التطرف في بريطانيا الحلقة (1)(2)

تاريخ الإضافة الثلاثاء 25 كانون الثاني 2011 - 7:23 ص    عدد الزيارات 1082    التعليقات 0

        

 

التطرف في بريطانيا الحلقة  (1)  : لوتن مدينة 15% من سكانها مسلمون.. يستهدفهم المتطرفون
إمام جامع انتحاري استوكهولم لـ«الشرق الأوسط»: كان لطيفا مع الجميع .. وألوم نفسي لأنني لم أبقه فترة أطول لتغيير أفكاره

 

لوتن (بريطانيا): راغدة بهنام
تستعد الحكومة البريطانية مطلع الأسبوع المقبل، للكشف عن مراجعة لخطة مكافحة الإرهاب في البلاد، بحسب ما أكد ناطق باسم وزارة الداخلية البريطانية لـ«الشرق الأوسط». وتعمل وزارة الداخلية على مراجعة الخطة التي تتعلق بالإرهاب داخل بريطانيا، منذ نحو 8 أشهر، بناء على طلب الحكومة الائتلافية الجديدة التي تسلمت السلطة في مايو (أيار) الماضي. وأكدت الحكومة أنها ستبقي على خطة مكافحة الإرهاب العامة، إلا أنها ستراجع «خطة منع» التطرف التي أدخلتها حكومة حزب العمال في عام 2007 والتي تبحث في أسباب التطرف بين المسلمين الذين يعيشون في بريطانيا، وطرق معالجتها. وتقول الحكومة الائتلافية الحالية، التي يقودها زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون، إن الخطة الحالية لمنع التطرف «ليست فعالة» كما يجب، وإن عليها أن تكون أكثر تركيزا على المناطق حيث ينشط «مروجو» الإرهاب. عشية إصدار الحكومة مراجعتها لاستراتيجية مكافحة الإرهاب، جالت «الشرق الأوسط» في بلدة لوتن التي تبعد أقل من نصف ساعة عن لندن، حيث يعيش نحو 27 ألف مسلم من أصل 180 ألفا من السكان، أي يشكلون ما يعادل الـ15 في المائة من السكان، وحيث عاش آخر انتحاري استهدف في الغرب: تيمور عبد الوهاب العبدلي الذي فجر نفسه في السويد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
شوارع لوتن الرئيسية تبدو مكتظة بنساء آسيويات محجبات، ورجال ملتحين يرتدون السراويل الباكستانية البيضاء... المحال المنتشرة في وسط البلدة، معظمها تبيع المأكولات الحلال. الكثير من اليافطات مترجم إلى الأردو، اللغة الرسمية في باكستان. أحيانا، تجد بين مطعم مأكولات آسيوية، ومتجر لحوم حلال، علم إنجليزي (ليس بريطانيا) يتدلى من نافذة شقة في الطابق الأول. فغالبا حيث يكون هناك انتشار كبير للأقليات المسلمة في بريطانيا، هناك أيضا وجود قوي لـ«الحزب البريطاني الوطني» المتهم بالعنصرية والذي يبني شعبيته على التهجم على المسلمين ومن هم من أصول مهاجرة من «غير البيض».
في وسط البلدة، ترتفع قبة جامع يبدو مختبئا خلف البيوت المحيطة به. وأبعد بقليل، يافطة مرفوعة على مبنى قديم كتب عليها: المركز الإسلامي - مسجد الغرباء. إلى هنا، كان يتردد تيمور عبد الوهاب العبدلي خلال فترة إقامته ودراسته في بريطانيا، قبل 3 سنوات من تفجير نفسه في استوكهولم. يعتقد كثيرون أن تحول العبدلي من شاب يحب الحياة عانق عادات الغرب، إلى إسلامي متطرف، حصل خلال إقامته في بريطانيا، وفي لوتن نفسها.
ليس غريبا أن تكون لوتن قبلة الإسلاميين المتطرفين الذين يسعون لنشر أفكارهم، فكثافة وتركز المسلمين فيها، ومسافتها القريبة من العاصمة لندن، تجعلها مكانا مناسبا. ويعترف قدير بخش، إمام جامع لوتن حيث كان يتردد العبدلي، بأن هذه البلدة لطالما استقطبت إسلاميين بأفكار متطرفة منذ ما بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، ولا تزال حتى اليوم، على الرغم من أنهم باتوا يأتون بأعداد أقل. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «الآن تأتي أعداد أقل بكثير من السابق. فبعد 11 سبتمبر كان يأتي 3 أو 4 أشخاص على الأقل أسبوعيا لنشر أفكارهم. أبو قتادة وأبو حمزة كانا يأتيان إلى هنا. كلهم يرون في لوتن منطقة حامية للتجنيد، لأنها الأقرب إلى لندن وهناك عدد كبير من المسلمين فيها». ولكنه يضيف أن عدد القادمين أقل الآن بسبب الحرب على الإرهاب: «يخافون من الشرطة، يخافون أن يقولوا أمرا خطأ ويتم اعتقالهم».
