نحو نظام ديمقراطي عـربي

تاريخ الإضافة الخميس 20 كانون الثاني 2011 - 7:19 ص    عدد الزيارات 924    التعليقات 0

        

 

 
نحو نظام ديمقراطي عـربي
د. محمد عبد العزيز ربيع
إن الدعوة لتأسيس نظام حكم عادل في الوطن العربي يضمن الممارسة الحرة والمشاركة الحقة في العملية السياسية هي دعوة قائمة بذاتها لأنها السبيل الوحيد لتحرير الإنسان من الظلم الذي لحق به على مدى العصور.. إن العدل هو الأساس الذي يضمن المساواة بين الناس وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص في المجتمع، ويمهد الطريق لحدوث النهضة والتقدم. وكما يشير التاريخ الحديث، لم يتحقق العدل إلا في ظل نظم الحكم الديمقراطية التي تبلورت في عصر الصناعة وترسخت بعد تأسيس الولايات المتحدة وقيام الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.
الديموقراطية ليست نظام حكم فقط، بل هي أيضاً قيمة اجتماعية على غاية الأهمية لأنها ترسي مبدأ للتعامل بين الناس على أساس المساواة في الحقوق والواجبات واحترام الرأي الآخر والاعتراف بحقه الكامل في التعبير عن نفسه. وإذا كانت الديموقراطية كنظام سياسي يعني وضع حد نهائي للحكم الفردي ومؤسسات الدولة غير الخاضعة لرقابة شعبية فاعلة، فإن الديموقراطية كقيمة اجتماعية تعني وضع حد نهائي لاحتكار الفلسفات الاجتماعية والسياسية الشمولية كالدين والقومية والشيوعية حق السيطرة على الفكر والثقافة الوطنية وإدارة الحكم.
رغم ذلك، نرى أن من المفيد النظر إلى التراث العربي لتفحص إمكانية وجود ما من شأنه تعزيز الدعوة لتأسيس الديموقراطية، وليس لتبريرها. وهذا سيحملنا إلى الحديث عن الشورى في التراث العربي الإسلامي، وهو حديث لا يزيد عن كونه محاولة لدعم الفكرة الديموقراطية والمطالبة بإقامتها باعتبارها ليست غريبة من حيث المضمون والأهداف عن الفكر العربي، وليس لاستبدال الشورى بالديمقراطية.
لكن قبل الانتقال إلي الحديث عن الشورى وعلاقتها بالديموقراطية لا بد من الإشارة، وبوضوح بالغ إلى أن الشورى كمبدأ في الحكم لم يتم تعريفه بشكل محدد في أية فترة من فترات التاريخ العربي، وإن ممارستها بقيت محدودة ضمن نطاق ضيق للغاية، وأنه تم تجاوزها أكثر من مرة خلال فترة حكم من حاول ممارستها من الخلفاء الراشدين، وإن الواقع العربي والإسلامي المعاصر لا يشير إلى وجودها أو ممارستها في أي من الدول العربية أو الإسلامية. إلى جانب ذلك، لم تستطع هذه الفكرة أن تتطور إلى نظام حكم ذا مؤسسات تضمن تمثيل الشعب، وذا آليات عمل تضمن مشاركة الفرد في العملية السياسية وفي اتخاذ القرارات ذات التأثير في مصيره ونوعية حياته. وهذا يجعل الشورى مجرد فكرة أو مبدأ في الحكم لا يملك الحد الأدنى من مقومات الوجود كنظام حكم سياسي قادر على مجاراة الديموقراطية أو ضمان الحقوق والحريات التي تضمنها الديموقراطية وتوفرها للشعوب لاستعادة كرامتها وإنسانيتها.
 إن التفسير الذي نقدمه فيما يلي لفكرة الشورى كمبدأ في الحكم هو محاولة للغوص في أعماق المفهوم الشورى واستنباط كل ما يمكن استنباطه من معان ذات مدلول إيجابي تقدمي يقربه من المفهوم الديموقراطي. وهذا يجعلنا ننظر إلى هذا المفهوم من زاوية إنسانية ذات أبعاد عالمية ومنظور عصري واسع وليس من خلال منظور تاريخي ضيق انتهى زمنه وانتهت صلاحيته منذ أمد بعيد. إن ما سنقوم به في الواقع هو محاولة لإعادة تفسير المفهوم الشورى بما يتوافق مع قيم العصر ومتطلبات التعايش معه، وإعطاء التراث العربي الإسلامي بعض المصداقية في الدعوة لاحترام حقوق الإنسان وحرياته، خاصة حقه في المشاركة في الحكم.
 
الديموقراطية والشورى
 
تقوم الدعوة للشورى في التراث العربي الإسلامي على نصين واضحين في القرآن الكريم، يقول أحدهما "وأمرهم شورى بينهم"، ويقول الآخر "وشاورهم في الأمر". وهذا يعني إرساء مبدأ التشاور بين الناس، وتبادل الآراء وتداولها فيما يتعلق بالقضايا العامة التي تهمهم، ودعوة المسؤول عن الرعية لأخذ رأيها في الأمور الهامة. ويتضح من النصين أن الدعوة إلى الشورى هي دعوة قائمة دائماً، وأن مسؤولية الحاكم تجاه التشاور مع الرعية هي مسؤولية مستمرة لا تنقطع أوصالها ولا تنتهي أسبابها.
يقول بعض المجتهدين في الدين والمفكرين السياسيين إن مبدأي الشورى والتشاور هما من حقوق الناس الثابتة، وأن ما يصدر عنهما من قرارات يلزم الحاكم. ويقول آخرون بأن الشورى والتشاور هي دعوات للحوار وتبادل وجهات النظر لا غير، وأن ما يصدر عنها من آراء لا يلزم الحاكم أو المسؤول. ويستند هؤلاء في تأكيد صحة هذا الاستنتاج إلى النص القرآني الذي يقول "وإذا عزمت فتوكل على الله".
إن النص القرآني الذي يقول "وإذا عزمت فتوكل على الله" يوحي بأن من حق الحاكم اتخاذ القرار وتنفيذه. لكن وجود النصين الآخرين يجعل من الصعب، بل من غير الصواب اعتماد نص واحد دون غيره من نصوص قرآنية ذات علاقة واضحة ومباشرة بقضية الحكم. لذلك كان لا بد من أخذ النصوص جميعا ضمن نظرة شمولية واستنباط معادلة تكفل التوفيق بين تلك النصوص وتضمن تكاملها، لا تناقضها.
إن في مقدور النظرة الشمولية العميقة لتلك النصوص أن تكتشف ترابطها وتكاملها وقدرتها على التجاوب مع حاجة المجتمعات الإسلامية لتأسيس الديمقراطية. أما النظرة الجزئية فمن شأنها إلحاق الظلم بنصوص دون غيرها وتكوين أحكام شمولية بناء على نظرة انتقائية كانت ولا تزال سبباً من أسباب المعاناة والظلم الذي لحق بالعرب والمسلمين عامة، وذلك إلى جانب كونها جزءاً من الأزمة التي يعيشها الفكر الديني والفكر القومي في المرحلة الراهنة.
ومن أجل تكوين أحكام عامة بناء على نظرة شمولية، كان لا بد من ترتيب تلك النصوص على النحو التالي، واعتبار كل نص مكمل للنص الذي يسبقه وخطوة على طريق النص الذي يتبعه:
1.      وأمرهم شورى بينهم.
2.      وشاورهم في الأمر.
3.    وإذا عزمت فتوكل على الله.
يرسي النص الأول المبدأ الأساسي في الحكم حيث يجعل من حق، بل من واجب جميع الناس التداول في الأمور العامة والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تهمهم، بما في ذلك اختيار الحاكم، وذلك لأن دور الحاكم في المجتمع وسلطاته هي من الأمور العامة التي تعني الناس جميعاً، وبالتالي من القضايا الخاضعة للشورى. أما النص الثاني فيرسي المبدأ الثاني في الحكم وهو المبدأ الذي ينظم علاقة الحاكم بالرعية حيث يأمر الحاكم بالرجوع إلى الرعية باستمرار لمشاورتهم في الأمور العامة وأخذ رأيهم قبل اتخاذ القرارات الهامة. ويرسي النص الثالث المبدأ الثالث في الحكم حيث يحث الحاكم على الحسم وعدم التردد في اتخاذ القرار بعد مشاورة الرعية وسماع آرائهم واستكمال المعلومات المتعلقة بالقضية المعنية.
