عرض كتاب «في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً» (1- 2- 3 -4)

تاريخ الإضافة الخميس 7 كانون الأول 2017 - 6:03 ص    عدد الزيارات 4127    التعليقات 0

        

 

عرض كتاب «في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً» (1- 2- 3 -4)...

الهزيمة المحتومة...

الجريدة....كتب الخبر حسن حافظ...

http://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1512322591226025300/1512322707000/1280x960.jpg

 

الضباب لم يكن مفروضاً على قيادة مصر بل كان من اختيارها وصنعها

● النظام المصري الحاكم خاصم السياسة بمعناها المؤسسي وفضل عليها تأمين نفسه

● الإقرار بالهزيمة قد يساعد على فهم تحديات سياسية هائلة تواجه عدة أنظمة عربية

تعد هزيمة 5 يونيو 1967، الحدث الأكثر مفصلية في تاريخ مصر والعرب المعاصر، فما كان قبل هذا التاريخ من أحلام عريضة وخطب رنانة وتصريحات تبشر بدنيا جديدة تحطم بقسوة على جدار الهزيمة، فقد استيقظ المصريون ومعهم العرب على كابوس لم تنته تداعياته بعد، فالهزيمة على يد إسرائيل جاءت في وقت استسلم الجميع لغواية دعاية نظام جمال عبد الناصر. صدّق الشعب أن ساعة إلقاء العدو في البحر حانت، الجيش المصري الذي لم يكن يملك من القوة إلا اسمها، انكشف في أداء مخيب يعكس الفساد الذي ضرب بأطنابه في أركان الدولة الناصرية، فحصلت إسرائيل على تفوق غير مسبوق على المجموع العربي الذي خرج من التاريخ ودائرة الفعل. ومع حلول الذكرى الخمسين لهزيمة يونيو، قرر ستة من الباحثين، هم بلال علاء وخالد فهمي وخالد منصور وسامح نجيب ومحمد العجاتي ومصطفى عبد الظاهر، إلقاء نظرات بحثية مختلفة على الأسباب التي قادت إلى الهزيمة وتركت آثارها على الوضع العربي منذ ذلك التاريخ، في كتاب بعنوان "في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاما"، أصدرته دار المرايا بالقاهرة، وتستعرض "الجريدة" أهم ما جاء فيه على عدة حلقات. يرى خالد منصور، وهو محرر الكتاب، في مستهله أن "الاعتراف بالهزيمة، التي أطلق عليها لأسباب سياسية اسم (النكسة)، ومحاولة فهم أسباب وتعقيدات هذه الحرب، وما أدت إليه من تغيرات ساحقة داخل مصر وإقليمياً على الصُّعُد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أمر مهم قد يساعدنا في فهم تحديات سياسية كبرى راهنة في مصر وسورية والأردن، بل ودول عربية أخرى". وأضاف: "لعل رؤية الأمور بعد خمسين عاما تكون أوضح بالمقارنة بمن كانوا في قلب ضباب الأحداث، ولكن هذا الضباب لم يكن مفروضاً على مصر وقيادتها، بل كان من اختيارها وصنعها، بفعل نظام سياسي قائم على الثقة وأمن الحاكم وجماعته، نظام يفتقر إلى آليات للمحاسبة والمساءلة وينقصه فهم واضح ومدعوم شعبياً لأولويات الأمن القومي... لقد هزمت قيادة مصر ونظامها بيدها قبل أن تهزمها إسرائيل". وأشار إلى أن النظام الناصري خاصم - منذ منتصف الخمسينيات- السياسة بمعناها المؤسسي وفضل عليها تأمين النظام الحاكم، معتقداً أن النظام هو الأكثر دراية ومعرفة بمصالح مصر وأمنها القومي، ارتكن النظام إلى الجيش وأجهزة الأمن، إذ "تنطلق فكرة الكتاب من فرضية أساسية، وهي أن هزيمة 67 ليست فقط ماضياً نتعلم دروسه ولكنها حاضر حي، بمعنى أنها حدث تأسيسي لحقبة ما زلنا نعيشها حتى اليوم، ومن ثم فإن تقييمنا للهزيمة وأسبابها وسياقها هو بحث في جذور حاضرنا ومعانيه الكبرى".

الهزيمة المحتومة

في أول فصول الكتاب يستعرض خالد منصور، سياق ووقائع حروب الأيام الستة والتي أدت إلى هزيمة رآها حتمية، قائلا: "يقلل تعبير (النكسة)، الشائع في العالم العربي، لوصف الهزيمة المروعة، من هول ما حدث ومن آثاره الكارثية على ملايين البشر لعشرات السنين التالية على الهزيمة الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بجيوش مصر وسورية والأردن في أقل من ستة أيام، ولذا من المهم أن نقر ونستعمل كلمة (الهزيمة) لوصف ما حدث، إذ إن الإقرار بالهزيمة قد يساعدنا على فهم تحديات سياسية هائلة تواجهها عدة أنظمة عربية". يستعرض منصور المسار الذي أدى لإعلان الحرب، بالحديث عما قيل بشأن تصعيد على الحدود الإسرائيلية السورية، وبدأ العد التنازلي للحرب في 23 مايو 1967، ففي ذاك الصباح، أعلنت إذاعة القاهرة إغلاق مضايق تيران المؤدية إلى خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. هددت تلك الخطة موارد إسرائيل من السلاح والبترول، حيث صار من المتعين على السفن التي تحمل البترول لإسرائيل من إيران، التي كانت ساعتها تزود إسرائيل بقرابة 70 في المئة من احتياجاتها البترولية، أن تدور حول رأس الرجاء الصالح... جاء القرار في وقت أعلنت فيه إسرائيل أنها ستعتبر إغلاق خليج العقبة بمثابة "إعلان حرب" (casus belli) ضدها. ومن الأمور المحيرة، ادعاء دمشق أن هناك حشوداً إسرائيلية على حدودها، لكن مصر لم تصدق السوريين ووزير دفاع حافظ الأسد حتى يوم 13 مايو، عندما وصل تقرير سوفياتي لمصر عن طريق عدة مصادر، يؤكد وجود 11-13 لواء إسرائيليا مقسما بين جنوب وشمال بحيرة طبرية، أخذ عبد الناصر وعامر والسادات التقرير السوفياتي الآتي من قنوات اتصال مختلفة بجدية لا تتناسب مع ظروف نقله، فالأرشيف السوفياتي لا يحوي أية معلومات عن هذا التقرير. زار الفريق محمد فوزي رئيس أركان الجيش المصري بنفسه سورية يوم 14 مايو، وذهب إلى الجبهة، لكنه لم يجد شيئاً مريباً، لكن المشير عامر انطلق في طريقه وقرر حشد قوات عسكرية في سيناء، مؤكداً لناصر أن الإسرائيليين بهذا سيفكرون مرتين قبل الإقدام على غزو سورية.

إغلاق المضايق

في 15 مايو اجتمع عامر مع قادة الجيش وقرر إرسال تعزيزات عسكرية إلى سيناء، وعرف العالم في يومين أن مصر تحشد قواتها، وخلال أيام طلبت القاهرة سحب قوات المراقبة التابعة للأمم المتحدة المنتشرة على الحدود مع إسرائيل، والمذهل أن عبد الناصر طلب من المشير عامر أن ينص في الخطاب المرسل للجنرال أي جيه ريكي، قائد قوات المراقبة أن "يعاد نشر القوات" إلى الحدود الدولية ( أي إلى داخل غزة التي كانت مصر تسيطر عليها آنذاك) بدلاً من النص في المسودة التي كتبها عامر على طلب "سحب كل القوات". لكن عامر تجاهل أو تقاعس أو أخطأ وأرسل الخطاب الأصلي دون التعديل الذي طلبه ناصر، ويقول ريكي في مذكراته إن سحب القوات تماماً لم يكن له سوى معنى واحد: أن مصر قررت خوض الحرب. ويخلص منصور إلى أن عامر وناصر يتحملان هذا الخطأ التاريخي مشتركين، لكن لو كان هناك شركاء آخرون في ميدان السياسة في البلاد، برلماناً كان أو إعلاماً أو أحزابا سياسية أو منظمات أهلية، لكان عامر بالتأكيد قد اختفى بمصائبه من على مسرح السياسة بعد أخطائه الفادحة في حرب 1956، وفي إدارة الوحدة مع سورية (1958-1961) وبعد فشله في حرب اليمن (1962-1967)، "لكن في ظل حكم مؤسسة أخرجت الشعب بأكمله من مجال السياسة وقررت الحديث باسمه وتمثيله، فإن الفشل في أحيان كثيرة ليس اختياراً، بل قدر شبه محتوم".

نظريات خاطئة

ويفند منصور عددا من الأساطير التي حامت حول الهزيمة، قائلا: النظريات المسيطرة على تفكيرنا إزاء هزيمة مصر في حرب 1967 مع إسرائيل، أن مصر وقعت ضحية مكيدة مدبرة، وهذا ببساطة تفكير أسطوري لا دليل عليه، النسخة الأفضل والأكثر إتقاناً من هذه المقاربة، هي ما يقدمه محمد حسنين هيكل في كتاب "الانفجار" الصادر سنة 1990. يرى هيكل أن عبد الناصر كان ضحية مؤامرة ضخمة قادتها إسرائيل والولايات المتحدة منذ أواخر الخمسينيات وكانت ذروتها حرب 67، وأن أضلاع المؤامرة الثلاثة ومخططيها في الولايات المتحدة كانوا من تجار السلاح وعملاء المخابرات وشركات البترول، وانضمت إسرائيل لهم. المشكلة الرئيسية في نظرية هيكل المفصلة والمحبوكة، بحسب خالد منصور، والتي توفر ببساطتها معاناة كثيرة في محاولة فهم تعقيدات الواقع من زواياه المختلفة، أنها لا تستند إلى أية أدلة قوية أو معتبرة، بل هي مجرد قرائن واستنتاجات ومغالطات منطقية لإثبات نوايا وسياسات أميركية.