بالطبع، لا يخفى على الزائر عدد المسلمين الكبير هنا. ولا يخفى أيضا تركزهم في شوارع معينة من المدينة التي تبدو منقسمة بين «المسلمين الآسيويين» و«البريطانيين البيض». كثير منهم بالكاد يتكلم الإنجليزية، خصوصا من هم في العقد السادس من العمر. ولكن هؤلاء عندما تتحدث إليهم، يبتسمون في معظمهم، ويقولون بإنجليزية مكسرة: «كل ما نريده أن نعيش هنا بسلام». ساجد، سائق سيارة أجرة في الستينات من عمره، قدم إلى بريطانيا قبل 41 عاما. يقول بالإنجليزية بلكنة قوية: «لا نريد أن نقوم بأي أمر خطأ، نحن بريطانيون مسلمون ونريد العيش بسلام». يشتكي ساجد من مجموعات تأتي إلى الجامع بعد صلاة الجمعة، لتوزيع منشورات يقول إنها تحض على العنف. ويقول وهو يرمي بين جملة وأخرى كلمات بالعربية، مثل أهلا وسهلا، وشكرا، والسلام عليكم: «بعضهم يأتي من لندن.. ولكن لا أدعهم يوزعون أمام الجامع. أقول لهم وزعوا خارج منطقة الجامع وليس هنا، لأن الناس يأتون ليصلوا هنا للسلام». ساجد ومن هم من جيله، قدموا إلى بريطانيا في الستينات بحثا عن وظائف في بلد كان بأمس الحاجة إلى اليد العاملة. عاشوا محافظين على تقاليدهم وعاداتهم التي حملوها معهم من باكستان. لم يتمكنوا من الاندماج في المجتمع البريطاني، بسبب عائق اللغة والاختلاف الكبير في العادات والتقاليد، ولكنهم عاشوا مسالمين. إلا أن الجيل الثاني والثالث، أي أولادهم وأحفادهم الذين ولدوا في بريطانيا وعاشوا ممزقين بين هويتين، هم الذين أصبحوا المشكلة اليوم. معظم الشبان الذين التقيناهم في شوارع لوتن، ممن ولدوا ودرسوا وعاشوا في بريطانيا، يتحدثون عن الولاء للإسلام قبل بريطانيا. يبررون ذلك برفضهم لسياسات بريطانيا الخارجية، وخصوصا حربي العراق وأفغانستان والقضية الفلسطينية. عبد الرحمن، شاب في 29 من العمر، يرخي لحية طويلة ويرتدي اللباس الإسلامي، قدم إلى بريطانيا عندما كان طفلا رضيعا، يقول: «أنا سأكون دائما مسلما أولا وأخيرا، وكل شيء آخر فارغ بالنسبة لي، إذا ما كنت من آسيا أو الشرق الأوسط أو بريطانيا». يتحدث بغضب عن سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي، ويقول: «بلير وبوش يجب أن يحاكموا لأنهم يقتلون الأبرياء المسلمين باسم الديمقراطية». لا يتردد عبد الرحمن في الكشف عن أنه كان عضوا فاعلا في جماعة «المهاجرون» المحظورة التي كان يقودها عمر بكري الممنوع من دخول بريطانيا ويعيش اليوم في بيروت. وتم حظر الجماعة التي تدعو إلى إعادة الخلافة الإسلامية، بسبب تبريرها العمليات الإرهابية وتمجيدها منفذي اعتداءات 11 سبتمبر. ولكن عبد الرحمن، الذي لا يزال حتى اليوم ناشطا في عمليات «التبشير» على الرغم من حظر جماعته، ويقول إنه يعمل كداعية بعد صلاة الجمعة، يرفض قبول أن الحزب الذي كان ينتمي إليه كان يدعو إلى العنف. ويقول: «لا ندعم العنف بمعنى قتل الجميع فقط لقتلهم.. ويجب ألا تؤخذ الأمور خارج سياقها».
ينفي تأييده للعمليات الانتحارية، ويقول: «لا أدعو إلى العنف ولكن أبشر بالإسلام والشريعة.. رؤيتي أنه يجب أن تكون مبنية أكثر على الحوار... نعيش تحت مراقبة أمنية». وعلى قارعة الطريق في وسط لوتن، حيث تكثر الدوريات السيارة للشرطة، يحاول عبد الرحمن أن يجادل بأن العمليات الانتحارية على الأراضي الفلسطينية مختلفة لأنها تعتبر دفاعا عن النفس. وعندما أسأله عن العمليات الانتحارية التي تنفذ في الغرب، يقول: «لا نؤيدها... على المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم». يعتبر أن جماعة «المهاجرون» تم حظرها لأنها «فضحت الممارسات الخاطئة للحكومة»، ويضيف: «هذا يؤكد أن لا وجود لحرية التعبير هنا، وهذا كله خبث». وإذا كانت جماعة «المهاجرون» وجماعات إسلامية متطرفة أخرى قد تم حظرها في بريطانيا، بسبب حضها على العنف بشكل علني، فلا تزال هناك جماعات أخرى ناشطة تتحدث عن ضرورة إعادة الخلافة الإسلامية والإطاحة بالحكومات العربية والإسلامية. وعلى الرغم من أنها لا تحض على العنف، فإن كثيرين يعتقدون أنها تشكل الخلفية والأرضية للتطرف والإرهاب. ولعل أكثر تلك الجماعات تأثيرا وأوسعها انتشارا هو حزب التحرير المحظور في معظم البلدان العربية، باستثناء بعض الدول مثل لبنان واليمن. إد حسين الذي كان ناشطا سابقا في حزب التحرير في التسعينات عندما تم تجنيده في الجامعة، ترك الحزب بعد أن اكتشف أنه يدفع به إلى العنف، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «حزب التحرير يؤمن الخلفية والمناخ، أي إنه يؤمن المسدس والرصاص، ولكن لا يطلب منهم الضغط على الزناد». ويضيف: «يتحدثون على الحاجة لإقامة الدولة الإسلامية... والإطاحة بكل الحكومات العربية واستبدالها بديكتاتورياتهم. هم مناهضون بشدة للغرب وبريطانيا والولايات المتحدة وبالطبع إسرائيل. يخلقون المناخ الذي يسمح للأشخاص بالتحول إلى العنف في ما بعد». ويذهب حسين إلى حد الربط بين حزب التحرير و«القاعدة»، ويقول: «(القاعدة) وحزب التحرير بالطبع لا يتفقان على طريقة تحقيق الهدف، ولكن كلاهما متفقان على أن الهدف هو إعادة الدولة الإسلامية».