الشورى عملية اجتماعية سياسية لا تتم إلا من خلال مناقشة مفتوحة للقضايا العامة، ولا تكتمل دون نقاش وحوار حر للآراء. وهذا يجعلها عملية مستمرة يشارك في مداولاتها كل الراغبين، ويجعل من حق كل المشاركين التعبير عن آرائهم والإطلاع على آراء غيرهم. وما دام الأمر شورى بين الناس فإن ما تثيره تلك العملية من نقاش وحوار يصبح بلا معنى إذا لم يستهدف التوصل إلى اتفاق وقرارات جماعية ملزمة. إضافة إلى ذلك، يعني النص "وأمرهم شورى بينهم" عدم إسناد أية سلطة لأي شخص بعينه، وإخضاع كل القضايا التي تهم الناس لمبدأ الشورى الذي يعني عمليا المشاركة في اتخاذ القرار العام، وهو قرار سياسي بطبيعته. وإذا كان هذا المبدأ لا يعطي شخصاً بعينه حقاً خاصاً، فانه أيضاً يطلب ضمناً عدم تدخل الغير في مداولات أصحاب القضية، مما يعني السماح بالتجمع والتداول بين أصحاب المصالح المشتركة دون تدخل الدولة. وحيث آن الله أمر رسوله بمشاورة من يهمهم الأمر، عندما قال "وشاورهم في الأمر"، فإن الشورى وما يصدر عنها من قرارات، أصبحت ملزمة للحاكم و المحكوم على السواء.
أما النص الذي يقول "وشاورهم في الأمر" فيتعامل أساساً مع واجب الحاكم تجاه الرعية حيث يأمره صراحة بالعودة للناس لأخذ رأيهم ومشاركتهم في اتخاذ القرار، وبالتالي يرفض الدعوة لانفراد الحاكم في الحكم واتخاذ ما يحلو له من قرارات. وبسبب كثرة الأمور التي تهم الناس من ناحية، وتغير الظروف الحياتية بصفة مستمرة من ناحية ثانية، فإن دعوة الحاكم لمشاورة الرعية أصبحت دعوة قائمة ودائمة. وهذا يجعل تلك الدعوة وممارسة ما جاء بشأنها على أرض الواقع عملية جماعية ومجتمعية تحتم قيام تفاعل وتواصل دائم ومستمر بين الحاكم والمحكوم.
إن جمع النصين معا والنظر إليهما نظرة شمولية تكاملية يجعل من غير الممكن ممارسة الشورى وتحقيق أهدافهما دون إقامة العديد من المؤسسات المجتمعية المعنية بقضية الحكم. وهذا يعني تصميم وتفعيل عمليات مجتمعية وظيفتها خلق أطر للتفاعل والتشاور بين الناس، وبينهم وبين الحاكم، وتقنين عمليات اتخاذ القرارات العامة بشكل يضمن المشاركة الشعبية الحرة الواعية. وهذا بدوره لا يمكن أن يتم دون الاعتراف بحقائق معنية والإقرار بحقوق محددة جاءت الإشارة إليها ضمنا في الدعوة القرآنية إلى الشورى والتشاور:
1.    الاعتراف بوجود مجتمع، أو شعب يعيش في ظل ظروف معينة تجعله يكون وحدة إنسانية ذات أمور مشتركة، ووجود فئات اجتماعية ذات قضايا ومصالح خاصة.
2.    الاعتراف بوجود قضايا ومشاكل عامة تهم الناس جميعا وتحتاج إلى قرارات وحلول يتم التوصل إليها والاتفاق حولها من خلال التشاور بين الناس والمشاركة في اتخاذ القرار.
3.    الاعتراف بوجود خلافات في الرأي والمواقف بين الناس تستدعي اللجوء إلى الشورى والتشاور، وهي خلافات لا يمكن أن تقوم أو تدوم داخل المجتمع الواحد إلا إذا انبثقت عن أفكار وعقائد سياسية ودينية مختلفة وارتبطت بمصالح اقتصادية متباينة.
4.    الإقرار بأن المعنيين من الناس، أي أفراد المجتمع الواحد، اعرف بأمورهم واقدر على التعامل معها، وان الحكم لا يستقيم دون وعي الحاكم لهذه الحقيقة واحترامها.
5.    الإقرار بتغير الظروف وتبدلها باستمرار والدعوة إلى التعامل مع الواقع المتغير من خلال جعل دعوتي الشورى والتشاور عمليتين مجتمعتين مستمرتين وملزمتين.
6.    الإقرار بأن ممارسة الشورى والتشاور لا تتم إلاّ إذا توفرت الحرية وسادت أجواء التسامح وأقيمت المؤسسات المجتمعية، بما في ذلك القوانين والتشريعات، التي تضمن حرية الرأي وحق الرأي الآخر في المشاركة والتعبير عن نفسه.
7.    الإقرار بأن الخلافات في الرأي بين الناس تعني:
أ. ديمومة التباين في مصالح الناس.. وهي مصالح قد تتغير من حيث الشكل أو المضمون، لكنها لا تتغير من حيث المبدأ.
ب. إن وجود تلك الخلافات وذلك التباين هو أمر طبيعي، وبالتالي قضية مشروعة.
ج. إن السبيل الوحيد للتعامل مع قضايا الخلاف والتباين هو التداول في الرأي والمشاركة في اتخاذ القرار واحترام الرأي الآخر.
يدعي البعض بأن رسالة الإسلام واضحة فيما يتعلق بكل نواحي الحياة، وأن هنالك إجماعا على كيفية التعامل معها لا يقبل التأويل أو إعادة التفسير. هذا إدعاء خاطئ لأنه يتناقض مع حقيقة اختلاف الأئمة في الماضي حول تفسير العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وتعدد المذاهب والتيارات الفكرية الإسلامية، كما انه يتعارض أيضا مع مبدأي الشورى والتشاور كعملية اجتماعية سياسية مستمرة. فلو كان الإجماع قائماً حقاً، ولو اعترف القرآن بذلك الإجماع، لما جاء النص ليأمر الناس والحكام بالشورى والتشاور فيما يعنيهم من أمور، ولما اختلف أئمة الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً فيما بينهم .
إن وجود أربع مذاهب فكرية دينية هي المذهب الحنفي والمالكي والحنبلي والشافعي، لدليل قاطع على اختلاف الأئمة حول تفسير بعض النصوص القرآنية وتباين ثقتهم بصحة الروايات المتعلقة بالكثير من الأحاديث والأفعال النبوية. ورغم قيام هؤلاء الأئمة بتأسيس مذاهبهم ونجاحهم في اجتذاب الأتباع من المؤمنين إلا انهم جميعاً اعترفوا باحتمال وقوعهم في الخطأ وطالبوا مباشرة أو ضمناً باستمرار عملية الاجتهاد. وعلى سبيل المثال قال الإمام الشافعي، "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط". أما الإمام مالك فقال: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فاعرضوا أقوالي على كتاب الله وسنة رسوله". وقال الإمام أبو حنيفة: "كلامنا هذا رأي، فمن كان لديه خير منه فليأت به". أما الإمام أحمد بن حنبل فقال: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وتعلم كما تعلمنا". أما الإمام ابن الجوزي فقال: "في التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خُلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشي في الظلام".
وانسجاماً مع هذا التقليد في البحث والاجتهاد نطرح أفكارنا في هذا الفصل مستخدمين شمعة العقل التي أصبحنا أحوج ما نكون إليها في هذه العصور المظلمة التي نعيشها، وهي عصور تسببت في تخلفنا عن روح العصر وحقائقه في كافة ميادين الحياة العلمية والفكرية والثقافية والتكنولوجية والاقتصادية.