العلاقة مع واشنطن

وذهب خالد منصور إلى أن العلاقات المصرية الأميركية لم تكن بالسوء الذي يروج له النظام المصري، إذ "لم تكن الولايات المتحدة متجهة إلى صدام حتمي مع مصر، بل كانت تحافظ على شعرة معاوية... فقد استمرت واشنطن في تقديم صفقات قمح بترتيبات تفضيلية إلى مصر، وصلت إلى 904 ملايين طن بين عامي 1960 و1965 بقيمة إجمالية 731 مليون دولار، دفعتها مصر بالجنيه المصري دون الحاجة إلى توفير العملة الصعبة". وتابع: "الفارق كان مرعباً بين ادعاء رفع الرأس أمام الخارج والتشدق بعدم الانحياز في الخطب البلاغية، وبين واقع أن البلاد صارت بعد سنوات طويلة من الاستقلال تحصل على سلاحها وغذائها من الخارج وتقمع أية فرصة للتحول السياسي نحو مشاركة شعبية في دولة بدأ الفساد ينخر في مؤسساتها، خصوصاً المؤسسة العسكرية". ففي أوج التوتر بين مصر والولايات المتحدة، لم يتورع الرئيس ناصر عن السخرية المرة وإطلاق التهديدات الفارغة التي استعملها أعداء مصر في الكونغرس وواشنطن ضده، ففي خطابه في بورسعيد في 22 ديسمبر 1964، تحدث ناصر عن الولايات المتحدة قائلاً: "الذي لا يعجبه سلوكنا يشرب من البحر، والذي لا يكفيه البحر الأبيض يأخذ البحر الأحمر يشربه كمان"، جاء هذا التصريح غير المبرر في السنة ذاتها التي استهلكت فيها مصر ثلاثة ملايين ونصف مليون طن من القمح، منها مليونا طن (أو أكثر من 57 في المئة) حصلت عليهما بأسعار تفضيلية من واشنطن. مرة أخرى، لا أحد ينكر أن واشنطن كانت تسعى إلى إفشال خطط وسياسات مصر الخارجية المناقضة لمصالحها، لكن رغم ذلك فالحرب بين مصر وإسرائيل لم تكن حتمية... ربما كان ناصر بذاته هدفاً لبعض الخطط الأميركية من أجل إضعافه، وذلك لأن الكل يظن أنه إذا اختفى من على المسرح فستختفي معظم سياساته وتوجهاته التي تؤيد الحركات التحررية وتعادي سياسة الولايات المتحدة... وفي الحقيقة كان هذا بالضبط ما أنجزه السادات في وقت قصير بعد وفاة ناصر. وأشار منصور إلى نقطة مهمة تتعلق بإدراك عبد الناصر أن التراجع عن الحرب بات مستحيلاً بعد إغلاق المضايق، "فلماذا لم يبدأ عبد الناصر الحرب؟ لماذا ترك زمام المبادرة في يد إسرائيل؟ هل هو خطأ في التقدير؟ خطأ في الاستراتيجية العسكرية؟ نقص في المعلومات؟ أم تدنٍّ مريع في قدرات وأداء قيادة عسكرية عجز عبد الناصر عن تغييرها وعن إصلاح مؤسسة كانت في اعتقاده هي الضامن الرئيسي لبقائه هو ومشروع الطموح في السلطة؟".

خطة إسرائيل

أما إسرائيل، فلم يكن لديها، حسب كل المصادر المتاحة والمعتبرة، سوى خطط طوارئ بديلة، وهي خطط تعدها كل المؤسسات والجيوش والشركات الحديثة لمواجهة الاحتمالات المختلفة... بل إن قطاعاً واسعاً من سياستها، خصوصاً من الحرس القديم بقيادة بن غوريون، كان يسعى بقوة لتفادي أية مواجهة مع مصر، ويظهر ذلك جليا في أحاديث بن غوريون مع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إسحق رابين حتى قبل حرب يونيو بأيام، وذلك وفقا للمصادر الإسرائيلية التي يعرضها مايكل أورين في كتابه عن حرب يونيو. على أي حال، فما حدث هو أنه بعد قرار عبد الحكيم عامر غير المدروس بدفع عدة فرق إلى سيناء، زاد قلقل إسرائيل بعد أن انتهى احتفالها بعيد إنشاء الدولة (أي بالنكبة التي لحقت بالعرب في 15 مايو 1948)، كان رابين متردداً بين "ألا نفعل شيئاً مما قد يوحي للمصريين أننا لا نعلم تحركاتهم أو لا نهتم بها، وساعتها ربما زادهم هذا جرأة على مهاجمتنا، وبين أن نبالغ في رد فعلنا فتتأكد مخاوف العرب أن لدينا نوايا عدوانية حالياً، فنساهم ساعتها في إشعال حرب غير مرغوب فيها على الإطلاق". ومن ناحية أخرى، اتفقت تقديرات المخابرات الأميركية مع التقديرات الإسرائيلية على أن التحركات المصرية العسكرية "استعراضية" بغرض التهويش، وربما بغرض تخفيف الضغط الإعلامي المقبل من السعودية والأردن وسورية، من هنا وافق رئيس الوزراء أشكول، وفقا لكتاب مايكل أورين، على القيام برد فعل محسوب، لكن دون استدعاء الاحتياطي. في المقابل واصل عبد الناصر خطبه وتصريحاته عن الاستعداد للحرب، وأنها ستكون حرباً فاصلة، بينما واصل عامر دفع قواته إلى داخل سيناء، على رغم أنه ما كان ينوي سوى التخويف في الأغلب، بعد أن دفعه ناصر للتخلي عن خطط هجومية خيالية، لكن وصول 70 ألف جندي إلى سيناء، هز رابين وقادة العسكرية الإسرائيلية. وفي 17 مايو، قامت طائرتا ميج 21 من سلاح الجو المصري بطلعة استطلاعية فوق مفاعل ديمونة النووي في صحراء النقب، فتذكر الإسرائيليون تهديد عبد الناصر في اجتماع مع الأميركيين في 1964، بأنه لن يقبل أبداً أن يمتلك الإسرائيليون قنابل ذرية، حتى لو اضطر إلى شن حرب انتحارية. خلال ساعات رفع الإسرائيليون درجة استعداد الجيش، ووضعوا سلاح الطيران على أهبة الاستعداد، وفي 19 مايو قدرت المخابرات العسكرية الإسرائيلية برئاسة أهارون يارييف أن لدى مصر 80 ألف جندي في سيناء، معهم 550 دبابة وألف مدفع، وطالب الأميركيون إسرائيل صراحة بعدم البدء بالهجوم، فتعهد الإسرائيليون بهذا شرط ألا تقوم مصر بإغلاق مضايق تيران، لكن مصر أغلقته في 23 مايو.

حبر على ورق

وأشار منصور إلى تضارب خطط القوات المسلحة بسبب ضعف مستواها التدريبي، فكانت هناك على الأقل أربع خطط، الخطة "قاهر" للقوات التابعة للمنطقة الشرقية، والخطة "فهد" للقوات الجوية، والخطة "فجر" لعزل جنوب إسرائيل عن ميناء إيلات، والخطة "سهم" لقطع الطريق على القوات الإسرائيلية بين رفح وغزة، لكن كل هذه الخطط لم تكن سوى "حبر على ورق"، إذ لم تكن هناك إمكانات لتنفيذها، ولا معلومات دقيقة عن العدو، ضاربا المثال بمحاولة التصوير الجوي لميناء إيلات والتي التقطت عن طريق الخطأ صورا لميناء العقبة الأردني. فلم يهتم القادة بتدريب وحدات الجيش في مناورات فعلية، إذ لم تقم القوات المسلحة بمناورات للجنود منذ مناورة 1954، في طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، فيما كانت تقارير ضرب النار تزيف أحيانا، لذا لم تكن القوات جاهزة عندما أرادت القوات المسلحة التعبئة للحرب، فرغم صدور 178 أمر استدعاء، كان النقص في القوات صبيحة المعركة يزيد على 33 في المئة، فمن بين 120 ألف جندي احتياطي، استجاب 80 ألفاً فقط وتخلف 40 ألفاً، بل إن التخبط دفع جنود الاحتياطي إلى الحدود بـ "جلاليبهم" وبمعدات غير صالحة، وكان هذا الوضع في مختلف الأسلحة الأخرى. بدورها قدمت المخابرات الحربية في 24 مايو تقييما قارنت فيه القوات المصرية بالإسرائيلية ادّعت فيه أن مصر متفوقة عسكريا على إسرائيل، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق، إذ كان لدى إسرائيل 1.7 ضعف ما لدى مصر من المشاة، وتقريبا ضعف ما لدى مصر من المدرعات، وأكثر من 250 في المئة مما لدى مصر من طيارين "ربما لو كانت القيادة العسكرية والسياسية قد علمت بقوة إسرائيل الفعلية بدلا من الهراء الوارد في تقارير المخابرات الحربية لفكرت مرتين في قرار الحرب". ويشدد منصور على أنه "لم يكن السبب الرئيسي وراء هزيمة مصر الساحقة في 1967 التخطيط الأفضل والتفوق النسبي في الأسلحة والمعدات على الجانب الإسرائيلي فحسب، بل كذلك تخبط المؤسسة العسكرية المصرية بداية من التعبئة السيئة التي قامت بها للقوات، إلى الخطط المتضاربة للقتال، نهاية بالمأساة التي ستظل نقطة سوداء في تاريخ كل مسؤول عنها، وهي الانسحاب غير الضروري وغير المنظم لعشرات الآلاف من الجنود المصريين". الأداء المزري للمصريين كان بمثابة مفاجأة للإسرائيليين، الذين لم يصدقوا الانسحاب غير المنظم للقوات المصرية، ويخلص منصور إلى أن الأداء الكارثي في إدارة المشهد الذي قاد إلى هزيمة يونيو منح الإسرائيليين كل ما يريدون "على طبق من فضة"، من القضاء على الدول المجاورة، وضم الضفة الغربية والقدس، وإسقاط أسطورة عبد الناصر. وكان طبيعيا انبهار واشنطن بهذا النصر فعمقت تحالفها الوليد مع إسرائيل، وكان هذا كله هزيمة ساحقة لمصر والدول العربية المجاورة لإسرائيل، "هزيمة ما زالت آثارها واضحة على خريطة المنطقة حتى بعد مضي نصف قرن على تلك الأيام الستة في يونيو 1967".