ولكن تاجي مصطفى، الناطق باسم حزب التحرير في بريطانيا، يهزأ بمن يرى أن حزبه يشكل «الأرضية» للتطرف والإرهاب. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «من السخيف أن نربط بين ما ندعو إليه والتطرف والعمليات الانتحارية التي تحصل... ليس هناك صلة بين الاثنين. نحن حركة سياسية. لا نريد تحقيق أهدافنا بالقوة بل نسعى لنشر الوعي عن الأمة الإسلامية». وعندما أسأل مصطفى، وهو بريطاني من أصل نيجيري، لمن ولاؤه لبريطانيا أم للإسلام، يقول بعد أن يحاول تحديد مفهوم الولاء: «ماذا يعني أن يكون لدى المرء ولاء للوطن؟ أن تعيش مع أشخاص ويكون لديك تواصل معهم، هذا طبيعي، التواصل مع الطبيعة والطعام.. ولكن في ما يخص القيم الأمر مختلف... بالطبع ولائي للإسلام، ولكن الإسلام يأمرني بأن أتعاطى مع الأشخاص الذين يعيشون حولي».
لا يحث حزب التحرير مؤيديه على المشاركة في الحياة السياسية في بريطانيا، أي التصويت في الانتخابات، على الرغم من تعريفه عن نفسه بأنه حزب سياسي، بسبب عدم تأييده لأي من الأحزاب الموجودة. ولكن تاجي مصطفى يجادل بأن المشاركة في الحياة السياسية لا يجب أن تتم بالضرورة عبر البرلمان والمؤسسات الدستورية. وعندما يشرح رؤية حزب التحرير للخلافة الإسلامية، يصف دولة أشبه بالمدينة الفاضلة، على الرغم من نفيه لذلك. ويقول: «لسنا نفكر في المدينة الفاضلة، لسنا ساذجين. نعرف أن العالم الإسلامي لن يكون كاملا، وإلا لما كان هناك من ضرورة لإقامة دولة. ما ينقص العالم الإسلامي اليوم ليس الرجال الطيبين، بل النظام». يتحدث عن مكان حيث يعيش كل المسلمون، شيعة وسنة بوئام، حيث تتمتع كل الطوائف غير المسلمة، من مسيحيين وحتى يهود، بحقوق مساوية وحياة كريمة. وتعيش كل الأعراق، من عرب وفرس وأتراك وآسيويين وأفارقة، بمساواة من دون تمييز. ويكرر مرات ومرات أن التاريخ هو الإثبات، وأنه «تاريخيا» عاشت تلك الشعوب معا بوئام في ظل الدولة الإسلامية، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي حصلت منذ ذلك الوقت. ويتحدث عن غياب العدالة في العالم الإسلامي، ويلوم الغرب الذي «يعتمد منطق فرِّق تسد»، على الانقسامات الحاصلة. وبرأيه، فإن الحل العادل الوحيد، هو بناء أمة إسلامية بجيش إسلامي قوي. وعندما سألته إذا كان يعتقد أن على المسيحيين والهندوس أن يفكرا في إنشاء دولتيهما أسوة بالدولة الإسلامية، رد بأن هذا شأنهما. مصطفى، مثل العبدلي الذي فجر نفسه في استوكهولم، يتحدث بمفاهيم الظلم والعدالة ويقدم حلا يبدو سلميا. لذلك، ليس مستغربا أنه يلقى آذانا مصغية خصوصا في الجامعات، بين الطلاب المسلمين المتحمسين والغاضبين. يقول الإمام بخش من جامع لوتن عن ذلك: «هناك بعض المسلمين هنا يمكن القول إنهم ضعفاء لأنهم غاضبون مما يحصل ولا يعلمون ما هي الطريقة الأفضل للتنفيس عن غضبهم بحسب التعاليم الإسلامية، ولهذا يمكن لأشخاص مثل تيمور أن يؤثروا فيهم». ويضيف: «ربما يشعرون بالتمييز ضدهم وبالغضب من السياسات الخارجية والمعايير المزدوجة، ولكن الأسوأ، وهو ما يدفعهم إلى التطرف، هو وجود شخص يقنعهم بأفكار متطرفة».
لا يخفي الإمام بخش، استياءه من نفسه. يقول بصوت خفيف على غير عادة، إنه يلوم نفسه نوعا ما، لأنه لم يبق العبدلي لفترة أطول تحت مراقبته. فبعد نحو 3 أسابيع على بدء الشاب العراقي السويدي التردد على الجامع، طرده بخش بسبب الترويج لأفكار متطرفة بين المصلين. «كان لديه كاريزما وكان محبوبا جدا، كان يعرض المساعدة دائما... ولهذا، كان من السهل عليه أن يجعل الآخرين يستمعون إليه»، يقول بخش. لكن خلف شخصيته المرحة، كان تيمور العبدلي يخبئ شخصا آخر، أكثر قتامة، شخصا متأثرا بأفكار أبو قتادة الذي وصف في السابق بأنه الساعد الأيمن لأسامة بن لادن في أوروبا، وبأبي حمزة المسجون بسبب حضه المسلمين على كراهية غير المسلمين. يروي إمام جامع لوتن، الذي ولد في بريطانيا لأبوين قدما من باكستان في الستينات، أنه واجه الشاب السويدي من أصل عراقي، بعد أن اشتكى له بعض المصلين بأنه يروج لأفكار متطرفة. ويقول: «كان يروج أن كل القادة المسلمين في العالم الإسلامي ليسوا مسلمين حقيقيين... وإذا أقنع الناس بذلك، فهذا يعني أنه تبرير للتمرد ضد الحكام في البلدان المسلمة. وكان يروج أيضا لفكرة التكفير، إذ يقول إن كل العلماء المسلمين في العالم الإسلامي لا يمكن الاستماع إليهم لأنهم جميعهم في جيوب زعمائهم، وهم غير مسلمين ويجب التمرد عليهم...» ويضيف: «كان يعلم أن الجهاد هو أول الواجبات التي على المسلم القيام بها، أهم من الدعوة والصلاة والصيام».