إن تداول الآراء بين الناس، وطرح القضايا العامة للحوار والنقاش الهادف هي عملية مجتمعية لا تتم في فراغ ولا تأتي أكلها إلا إذا توفرت لها أجواء الحرية لإبداء الرأي بصراحة، وقام المشاركون فيها والمعنيون بها بالسعي لسماع الرأي الآخر والاعتراف به والالتزام باحترامه. وهذا يعني أن توفر الحرية، حرية الرأي والتعبير والمشاركة السياسية، هي من أولى متطلبات تطبيق مبدأي الشورى والتشاور في الحياة العامة. وفي الواقع، تعني الشورى التجسيد الفعلي لفكرة الحرية والتعددية، ويعني التشاور الترجمة العملية لفكرة المشاركة في الحكم.
إضافة إلى ما سبق، نشير إلى حديثين من أحاديث الرسول يتعاملان مع قضية الحكم ودور الحاكم. يقول الحديث الأول: "أنتم أدرى بأمور دنياكم" ويقول الحديث الثاني: "إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم فإنما أنا بشر".
بالنظر إلى هذين الحديثين نظرة شمولية عقلانية يتضح أن الرسول يُرسي من خلالهما الأساس لفصل الدين عن الدولة دون أن يكون ذلك الأمر مخالفاً للدين، بل استجابة لاحتياجات الناس وتجاوبا مع حقائق الحياة المتغيرة. فالحديث الأول يقر بأن قدرة الحاكم، حتى ولو كان نبياً، على معرفة أمور الناس محدودة، وأن الناس أو أي تجمع إنساني بغض النظر عن شكله أو أسسه أو ثقافته، أكثر معرفة بما يهم أعضاءه من أمور. وحيث أن المعرفة بالأمور تستوجب التصرف على أساس المعرفة المتوفرة، فإن الحديث يعترف ضمنا بحق الناس في التشريع بما يتعلق بأمور الدنيا.
أما الحديث الثاني فينص صراحة على وجود فرق واضح بين أمور الدين وأمور الدنيا، إذ يقول بأن الرسول أعلم بأمور الدين من بقية الناس، وأن الناس أدرى من غيرهم بأمور دنياهم. لذلك يأمر الرسول أتباعه بإطاعته فيما يتعلق بأمور الدين ويترك لهم حرية الخيار فيما يتعلق بأمور الدنيا، وذلك لأن رأي الرسول في قضايا الحياة عامة ليس إلا رأي إنسان آخر يحتمل الصواب والخطأ. ويعتبر الحديثان دعوة واضحة ومباشرة إلى الناس بوجوب تحمل مسؤولية أمور دنياهم وإدارتها باعتبارهم الأعرف بتعقيداتها والأقدر على التعامل معها وعدم خلطها بالقضايا الدينية. إلى جانب ذلك، لا بد من إدراك المعنى الضمني للنص القرآني الذي يقول "وأمرهم شورى بينهم"، إذ يقر النص كما أوضحنا سابقاً بوجود قضايا عامة تهم الناس ويترك لهم أمر التعامل معها. وما دامت القضايا الدينية قد تم توضيحها في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث الدينية، فإن المعنى بكلمة "أمرهم" هي قضايا الدنيا، أي قضايا المعاملات التي هي من اختصاص مؤسسات الدولة.
لذلك يمكن القول أن مبدأي الشورى والتشاور في الفكر العربي الإسلامي، ودعوة الرسول إلى فصل الدين عن الدولة تشمل كل مكونات ومتطلبات الفكرة الديمقراطية الحديثة. كذلك يحتوي ذلك الفكر قضايا الحرية والتعددية ويعترف بوجود وشرعية الخلاف في الفكر والعقيدة والاختلافات في الرأي والمصلحة وتغير ظروف الحياة، ويدعو إلى حلها والتعامل معها من خلال الشورى والتشاور والمشاركة، وليس من خلال فرض الرأي على الرأي الآخر. وهذا يعني رفض مبدأ سيطرة شخص أو حزب أو رأي على الآخر، وحتى رفض مبدأ سيطرة الأغلبية على الأقلية لأن من حق الجميع أفرادا وجماعات المشاركة في عمليتي الشورى والتشاور واتخاذ القرار.
إذا كانت فكرة الشورى على النحو الذي طرحناه هنا قادرة على استيعاب المفهوم الديموقراطي فهل باستطاعتنا، أو من المصلحة استخدام كلمة شورى بدل كلمة ديموقراطية وبناء نظام حكم شوريّ. الجواب على هذا السؤال، دون مواربة، هو لا. إن مفهوم الشورى لا زال موضع خلاف كبير، وانه لم يتم تحديد معانيه ومحتوياته بشكل يحظى بإجماع العلماء أو المعنيين من رجال الفكر والسياسة حتى الآن، وأنه ليس من المتوقع أن يحصل الإجماع في المستقبل المرئي. كذلك لم يتم تأسيس فكرة الشورى أو قيمتها في الثقافة العربية، ولم تحاول أنظمة الحكم العربية والإسلامية خلال التاريخ كله استخدامها بشكل عملي. وهذا يجعل استعمالها هو استعمال لفكرة ضبابية قابلة للتلاعب ولا تستند إلى جذور فكر سياسي واضح أو ممارسة عملية حية. وفي الواقع، جاء طرح فكرة الشورى مجدداً ليس لتعزيز مبدأ الحرية وإنما كرد فعل على فكرة الديموقراطية، وذلك في محاولة لرفض الأخيرة، مما جعل الشورى تبدو نقيضاً، أو نظاماً بديلاً للديموقراطية، وهو نقيض غير حقيقي ونظام بديل لا وجود له.
إلى جانب ذلك، أصبحت فكرة الديموقراطية كنظام حكم وكقيمة اجتماعية مفهوماً عالمياً ذا دلالات إيجابية تقدمية، وهو مفهوم غير غريب عن التراث الفكري العربي وواحد من ابرز مفردات الخطاب السياسي العربي الحديث. وما دمنا نبحث عن وسيلة قادرة على الإسهام في تحريرنا من التخلف والإرهاب والحكم الفردي والاستبداد وهيمنة الفكر التراثي الماضوي فإن كون المفهوم الشورى غير واضح من الناحية الفكرية، وغير مطبق من الناحية العملية، وجزء من تراث موغل في القدم يفرض علينا الابتعاد عنه بقدر الإمكان واستخدام لغة العصر ومفاهيمه لينقشع الضباب ويصبح بإمكاننا رؤية السبيل والهدف كما يجب أن يكون.
الديمقراطية والواقع العربي
إن مبدأ الاختيار بين التيارات السياسية المتنافسة الذي تقوم عليه الديمقراطية الغربية اليوم لا يناسب غالبية الدول النامية، بما فيها الدول العربية. ويعود السبب في ذلك إلى كون معظم الدول العربية تحتوي على أقليات عرقية ودينية وثقافية غير متجانسة، وأحيانا متنازعة، وسيطرة التطرف على فكر ومواقف أغلبية القوى السياسية النشطة في المجتمع، وهي قوى تستند عادة إلى مراجع دينية أو قومية أو تاريخية جامدة إلى حد كبير. وهذا يستدعي تأسيس نظام ديمقراطي يحول دون انفراد الأغلبية بالسيطرة على الحكم، ويصون حقوق الأقلية، ويمكنها من المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية دون منحها ما يكفي من الصلاحيات لتعطيل عمل الحكومة الديمقراطية.