عرض كتاب «في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً» (2-4)

مقدمات الهزيمة

كتب الخبر حسن حافظ

العجاتي: عبدالناصر اعتبر القومية حتمية تاريخية للعرب ليلعبوا دوراً في تاريخ العالم

تواصل «الجريدة» استعراض فصول الكتاب المهم حول «في تشريح هزيمة يونيو 1967»، والصادر عن دار المرايا بالتوازي مع ذكراها الخمسين، إذ يتناول كل من الباحثين محمد العجاتي وسامح نجيب الهزيمة من منظورين مختلفين، إذ يحاول العجاتي الإجابة عن تأثير الهزيمة على المشروع العروبي، وهل من إمكانية لنهوضه مجدداً، في حين يحلل نجيب التجربة التنموية للناصرية، وهل كانت جاهزة للحرب أم ان فشلها كان مقدمة طبيعية للهزيمة؟

يركز محمد العجاتي في الفصل الثاني المعنون بـ«الناصرية والهزيمة: انتكاسة أم انهيار للمشروع العربي؟»، من كتاب «في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً»، على آثار هزيمة 1967 على المشروع الناصري وبعده القومي، الذي يشكل البعد الخارجي للتجربة الناصرية، «لكونه يسمح بدور يُكسب مصر قوة إقليمية تسمح لها بمجابهة قوى الاستعمار»، مستعرضا تركيز الخطاب الناصري على البعد القومي منذ عام 1956. يذهب العجاتي إلى أن الشعبوية ضمنت درجة من الشرعية، لكن هزيمة 1967 أعطت درساً بأن الشعبوية قادرة على أن تجرك إلى كارثة، فمن زعيم تُحمل سيارته على الأعناق إلى رئيس مهزوم مكسور، "هذا بالضبط هو ما أفرزته الشعبوية في الحالة الناصرية، صحيح أن الخطاب ذا الشعبية مطلوب لبناء الشرعية، لكن الشعبية القائمة على المشاركة والمكاشفة والمصارحة... لا يمكن أن تدور حول شخص واحد وترتبط به وحده، لأن هذا الارتباط سيؤدي إلى تراجع، إن لم يكن انهيار المشروع مع رحيل هذ الشخص... ومن جانب آخر فإن الشخص الذي تدور حوله التجربة سيميل إلى الانجرار وراء الخطاب الشعبوي إلى أقصى حد، وهذا بالضبط ما حدث في 1967 وأدى إلى الحرب، ثم الهزيمة، بعد سحب قوات الطوارئ الدولية وإغلاق المضايق". وشدد العجاتي على أن الهزيمة لم تجبر نظام جمال عبدالناصر على السماح بهامش ديمقراطية إلا في إطار الوعود مثل "بيان 30 مارس"، لكن اهتزاز الشرعية فتح الباب للرجعية بتياراتها المختلفة لاقتحام الساحة المصرية، وقد ساعد هذا الرجعية العربية في توسيع رقعة نفوذها، وبدأ الدور السعودي في التحول من مجرد طرف مناوئ للمشروع التحديثي الناهض في المنطقة، إلى المشروع المركزي الحافظ للمنطقة والداعم لها. فبعد يونيو تحول الخطاب القومي من خطاب لوحدة الشعوب إلى خطاب للتنسيق بين الأنظمة، فمشروع ذو توجه فوقي وخطاب سلطوي، لا يمكن أن يعبر على المدى الطويل عن آمال وطموحات الشعوب، بعد الهزيمة استخدم خطاب "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، لتجنب الحديث عن الثغرات التي أدت للهزيمة، أما الخطاب القومي ذاته، فقد تم تجميده في حدود فكرة تحرير الأرض، فتراجعت القضية الفلسطينية، وتزايد الخلاف حول طرق ووسائل التعامل معها وكيفية حلها. كان عبدالناصر يفسر في خطاباته الهزيمة أنها هجمة تهدف إلى الوقوف ضد الوحدة والقومية العربية، كذلك رأها هيكل على أنها مؤامرة غربية اشتركت فيها أطراف عربية للقضاء على عبدالناصر، لم يكن ناصر يعد القومية العربية فقط مشروعاً سياسياً، ولكنها كذلك اعتبرها حتمية تاريخية للعرب ليلعبوا دوراً في العالم، وحتمية وظيفية للتحرر من الاستعمار والوقوف ضد مؤامراته المستمرة على الأمة العربية، لذلك كان مبرراً أن ترتفع نبرة الخطاب القومي العروبي، الذي يحيل فشل الوحدة والهزيمة في 67 إلى المؤامرة، التي أكدت بحسب وجهة نظر ناصر أن الرجعية العربية هي أشد خطراً على هذه الأمة من الاستعمار. يرى العجاتي أن الهزيمة شكلت نقطة التحول للنظام الناصري، حيث ادى ارتفاع معدلات الإنفاق العسكري للاستعداد للمعركة الجديدة، إلى تزايد عجز الموازنة، فتخلت الحكومة عن مشروعات تنموية كبرى، وأصبحت أكثر تسامحاً مع الاستثمار الأجنبي، فأصدرت سلسلة قوانين وتشريعات تشجيعية، وارتفعت وتيرة الاقتراض من أجل التمويل العسكري.

تحولات إيجابية

يذهب العجاتي إلى أن هزيمة يونيو دفعت نظام ناصر إلى اتخاذ بعض القرارات في الطريق الصحيح، إذ يمكن القول إن بيان 30 مارس 1968، لا يتعدى كونه وعداً لم يجد طريقة للتنفيذ، إلا أن البيان بالفعل يضع يده على الخلل في النظام السياسي ويكشف طرق علاجه، كذلك لا يمكننا التوقف عند كون البيان مجرد وعد، حيث إنه عاد للظهور من جديد على يد العديد من المفكرين والكتاب الذين كانوا في المعتقلات قبل 67، ثم أصبح لهم دور ثقافي، وحتى استشاري، مع الرئيس عبدالناصر بعد ذلك. أيضاً اتخذت خطوات للحد من تغول الأجهزة الأمنية، وبدأت محاكمات لقيادات هذه الأجهزة، كما حدثت تغيرات جذرية في شكل وطبيعة المؤسسة العسكرية بهدف تطوير مهنيتها، وهو ما ظهرت نتيجته في حرب الاستنزاف، وخرج مفهوم القومية من الشخصنة ليصبح تضامنا شعبيا واسعاً كان قد اختفى منذ 1958 ثم عاد بقوة مصحوبا بنقد لشخص عبدالناصر ذاته، كل هذا حدث بعد 1967. وبين أهم التحولات الإيجابية كان التحول النوعي في شكل وطبيعة المقاومة الفلسطينية، حيث تأكدت بعد 68 عدة نتائج مهمة فيما يتعلق بتطوير تقنيات المقاومة، ومن أهم تلك النتائج: تأكيد الهوية الوطنية الفلسطينية التي كانت قد استأنفت تأسيس نفسها في الخمسينيات، وفي القلب منها نظرة الفلسطينيين في العموم لأنفسهم كشعب ثوري يكافح من أجل تحرير أرضه، وثانيا التجسيد المؤسساتي لهذه الهوية عند استيلاء الحركة الفدائية على منظمة التحرير الفلسطينية في 1969، ثم تطوير نوع من الممارسة السياسية داخل تلك التنظيمات شبه العسكرية.

تداعيات الهزيمة

ويستعرض العجاتي بعد ذلك تداعيات الهزيمة على مصر في زمن أنور السادات، خصوصا انقلاب الأخير على المشروع الاجتماعي لعبدالناصر، بقرارات الانفتاح، "وكان من الطبيعي أن ينتج التعديل في البنية الاقتصادية وصعود طبقة جديدة من السياسيين مع السادات تغيراً منهجياً على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فأخذت خطابات العروبة والعداء للإمبريالية تخفت شيئاً فشيئاً، وأضحت الفئات الأكثر تهميشاً تعاني عواقب عملية الدمج السيئ للاقتصاد المصري في الاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت معدلات التضخم، في حين كانت الأرقام تشير إلى نمو اقتصادي في السنوات الأولى للانفتاح". كما انخفضت حدة الخطابات اليسارية الشعبوية لعبدالناصر لتحل محلها خطابات يمينية متشحة بلغة إسلاموية مارستها الدولة والإسلام السياسي في السبعينيات، وكانت النتيجة حتمية، ففشل تجارب التحرر الوطني في تحقيق التنمية المستدامة جعلها فريسة سهلة للإسلام السياسي. ورغم هزيمة الفكر القومي مع هزيمة المشروع العروبي كله، فإن محمد العجاتي يرى أن استمرار المشروع العروبي ممكن، بعد كل هذه العثرات، إضافة إلى الانفتاح الإقليمي بسبب التطور التكنولوجي، من الفضائيات إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وما يفترضه الكاتب من استكمال مسار الثورات في المنطقة، ينبئ بأن القومية العربية هي مشروع المستقبل الذي يمكن أن يخرجنا من العديد من الإشكاليات الاجتماعية والسياسية التي تعانيها حالياً، فتجاوز العنف الديني والطائفي على سبيل المثال سيجد حله في هوية بديلة لها جذور يمكنها أن تطرح نفسها بديلاً عن هذه الأفكار، مع الأخذ في الاعتبار عيوب التجربة السابقة، سواء على مستوى بنية المشروع أو سياساته، أو من ناحية استخدامه مصدراً للشرعية بديلاً عن الإنجاز على أرض الواقع.