حاول بخش ثلاث مرات، إقناع العبدلي بالتخلي عن أفكاره المتطرفة، من خلال نقاشات دينية كانت كل واحدة منها تطول إلى 4 ساعات. في نهاية الجلستين الأولى والثانية، بدا أنه اقتنع. ولكن، كان يعاود الحديث بالمنطق نفسه. في النهاية، لم يترك الخيار لإمام الجامع الذي ارتأى أن السبيل الأفضل لوضع حد لما يحصل، هو بفضح العبدلي بعد صلاة الجمعة أمام الجميع. يقول: «فضحته أمام المصلين لأننا لا نعرف من تمت عدواه منهم، فقلت من دون أن أسميه إن هناك من ينشر هذه الأفكار السامة وهي، لهذه الأسباب والحجج، خاطئة». وقف العبدلي من بين المصلين وغادر الجامع. كانت المرة الأخيرة التي يراه فيه بخش... قبل أن يفجر نفسه.
ولكن على الرغم من جهود إمام لوتن لإقناع العبدلي بالتخلي عن أفكاره، فقد وجه له كثيرون اللوم لاحقا لأنه لم يبلغ الشرطة بوجود شخص يحرض على التطرف. ولكن بخش يرفض هذا المنطق، ويقول: «لم يكن يحرض على العنف... كان يتحدث عن الخلافة الإسلامية وأمور أخرى، ونقاشاتنا بقيت في إطار الدين... أواجه الكثير من أمثاله ونتناقش في أمور دينية ولا يفجر أحد نفسه، بل ينتهي الأمر عند حد النقاش والاختلاف في الرأي». يصر بخش على أن العبدلي كان حالة فردية. ويقول إن الكثير من أمثاله قدموا، ولا يزالون، وحاولوا أن ينشروا أفكارهم المتطرفة، وغادر بعضهم مقتنعا منه وبعضهم غير مقتنع بالتغيير، «ولكن، لم يفجر أحد نفسه». لا بل يوجه هو اللوم إلى المخابرات البريطانية والسويدية التي فشلت في تعقبه في السنوات الثلاث التي سبقت تفجير نفسه، ولحقت مغادرته لوتن. يقول: «بعد ثلاث سنوات، ذهب وفجر نفسه. لا نعرف ما الذي جرى خلال هذه الفترة...».
اللوم الوحيد الذي يتقبله بخش هو عدم تمسكه بتيمور لفترة أطول، «ربما مراقبته أفضل من تركه يذهب إلى المجهول». فقد تعلم، بعد حادثة تفجير العبدلي لنفسه، أن يحاول إبقاء القادمين في المستقبل حاملين أفكارا متطرفة، لأطول وقت ممكن تحت مراقبته، وبذل جهود أكبر لإقناعهم بالتخلي عن أفكارهم. ولكنه لا يزال مصرا على عدم «إبلاغ» الشرطة عن ضيوفه المتطرفين. يقول: «ليس هناك تبادل معلومات مع الاستخبارات والشرطة، لأنهم يقومون بعملهم لأهداف مختلفة. هناك سياسة خارجية يتبعونها، يريدون غزو العراق وأفغانستان وهذا ما نعارضه نحن بشدة. أما هدفنا فهو أن يكون هناك مجتمع مسالم حيث المسلمون يمارسون ديانتهم، ويحترمون البلد الذي يستضيفهم». ويضيف: «لا شك في أن الشرطة والمخابرات تراقبنا دائما، ونحن لا نعارض ذلك، هم يقومون بعملهم». وكشف أن المخابرات البريطانية طلبت إليه في السابق العمل معها، ولكنه رفض. ويقول: «رفضت لأننا نؤمن بأن لدينا مصداقية، ونحن نشكل خط دفاع في وجه الإرهاب، ويمكننا أن نوقف المتطرفين من خلال الحديث معهم وإقناعهم استنادا إلى الحجج الدينية».
يصر بخش على أن نشاط هؤلاء هدأ قليلا الآن، ولكنه يؤكد أنهم عندما يصادف أحدهم يشجعه على الحديث والمجاهرة بأفكاره، لكي يحاول إقناعه بالتخلي عنها. «نشجعهم على أن يتحدثوا بأفكارهم، ونقول لهم تعالوا تحدثوا ونحن سنناقشهم فيها ونقنعكم ونغيركم، ولن نبلغ الشرطة عنكم»، يقول بخش. ولكنه يضيف أنه يتعاون مع الشرطة في حالة واحدة، إذا توافرت لديه معلومات بأن أحدهم يخطط للقيام بأعمال إجرامية.
يرفض الإمام الحديث عن مشكلة اندماج المسلمين في بريطانيا، وإعادة ذلك إلى تطرف بعضهم. ويشير إلى أن معظم منفذي اعتداءات 7 يوليو (تموز) 2005 في لندن، كانوا مندمجين بشكل تام في المجتمع. ويصر على أن المسلمين في بريطانيا لديهم ولاء للبلد بمعنى «احترام القوانين وليس دعم حروب غير قانونية». ويقول: «كل مسلم سيدافع عن هذا البلد إذا تمت مهاجمته، لأننا نعيش هنا ومصالحنا هنا. ولكن أن ننضم إلى الجيش البريطاني ونحارب في العراق وأفغانستان، فالإجابة لا، لأن هذه حروب غير عادلة، وغير قانونية. نأخذ جيشا لسرقة مصادر بلدان أخرى».