قد يثير الحديث عن الأقليات وحقوقها السياسية ردود فعل سلبية من قبل بعض مثقفي العالم العربي خاصة غلاة القوميين منهم. ويعود السبب في ذلك إلى الخوف على الوحدة الوطنية ومستقبل الدولة القطرية، وإلى الإيمان بقوة عوامل الوحدة الذاتية التي صاغتها وأنجزتها عهود طويلة من النضال القومي. وفي الواقع، تنبع ردود الفعل تلك من عقلية فوقية ومن خلفية ثقافية سياسية تعتمد القومية أو الدين أساسا لها. فالقومية التقليدية والتيارات السياسية القومية ترفض الاعتراف بوجود أقليات قومية ضمن حدود الدولة الواحدة، شأنها في ذلك شأن القوميات التي تمثل الأغلبية السكانية المهيمنة على الحكم في معظم دول العالم. أما الدين الإسلامي فيرفض الاعتراف بكل القوميات، وذلك لأنه يعتبر كافة المسلمين أمة واحدة، ويميل إلى معاملة غير المسلمين معاملة لا تقوم على المساواة من النواحي السياسية، وإن اعترفت بحقوقهم المدنية والدينية، وحتى هذه لا تزال محصورة بحدود الديانات السماوية دون غيرها. وهذا ما يدفع دولة كإيران مثلاً إلى عدم الاعتراف بأقلية كردية لأن الأكراد مسلمين، وإلى اضطهاد الأقلية الإيرانية المؤمنة بالبهائية.
اتجهت الدولة القومية خلال تاريخها الطويل إلى فرض أكبر قدر من التجانس الثقافي على المواطنين في أوسع المساحات والأقاليم التي سيطرت عليها، مما جعلها تقوم بكبت التطلعات السياسية والتفافية للأقليات. ولقد نتج عن ذلك تكرر الحروب الأهلية وتفكك العديد من الدول الكبيرة وإقامة المزيد من الدول القومية الصغيرة، خاصة في أوروبا. في العصر الحاضر، وبسبب انتشار التعليم وإعادة كتابة التاريخ وهيمنة الإعلام على العملية الثقافية الاجتماعية، أصبح من المستحيل طمس وعي الجماهير طويلا وحرمان الأقليات القومية والدينية والثقافية من تطوير هويتها الذاتية. وهذا جعل العصر الحديث يستوجب القبول بأكبر قدر ممكن من التنوع الثقافي في أصغر المساحات الواقعة تحت سيطرة الدولة القومية.
إن التسليم بوجود التنوع الثقافي وبحقه في التعبير عن نفسه من شأنه توظيف ذلك التنوع لإثراء الحياة الاجتماعية والثقافية عامة، وربما أيضا المساهمة في خلق تجمع سياسي اجتماعي في الوسط يساهم في الحفاظ على التوازن في المجتمع ويقوم بدعم العملية الديمقراطية. لذلك أصبح الموقف السليم سياسيا والعادل اجتماعيا والمنسجم مع نفسه أخلاقيا هو الموقف القائم على الاعتراف بالتنوع الثقافي والديني والملتزم بتعريف حدوده وصيانة حقوقه ضمن أطر مجتمعية تعزز الوحدة الوطنية. وهذا يستدعي استنباط معادلات سياسية ونماذج تنظيمية إدارية تضمن الاعتراف بوجود الاقليات وتصون حقها في التعبير عن نفسها والمشاركة الفاعلة في حياة المجتمع.
إن أتباع التيارين الفكريين السياسيين القومي والديني في الوطن العربي يحاولون اليوم تفكيك المشروع القطري الإقليمي القائم على أرض الواقع، أو على الأقل تجاوزه وبناء أطر وحدوية عربية أو إسلامية أكبر وأشمل. لكن من الواضح أن التركيز على القومية العربية يزيد مخاوف الأقليات غير العربية ويدفعها إلى التمسك بالمشروع الإقليمي الحالي، كما أن التركيز على الدين يخيف الأقليات الدينية غير المسلمة ويدفعها أيضا إلى التمسك بنفس المشروع. ومما يشجع الأقليات غير العربية وغير المسلمة على التمسك بالمشروع القطري القائم نجاح معظمها في ظله في الحصول على الكثير من حقوقها، وتمكن بعضها الآخر من الحصول على امتيازات غير عادية. وهذا يجعل وجود ومواقف تلك الأقليات يتعارض مع أهداف المشروعين الإسلامي والقومي مما يعزز العقبات التي تعترض سبيلهما. وهذا يفرض على كلا المشروعين، من أجل تحسين فرص النجاح، الاعتراف بوجود الأقليات الثقافية والدينية واحترام حقوقها.
تشير الحقائق السياسية والاجتماعية في جميع أقطار الوطن العربي إلى تباعد، وأحيانا تعارض القيم الأساسية والمواقف الأيدولوجية بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. وحتى بين أتباع التيار العقائدي الواحد تبدو الخلافات بين الأحزاب والقيادات السياسية واضحة وحادة لدرجة تحول دون الوحدة أو حتى التعاون الفعال. وهذا يجعل الخلاف بين الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية في البلاد العربية قضايا أساسية يصعب التوفيق فيما بينها، وذلك خلافا لما هو عليه الحال في بلاد الغرب الديمقراطية. وفي الواقع، بينما تتسارع حركة الأحزاب العقائدية في الغرب نحو التقارب، تتسارع حركة الأحزاب العربية تحت تأثير التطرف الديني والنزعة القطرية نحو التباعد.
إن الخلاف حول مبدأ الحكم، والاختلاف في الموقف الفلسفي بين التيارين السياسيين الرئيسيين العاملين في الوطن العربي اليوم، وهما التيار الديني الإسلامي والتيار القومي العلماني، هما من الكبر بمكان بحيث جعلا قيام حوار بناء واعتراف متبادل بوجود وشرعية نشاط الآخر شبه معدوم. فاليمين العربي الذي يجسد الإسلام السياسي فكره وأطر عمله يعتبر الإسلام دين ودولة، ويدعي أنه يملك نظرية إسلامية متكاملة في الاقتصاد والسياسة تختلف عن أفكار ونظريات التيار القومي العلماني، بل وتتعارض مع معظم حيثياتها. وفي المقابل ينادي التيار القومي بفصل الدين عن الدولة، ويعتبر الديمقراطية والتعددية السياسية والحرية والترتيبات الاقتصادية التي تقوم على البنوك التجارية والإقراض التجاري والشركات المساهمة أساس النظام السياسي والاقتصادي القادر على الإنتاج والتعايش مع العصر .
وبينما ينادي أتباع التيار القومي عموما بالوحدة العربية وتأسيس العلاقات الدولية على أسس مصلحيه ولا يعيرون أهمية تذكر لفكرة الوحدة الإسلامية، ينادي أتباع التيار الإسلامي بالوحدة الإسلامية وتأسيس العلاقات الدولية على مبادئ عقائدية دينية، ويرفضون الدعوة إلى الوحدة العربية كبديل أو حتى نقطة ارتكاز للوحدة الإسلامية. إلى جانب ذلك، يميل أتباع التيار القومي عموما وأتباع جناحه الليبرالي خصوصا إلى المطالبة بتأسيس الديمقراطية على مبدأ التعددية السياسية وتداول الحكم بين الناس والاعتراف بكامل حقوق المرأة، بينما يميل أتباع التيار الإسلامي عموما وأتباع جناحه السياسي المتطرف خصوصا إلى رفض التعددية وحصر الحكم في المؤسسة الدينية دون غيرها من مؤسسات مجتمعية ولا يعترفون للمرأة بحقوق مدنية متساوية مع الرجل.
وهذا يعني أن فوز تيار فكري عقائدي معين في الانتخابات في حالة توفر الديموقراطية في بلد عربي ما، من شأنه في الأحوال العادية تغيير السياسات العامة، وتعديل نظام القيم السائد، واستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لحرمان المعارضة، أو الفكر العقائدي الآخر، من الفوز في الانتخابات التالية. لذلك يلاحظ دائما قيام الأحزاب الحاكمة بحرمان التيارات العقائدية ذات القدرة التنافسية من حق التنظيم وخوض المعارك الانتخابية، والقيام غالبا باضطهاد المعارضة السياسية وكبت المعارضة الفكرية والتضييق على الحريات العامة، خاصة حرية الرأي والتعبير.