تجربة التنمية

بعنوان "هزيمة 1967 وفشل الدولة التنموية الناصرية"، يأتي الفصل الثالث من الكتاب الذي يتصدى له الباحث سامح نجيب، الذي يستعرض الخطط التنموية للاقتصاد المصري في الحقبة الناصرية، خصوصا السنوات العشر السابقة على هزيمة 1967، مؤكدا أن مصر لم تكن فريدة في تجربتها بل كانت تسير مع عدد من الدول في إطار نفس الخطط والتوجهات التصنيعية، مشدداً على أن أسباب الفشل يمكن تحديدها. إذ كانت مصر ضمن مجموعة الدول التنموية التي تبنت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي سياسة التصنيع من خلال إحلال الواردات، والتي تبني بعضها أحياناً سياسة جزئية لتشجيع التصدير، على أن كثيراً من الدول التنموية التي تبنت هذه الاستراتيجية الأخيرة لم تنجح في تحقيق التحول المنشود، وكانت مصر من بين هذه الدول. ويرى سامح نجيب بعد استعراض طويل أن تجربة الدولة الناصرية لم تنجح بالشكل الكافي في مواجهة عدد من التحديات كدولة تنموية خاصة في مجال تطوير القطاع الزراعي، ودعم وتوجيه الاستثمار الصناعي بشكل مركزي، وتطوير القدرات التمويلية، خصوصاً الاحتياجات من النقد الأجنبي، لشراء السلع الرأسمالية والمواد الخام، وهو ما أدى إلى الاعتماد المتزايد على القروض والمساعدات الخارجية.

تبعية مزدوجة

وعلى عكس السائد بأن نظام عبدالناصر كان يعتنق مبدأ الحياد وعدم الانحياز، يرى سامح نجيب أن الأزمة الاقتصادية دفعت النظام إلى نوع من التبعية المزدوجة لطرفي الحرب الباردة، فالاعتماد الكامل على استيراد السلاح من الاتحاد السوفياتي، واكبه اعتماد شبه كامل على الولايات المتحدة الأميركية مصدراً للقمح. منذ عام 1955، وقت عقد صفقة السلام التشيكية، بدأ النظام الناصري يعتمد أكثر على الاتحاد السوفياتي، ليس فقط في التسليح، ولكن أيضا في تمويل المشروعات التنموية، وعلى رأسها مشروع السد العالي، بالطبع لم يكن الدعم السوفياتي مجانياً، فالحقيقة أن الدعم السوفياتي لكثير من دول العالم الثالث كانت له أهداف جيواستراتيجية واقتصادية في إطار الحرب الباردة ضد الولايات المتحدة. وكانت المساعدات الروسية للنظام الناصري سخية، فدفعت الحكومة المصرية فقط نصف ثمن المعدات العسكرية بقروض لا تتجاوز الفائدة السنوية عليها 2 في المئة وبفترات سداد تمتد 10 أو 15 سنة، وفي سبتمبر 1965 وافق الروس على إلغاء 50 في المئة من الديون العسكرية كمساهمة سوفياتية في حرب اليمن، وكذلك على تجديد اتفاقية التجارة المصرية السوفياتية على أساس المقايضة بين السلاح والبترول الروسي من ناحية، والقطن والأرز والخضراوات المصرية من ناحية أخرى. ولكن حالة السخاء الروسي النسبي بدأت تتغير بعد 1965، وهو الأمر الذي يرجعه محمد حسنين هيكل إلى الإطاحة بخروتشوف، هنا بدأ يظهر أن السخاء ليس مجانياً، فبعد وعود خروتشوف عام 1964 بتمويل الخطة الخمسية الثانية، جاء رئيس الوزراء أليكسي كوسيغن إلى القاهرة عام 1966 ورفض طلب مصر بتأجيل دفع أقساط ديونها للاتحاد السوفياتي أتى هذا التشدد الروسي في إطار مطالبة موسكو بتسهيلات لأسطولها في الموانئ المصرية في ظل ممانعة من الجانب المصري. عانت العلاقة الروسية- المصرية في عهد عبدالناصر عدة سلبيات ساهمت في تعميق أزمة النظام الناصري في منتصف الستينيات، فأولاً على الرغم من التسهيلات في الدفع والتخفيضات المتكررة في حجم الدين، تراكمت الديون المستحقة على القاهرة لموسكو من منتصف الخمسينيات إلى منتصف الستينيات، وصارت عبئاً كبيراً على الدولة الناصرية، حيث وصل إجمالي ما تدفعه مصر سنوياً من أقساط على ديونها العسكرية والاقتصادية للاتحاد السوفياتي عام 1965 إلى 80 مليون دولار، وهو ما يمثل %12 من إجمالي إيرادات مصر من العملة الأجنبية في ذلك الوقت. ثانياً كان نظام المقايضة يعني عملياً تقليص قدرة مصر على التصدير للأسواق العالمية، وهو ما أدى ليس فقط إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات، بل إلى تعميق عزلة الاقتصاد المصري وتقليص قدراته التنافسية ثالثا. وفيما يخص الإنتاج الحربي، لم يكن من الممكن أن تنجح سياسة إحلال الواردات في هذا المجال، بسبب الاعتماد شبه الكامل على استيراد معظم المعدات العسكرية خصوصاً الثقيلة، هناك بالطبع علاقة بين درجة تطور الإنتاج الصناعي بشكل عام وبين إمكانية إنشاء صناعات عسكرية، وكما في الصناعات الأخرى، هناك ضرورة لنقل التكنولوجيا من الدول الأكثر تقدماً صناعياً كمرحلة أولى من مراحل التصنيع المحلي، لكن السوفيات كانوا شديدي الحرص على عدم نقل التكنولوجيا لعسكرية لمصر، وبالتالي ظلت الصناعات العسكرية المصرية محدودة، وظل الاعتماد في أغلبية المعدات العسكرية على الاستيراد. هذا الاعتماد الكلي على الاتحاد السوفياتي في السلاح كان يقابله اعتماد كلي على الولايات المتحدة في الغذاء، ففي 1961 كانت المساعدات الغذائية الأميركية تشكل 77 في المئة من واردات مصر من القمح و38 في المئة من إجمالي استهلاكها، بعدها بعام واحد وصلت تلك النسب إلى 99 في المئة من واردات القمح، و53 في المئة من إجمالي الاستهلاك، وبالطبع، وكما كان الحال مع السوفييت، لم تكن تلك المساعدات مجانية، إذ أتت أيضا في إطار الحرب الباردة والمحاولات الأميركية لاحتواء النفوذ السوفياتي في المنطقة. وقد وقعت الحكومة المصرية اتفاقية مساعدات "الغذاء من أجل السلام" مع الولايات المتحدة في الثامن من أكتوبر 1962، من أجل توريد ما قيمته 390 مليون دولار من القمح والسلع الغذائية الأخرى لمصر على فترة ثلاث سنوات تنتهي في أكتوبر 1965. لعل هذه العلاقة الغذائية بين مصر والولايات المتحدة، في أوج ما سمي بالاشتراكية العربية والشعارات المناهضة للإمبريالية الأميركية، تظهر عمق الأزمة التي كانت قد وصلت إليها تجربة الدولة التنموية في مصر، فهذه التبعية الغذائية تثير سؤالين دالين: الأول هو لماذا لم تتمكن الدولة التنموية المصرية من تطوير الإنتاج الزراعي بحيث تحقق الاكتفاء الذاتي في القمح رغم الإصلاح الزراعي، ورغم السد العالي ومشروعات الاستصلاح الزراعي؟ والثاني هو لماذا لم تنجح تلك الدولة التنموية في تطوير وزيادة صادراتها الصناعية والزراعية بحيث تتمكن من شراء احتياجاتها الغذائية دون الحاجة لمراكمة الديون من جانب، أو الاعتماد على المساعدات ذات الطابع السياسي من جانب آخر؟

فشل اقتصادي

يوضح سامح نجيب أن هناك علاقة عضوية بين أداء الدولة التنموية في إدارة عملية التراكم الرأسمالي وبين أدائها في مهمة التحضير للحرب، ويرى أن الدولة التنموية الناصرية فشلت في تحقيق أهدافها الاقتصادية، بل كيف أفلست عملياً مع نهاية الخطة الخمسية الأولى عام 1965، ما قاد إلى الفشل في مهمة الاستعداد للحرب، يضيف: "ما نطرحه هنا ليس محاولة لتقديم تفسير اقتصادي للهزيمة، بل عرض سياق ومقدمات اقتصادية لتلك الهزيمة، وما يمكننا قوله هو أن هناك علاقة أكيدة بين حجم هزيمة 1967 وحجم أزمة الدولة التنموية الناصرية، أما فكرة أن الحرب كانت نتيجة مؤامرة لإفشال مشروع تنموي ناجح، فتبدو مجرد محاولة لتبرير الفشل والهزيمة معاً". يخلص نجيب إلى أنه من الصعب فهم مقدمات وتوابع هزيمة 1967 خارج سياق تلك التجربة التنموية الفاشلة، فتجربة الدولة التنموية المصرية في ستينيات القرن العشرين، التي ولدت مع حرب 1956، ودفنت مع حرب 1967، وتظهر متابعة أداء تلك الدولة في الإصلاح الزراعي وفي التخطيط الصناعي كيف أنها سقطت سريعاً في مصيدة القروض والمساعدات الخارجية، وكيف فشلت خطة التنمية الخمسية الطموحة والوحيدة، ذلك الفشل وتلك الهزيمة شكلاً معاً المدخل لتفكيك الدولة التنموية في العقود التالية.