ولكن، قد يكون تفسير إد حسين لشعور المسلمين البريطانيين، هو الأدق والأكثر تعبيرا عن أسباب سهولة انقياد بعضهم خلف التطرف. يقول حسين: «هناك صراع في عقول الشبان البريطانيين المسلمين حول هويتهم، على الرغم من أنهم لا يتعرضون للتمييز هنا كغيرهم في البلدان الأخرى، ولكن هذا لا يعني أنهم مقبولون. هناك مشكلة انتماء ولا أدري كيف نحلها... لقد واجهتها أنا عندما قررت الانضمام إلى حزب التحرير، واعتقد أن معظم المسلمين في بريطانيا يواجهونها».
 
 
التطرف في بريطانيا الحلقة (2): قصة شابة باكستانية مسلمة في صراعها مع هويتها.. ومحاولة فهمها للتطرف في بريطانيا
زيبا مالك تروي لـ «الشرق الأوسط» تجربتها وتدعو الباكستانيين إلى التفرق «لأن حاجة التجمع انتفت»

لندن: راغدة بهنام

* عرفت أنني مسلمة طويلا قبل أن أعرف أنني بريطانية.. وعرفت أنني باكستانية طويلا قبل أن أعرف أنني إنجليزية
* كنت أعيش حياتين: في البيت أتحدث البنجابية وآكل الكاري وأصلي.. وفي المدرسة كان علي أن أندمج مع طلاب كلهم بيض
* القدرة على الاندماج تبعدك عن أهلك.. ويصبح من السهل أن يتم جذبك إلى محيط آخر حيث يتم «غسل الدماغ»
* علينا أن نتفرق.. إذا لم نتواصل مع السكان، فكيف نتوقع منهم أن يفهمونا وأن نفهمهم؟
* ثلاثة أشهر طويلة جدا، قضتها زيبا مالك، شابة بريطانية من أصول باكستانية، كبائعة في متجر وسط بلدة «بيضاء». أرادت زيبا، الصحافية المتخفية، أن تختبر مستوى العنصرية لدى المجتمع البريطاني الأبيض. فوافقت على تصوير فيلم للقناة الرابعة، في بلدة لها تاريخ مع اليمين المتطرف.
«لم يكن يمر يوم واحد من دون أن أتعرض للإهانة أو السباب أو الرشق»، تقول زيبا وهي تتذكر تجربتها في صيف عام 2001، وتضيف: «خلال هذه الفترة، صورنا الشاب الذي رمى البيض على نافذتي، والسائق الذي ألقى بحجر على الواجهة.. والصبي الذي قال لي إنه لا يمانع السود، ولكن الباكيز (وصف عنصري للباكستانيين) تبا لهم! طالبو لجوء قذرون.. والآخرين الذي شتموني وطلبوا مني العودة إلى باكستان..».
لم تكن تتجرأ حتى على الخروج إلى الشارع، على الرغم من أن حارسا شخصيا كان بجانبها طوال الوقت. تقول: «شعرت خلال هذه الفترة بأنني لست جزءا من هذا البلد، على الرغم من أنني ولدت هنا وتعلمت هنا». كانت التجربة قاسية ومؤلمة لدرجة وضعتها طريحة الفراش، وجعلتها تكره البيض لفترة من الزمن. الأمر الوحيد الذي تشكر الله عليه في هذه التجربة، هو مغادرتها المكان قبل أسابيع قليلة من اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول).
بعد مرور 10 سنوات على تجربتها تلك، وجدت زيبا نفسها تعيش في منطقة تشيزيك الرقية في لندن، وذات أغلبية بيضاء. تعترف وهي تنقل ناظريها بين رواد المقهى الأنيق، وسط تشيزيك، وهي تتحدث لـ«الشرق الأوسط» بأنها تشتاق للوجوه الآسيوية هنا. ولكنها تضيف: «أنا اليوم فخورة بأن أقول إنني بريطانية. أشعر بأن هذا البلد قدم لي الكثير، وأنا قدمت له الكثير أيضا من خلال كتاباتي.. وبصراحة ليس هناك مكان آخر في العالم أريد أن أعيش فيه».
ولكن بين التاريخين صراع طويل عاشته زيبا، قبل أن تتصالح مع نفسها. صراع حول هويتها وانتمائها، ربما لا يزال مستمرا. ولكن الأكيد أن هذا الصراع لا يقتصر على زيبا وحدها، بل يعيشه آلاف البريطانيين من أصول آسيوية مسلمة.
هنا، تحاول زيبا من خلال روايتها لتجربتها، أن تفسر حالة الانفصام التي يعيشها البريطانيون الباكستانيون، والتي قد تكون أحد أبرز الأسباب التي تدفع بالكثير من الشبان المسلمين في بريطانيا من أصول آسيوية، إلى السير نحو التطرف.
* «كبرت وأنا أعي كم نحن مختلفون»، تقول زيبا وهي تتحدث عن طفولتها في برادفورد، وهي مدينة تقع في منطقة يوركشير شمال بريطانيا، ونحو 25 في المائة من سكانها من أصول آسيوية، معظمهم مسلمون.
تروي زيبا في كتاب مذكراتها «نحن مسلم.. رجاء»، وهو عنوان يحمل أخطاء نحوية عن قصد، لأنه مقتبس من جملة كانت تستعملها والدتها التي بالكاد تتكلم بعض الإنجليزية، كيف كبرت في بيت باكستاني تقليدي، وسط بلدة إنجليزية تقليدية تحولت رويدا رويدا إلى بلدة باكستانية؟ تقول: «عرفت أنني مسلمة طويلا قبل أن أعرف أنني بريطانية، وعرفت أنني باكستانية طويلا قبل أن أعرف أنني إنجليزية. هذا الأمر بالكاد مستغرب. فأمي كانت تجعلني أردد من حين لآخر منذ أن كان عمري 4 سنوات: نحن باكستانيون، الأطفال الباكستانيون أطفال جيدون، نحن مسلمون، الأطفال المسلمون أطفال جيدون».