إن من الأمور المتفق عليها في ظل النظم الديموقراطية حاجة كل الحكومات المنتخبة لصلاحيات كافية وأجهزة فعالة لإدارة شؤون الدولة، ومن بينها اقتراح السياسات والبرامج الجديدة أو البديلة، وتعديل النظم والترتيبات القائمة لتكون أكثر كفاءة واقعية. إلا أن تلك الحكومات، وبحكم مصدر الشرعية الانتخابي الديموقراطي الذي تعتمد عليه وتنبثق منه، لا تملك صلاحية المساس بجوهر الديمقراطية أو تجاوز المؤسسات الديمقراطية أثناء ممارسة السلطة. وهذا يعني أن القيام بتعطيل العملية الديمقراطية من خلال حصر الانتخابات ضمن تيارات فكرية معينة دون غيرها، أو التلاعب بالانتخابات من خلال التأجيل غير المبرر أو التزييف، أو حرمان الرأي الآخر في حق التعبير عن نفسه والترويج لمواقفه والأمل بالفوز في انتخابات تالية، هي مواقف غير ديمقراطية وسياسات غير مشروعة. ويمكن القول باختصار:
1.    إن الممارسة العربية في ظل الأنظمة التي تدعي الديموقراطية هي ممارسة غير ديموقراطية.
2.    إن التمحور السياسي العقائدي الذي يسود في الوطن العربي اليوم لا يفسح المجال لممارسة ديموقراطية حقه على طريقة النموذج الديموقراطي التقليدي.
3.    إن المدخل نحو تأسيس الديموقراطية كنظام حكم في البلاد العربية يستدعي البحث عن معادلة جديدة تتناسب مع الواقع العربي ولا تتجاوزه، بحيث توفر التعددية السياسية، وتصون حقوق الأقليات الثقافية وغير الثقافية، وتتيح لكافة أفراد الشعب فرصة المشاركة في العملية السياسية.
نحو نظام ديموقراطي عربي
إن قيام إدارة حكم إسلامية مثلاً بخلافة إدارة حكم علمانية من شأنه تفكيك الأنظمة الاقتصادية القائمة، وكبت الحريات السياسية والفكرية، وإعادة النظر في المواقف السياسية من الدول الأجنبية والتيارات الفكرية الوطنية والعالمية. كذلك من المتوقع أن يقود انتقال السلطة من إدارة دينية لإدارة قومية علمانية إلى حدوث تغيرات جذرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية القائمة وعكس مجراها إلى حد كبير. وهذا من شأنه تعريض المجتمع لعدم الاستقرار وزيادة احتمالات حدوث الصراع والفشل وشيوع الإحباط، وإضعاف ثقة الغير بالدولة وإمكانية التعامل معها بثقة.      لذلك كان لا بد من مشاركة كل القوى السياسية والاجتماعية الرئيسية في الحكم وتحمل مسؤولية إدارة شؤون الدولة، وجعل تلك المشاركة وسيلة لإضعاف ميل الفريق الفائز لممارسة عنجهية الانتصار، والحيلولة دون تعيمق إحساس الفريق الخاسر بالهزيمة والانسحار.
إن التطبيق العملي لمبدأ الديموقراطية يمكن أن يتم من خلال استنباط عدة معادلات لكل منها متطلباتها ونتائجها. إلا أنه في ضوء تزايد الحياة تعقيدا وتطور معطياتها باستمرار، واضمحلال إمكانية حدوث تفاعل مباشر بين الناس من ناحية، وبينهم وبين الحكام من ناحية ثانية، فقد أصبح من الضروري استنباط معادلة تتيح تطبيق المبدأ الديموقراطي بشكل غير مباشر وتفصل الدين ومؤسساته عن الدولة ومؤسساتها. لذلك أصبح من الضروري أن تنص المعادلة الديمقراطية المقترحة على انتخاب النواب والحكام، وأن تحول تطبيقاتها دون سيطرة الأغلبية على الأقلية أو سيطرة تيار فكري واحد على غيره من تيارات فكرية أخرى. كذلك وجب أن تعترف تلك المعادلة بوجود وحقوق الأقليات، وتقوم على انتظام الانتخابات وتكررها بصفة دورية. وهذا يعني أن على المعادلة المقترحة أن تضمن ما يلي:
1.    حدوث انتخابات دورية للمجالس النيابية والحكام وإعطاء الحق لكل الراشدين للمشاركة فيها، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين.
2.    تخصيص مقاعد معينة للأقليات العرقية والدينية في مجالس النواب، وهي أقليات يعترف مبدأ الشورى ضمنا، كما تعترف الديمقراطية صراحة، بوجودها وشرعية اختلافها عن الغير وحقها في المشاركة في اتخاذ القرار.
3.    ضمان عدم سيطرة الأغلبية على الأقلية، أو سيطرة تيار فكري معين على غيره من تيارات فكرية أو عقائدية أخرى، وذلك من خلال تحديد النسبة العليا لتمثيل الأغلبية في المجلس التشريعي، مع ضمان تمثيل كل الأقليات الثقافية والقومية والأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والقوى الاجتماعية التي تشكل قوة حقيقية على أرض الواقع.
4.    وفي ضوء تراجع أهمية الأحزاب والحزبية، ومن أجل تمثيل أفضل للشعب، أصبح من الضروري تخصيص نسبة من المقاعد النيابية لمؤسسات المجتمع المدني، بحيث يتناسب حجم تلك النسبة مع كبر ونشاط واتساع قاعدة تلك المؤسسات.
إن المشاركة القائمة فعلاً على تعددية سياسية اجتماعية من شأنها الحيلولة دون انفراد حزب واحد أو تيار فكري معين دون غيره باتخاذ قرارات أساسية مصيرية بناء على منطلقات أيديولوجية ضيقة أو مواقف إيمانية متزمتة، كقرارات الحرب والسلام، وسن التشريعات المتعلقة بطبيعة النظام الاقتصادي والنظام التعليمي وموقع المرأة ودورها في المجتمع، والموقف من الاكتشافات العلمية والتطورات التكنولوجية بوجه عام. كذلك من شأن المشاركة التعددية السليمة في إدارة الحكم عرقلة سياسات وبرامج تزييف وعي الجماهير الجماعي، وإحباط محاولات جر العامة من الناس لدعم مواقف عاطفية غير واقعية باسم الدين أو القومية أو التاريخ.
إن تمثيل كل الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية الرئيسية في الحكومة قد يؤدي إلى صعوبة اتخاذ القرارات واعتماد السياسات المناسبة، خاصة في أوقات الطوارئ وفي مواجهة الأزمات، وقد يتسبب أيضاً في إلغاء وجود معارضة حقيقية قادرة على المتابعة والتحليل والنقد. لذلك كان على معادلة المشاركة الديموقراطية أن تضمن التعاون والتفاهم بين الأحزاب أو التيارات الفكرية الحاكمة، وان تراعي أهمية وجود معارضة حقيقية وفاعلة خارج الحكم، وان تسعى دائماً لتحقيق التفاعل والتشاور بين كافة القوى السياسية والاجتماعية والثقافية المهتمة أساساً بالقضايا العامة.
يقوم مفهوم القيادة في الوطن العربي، وذلك لأسباب حضارية وتاريخية، على الفردية وليس على الجماعية المؤسسية. وهذا يجعل القائد السياسي سواء أكان قائداً على مستوى الدولة أو الحزب أو المؤسسة غير السياسية، أكثر ميلاً لاحتكار معظم السلطات والانفراد بمعظم القرارات. ورغم أن هذا الموقف يتعارض مع الدعوة إلى الديموقراطية والتشاور، فإن تلك الممارسة تجذرت في نفوس القادة وفي مفهوم القيادة بشكل عام بحيث أصبحت تقليداً وحكمة مألوفة. وهذا يعني أن القيام مثلاً بتشكيل حكومة من الأحزاب الرئيسية الممثلة في مجلس النواب المنتخب سيجعل حكومة المشاركة الديموقراطية نسخة مصغرة تقريباً عن مجلس النواب، ويجعل قادة المجلس الأول يتحكمون بالتالي في قيادة المجلس الثاني. كذلك من المؤكد أن يؤدي مثل هذا الترتيب في حالة إقراره إلى حصر المشاركة في المجلسين ضمن قيادات سياسية اكثر اهتماماً بالحوار الفكري والتركيز على الخلافات العقائدية، وبالتالي أقل اهتماماً ووعياً بالقضايا الإدارية والفنية التي تحتاجها الدولة لتصريف شؤونها اليومية وإقرار سياستها المستقبلية.