عرض كتاب «في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً» (3-4)

زمن الهزيمة

كتب الخبر حسن حافظ

عبدالظاهر: ناصر أدرك تأثير الهزيمة على شرعيته فسعى لتقديم نفسه زعيماً صاحب شرعية دينية

تستعرض "الجريدة" في هذه الحلقة الفصلين الرابع والخامس من كتاب "في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً"، حيث يتناول في أولهما مصطفى عبدالظاهر كيف تلقى التيار الإسلامي، وخصوصاً جماعة "الإخوان"، نبأ هزيمة يونيو، راصداً المشاعر المضطربة حولها بين فرقاء المشهد المصري وقتذاك، بمن فيهم عبدالناصر نفسه، في حين يرصد بلال علاء في الفصل الخامس تحت عنوان "تيه القافلة"، طبيعة التحولات التي صاحبت الهزيمة وما بعدها، وخصوصاً مع انهيار مشروع عبدالناصر، مما سمح بظهور مشروع إسلامي معادٍ للشعب. يستعرض الباحث مصطفى عبدالظاهر، في الفصل الرابع المعنون "الحركات الإسلامية في زمن الهزيمة"، كيف تلقى تيار الإسلام السياسي هزيمة يونيو 1967، في وقت شهدت سنوات حكم عبدالناصر صراعات قاسية بينه وبين جماعة "الإخوان"، وهي المرحلة التي سماها عبدالظاهر بمرحلة "زمن الهزيمة"، التي كانت هزيمة يونيو أمام الدولة الصهيونية أهم تجلياتها، إلا أنها لم تكن التجلي الوحيد. أثارت مرحلة زمن الهزيمة سؤالا جديدا فرضته على القوى والفاعلين السياسيين كافة، بدلاً من سؤال "كيف نلحق بالغرب؟" أو "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، حيث تركز التساؤل أكثر على الواقع المباشر، وتمحور حول أسباب الهزيمة وعواملها، وكان مشابهاً لسابقه الذي طرح وقت النكبة عام 1948، إلا أن التبريرات الشائعة وقت النكبة أرجعت الهزيمة لفساد الحكام وموالاتهم للغرب الاستعماري، أما مع هزيمة يونيو فكان الأمر مختلفاً، إذ لم يكن هناك مفر من رجوع البصر كرة أخرى إلى الداخل، والتدبر في مسؤولية النظام الناصري والأنظمة العربية المستقلة عن الهزيمة الساحقة. ويرصد عبدالظاهر انقسام ردة فعل الإسلاميين على تلك الأحداث إلى محورين مختلفين: العنف والإصلاح، وكانت ذروة المحور الأول ومرجعيته الأساسية، ربما حتى الآن، هي عمل سيد قطب "معالم في الطريق"، إذ مال المتأثرون بمقولات قطب إلى اعتماد العنف أداة وحيدة للتغيير الاجتماعي، بعدما أسس الرجل قطيعة معرفية داخل الحركة الإسلامية مع مقولات "الإصلاح" و"الأمة" التي اعتمدها حسن البنا، واستبدلهما بمقولتي "الحاكمية" و"الجاهلية". ورأى أتباع قطب، الذي أعدم عام 1966، في هزيمة يونيو دليلاً عملياً على ما بشر به الرجل حول "نهاية التاريخ" واستحالة الإصلاح بلا مباينة تامة بين المسلمين وغيرهم، وأن على المسلمين أن يعودوا إلى أصولهم بعد ما أصابتهم جميعاً، كما غيرهم، جاهلية تشبه الجاهلية التي قضى عليها ظهور الإسلام، فبحسب قطب، ليست الجاهلية مجرد وصف للمرحلة الزمانية السابقة على الإسلام، بل هي حالة وجودية تحيط بالمسلم في كل جوانب حياته منذ انتهاء عصر الخلافة الراشدة، ولا يمكن معها إصلاح، ولا ترتكز حول دولة أو أمة بالمعنى الذي أقره البنا. أما المحور الثاني، بحسب تقسيم مصطفى عبدالظاهر، فيتمثل في رد فعل الجناح المخلص لتعاليم البنا داخل "الإخوان المسلمين"، فكان إصلاحياً، وكان بمنزلة رد على أفكار قطب والمتأثرين به من ناحية، وعلى فشل المشروع الناصري من ناحية أخرى، إذ أصدر المرشد الثاني لجماعة "الإخوان"، المستشار حسن الهضيبي كتابه "دعاة لا قضاة"، الذي أفرد أغلب صفحاته للرد على دعاوى قطب، وأعاد الهضيبي جماعة "الإخوان المسلمين" إلى إصلاحية البنا، لكن على خلفية سؤال عام مختلف عما طرح في عصر البنا، وكان ما أسس له الهضيبي جذراً للتطورات الفكرية اللاحقة التي مرت بها جماعة "الإخوان" حتى عام 2013. احتفظ الهضيبي بما في أيديولوجيا البنا من غموض وإصلاحية وتلفيق بين المصادر، لكنه تشبث أكبر بالدولتية وأدواتها، كنتيجة للخوف من الفقدان التام للدولة بعد انتكاسها، وكذلك للخوف من ميل اليائسين من أبناء الحركة إلى اعتماد العنف أداة وحيدة للتغيير، وترسخ ذلك المنظور أكثر مع صعود أنور السادات إلى السلطة، ومع توسعه في تقنين الشريعة الإسلامية، وميله لاستخدام الجماعات الإسلامية حليفا ضد أعدائه من القوميين والشيوعيين.

تأثير الهزيمة

يرصد عبدالظاهر تأثير الهزيمة على جميع فرقاء المشهد المصري، إذ أصبح عبدالناصر على وعي تام بتأثير الهزيمة على شرعيته، فسعى إلى تقديم نفسه زعيماً صاحب شرعية دينية، فهو يقول في خطاب له في أغسطس 1969 على سبيل المثال: "جنودنا في معركتهم القادمة لن يكونوا جنداً للأمة فحسب، وإنما جنود الله، حماة عقيدته ومقدساته"، في وقت أصابت الهزيمة "الإخوان" بالصدمة، لكنهم شعروا بالشماتة لما أنزلته من مهانة بنظام عبدالناصر. وفسر بعض الدعاة الهزيمة بكل بساطة بأنها عقاب إلهي أنزله الله على نظام الملحدين الذين أعدموا الإخوان وغيرهم من المؤمنين، إلا أن هذا التفسير السببي الغيبي الذي قدمه الدعاة العاديون لم يكن عماد تفسير الحدث نفسه عند منظري الحركات الإسلامية، فقد اعتبر هؤلاء أن البناء الأيديولوجي، بعناصره الحديثة المبنية على الاعتقاد في التقدم التاريخي، ومن ورائه المناهج الإصلاحية التي أقرها الإصلاحيون المسلمون (ومن بينهم البنا بالطبع)، هو أساس الهزيمة والنكبة الجديدة. وهكذا، دخل بعض منظري الحركات الإسلامية في حالة من اليأس بعد هزيمة يونيو أدت بهم إلى اعتقاد بنهاية التاريخ، وأورثتهم كفراً بكل سبل الإصلاح و"التقدمية" التي كانت شائعة بين سابقيهم، ورأى بعضهم وجوب "العمل" من أجل استعادة التاريخ بمفاصلة كبرى بين طرفي النقيض، الكفر والإيمان، مثلما قال قطب، أما البعض الآخر فلم يفكر حتى في مفاصلة بين كفر وإيمان، بل رأى أن العودة إلى "الأصول" والقيم الإسلامية هدف في ذاته لا يرجى منه أي تغيير "للوجود التقليدي"، أي الأوضاع العامة من فساد وهزيمة، بل هو الهدف الوحيد الممكن، وهو الوسيلة في الآن نفسه، لاستعادة "التاريخ" بعد انتهائه. تذهب كثير من التحليلات إلى أن أهم آثار هزيمة يونيو على الحركات الإسلامية كان ظهور الحركات التكفيرية والمسلحة المتأثرة بأفكار قطب، إذ وجدت تلك الحركات متسعاً لنشاطها، وفرصة لاستمالة أعضاء جدد من أفول عصر القومية العربية، "هذه التحليلات وإن كانت محقة في جانب ما، فإنها تقلل من أهمية رد فعل محافظي جماعة الإخوان على كتابات قطب، إذ كان الخلاف الذي نشب داخل الجماعة حول كتابات قطب أهم خلاف في تاريخ الحركات والتيارات الإسلامية في العصر الحديث"، فتأثير زمن الهزيمة على محافظي الإخوان لا يقل أهمية عن تأثيره على قطب وتابعيه، فالأولون هم السواد الأعظم من أبناء أكبر حركة إسلامية سياسية في مصر، ولا يزال ما أسسته تلك الفترة مستمراً في تأثيره إلى يومنا هذا.

هوية الهزيمة

ويتناول بلال علاء في الفصل الخامس "تيه القافلة"، هوية الشعب المصري في هذه الفترة الحرجة، التي تمثلت في هزيمة إسرائيل ثلاث دول عربية مجتمعة، وكانت الانتصارات الثلاثة ساحقة وبلا مقاومة فعلية، كأن إسرائيل تحارب جيوشا من ورق، فـ"لو كانت البلدان الثلاثة خاضت معركة مشرفة وانهزمت لأمكنها استيعاب الهزيمة في الخطاب بصفته نتيجة محتملة لأي حرب، لكن عمق الهزيمة وسرعتها جعلا النظام مكشوفا تماما، بعد زوال ادعاءات التقدم والتصنيع والسير نحو الحداثة ومناطحة الإمبريالية، فقد جعلت الهزيمة إسرائيل مستعمرا منتصرا لا يأمل أحد في هزيمته هزيمة كاملة". وشدد علاء على أن "الأب انهزم أمام أبنائه، ولن يعود بإمكانه فرض سطوته في البيت، وبات كل منهم يشعر بالخذلان وبالصدمة في شخصه، لو انتصر عبدالناصر، لكان خلّد نفسه أبا للدول العربية لزمن طويل، لكنه هزم، ولذا فإن أشباحه التي تلوح من آن لآخر هنا وهناك ليست عودة للأب، بقدر ما هي حنين للحظة الوثوق به". ويلفت النظر إلى أن أبرز ما يميز غالب التفكير السياسي الرسمي بعد 67 من افتراض مضمر حول ديمومة الهزيمة... وبما ان الدول العربية التي تسمى "دول المواجهة" ستنبذ فعلياً بسلوكها فكرة الحرب نهائياً، فإن هزيمة هذا المستعمر باتت عملياً مستحيلة، لتصبح إسرائيل، من منطلق المواجهة العسكرية التقليدية، دولة دائمة الانتصار، والعرب دائمي الهزيمة، وسيشكل ذلك فرصة لتتفجر مشاعر الإحساس بالعار وفقدان الكرامة في كل مناسبة تسعى فيها إسرائيل إلى نكء الجراح بغزو هذا البلد أو ذلك، وهو أمر حرصت إسرائيل على تكراره من حين لآخر لتأكيد هذا الشعور. ومن المناسب التفكير في أن الحرب الوحيدة، التي كان لها هدف شبه هجومي، خاضتها "دول المواجهة" بعد الاستعمارية مع إسرائيل في 1967 للتضامن مع سورية لا مع فلسطين، بينما كانت الحرب الوحيدة التي جرت دفاعاً عن فلسطين في 1948 بقيادة الملكيات القديمة الخاضعة للاستعمار الغربي، وبرغم كل العنتريات التي أجادتها الأنظمة القومية ما بعد الاستعمارية، فإنها في أية مرحلة وتحت أي ظرف لم تفكر ولو للحظة في الحرب من أجل الفلسطينيين، لقد كان اعتراف الأنظمة العربية فعلياً بإسرائيل كاملاً وغير مشروط، ولم تتعرض إسرائيل لأية مساءلة حقيقية لوجودها. ويرى علاء أن الاستعمار القديم جعل العرب يفكرون في حتمية الاستقلال ثم التقدم، لكن زوال الأمل في التخلص من المستعمر الجديد سيساهم في جعل أقلام عربية كثيرة تمضي عقوداً طويلة في تدبيج الكتابات التي تحاول تفسير تخلف العرب، وليأسها من الاستقلال، فإن الكثير من تلك الكتابات ستعتبر التخلف مشكلة بنيوية بسبب نوعية العقل العربي نفسه، وستدق طبول معركة ضخمة تستغرق أكثر من عقدين من الزمان حول التراث العربي، بحثا عن الجذور التاريخية لتخلف هذا العقل، وسيجزم كثيرون بأن كتابات هذا العالم أو ذلك الفقيه منذ مئات السنين هي سبب الهزيمة الدائمة المبتلى بها عالمنا.