عائلتها انتقلت إلى بريطانيا في الستينات بحثا عن وظائف، وكان والدها يعمل بمعدل عشر ساعات يوميا في معمل للمنسوجات، بينما تفرغت والدتها لتربية أولادها الأربعة (بنتان وولدان). شيئا فشيئا تحولت برادفورد إلى مكان مليء بالعائلات المقبلة من باكستان. ظل المجتمع الباكستاني يتوسع في برادفورد، في ظل استمرار تكاثر الطلب على اليد العاملة، حتى استحقت المدينة تسمية «برادستان». وكان المقبلون يحملون معهم عاداتهم وثقافاتهم من باكستان.
ففي منزل زيبا مثلا، كان الجميع يتحدث البنجابية. الجميع حتى الأطفال، كانوا يرتدون اللباس الباكستاني التقليدي. الطعام كان دائما يعد من وصفات الكاري الباكستانية. ديكور المنزل الذي قد يبدو من الخارج منزلا قديما يعود للعصر الفيكتوري، مليء من الداخل بزخرفات إسلامية، ومفروش على طريقة بيوت البنجاب. ومع تمركز الباكستانيين في مجتمعاتهم الجديدة، بدأت مطاعم الكاري وملاحم الحلال وغيرها تفتح في المنطقة لتلبي حاجات السكان. تكتب زيبا عن ذلك: «طعامنا كان طعمه ورائحته مختلفين جدا عن طعام الشعب الإنجليزي، كنا نأكل بأيدينا بينما هم يأكلون بالشوكة والسكينة. حتى الأماكن حيث كنا نتبضع كانت مختلفة؛ لم نكن نذهب إلى السوبر ماركت، بل إلى اللحام الحلال.. ».
ولكن الحياة لم تكن بهذا البساطة؛ ففي وقت كانت تقضي فيه النساء أوقاتهن بالتسوق والعمل داخل المنزل وتمرير الوقت برفقة بعضهن، والرجال منشغلون بين العمل والصلاة في الجامع، كان على الأولاد الذين بدأوا يرتادون المدارس، أن يتأقلموا مع العيش بين البريطانيين البيض على الرغم من جهلهم بهم.
كانت زيبا من الفتيات المحظوظات في برادفورد، لأن والدها قرر إرسالها إلى المدرسة هي وشقيقتها، ولم يتمسك فقط بتعليم ولديه، كما كان سائدا. تقول اليوم وهي تتذكر: «كان هناك قليلون جدا في برادفورد من مجتمعاتنا يرسلون بناتهم للدراسة، وهذا ما أحترمه كثيرا في والدي، لم يميز بين الأولاد والبنات، وهذا كان فريدا في ذلك الحين». وتضيف: «والدي علم نفسه اللغة الإنجليزية، ولذلك كان يفهم قيمة العلم. كان يقول إنه هنا لا يمكن أن نحقق شيئا من دون شهادة».
والداها أراداها أن تصبح محامية، وهي من المهن «المحترمة» في المجتمع الباكستاني. وعلى الرغم من أنها درست الحقوق في الجامعة، فإنها لم تمارسها، بل تحولت إلى العمل الصحافي. تقول: «أحيانا أشعر بأنني خيبت ظن والدي؛ لأنه أرادني أن أصبح محامية.. عندما قلت له أريد أن أصبح صحافية، لم يتكلم معي لأكثر من عام. وظل يقول لأصدقائه إنني محامية، حتى عندما كنت على التلفزيون على الـ(بي بي سي) والقناة الرابعة».
وتروي زيبا في كتابها كيف كانت تعيش انفصاما بين حياتين؛ الأولى في المنزل والثانية في المدرسة. في الأولى، كان تصلي وتعيش حياة المسلم الورع، وتتحدث اللغة البنجابية.. وفي الثانية، كانت تتحدث الإنجليزية وكان عليها أن تختلط برفيقاتها في مدرسة، كان كل الطلاب فيها باستثنائها وحدها، من البيض. كانت مختلفة، ولم تتمكن من تخطي اختلافها. تروي كيف كان والدها يجبرها على ارتداء البنطال الباكستاني التقليدي الملون تحت تنورة المدرسة. وكيف صارت تختبئ خلف شجرة خارج المدرسة لانتزاعه قبل دخولها الصف، بعد أن تعبت من الرد على الأسئلة عن سبب ارتدائها البنطال تحت التنورة.
حتى إن والدها كتب لمديرة المدرس يطلب إليها أن تعفي ابنته من حضور دروس الصلوات الدينية المسيحية لأنها مسلمة. وكتب إليها أيضا يطلب منها أن تسمح لابنتها بأن تغيب عن الصفوف أيام عيدي الأضحى والفطر. وتتذكر كيف كانت الفتيات يأتين إلى المدرسة بعد العطل الصيفية مع قصص مغامراتهن وسفراتهن إلى الخارج، بينما هي لم يكن لديها أي مغامرات. عائلتها لم تكن تملك الكثير من المال، وكانت تقضي معظم وقتها داخل المنزل أو في زيارات لمن تدعوهم العمات والأعمام، أي أصدقاء والديها من الباكستانيين.
وصل بها الأمر في النهاية إلى بدء اختراع قصص و«فبركة» رحلات خيالية إلى الولايات المتحدة أو بلدان أوروبية مع عائلتها، في محاولة للمشاركة بالحديث. ولكن هذه الخدعة لم تكن تنجح. كان دائما يتم اكتشاف كذبتها.