لذلك تقترح المعادلة الديموقراطية العربية تحقيق الفصل الكامل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحصر صلاحيات الأولى في مجلس النواب والثانية في مجلس الوزراء، وتشكيل مجلس الوزراء بالكامل من خارج مجلس النواب. وفي حالة رغبة حزب في تعيين أحد نوابه في مجلس الوزراء، فإن المعادلة تتطلب حصول ذلك العضو على موافقة رئيس مجلس الوزراء المنتخب أولا، ثم الاستقالة من مجلس النواب وإعلان مقعده مفتوحاً وإجراء انتخابات عامة لملئه. وهذا يفتح المجال لتعيين وزراء من أصحاب الاختصاص، ويحصر الحوار والمناكفة المعتادة بين القيادات السياسية والفكرية في مجلس النواب، ويوسع القاعدة القيادية في المجتمع ككل. وبذلك ينحصر معظم الحوار في مجلس الوزراء حول اختلافات فنية في الرأي وقضايا الحكم وإدارة شؤون الدولة، وليس حول خلافات فلسفية في الرؤية العقائدية.
أما فيما يتعلق بالانتخابات والحزبية على المستويات المحلية، فإننا نميل إلى ترك الباب مفتوحاً للتنافس المفتوح دون قيود، وذلك لإعطاء كل تيار فكري أو سياسي أو اجتماعي فرصة كافية لمحاولة تطبيق بعض أفكاره واثبات صلاحية نظرياته على أرض الواقع، على أن تكون الصلاحيات المحلية خاضعة للسياسة العامة للدولة. وهذا يعني حصر التنافس على المستويات المحلية ضمن مجالات التطبيق العملي للسياسة العامة وتحسين الكفاءة في الأداء واقتراح الجديد من البرامج لاستغلال الموارد المتاحة وخدمة المواطنين وحماية مصالحهم بوجه عام، دون التدخل في القضايا المتعلقة بسياسة الدولة وفلسفة الحكم ومناهج التعليم والعلاقات الدولية. وهذا يستوجب إتباع سياسة اللامركزية في إدارة الحكم، بحيث يتم تحديد القضايا الوطنية والقضايا المحلية بشكل يسمح بفصلها عن بعضها البعض وتكاملها مع بعضها البعض في آن واحد.
إن محدودية تجربة الوطن العربي مع الحزبية، واستحواذ كلمة أو تعبير الحزبية في التراث العربي الإسلامي على معنى سلبي، دفع الأغلبية الشعبية إلى البقاء خارج الأحزاب، كما دفع نسبة كبيرة من المثقفين، خاصة المفكرين الحقيقيين، إلى الابتعاد عن العمل الحزبي وعدم الخوض في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية الحساسة. ويعود السبب في ذلك لأسباب عدة قد يكون أهمها: 
1.    الشعور بضرورة التعامل مع أمور الدولة وقضايا الوطن والتحديات المصيرية من رؤية كلية وليس من رؤية حزبية ضيقة.
2.    الاعتقاد بأن القيادات الحزبية تميل إلى الغوغائية وتعتمد القدرة الخطابية أساساً للتعامل مع عامة الشعب، وهذا من شأنه تزييف وعي الجماهير والتسبب في تجاوز التوقعات الشعبية حدود الإمكانيات الوطنية المتاحة.
3.    الإيمان بأن من الصعب على الفكر الواعي والعلم القائم على المعلومات والتحليل والاستنباط الوصول إلى المراكز القيادية في المجتمع من خلال الحزبية، خاصة في ظل أوضاع تتيح المجال لسيطرة قيادات فردية وتحول دون تأسيس مراكز بحثية علمية داخل المؤسسة الحزبية.
لذلك، ومن أجل فتح المجال أمام أكثر القيادات وعياً ومصداقية للوصول إلى الحكم نقترح قيام مجلس النواب بانتخاب رئيس مجلس الوزراء انتخاباً حراً مباشراً من خارج المجلس، وإعطاء كل القيادات الحزبية وغير الحزبية فرصة شغل ذلك المنصب الهام دون تعصب أو تفرقة، ومنح رئيس الوزراء المنتخب حق تشكيل الوزارة واختيار أعضائها من خارج المجلس النيابي.
إن التطور المتسارع في مختلف نواحي الحياة أدى إلى تعقيدها وتشابكها، وفي الوقت ذاته أدى إلى ربط أجزاء العالم بعضها ببعض بروابط مصلحية حتمت الاعتماد المتبادل بين الشعوب والدول. وهذا أدى بدوره إلى جعل العديد من المشاكل الوطنية كمشاكل الأقليات وانتهاك حقوق الإنسان قضايا عالمية، وجعل العديد الآخر من المشاكل والهموم العالمية كمشاكل تلوث البيئة وتجارة المخدرات وانتشار الأسلحة غير التقليدية والإرهاب قضايا وطنية. ولقد ترتب على ذلك إضعاف مفهوم السيادة الوطنية وتقليص دور وقدرة الدولة القومية على التعامل بكفاءة مع التحديات الخارجية.
        من ناحية أخرى، أدى التطور المتراكم والتغير الكبير في بعض نواحي الحياة ومتطلباتها اليومية إلى تعقيد الحياة بوجه عام وتعميق الخصوصية بالنسبة للأقاليم والمدن وحتى القرى البعيدة عن المركز. وهذا بدوره جعل إدارات ومؤسسات اكبر الدول القومية تبدو صغيرة أمام العديد من القضايا العالمية، وجعل إدارات ومؤسسات أصغر الدول القومية تبدو كبيرة بالنسبة للمشاكل والقضايا المحلية اليومية التي تشغل بال المواطنين في الأقاليم والقرى النائية، كما جعل البيروقراطية بشكل عام قليلة الرغبة في فهم مشاكل الناس وضعيفة القدرة على التعامل معها بكفاءة .
لذلك، ومن اجل إفساح المجال لحكومة المشاركة الديمقراطية للقيام بالتركيز على القضايا العامة وقضايا العلاقات الدولية دون إهمال القضايا والاحتياجات المحلية، نقترح اعتماد اللامركزية في الحكم. وهذا يعني تشكيل مجالس محلية منتخبة وإسناد صلاحيات واسعة لها لإدارة الشؤون الحياتية، بما في ذلك الشؤون المتعلقة بالأمن والتعليم والثقافة والاستثمار، ولكن دون الإخلال بالسياسة العامة للدولة. وهذا من شأنه التعامل مع معظم المشاكل حال وقوعها دون تأخير، وتخويل الناس الأكثر معرفة بالبيئة الاجتماعية المحلية والأقرب إلى فهم ومعايشة المشاكل اليومية مسؤولية التعامل مع تلك المشاكل. كذلك من شأن نظام حكم يعتمد اللامركزية إتاحة الفرصة لنمو قيادات جديدة باستمرار وفتح المجال لحدوث تنافس إيجابي بناء بين الأقاليم والمدن، خاصة في مجال التعليم والثقافة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
الطبقة المتوسطة وموقعها من المجتمع
بينما كانت دول الغرب الصناعية تمر بمرحلة نمو اقتصادي وتقدم علمي وتنوع ثقافي، كانت غالبية دول العالم الثالث، ومن بينها الدول العربية، تعيش مرحلة الاستقلال الوطني والبناء السياسي أو الكفاح من اجل الحصول على الاستقلال. وبسبب تخلف تلك الدول اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، وفقرها النسبي، وضعفها المؤسسي، وغياب الديموقراطية، فإن الطبقة المتوسطة في المجتمعات النامية عموماً لم تستطع النمو بالقدر الكافي وتحقيق التماسك والثقة الكافية بالنفس للقيام بدور فعال في حياة المجتمع. ومما اضعف قدرة تلك الطبقة على الاستحواذ على عناصر القوة الذاتية، محدودية النشاطات الاقتصادية وصغر حجم الاقتصاديات الوطنية بوجه عام، وسيطرة العسكر على الحكم في غالبية الأحيان، وغياب الحريات السياسية وغير السياسية، وخضوع الاقتصاد للسياسة، وانتشار التطلعات الاستهلاكية غير الإنتاجية، وسيطرة بيروقراطية على الحياة العامة اتصفت عموماً بالجهل والفساد وسوء الإدارة وضعف المسؤولية.    
