·

و - الإصلاحات الاخرى تناولت السلطة القضائية واللامركزية الإدارية الموسعة، والاعلام وقانون الانتخاب والتربية، وكلها تحتاج إلى عناية فائقة·

بعد هذه المراجعة السريعة للبنود الأولى من الوثيقة، والتي ادخل بعضها في الدستور، نصل إلى ثلاثة عناوين اساسية:

أولاً - بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية:

المقصود ببسط السيادة، هو نشر القوات الذاتية للدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية، كالآتي:

الإعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها الى الدولة اللبنانية، خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية (حصل ذلك في 5 تشرين الثاني 1989) وتشكيل حكومة الوفاق الوطني (جرى في 25 تشرين الثاني 1989) وإقرار الإصلاحات بصورة دستورية (تمّ في 21 أيلول 1990)·

يتبين أن آخر مهلة لحل جميع التنظيمات المسلحة اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها، كانت 21 آذار 1991، فتكون مُـدّة الستة أشهر قد انقضت واحداً واربعين ضعفاً، من غير تنفيذ!·

إن بسط السيادة اللبنانية بالقوات المسلحة اللبنانية، تحت قيادة رئيس الجمهورية وسلطة مجلس الوزراء، على آخر حبة تراب، حتى الحدود المعترف بها دولياً، هي شرط قيام الدولة الفعلية في لبنان، وسيظل وجودها معلقاً ما دامت عاجزة عن القيام بذلك أو مترددة فيه·

اما التهجير الذي شمل مئات الألوف من الشعب اللبناني، وخلّف جراحاً لم تندمل بعد، فيجب أن ينتهي، وفقاً للوثيقة، بتأمين عودة اهلنا إلى جميع القرى في مختلف المناطق، خصوصاً الجبل·

وعلى الدولة إنجاز المصالحات وتأمين التعويضات، وتطمين المواطنين إلى سلامتهم، بتأكيد حضورها وبسط سيادتها، لتمكين المواطنين من استعمال حقهم في ملكيتهم الخاصة· وحده وجود الدولة يضمن الحق وسلامة أصحابه وكرامتهم·

ثانياً - تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي:

تحت هذا العنوان اوردت الوثيقة ثلاثة بنود:

أ - تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بازالة الاحتلال الاسرائيلي إزالة شاملة·

أن القرار 425 قد نفذ، وتم الانسحاب الإسرائيلي بفضل المقاومة والصمود· وأقيم خط أزرق على الحدود الجنوبية باشراف الأمم المتحدة· لكن لا يزال لبنان يطالب بأراض في مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا وقرية الغجر· وله الحق المقدس باللجوء إلى أي وسيلة متاحة لتحريرها·

ب - التمسك باتفاقية الهدنة الموقّعة (في الناقورة) في 23 آذار 1949·

جـ - اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً، والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية·

لقد حل واقع جديد بعد صدور عدّة قرارات دولية حول الموضوع، لكن مطلب انسحاب إسرائيل وعودة الأمن والاستقرار إلى الجنوب، قائم ومستمر·

ثالثاً - العلاقات اللبنانية - السورية:

أكدت وثيقة الوفاق طبيعة العلاقات الأخوية المميزة بين لبنان وسوريا، ووجوب تنظيمها بما يضمن مصالحهما المشتركة في إطار سيادة واستقلال كل منهما· إن إقامة علاقات سليمة بين البلدين مطلب ملح، فلا تُنتقص سيادة، ولا يُهدد أمن، بل يسود تعاون مخلص بناء وتبادل متكافئ واحترام متبادل، في نوع من <الجوار المصطفى>، هو، في الوقت نفسه، قدر جغرافي وخيار حر·

المصالحة والوفاق

لقد اختار مؤتمر الطائف <الوفاق الوطني> عنواناً للوثيقة التي اقرها، وجعل <المصالحة> هدفاً اولياً·

أكثر ما تكون حاجة لبنان اليوم إلى أهله· فهو إما أن يكون كلّه لهم جميعاً، وإما أن لا يبقى منه شيء لأحد·

في الطائف، وكل محفل، على مدى عقود، ظل لبنانيون مخلصون، يعملون من أجل الوطن·

انه، على صغره، يتسع لهم متحابين، بينما الدنيا كلها، على وسعها، تضيق بهم متنافرين متباغضين، متحاسدين متنازعين·

لقد عشنا في عز لبنان ونعمته، آمنا به وطناً ورسالة، واحداً ارضاً وشعباً ومؤسسات، وبأن في شعبنا موروثاً مخزوناً عجباً، نفاخر به، يستحق أن نحيا من أجله ونموت في سبيله·

لا يمكننا الادعاء أن وثيقة الوفاق الوطني كانت كاملة، ولا انها الفضلى على الأيام، فثمة شوائب نعرفها، وثغرات لا ننكرها، لكنها خير ما نعود إليه في هذه المرحلة من معاناتنا الوطنية·

لذلك، نخلص إلى توجيه دعوة حارة للمعنيين بتأليف حكومة جديدة للبنان، أن يتباروا في البذل والتضحية، لأن الإنسان لا يملك الا ما يعطيه· فباطلة الرئاسات والوزارات والمراكز والألقاب والرتب، والثروات والممتلكات، وعظيمة هي روح المسؤولية، وبناء الأوطان· لقد سمعت كثيرين من القادة والسياسيين يطالبون بتطبيق اتفاق الطائف، وثيقة الوفاق الشريف والمصالحة التي لا تستثني أحداً، صك السيادة والحرية والاستقلال، عهد الحياة وعقد الشراكة· فلتكن لدينا شجاعة الإيمان لتوطيد الوحدة الوطنية، وليبادر الجميع إلى حمل مسؤولية الانقاذ، بتبني بيان وزاري من بند واحد: تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني روحاً ونصاً!·

< محاضرة ألقيت في <بيت المحامي> بتاريخ 16/2/2011

-----------------------

(1) أوّل أيلول 1920· (2) اتفاقية لبنان مع الأونيسكو 5 تشرين الثاني 1973· (3) من 30 أيلول 1989 إلى 22 تشرين الأوّل 1989· (4) Bahgat RIZK: l?identité pluriculturelle libanaise ID Livre Paris 2001.

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,778,147

عدد الزوار: 6,914,519

المتواجدون الآن: 113