ومما تكتبه زيبا عن أيامها في المدرسة: «بدأت مرحلة الدراسة الثانوية في مدرسة برادفورد للبنات، وأنا أحمل آمالا كبيرة للمستقبل. أردت أن أصبح طبيبة.. ولكن في الواقع لم يتحقق ذلك. لم أصبح أبدا جراحة، لأن اندماجي بين الطلاب كان أهم من جمع العلامات الجيدة.. كنت أحاول أن أوازي بين حياتي في البيت وحياتي في المدرسة. وفي الوقت نفسه كنت في عمر أحاول فيه أن أتوصل إلى من أنا، إلى جانب كوني طالبة مدرسة باكستانية مسلمة.. لم يكن الأمر سهلا».
أصبحت الموازاة بين الحياتين معقدة لدرجة توقفت زيبا في يوم من الأيام فجأة عن الكلام. وبقيت صامتة لمدة عام من الزمن عندما كانت في الخامسة عشرة من العمر. وتكتب عن ذلك: «في خريف عام 1984، كنت على وشك أن أكمل الـ15 عاما، توقفت عن الكلام. لم أخطط لذلك. ولم أقصد ذلك. فقد حدث الأمر، وكلما طال توقفي عن الكلام، كان من الصعب أن أتكلم من جديد.. بعد عطلة الصيف الطويلة التي استمرت 6 أسابيع عدت إلى المدرسة لأستمع إلى ما فعله الجميع في العطلة؛ سافروا حول أوروبا، اشتروا فرسا جديدا، أقاموا علاقة عاطفية قصيرة.. عطلتي لم تكن أبدا شبيهة بأي من عطلات الفتيات، في الواقع بالكاد غادرت شارع منزلي طوال الصيف، وفي الوقت الذي عدت فيه إلى المدرسة كنت قد اكتشفت أمرا عظميا. أدركت أن روديارد كيبلينغ كان محقا: (الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب، ولن يلتقي الاثنان أبدا). وهكذا بدأت عام الصمت».
ولكن المؤسف أكثر من صمتها، كان عدم إدراك أحد في المدرسة أنها نذرت الصمت، تقول: «كان الأمر سهلا في المدرسة لأن معظم الطلاب تجاهلوني أصلا، وأنا كنت هادئة جدا لدرجة لم يتنبه الأساتذة إلى أنني نذرت الصمت. ولكن في المنزل، بعد أسابيع قليلة، تسبب الأمر في كثير من الأسى لعائلتي المسكينة».
ولكن الأسوأ في عام الصمت، تروي زيبا، «لم يكن عدم الكلام، بل كان شعوري الرهيب بأنني لا أنتمي لأمي وأبي».
وبهذا، بدأت تتحول الأمور بالنسبة للباكستانيين في بريطانيا. الستينات والسبعينات، كانت الفترة التي شهدت انتقال الباكستانيين إلى هنا بحثا عن الوظائف. ولذلك كان همهم العمل ولا شيء آخر. ولكن الأمر بدا يختلف مع أولادهم الذين ولدوا في بريطانيا، وهم من حاملي الجنسية البريطانية، لغتهم الأم باتت الإنجليزية، وليس لغة أهاليهم. وبدأ الشعور بالاستياء يكبر من ظروف معيشتهم والتمييز الذين يشعرون به.
تقول زيبا عن ذلك: «كان كل همّ والدي، ومعظم الذين قدموا في الستينات بحثا عن العمل، كسب لقمة العيش من دون التسبب في مشكلات.. صحيح أن الحكومة البريطانية كانت تشجع الآسيويين للقدوم إلى هنا والعمل، ولكن عندها كانوا يظنون أن الأمر مؤقت، ولكن تبين أن الأمر غير ذلك. قدمت زوجاتهن، وأصبح لهن أولاد، ولم يعد هناك سبيل للعودة، لأن ذلك يعني انتزاع الأولاد من المدرسة والعودة إلى أين؟ إلى قرية في باكستان؟ كان لدينا خدمات الصحة المجانية وتعليم للأولاد».
تكتب وهي تحاول شرح أول مرحلة من تحول المجمعات الباكستانية من جماعات سلمية إلى «مشاغبة»: «أصبحنا بريطانيين. نحمل جوازات بريطانية. جئنا لنبقى. وبدأنا نفكر لماذا علينا أن نتحمل كل ذلك؟ المسيرات اليمينية المتطرفة، والاعتداءات العنصرية، المعاشات المنخفضة، ظروف السكن السيئة، دائرة الهجرة، وحشية الشرطة. ندفع ضرائب كبيرة ومع ذلك لا يزالون يضايقوننا. حان الوقت للتصرف. حان الوقت للتنظيم. لا وقت للكسل»، وهكذا بدأت المجتمعات الآسيوية تنظم نفسها في ظل حركات اجتماعية أشبه بحزبية، ورفعت شعارات، مثل: «نحن هنا لنبقى. نحن هنا لنقاتل». وانتهت فترة وجودهم السلمية.
تقول في محاولة لتفسير توجه مسلمي بريطانيا إلى التطرف: «المجتمعات أحيانا تعزل نفسها. ولكن أيضا، أغلبية المجتمع البريطاني لم تبذل جهدا لكي تعرف الكثير عن المسلمين»، وتضيف: «هناك عدة نظريات حول أسباب التطرف، منها اجتماعية واقتصادية حيث يتوجه من هم في وضع اقتصادي واجتماعي سيئ إلى التطرف، ولكن لا أوافق على ذلك، لأن معظم الذين ارتكبوا تفجيرات لندن كانت أوضاعهم جيدة».