إن ضعف القاعدة الإنتاجية من ناحية، ونمو النزعة الاستهلاكية من ناحية أخرى أديا إلى حصر أهم النشاطات الاقتصادية في النشاط التجاري القائم أساساً على الاستيراد والتصدير. وبسبب علاقة هذا النشاط بالدول والشركات الأجنبية التي ارتبطت في الذاكرة الجماعية لشعوب الدول العربية عامة بالاستعمار، فإن الفئة الاجتماعية المسيطرة على النشاط التجاري افتقدت الإحساس بالاستقرار والطمأنينة والثقة الكافية بالنفس لتشكيل طبقة اجتماعية متماسكة وذات مصالح مشروعة وهادفة. وهذا قاد تلك الفئة إلى التركيز على الربح السريع، والابتعاد عن الاستثمار بعيد المدى والتنافس فيما بينها للحصول على المزيد من الوكالات التجارية خدمة لمصالح ذاتية غير مجتمعية.
من ناحية ثانية، جاء طرح شعار الاستقلال الاقتصادي، وإتباع نظام المركزية في التخطيط الإنمائي، وسيطرة الدولة على أهم النشاطات الإنتاجية والاستثمارية والمالية ليحول دون نمو طبقة متوسطة فاعلة، وذلك لان الاقتصاد هو البيئة الطبيعية لنمو تلك الطبقة وأداتها الأهم لفرض وجودها والتعبير عن ذاتها. وفي ضوء التحول الاجتماعي العالمي نحو عصر المعرفة سيكون من الصعب جداً نمو طبقة متوسطة تتمتع بالصفات المطلوبة والضرورية لدعم الفكرة الديمقراطية ومؤسساتها السياسية وغير السياسية. وفي الواقع يعتبر المجتمع الصناعي هو المجتمع الوحيد في تاريخ الإنسانية الذي أفرز طبقة متوسطة ذات دور مجتمعي فاعل. فالمجتمع القبلي كان يتكون من طبقة واحدة، والمجتمع الزراعي يتكون من طبقتين فقط، أغنياء وفقراء، والمجتمع المعرفي الآخذ في التكون يسير نحو تشكيلة مجتمعية مختلفة تماما، مما يجعل الطبقة المتوسطة إفرازاً غير عادي، وبالتالي من الصعب الاحتفاظ بها أو الاعتماد على استمرار وجودها في أي مجتمع إلا إذا تم تعيير الهياكل الاقتصادية الحالية.
في المقابل، جاء التوسع الكبير والمفاجئ في حجم الدولة ونشاطاتها المتعددة في مجالات الأمن والخدمات ليخلق طبقة متوسطة غير تقليدية في رحم الدولة.. طبقة متوسطة من حيث الدخل ولكن تفتقد القاعدة الإنتاجية والتماسك والوعي. ولقد ضمت تلك الطبقة في صفوفها ولا تزال البيروقراطية الحكومية، وضباط الجيش والشرطة وأجهزة المخابرات، وكبار موظفي الشركات والبنوك الخاضعة لملكية أو سيطرة الدولة، وغالبية أساتذة المدارس والجامعات، والمثقفين العاملين في النشر والإعلام ودوائر الثقافة التابعة للدولة. وهذا جعل الطبقة المتوسطة في العالم الثالث عموماً طبقة ضعيفة لا تملك قاعدة اقتصادية ذاتية، ومتنافرة بسبب تناقض مصالح الفئات المكونة لها، وعديمة القدرة على أخذ زمام المبادرة سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً بسبب اعتمادها شبه الكامل على الدولة وتبعيتها لها.
إن غياب المصلحة المشتركة بين الفئات المكونة لتلك الطبقة اضعف قدرتها على تشكيل وطرح برامج عمل إصلاحية واقعية، كما أن تفككها واعتمادها شبه المطلق على الدولة جعلها تخشى التغيير الهادف لقدرته على الأضرار بمصالحها واختصار مواقعها المجتمعية. وحتى التغيير الذي جاء على شكل انقلابات عسكرية كان محصوراً في الرموز الحاكمة فقط ولم يخدش جوهر نظام الحكم أو يُضعف دور المؤسسة الحاكمة أو يُطور البيروقراطية المتعفنة. ولهذا بقيت الدول النامية عموماً والعربية خصوصاً تدور في مكانها دون تنمية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو علمية أو تكنولوجية، بينما كانت الفجوة التي تفصلها عن الدول الصناعية المتقدمة تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.
إن ضعف الطبقة المتوسطة في الوطن العربي واعتمادها الكبير على الدولة يجعل من الصعب قيامها بدور رائد في حماية العملية الديمقراطية. وهذا يعني أنه ربما كان من الضروري استمرار قيام الدولة بدور هام في حياة المجتمع. كذلك تستوجب الطبيعة التقليدية أو شبه التقليدية لمعظم المجتمعات العربية، والتركيب العشائري لبعضها الآخر أن يكون بالإمكان، وربما من الضروري أيضاً، استمرار القيادات التقليدية بالاحتفاظ بقدر معقول من الصلاحيات في ظل أنظمة حكم ديمقراطية. وهذا يعني أن بالإمكان استمرار رئيس السلطة، سواء كان ملكاً أو رئيساً منتخباً بالاحتفاظ بصلاحيات تعادل صلاحيات الرئيس في نظام حكم ديموقراطي كنظام فرنسا، واستمرار الرقابة الحكومية على النشاطات الاقتصادية الهامة، على الأقل حتى تتجذر الديموقراطية وتتحسن الأوضاع المعيشية وتتسع النشاطات الاقتصادية.
تشير تجربة بعض الدول الغربية الديموقراطية كهولندة وإنجلترة والدنمرك والسويد والنرويج إلى أن استمرار الملكية الوراثية لم يمنع التحول نحو الديموقراطية، وان الاحتفاظ بتلك المؤسسة على راس الدولة كان من أهم عوامل الاستقرار السياسي، وذلك لقدرتها على إيضاح مصدر وحدود الشرعية السياسية، وتعميق إحساس الحاكم والمحكوم على السواء بالطمأنينة لسلامة العملية الديموقراطية وفاعلية العملية السياسية. كذلك تشير التجربة اليابانية إلى أن رقابة الدولة على النشاطات الاقتصادية الهامة واتجاهاتها إلى دعم بعض الصناعات داخلياً وخارجياً كان له اثر إيجابي في تنمية الاقتصاد الوطني وتحقيق السلام الاجتماعي ورفع المستويات المعيشية بوجه عام، وتأهيل اليابان لدخول عصر المنافسة الصناعية والعلمية بكفاءة.
تقوم الديموقراطية الحقة على 7 أعمدة رئيسية، هي:
                                           1-     تعددية سياسية.
                                           2-     تداول السلطة في المجتمع.
                                           3-     الاعتراف بالحريات الفردية والعامة ضمن تشريع وقانون يحترمها ويصونها.
                                           4-     وجود طبقة متوسطة قوية وفاعلة.
                                           5-     مشاركة شعبية في العملية السياسية.
                                           6-     إعلام حر يتوخى الحقيقة ولا يهادن سلطة سياسية أو تيار أيديولوجي معين.
                                           7-     سيادة ثقافية مجتمعية تقوم على المساواة والتسامح.