تيارات ما بعد ناصر

ويعتقد علاء أن النظام خسر هيمنته الأيديولوجية على شرائح من الشعب عندما خسر الحرب في 1967، وفي الوقت نفسه لم يكن قادراً، بسبب تبعات الهزيمة، على ممارسة الحد الأقصى من العنف لإعادة من سيتجاوز الخطوط الحمراء إلى الحظيرة، كذلك لم تكن المؤسسات التي صنعها النظام لاحتواء ذوي الميول السياسية اليسارية في أحسن أحوالها، وعليه فقد خرجت أول تظاهرة شعبية ضد النظام منذ 1954 في العام الدراسي الذي سيلي عام الهزيمة مباشرة. قبل ذلك، رأى عبدالناصر في تظاهرات 9 و10 يونيو التي طالبته بعدم التنحي تفويضاً خاصاً يستثنيه من أية محاسبة، واعتبر هذا التفويض حكراً عليه هو فقط، وعليه بدأ محاولات إصلاحية شكلية لامتصاص غضب الناس من النظام، وستكون محاكمة قادة سلاح الطيران من ضمن هذه الإجراءات وحين سيصدر الحكم عليهم بأقل مما توقع الناس لهزيمة بهذا الحجم، سيخرج العمال للاعتراض وستهاجمهم الشرطة، ثم سيخرج الطلاب للتضامن مع العمال ورفع مطالب شبيهة، وإن كانت أكثر عمومية وأكثر تعبيراً عن بداية تغير بوصلة الشباب. وعلى الرغم من أن النظام احتوى تلك التظاهرات سريعاً، فإن المطالب الثمانية التي رفعها الطلاب عبرت عن رغبة في إصلاح جذري للنظام كله، فإضافة إلى المطالب المباشرة المتصلة بالحراك الطلابي والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وإعادة محاكمة قادة الطيران، وهو ما استجاب له النظام ببطء، كانت هناك أربعة مطالب ديمقراطية صريحة تشمل المطالبة بحرية الرأي والصحافة، ومجلس نيابي حر، وإبعاد المباحث عن الجامعات، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف العمل بها. لكن هذه المطالب العمومية لم تكن قادرة على تشكيل إجابة جذرية مغايرة للنظام، رغم أن استجابة هذا الأخير لها كانت كفيلة بتأكيد التغيير الواضح في بنية دولة اعتادت مؤسساتها طويلاً على الوجود في الساحة منفردة، بيد أن هذه الاستجابة لم تتطرق للمطالب العامة الأعمق، فلم يكن الضغط قوياً بما فيه الكفاية، كما أن العمال والطلبة الغاضبين في 1967 و1968 عجزوا عن تعبئة الجماهير خلف أيديولوجية مضادة للنظام بكاملة، أو عن تفجير طموح حقيقي لاستبداله، وهو ما لم تكن موازين القوى تسمح به بالفعل، وكان هذا هو أحد أسباب قدرة النظام المستمرة على إجهاض كل المطالبات الديمقراطية لعقود لاحقة. تتمثل أهم تنازلات النظام العلنية في إعلان عبدالناصر في "بيان 30 مارس" الذي صدر في 1968 بعد شهر واحد من انتفاضة الطلبة، أن أحد أسباب فشل الاتحاد الاشتراكي كآلية سياسية هو طريقة التعيين فيه، لأنها تسمح لـ"مراكز القوى" بالتحكم في المعينين مما يمنحها القدرة على حماية نفسها، سيدعو البيان، تلافياً لذلك، إلى انتخاب كامل أطر الاتحاد من القاعدة إلى القمة، لكن عبدالناصر، الذي أصبح ضعيفاً، لن يكون قادراً على إنجاز أي تغيير أو إصلاح، سواء كان كلامه جدياً أو مجرد بروباجندا مضللة كما تعود، لأنه هو نفسه عصب النظام الذي يحتاج للتغيير. وعلى الرغم من أنه سيصرح في البيان نفسه بأن "التغيير المطلوب لابد له أن يكون تغييراً في الظروف وفي المناخ، وإلا فإن أية أشخاص جدد في الظروف نفسها وفي المناخ نفسه سيسيرون في الطريق الذي سبق إليه غيرهم"، فإن أي تغيير بأي حجم كان يستدعي أولاً خروج عبدالناصر نفسه من المشهد، وهو ما ستحققه وفاته المفاجئة المبكرة عن 54 سنة، لتفتح كل إمكانات التغيير. بعد رحيل عبدالناصر، وبشكل فوري ومفاجئ، تآكلت الهيمنة الثقافية للنظام، دون استعداد من أحد لحصد ثمار ذلك، تطلب الأمر وقتاً حتى تصعد قوى جديدة تستغل الفراغ الذي تركه النظام في صورة مساحات للحركة لم تكن موجودة من قبل، ومساحات في العقول أصبحت فارغة بعد انهزام القومية الناصرية. نظرياً، كان من الممكن أن يتمخض تآكل هيمنة نظام اشتراكي عروبي عن تيارين متنافسين على كسب المساحات الفارغة: تيار ليبرالي مؤيد للانفتاح الاقتصادي، وتيار داع لهوية إسلامية ورافض للهوية العربية كمركز للذات، لكن ما حدث كان أن الدولة نفسها أصبحت بعد حرب 73 هي الداعية الرئيسي للرأسمالية والانفتاح الاقتصادي، لكن دون أي تداول حقيقي للسلطة، باستثناء التعدد الحزبي الشكلي إلى حد بعيد، "وتعايش الناس مع فكرة المهادنة مع إسرائيل والتقرب من أميركا، وهو ما يفسر محدودية معارضة اتفاقية كامب ديفيد، رغم كونها انقلابا كاملاً على ما كان يعلنه النظام قبل أقل من عقد واحد، لقد جعلت الهزيمة، التي ستظل ممتدة ومتغلغلة داخل التركيبة النفسية، وليس انتصار أكتوبر، عموم الناس راغبين في تسيير الحياة برتابة وهدوء ودون أية مغامرات كبرى مرة أخرى". وشدد الباحث على أن الفشل مع الهزيمة أنتج تياراً يساريا معارضاً، يستبطن التصورات الناصرية عن الدولة، والذي سيعلن نفسه في الأنشطة الجامعية الداعية للإسراع في محاربة إسرائيل في التظاهرات الشهيرة سنة 72، وسيكون مسكوناً من الداخل بتناقضين: الأول هو مشاعره المرتبكة تجاه النظام الناصري، حيث رفض بشكل واضح قمعه الأمني الذي لم يعد ممكناً تبريره بعد الهزيمة، لكنه في الوقت نفسه استبطنه كماض ذهبي يحن إليه، والتناقض الثاني هو ابن الأول، وهو أنه في محاولته للظهور كتيار معارض للنظام الجديد، سيفشل، لحنينه للنظام القديم، في طرح نفسه بديلاً مناقضاً وجديداً للموجود. فيما التيار الثاني هو الداعي إلى العودة إلى هوية إسلامية، خصوصا بعد خروج الإخوان من السجون، وطرح نفسهم كبديل للنظام، فضلا عن أنه روج إلى أن سبب التدهور بالأساس هو ابتعاد عامة المواطنين عن الطريق القويم، وكانت دعوته أكثر تواضعاً: على الناس أن يعودوا للمساجد ويلتزموا بالتعاليم الإسلامية، لينصرهم الله، بعد أن عاقبهم بالهزيمة نتيجة لذنوبهم، لكن كانت الهوياتية الإسلامية أكثر عدائية تجاه الشعب، حيث أعلنت صراحة أنه كافر. ويخلص بلال علاء إلى أنه ليس مستغرباً أن تياري الهوية الأكبر والأكثر انتشاراً، القومية والإسلامي السياسي، يفصل كلاهما نفسه مبدئياً عن الشعب الذي من المفترض أنه مستودع هذه الهوية، إما لأن "شعبنا الآن كقافلة كان يجب أن تلزم طريقاً معيناً، وطال عليها الطريق، وقابلتها المصاعب، وانبرى لها اللصوص وقطاع الطرق، وضللها السراب" كما يرى عبدالناصر في "فلسفة الثورة"، أو لأننا "اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وموارد ثقافتهم وفنونهم وآدابهم، وشرائعهم وقوانينهم" كما يرى قطب، تظل الهوية لدى هذين التيارين فكرة أيديولوجية عن الهندسة الاجتماعية، فكرة لتغيير الهوية لا تثبيتها.