ولكن انطلاقا من تجربتها، تقول إن عدم قدرة المرء على الاندماج في مجتمعه «صعب». وتضيف: «عدم القدرة على الاندماج يبعدك عن أهلك، لأنهم من جيل مختلف ولا يعرفون ما الذي تمر به، كما تبعدك عن زملائك في المدرسة لأنهم مختلفون. وهنا أعتقد أنه من السهل أن يتم جذبك إلى محيط آخر حيث يتم غسل الدماغ، وحيث يتم إعادة تفسير القرآن بطريقة خاطئة ومختلفة، أكثر عنفا وأكثر عزلا. ولذلك عموما يتم استهداف من هم في عمر الشباب لغسل أدمغتهم لأنهم في عمر حساس».
قد لا تكون هناك إجابة بسيطة أو واضحة لمعالجة هذا الصراع في الانتماء، ولكن زيبا تقترح على البريطانيين الباكستانيين أن يبدأوا بالخروج من تجمعاتهم والاختلاط أكثر بالبريطانيين البيض. وعلى الرغم من أنها لا تنتقد تجمعهم في برادفورد في كتابها، فإنها تقول إن الأمور تغيرت اليوم. تقول: «أفهم أنه من الطبيعي للناس أن يتجمعوا بهذه الطريقة لأسباب تتعلق بالسلامة. عندما لا تتحدث والدتك الإنجليزية ماذا ستفعل؟ تريد أن تتمكن من أن تتكلم مع الطبيب بلغتها أو سائق الحافلة بلغتها لتحصل على إرشادات».
ولكنها ترى أنه لم يعد هناك أسباب اليوم للتجمع كما كان في الماضي. تقول زيبا التي كانت من القلائل الذين غادروا برادفورد للعيش في مكان آخر: «ليس هناك من يريد أذيتنا ولا من يهددنا. نحن بحاجة إلى التفرق، ليس فقط في برادفورد، بل في كل المناطق حيث هناك تجمعات كهذه».
تروي كيف ذهبت مرة إلى جزء من آيرلندا الجنوبية، وكان السكان يتجمعون نحوها للمس بشرتها، لأنهم لم يروا شخصا داكن اللون من قبل. تقول: «لا تزال هناك مناطق كهذه هنا. وإذا لم نتواصل مع السكان، فكيف نتوقع منهم أن يفهمونا وأن نفهمهم؟ أعتقد أن أكثر ما هو مفيد التواصل».
تتحدث زيبا بشغف اليوم عن ديانتها، على الرغم من أنها توقفت عن ممارستها لعدة سنوات عندما كانت في المدرسة وأيام الجامعة. ولكنها تفسر ذلك بأنها كانت تواجه معركة يومية، ولم يكن من السهل عليها ممارسة دينها في مجتمع علماني. تقول: «حين كنت في المدرسة كنت أدفع باتجاه أن أكون شخصا، وفي المنزل كنت أدفع بالاتجاه المعاكس لأكون شخصا آخر. عندما تكبرين في مجتمع علماني، فمن الصعب أن تمارسي دينك بالشكل الكامل، خصوصا أن الإسلام يتطلب ممارسة واضحة، صلاة (5 مرات) وصياما، كان من الصعب علي أن أقوم بذلك، لذلك وضعت ديني جانبا لبعض الوقت لكي أتأقلم مع المجتمع».
ولكنها اليوم استردت تعلقها بالإسلام «الدين المتسامح المسالم كما علمني والدي». وتؤكد أن هدف كتابها هو تفسير حالة المسلمين الآسيويين في بريطانيا، أكثر من إيجاد الحلول، لأن الحلول تأتي بعد فهم الأوضاع.
تقول: «أردت أن يرى الناس ديانتي كما أراها أنا، بشكل إيجابي، في وقت تصور اليوم بشكل سلبي. حصلت إساءات كثيرة لديانتي التي بات يُنظر إليها على أنها عنيفة وضد النساء وكل ذلك، وهذا غير صحيح فأنا أعرف عمق ديانتي»، وتضيف: «كمواطنة في هذا البلد، أشعر بأن لدي واجبات علي أن أمارسها. عندما يأتي المسلمون ليعيشوا هنا، يقول الإسلام إن عليهم واجب أن يصبحوا مواطنين في هذا البلد. وهذا لا يعني بالنسبة لي فقط احترام قوانين البلد، بل يعني التواصل مع شعب البلد واحترام عاداته وثقافته، كما أتوقع منهم أن يحترموا ثقافتي».
تعترف بأنه لطالما كان هناك نوع من العزلة لدى المجتمعات الباكستانية هنا، ولكنها تصر على ضرورة بذل جهد لاحترام المكان والشعب، عبر الاختلاط والحوار، من دون التخلي عن الجذور. تقول: «استغرقني وقت طويل لكي أتوقف عن تحديد نفسي بهوية واحدة، باكستانية أو مسلمة أو بريطانية، أشعر بأنني مباركة لأن لدي الكثير من الهويات. يجب أن نبدأ بالنظر إلى قضية الهويات بصورة إيجابية».
على الرغم من أن تجربتها كبائعة في متجر وسط بلدة معروفة بيمينها المتطرف، كانت صعبة ومؤلمة، فإنها تصر أنها تعلمت منها الكثير. تقول: «كان يأتي إلي أشخاص ويقولون: لم أدرك أبدا أن امرأة باكستانية يمكنها أن تكون مثلك، أن تشارك في أحاديث وتسأل كيف حالك وما إلى ذلك. هذه الأمور الصغيرة التي يمكن القيام بها تساعد الكثير. على المجتمعات أن تكون أكثر انفتاحا».
 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,148,247

عدد الزوار: 6,936,925

المتواجدون الآن: 101