ساهم التطور الحديث والمتسارع في العالم، خاصة في مجالات الاتصالات والمعلومات والثقافة في دخول العديد من المجتمعات والأقليات عصر المعرفة. وهذا أدى إلى زيادة أهمية العملية الإعلامية المعلوماتية أو الإعلاماتية في الحياة المجتمعية، والى تنشيط العديد من مؤسسات المجتمع المدني القديمة والجديدة كجمعيات حقوق الإنسان وحماية البيئة. إضافة إلى ذلك، أدت تلك التطورات إلى قيام أصحاب المصالح الخاصة ولجان العمل السياسي والنقابات بالتدخل الواعي في العملية السياسية والعملية التشريعية بهدف التأثير في قرارات ومواقف العمليتين. نتيجة لذلك، وبسبب فعل العملية الاقتصادية السائرة بثبات وقوة نحو التدويل الكامل، تضاءل حجم ونفوذ الطبقة المتوسطة التقليدية في كل المجتمعات، وأعطى ميلادا لفئة اجتماعية ثقافية بديلة تقوم أساساً على المعرفة وليس على الثروة الاقتصادية. كذلك من المتوقع أن تصبح التعددية السياسية ذات جذور اجتماعية ثقافية ترتبط أساساً بمؤسسات المجتمع المدني وأصحاب المصالح الخاصة من تجار وصناعيين ومهنيين وحماة البيئة وغيرهم، إلى جانب ارتباطها بثقافة الأقليات العرقية والقومية والدينية. وهذا من شأنه القضاء على جذور الطبقة المتوسطة في المجتمعات المعرفية، وإنهاء دورها الفاعل في غالبية المجتمعات الأخرى.
إن تداول السلطة في المجتمع بالطرق السلمية هو لب العملية السياسية الديموقراطية، وبدونه لا تقوم للديموقراطية قائمة. وهذا يفترض قبول كل فئات المجتمع المنظمة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بمبدأ تداول السلطة واحترامه والالتزام به التزاماً كاملاً. إلى جانب ذلك، ليس بالإمكان قيام الديموقراطية في أي مجتمع دون اعتراف المجتمع، ثقافة ومؤسسات وممارسة وتشريع، بالحريات الفردية والحريات العامة واحترامها وصيانتها.
أما فيما يتعلق بالمشاركة الشعبية في العملية السياسية، خاصة العملية الانتحابية، فهي قضية يمكن ضمانها في ظل ظروف سياسية واجتماعية تعترف بالحريات وتحترمها، وقانون يضمن تداول السلطة بالطرق السلمية، وثقافة تجعل المشاركة حقاً وواجباً في آن واحد. وهذا يستوجب توفر الوعي لدى فئات الشعب المختلفة، والتزام العمليتين التربوية والإعلاماتية بتأسيس الديموقراطية كقيمة اجتماعية ونظام حكم سياسي، إلى جانب الالتزام بالكشف عن الحقيقة ونشرها في المجتمع.
لذلك، دون المزيد من الشرح، نعتقد بإمكانية، بل بضرورة قيام نظام عربي ديموقراطي لتولي مهام الحكم في كل قطر عربي، وان المعادلة المقترحة تحول دون هدم معظم ما هو قائم من ترتيبات سياسية، وتعمل في الوقت ذاته على تمكين الشعب من ممارسة الديمقراطية الحقة القائمة على مبدأ المشاركة في العملية السياسية وليس المشاركة في اختيار الحاكم فقط، كما أنها تتحاشى الوقوع في معظم الأخطاء التي وقعت فيها التجربة الديموقراطية الغربية. أما العناصر الرئيسية لتلك المعادلة فهي:
1.    انتخابات مباشرة لتشكيل مجلس نواب تسند إليه مهام السلطة التشريعية، ضمن شروط تحول دون حصول أي حزب سياسي أو تيار فكري عقائدي على الأغلبية المطلقة. ويعود السبب في ذلك أولا لكون أعضاء كافة الأحزاب في كل مجتمع لا يشكلون أغلبية، وثانيا لأن الناخبين لا يشكلون في الغالب سوى نصف الشعب تقريبا. وهذا يعني أنه ليس باستطاعة أي حزب أن يدعي أنه يمثل الأغلبية حتى وإن حصل على أغلبية المقاعد في مجلس النواب.
2.    عدم السماح لأي حزب بدخول مجلس النواب إذا فشل في الحصول على نسبة معقولة من أصوات الناخبين، أي إذا عجز عن إثبات قدرته على إقناع قطاع كبير نسبياً من المواطنين بصلاحية فكره وواقعية سياساته وبرنامجه الانتخابي.
3.    تخصيص مقاعد في المجلس النيابي للأقليات الدينية والعرقية والثقافية التي تطالب بمعاملتها كأقلية، على أن تتناسب الحصص المخصصة لها مع نسبتها إلى المجموع العام للسكان.
4.    تخصيص مقاعد في المجلس النيابي لمؤسسات المجتمع المدني الأكثر أهمية، خاصة الاتحادات العمالية والنقابات المهنية، والاتحادات النسائية، وجمعيات حقوق الإنسان وحماية البيئة ومكافحة التدخين وغيرها من جمعيات خيرية، على أن يكون لتلك الاتحادات والجمعيات والنقابات وجودا فاعلا وقاعدة شعبية واسعة.
5.    القيام بانتخاب رئيس الوزراء من خارج مجلس النواب مع إسناد صلاحية انتخابه لذلك المجلس.
6.    تحقيق الفصل الكامل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتشكيل مجلس الوزراء بالكامل من خارج مجلس النواب.
7.    تشكيل مجلس الوزراء تبعاً لترتيبات تضمن مشاركة غالبية القوى السياسية والاجتماعية الرئيسية، بما في ذلك المستقلين، وتحول دون حصول أية جهة على الأغلبية.
8.    إتباع نظام اللامركزية في الحكم الذي يمنح صلاحيات واسعة لمجالس الحكم المحلية والإقليمية، خاصة فيما يتعلق بتسيير شؤون الناس اليومية.
9.    صيانة مبدأ المشاركة بين الأغلبية والأقلية على المستوى الوطني، والسماح بحكم الأغلبية على المستوى المحلي.
10.إتباع نظام انتخابي يجمع بين الاستمرارية والتجديد بحيث يتم انتخاب نصف أو ثلث أعضاء المجلس النيابي في كل دورة انتخابية.
إن التطرف الفكري والسياسي بشكل عام هو ارتهان لفكر ماضوي تجاوزه الزمن، أو تعلّق برؤية نظرية مستقبلية لم يختبرها الزمن. وهذا يجعل الارتهان لماض بائد والتعلق بمستقبل مجهول على السواء مواقف بعيدة عن الواقع وعديمة القدرة على التعامل مع مشاكله وتحدياته الحياتية بعلمية وفاعلية. وعندما يكون التطرف في المجتمع سببا لحدوث تمحور سياسي اجتماعي ثنائي أو متعدد الأطراف، فإن حياة وموارد ومستقبل المجتمع تصبح عرضة للاستنزاف في معارك كلامية أو حروب أهلية مدمرة، كما يصبح من الصعب نمو طبقة متوسطة ذات خصائص اجتماعية واقتصادية قادرة على حفظ التوازن وتخفيف حدة الصراع والحيلولة دون الاقتتال.
إن المجتمعات التي يسيطر عليها التطرف والتمحور هي مجتمعات غير قادرة على القبول بالحلول الوسط، أو حتى التفكير بحلول وسط، مما يجعل من الصعب إيجاد مكان فيها للعقلانية والواقعية. وهذا يحتم خلق وتأسيس معادلات ديموقراطية تفرض على الجميع التعاون بقدر الإمكان، وتشجع الاعتدال والتسامح، وتضمن وجود تعددية سياسية اجتماعية وحرية فكرية ومشاركة شعبية، وتحول في كل الحالات وتحت كل الظروف دون سيطرة الأغلبية على الأقلية.
 
د. محمد عبد العزيز ربيع     www.yazour.com
 
 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,742,285

عدد الزوار: 6,912,086

المتواجدون الآن: 112