عرض كتاب «في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً» (4-4)

الهزيمة مستمرة

كتب الخبر حسن حافظ

تختتم "الجريدة" عرض كتاب "في تشريح الهزيمة"، باستعراض أهم ما جاء في الفصل السادس المعنون بـ "هزيمة 67 الهيكلية والمستمرة"، والذي كتبه المؤرخ المصري خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة هارفارد، والذي يرصد فيه الصراع الضخم الذي دار داخل أروقة النظام المصري بين الرئيس جمال عبدالناصر، والمشير عبدالحكيم عامر، والذي خرج منه الأخير منتصراً، وهو الصراع الذي يعتبره فهمي السبب الرئيسي في الفوضى التي قادت إلى الهزيمة الكارثية أمام إسرائيل.

في الفصل السادس، يستعرض خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بدايةً الرواية الرسمية لهزيمة 1967، والتي روج لها محمد حسنين هيكل، باعتبارها نكسة أصيبت بها مصر سرعان ما تعافت منها وتخطتها، فبقدر ما كانت العزيمة والإصرار على تخطي هذه الهزيمة قويين، بقدر ما كان النجاح والانتصار اللذان تحققا في أكتوبر 1973 مبهرين. لكن فهمي لا يترك هذه السردية دون نقد يقول: "هل كانت الهزيمة مجرد هزيمة عسكرية نجحنا في تحويلها إلى نصر مبين بعد الإصرار على التخلص من القيادات الفاسدة واستبدالها بأخرى منضبطة وعلى درجة كبيرة من المهنية والاحترافية؟ أم كانت هزيمة هيكلية للنظام السياسي والاجتماعي والثقافي لا للمؤسسة العسكرية فقط؟ وهل كان ما أصابنا في 67 مجرد نكسة تمكنا من التغلب عليها وتخطيها؟ أم أننا مازلنا نعيش الهزيمة؟" هنا يبدأ فهمي تحليل ما جرى في تلك الفترة المفصلية في تاريخ مصر، مركزا على الصراع بين جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر باعتباره أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن السبب الرئيسي وراء الهزيمة.

يستعرض فهمي خمس محطات مفصلية في الأزمة أدت إلى كارثة الحرب، لفهم آليات صنع القرار، وتحديداً عن علاقة مؤسسة الرئاسة بالمؤسسة العسكرية، وعن العلاقات الشائكة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، فمثلا أمر حشد القوات المصرية في سيناء يوم 14 مايو، اتخذ من قبل عبدالحكيم عامر وشلته في اجتماع أركان حرب القوات المسلحة والذي لم يحضره عبدالناصر، وتم إخطاره بالقرار هاتفيا. المحطة الثانية تتعلق بقرار طرد قوات الأمم المتحدة في 16 مايو، وهو القرار الذي أظهر مصر بمظهر الدولة التي تريد دخول الحرب، فقد أراد عبدالناصر إعادة توزيع القوات الدولية وليس سحبها، لكن عامر كان له رأي آخر إذ رفض فعليا تعديلات عبدالناصر على طلب إعادة القوات الذي سيسلم لقائد القوات الجنرال ريكي، واعتمد عامر على نسخة متشددة تطالب بسحب القوات بشكل كامل، وتعلل بأنه لم يكن لديه الوقت الكافي لإجراء التعديلات التي طلبها عبدالناصر، وكانت نتيجة هذا التصرف أن قامت الأمم المتحدة بسحب كل القوات. أما المحطة الثالثة على طريق الحرب، فكانت قرار إغلاق مضايق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية يوم 22 مايو، يقول خالد فهمي: "مرة أخرى نرى هنا تأثير النزاع الخفي بين الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر بشأن هذا القرار الحاسم... ويمكن التدليل على الفجوة الشاسعة التي كانت تفصل بين عبدالناصر وعامر بخصوص الموقف من إغلاق مضايق تيران بالرجوع قليلاً إلى الوراء، تحديداً يوم 17 مايو، وهو اليوم الذي بدأت فيه فكرة السيطرة على المضيق، وليس إغلاقه، تطرح نفسها، ففي هذا اليوم دعا عبدالناصر معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق إلى اجتماع في بيته وطرح عليهم فكرة السيطرة على المضايق". وهنا نجد أن جمال عبدالناصر قد أراد من دعوة مجلس قيادة الثورة القديم للاجتماع مواجهة عبدالحكيم عامر والوقوف ضده في قرار إغلاق خليج العقبة، وأن يساند عبدالناصر في فكرة السيطرة المصرية على الخليج فقط كورقة ضغط على إسرائيل، ولكن من الواضح أنه استجاب لرأي الجميع الذين أيدوا موقف عبدالحكيم عامر. أما المحطة الرابعة فتتعلق بالخطة الهجومية "فجر" أعطى لها عامر الضوء الأخضر، قبل أن يتدخل عبدالناصر لإلغائها في آخر لحظة، بعد أن تسربت أنباؤها إلى إسرائيل، ومنها إلى واشنطن، ومنها إلى موسكو، وأخيراً إلى القاهرة، الغريب أن عامر اعتمد الخطة فجر دون الرجوع إلى عبدالناصر ولم يحصل على موافقته، وهو الأمر الذي أقلق الأخير، فعامر كان يخطط لعملية هجومية ضد إسرائيل، في الوقت الذي كان عبدالناصر يحاول أن يهدئ الوضع وأن يجد مخرجاً دبلوماسياً للأزمة التي أشعلها عبدالحكيم عامر بالأساس. أما المحطة الأخيرة من محطات الأزمة التي أفضت إلى اندلاع القتال يوم 5 يونيو، فكانت الاجتماع العسكري – السياسي الذي عقد في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة يوم 2 يونيو، وأكد عبدالناصر في هذا الاجتماع على ضرورة عدم البدء بالهجوم وعلى أهمية تلقي الضربة الأولى، وإزاء اعتراضات بعض القادة، وعلى رأسهم الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، حاجج عبدالناصر بأنه سيدير المعركة سياسياً، وكي يستطيع أن يفعل ذلك لا يجب أن يستعدي الولايات المتحدة، ومما يلفت النظر أن عامر لم يخالفه الرأي هنا، لكنه في الواقع ومن خلال تصرفاته في الأيام المقبلة لم يعر توجيهات الرئيس أي انتباه، كان أبرزها ترتيب زيارة للجبهة صباح يوم 5 يونيو، أي اليوم نفسه الذي تنبأ عبدالناصر أن يقوم الإسرائيليون بشن هجومهم فيه، "والتفسير الوحيد لقرار المشير هذا هو أنه لم يصدق كلام الرئيس أو لم يعره انتباهاً".

سرديتا الهزيمة

ويتوقف فهمي بعد ذلك عند تبرير كل من عبدالناصر وعامر للهزيمة، قائلا: "نحن إذن أمام سرديتين عن الهزيمة وأسبابها، الأولى تأخذ صف المشير عبدالحكيم عامر وترى أن الجيش كان ضحية الحسابات السياسية، وأن القوات المسلحة مُنعت من خوض القتال في توقيت من اختيارها، واضطرت إلى دخول المعركة في ظروف غير مواتية، وهو ما أدى إلى الهزيمة، ومن أهم مروجي هذا الرأي عبدالصمد محمد عبدالصمد في كتابه (العشاء الأخير للمشير)، والفريق أنور القاضي في حديثه إلى مجلة (آخر ساعة)... والفريق أول صدقي محمود في حديثه إلى لجنة كتابة تاريخ الثورة المنشور ضمن الكتاب الذي حرره سليمان مظهر بعنوان (اعترافات قادة حرب يونيو: نصوص شهاداتهم أمام لجنة تسجيل تاريخ الثورة) الصادر سنة 1990، وشهادات عدد من الضباط الذين اشتركوا في حرب يونيو والمنشورة ضمن كتاب (ضباط يونيو يتكلمون)... أما السردية الثانية فتقدم الحقائق من وجهة نظر الرئيس جمال عبدالناصر، وأهم من عبر عن هذه السردية محمد حسنين هيكل في كتاباته العديدة والغزيرة، والتي يعتبر كتابه (الانفجار) من أهمها، والفريق أول محمود فوزي في مذكراته (حرب الثلاث سنوات)، ومدير مكتب الرئيس عبدالناصر للمعلومات سامي شرف في مذكراته التي جاءت ضمن كتاب (عبدالناصر: كيف حكم مصر؟)... وأمين هويدي في كتاباته، ومن أهمها (أضواء على أسباب النكسة)". يتابع: "بما إن الرئيس عبدالناصر عاد للحكم بعد تنحيه عن الحكم بأقل من 24 ساعة، وبما أن المشير عامر انتحر، أو استُنحر، بعد الهزيمة بثلاثة أشهر، وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن سردية عبد الناصر- هيكل هي التي شاعت، وشاع معها لفظ النكسة للتعبير عما حدث في تلك الأيام العصيبة من تاريخنا... ليس الغرض هنا الحكم على هاتين السرديتين بالصواب أو العوار، بل التأكيد على أن هذا التضارب هو نفسه عنصر من عناصر الهزيمة، وأن الصراع بين عبدالناصر وعامر، الذي تعكسه هاتان السرديتان، سبب رئيسي، إن لم يكن السبب الرئيسي، وراء الهزيمة".

صداقة وصراع

يستعرض فهمي استنادا إلى كتاب حازم قنديل "عسكر وجواسيس ورجال دولة: طريق مصر إلى الثورة"، والصادر بالإنكليزية عام 2014، فضلا عن شهادات وكتب معاصرة للأحداث في تحليل طبيعة العلاقة التي جمعت بين عبدالناصر وعامر وقادت بتشابكاتها إلى التأثير بقوة على شكل وطبيعة الحكم في مصر، فالصداقة الممتدة بينهما منذ سنوات الالتحاق بالكلية الحربية ثم المشاركة معا في حرب 1948، وبعدها التخطيط لانقلاب 23 يوليو 1952، كانت قوية وحميمية، فكان من الطبيعي أن يفضل عبدالناصر أن يتولى عامر قيادة الجيش، وضغط على محمد نجيب من أجل ترقية عامر من رتبة صاغ إلى رتبة لواء مرة واحدة، الأمر الذي أثار استياء قائد سلاح الطيران –وقتذاك- اللواء حسن محمود الذي تقدم باستقالته فورا احتراما لرتبة اللواء، فتم تعيين الطيار صدقي محمود الذي ظل قابعا في مركزه كقائد لسلاح الطيران وكخادم مطيع لعبدالحكيم عامر حتى هزيمة 67. لكن الصداقة ما كان لها أن تستمر في أروقة الحكم حيث البقاء للأقوى وصراع النفوذ لا يترك مساحة لصداقة من أي نوع، خاصة عندما تستغل الصداقة من أجل التغطية على كوارث ترتكب بدماء باردة، لذا بدأ الصراع الخفي سريعا بين ناصر وعامر منذ العدوان الثلاثي عام 1956، إذ ظهر الأداء المتواضع للقوات المسلحة، وهو ما جعل عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة يطالبون بضرورة تنحية المسؤولين عن الأداء المخزي للجيش في الحرب، لكن عامر رفض. ثم أتت ثاني محطات الخلاف بعد الانفصال عن سورية عام 1961، إذ اتضح للجميع أن إدارة عامر الكارثية كانت أحد أسباب الانفصال، فضلا عن أن التخطيط للانقلاب جرى في مكتب عامر نفسه، فرأت القيادة السياسية ضرورة إبعاد بعض القيادات العسكرية التي كانت تعمل هناك، لكن عامر اعترض ودافع عن رجاله، ونجح في حمايتهم من عبدالناصر. يعلق خالد فهمي على هذه المواجهة مستشهدا بأمين هويدي قائلا: "كان من نتيجة هذه المواجهة بين الرئيس والمشير أن أدرك المشير أنه يستمد سلطته من القوات المسلحة، فوثق صلته بقادتها، وظل يواصل العطاء لكل من يطلب فيقرر المنح ويقدم الخدمات، وأهلته طبيعته الشخصية لذلك حتى اكتسب حب المحيطين به، وأصبح للطفل المدلل أظافر وأنياب ولم يعد عبدالحكيم عامر القديم".

انقلاب أبيض

أما أهم وأخطر محطات الصراع بين الرئيس والمشير فحدثت في عام 1962، إذ قرر عبدالناصر التحايل على صديقه القديم لإجباره على ترك قيادة الجيش، عبر دعوته للمشاركة في مجلس للرئاسة، وانعقد في 26 مارس 1962، وكان من ضمن القرارات التي اتخذها ضرورة ترك المشير عامر قيادة القوات المسلحة لقائد محترف يكون مسؤولا مسؤولية دستورية أمام الشعب، ورغم موافقة جميع الأعضاء بمن فيهم عامر نفسه، إلا أن عبدالناصر فوجئ بعد عدة أيام، بشمس بدران أمامه نيابة عن عامر، ويقول إن المشير تراجع وسحب موافقته وأنه لا يزال متمسكا بقيادته للقوات المسلحة. جن جنون عبد الناصر واستدعى أعضاء مجلس قيادة الثورة، بناء على رواية أنور السادات في "البحث عن الذات"، والذين أيدوا خطوة إخراج عامر من الجيش، رد عامر بالتقدم باستقالته في مطلع ديسمبر 1962، وذيل استقالته بتهديد مبطن لعبدالناصر وأعوانه وكتب: "أرجو ألا يحدث مني أو منك ما يجعل ضميرنا يقدم على عمل نخشى الإقدام عليه، أو يجعلنا صغارا في أعين أنفسنا"، واجتمع رجال عامر في مبنى القيادة فيما يشبه المظاهرة العسكرية وطالبوا بعودة المشير، عندها رضخ عبدالناصر لهذا الابتزاز، ووافق على عودة المشير إلى قيادة القوات المسلحة مع منحه لقب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة". خرج عامر منتصرا من المواجهة وعمل على تعضيد نفوذه وإحكام قبضته على الجيش، ففي سنة 1966 أجبر عبدالناصر على إصدار قرار جمهوري سلبه سلطة الإشراف على القوات المسلحة، عندما تقرر أن يتولى شمس بدران وزير الحربية معاونة نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في ممارسة اختصاصاته وسلطاته، ويكون مسؤولا أمامه عما يفوضه فيه من شؤون القوات المسلحة من الناحيتين الإدارية والعسكرية، وكان بدران أحد رجال عامر وهو ما يكشف "كيف غُلت يد عبدالناصر عن كل الأمور العسكرية في البلاد، وكيف انتصر عليه صديق عمره في هذا الانقلاب الأبيض، بحسب خالد فهمي.

صراع عميق

يرى فهمي أن "هذا هو الوضع الذي كان عليه الجيش عشية الحرب: صراع عميق في صلب الدولة بين قطبي السلطة، واستقلالية للجيش حتى صار دولة داخل دولة، وغياب أية رقابة على المؤسسة العسكرية، ليس فقط من الشعب بممثليه في البرلمان أو في الصحافة، بل أيضاً من الحكومة أو من الرئيس نفسه، وانقسام في القيادة العليا للجيش بين أنصار المشير وأنصار الرئيس". فما شهدته الحالة المصرية لم يكن هو ذلك النزاع الكلاسيكي بين أصحاب السيف وأصحاب القلم، بل كان حرباً ضروساً داخل المؤسسة الحاكمة، بل وداخل الجيش نفسه، هذا لم يكن خلافاً بين رؤى مختلفة حول كيفية مواجهة عدو خارجي، بل كان صراعاً داخلياً على السلطة، انعكست آثاره على جاهزية الجيش للقتال، ودفع ثمنه أبناء الوطن بدمائهم وحياتهم ومستقبلهم، وأن هذا الصراع يفسر الأداء المرتبك خلال الأيام السابقة للحرب.

الهزيمة المستمرة

يذهب فهمي إلى أن كتاب هيكل "الانفجار" يحفل بالإشارات عما يسميه "الحكومة الخفية" في الولايات المتحدة، وعن "ثلاثي المخابرات والسلاح والبترول" الذي يحكم العالم، وعن التواطؤ الإسرائيلي – الأميركي لاستدراج عبدالناصر والإيقاع به نتيجة تزعمه حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، مما لا شك فيه أن كل هذه العناصر والخطط والمؤامرات حقيقية ولها وجود، فهناك بالفعل قوى مؤثرة تعمل في الولايات المتحدة في الخفاء، بعيداً عن سيطرة الكونغرس ورقابة الصحافة، وهناك أيضاً تشابك عالمي في المصالح بين تجار السلاح وسماسرته... كما أنه ليس خافياً مدى التعاطف والترابط والتنسيق الذي جرى (ومازال يجري) بين الولايات المتحدة وإسرائيل... كما أنه ليس خافياً عداء القوى الاستعمارية سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة أو إسرائيل، لعبدالناصر ولجهوده في دعم حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات. على أن ما يلفت النظر هنا، هو الغياب شبه التام في سردية هيكل لوجود تنظيم داخل مصر مماثل لتلك التنظيمات السرية التي استهوته وجذبت اهتمامه على الصعيد العالمي، أقصد هنا تحديداً ذلك التنظيم المهول الذي بناه المشير عامر على مدار خمسة عشر عاماً، والذي يشار إليه أحياناً بتنظيم "الدولة داخل الدولة"، هذا التنظيم كان عماده الجيش، تلك المؤسسة التي استأثر عامر بها ومنع عبدالناصر من التدخل في شؤونها، بل استخدمها لتهديده وفرض إرادته عليه، إن الاقتتال الداخلي في الحكومة الخفية في مصر، لا في الولايات المتحدة، هو السبب الرئيسي في هزيمة 1967، هذه الحكومة الخفية التي كان يديرها المشير عبدالحكيم عامر أدت إلى وضع كارثي. يتابع خالد فهمي طرح الأسئلة قائلا: "هل معنى هذا أن عبدالحكيم عامر هو المسؤول وحده عن الهزيمة المروعة؟ بالطبع لا، عبدالناصر مسؤول أيضاً، فهو الذي اختار صديق عمره وأولاه أمور الجيش سنة 1954، أما لماذا وكيف استطاع عامر أن يبسط سلطانه على الجيش وأن يستخدمه كسلاح في وجه عبدالناصر، فذلك أيضاً كان نتيجة سياسات عبدالناصر وقراراته، فتسليم الجيش لعبدالحكيم لم يكن بسبب سواد عيونه، كما قال المشير نفسه، كما لم يكن بسبب إيمان عبدالناصر بقدرات عامر العسكرية، بل كان السبب هو ثقة ناصر أن صديق عمره بشخصيته المحبوبة داخل المؤسسة العسكرية، قادر على تأمين الجيش، أي على الحيلولة دون وقوع انقلاب عليه من داخل الجيش". وفي محاولة منه لنزع فتيل الأزمة، ألقى عبدالناصر ما يعرف بـ "بيان 30 مارس" الذي وعد فيه بإجراء بعض الإصلاحات السياسية وبعودة الديمقراطية، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، وظلت الحياة السياسية لمدة عقود مقبلة، وعلى مدار ما تبقى من حكم عبدالناصر، ثم حكمي السادات ومبارك، تدار كما أراد لها عبدالناصر، أي منحصرة بين مؤسسة الرئاسة والجيش والأجهزة الأمنية، مع ظهور مفاجئ للقضاء أو البرلمان أو الصحافة. ويتابع فهمي: "بقي الحال على ما هو عليه حتى اندلعت ثورة يناير 2011 التي هي، في المحصلة النهائية، محاولة من جانب جموع الشعب على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، أن يكون لهم دور في إدارة شؤون بلدهم، وأن يكونوا رقماً في معادلة الحكم التي أبعدوا عنها، وبعد مرور أكثر من ست سنوات، لاتزال جموع الشعب تجاهد في ثورتها لتغير من طبيعة الدولة المصرية، ولتضع حداً لهزائم تلك الدولة الهيكلية والمستمرة".

 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 154,036,109

عدد الزوار: 6,931,740

المتواجدون الآن: 91