.. لكنْ ما هي الشعبوّية ومَن هو الشعبويّ وكيف يدار الصراع ضدّهما؟

تاريخ الإضافة الجمعة 1 أيلول 2017 - 6:46 ص    عدد الزيارات 1720    التعليقات 0

        

.. لكنْ ما هي الشعبوّية ومَن هو الشعبويّ وكيف يدار الصراع ضدّهما؟

الحياة...حازم صاغيّة

لم يُستعمل تعبير «شعبويّ» كما استُعمل في السنوات القليلة الماضية. فقد ورد بمعنى مناهضة «المؤسّسة» و «النخبة»، في معزل عن المضمون السياسيّ لتلك المناهَضة. هكذا اندرج في «الشعبويّة» دونالد ترامب ومارين لوبن وغيرت فيلدرز، وكذلك بيرني ساندرز و «سيريزا» اليونانيّة و «بوديموس» الإسبانيّة، فضلاً عن هوغو شافيز وإيفو موراليس وسواهما. وهو ما يحيل، في نظر الألمانيّ جان-فيرنر مولر، الأستاذ في برينستون، إلى الأمزجة والعواطف أكثر ممّا يحيل إلى المضمون. ومؤلّفنا، في كتابه «ما الشعبويّة؟» (منشورات جامعة بنسلفانيا)، إنّما يرفض بالقطع ما يسمّيه الموقف الليبراليّ الأبويّ الذي يبدو له أشبه باقتراح العلاج النفسيّ للمواطنين الذين جرفتهم الشعبويّة، لأنّهم «غاضبون» و «محبطون»، فيما ينبغي، في المقابل، حمل غضبهم ومخاوفهم على محمل الجدّ. فالاستعلاء عليهم أو استثناؤهم من النقاش العامّ إنّما يستجيب بالضبط رغبة الشعبويّين في أن يُستثنوا أو أن يُستعلى عليهم. وفي سياق كهذا لا بدّ من التحفّظ حيال الإفراط في التعويل على التحليلات التي تتناول التعابير المشحونة، كالإحباط والغضب والتذمّر. ذاك أنّ التعاطي مع الشعبويّين بصفتهم حالات نفسيّة يغيّب الواجب الديموقراطيّ الأساس الذي هو مشاركتهم النقاش بهدف عقلنة الأشياء وبلورة الأسئلة، ثمّ الحلول، على نحو أفضل. على العكس تماماً، يميل الاستبعاديّون والاستعلائيّون إلى تكرار الخطأ الذي ارتكبه بعض أسلافهم في القرن التاسع عشر ممّن أقلقهم توسيع حقّ الاقتراع. أمّا حجّتهم في ذلك فكانت أنّ الجماهير، بسبب «عاطفيّتها الشديدة»، تعجز عن التصويت على نحو مسؤول. على أنّ العودة، مرّة بعد أخرى، إلى التحليل شبه النفسيّ فسببه أنّنا، بوعي منّا أو لا وعي، لا نزال نبني على فرضيّات مستمدّة من نظريّات التحديث التي بلغت ذروة نفوذها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. فمثقّفون ليبراليّون كدانيال بِل وإدوارد شِلز وسايمور مارتن لِبْست، كلّهم تفرّعوا من ماكس فيبر، كانوا قد شرعوا في الخمسينات يصفون ما اعتبروه «شعبويّة» كغضب يمارسه متشوّقون إلى حياة أبسط و «ما قبل حديثة»، وكعجز وفشل. صحيح أنّ المكارثيّة كانت الهدف المباشر الذي قصده هؤلاء، إلاّ أنّ انتقاداتهم كانت تمتدّ لتطاول بعض حركات الاحتجاج الاجتماعيّ الأسبق عهداً في أميركا التي سُمّيت خطأً بالشعبويّة.

لكنْ ألا يحمل هذا التخليط قصوراً في المحاكمة السياسيّة نفسها؟

في المعنى هذا يحاول الكتاب الذي يمكن تصنيفه «ليبراليّاً إلى اليسار»، تبديد بعض القصور المذكور. فلأنّه ما من «نظريّة» في الشعبويّة، وما من سياسيّ إلاّ يهمّه أن يخاطب الشعب ويصل إليه، يغدو من المحتمل، وهذا خطير بما يكفي، أن تلوح «تهمة» الشعبويّة هي ذاتها شعبويّة؟

معاني المعنى

والمؤلّف يصرف أكثر من ثلث كتابه على تبيان التناقضات المترتّبة على الاستخدام الراهن للمصطلح. وهو لئن لم ينكر أهميّة العداء للنُخب وللمؤسّسة، فإنّه اعتبر المعيار هذا غير كافٍ لأنّه يصم كل من ينقد الوضع القائم شعبويّاً، علماً بأنّ أوضاعاً كثيرة قائمة لا تستحقّ النقد فحسب، بل تستحقّ النقض أيضاً. فعند مولر أنّ أهمّ ما في الشعبويّة هو عداؤها للتعدّديّة، وزعمها أنّها هي وحدها ما يمثّل الشعب «الحقيقيّ». لقد أعلن رجب طيّب أردوغان مثلاً في مؤتمر حزبيّ انتقد فيه نقّاده: «نحن الشعب، من أنتم؟». كذلك صرخ نايجل فاراج، بعد بريكزيت، أنّ النصر تحقّق لـ «الشعب الحقيقيّ»، طارداً من خانة الجماعة السياسيّة وعضويّتها 48 في المئة من البريطانيّين الذين صوّتوا ضدّ بريكزيت. وزعمُ التمثيل الحصريّ ليس عملاً تجريبيّاً، بل هو دائم وأخلاقيّ وغير قابل للقياس. ذاك أنّ الشعبويّين حين يخوضون الانتخابات، يصوّرون منافسيهم على أنّهم نخبة فاسدة، وحين يتسنّى لهم أن يحكموا، فإنّهم يرفضون الاعتراف بشرعيّة أيّة معارضة تواجههم. فزبدة المنطق الشعبويّ، إذاً، هي أنّ من لا يؤيّدنا ويوافقنا الرأي ليس من الشعب. ومن دون أن تكون كلّ سياسات الهويّة شعبويّة، تغدو السياسة الشعبويّة، في تقسيمها الشعب، شكلاً من سياسات الهويّة. وهذا مصدر تهديدها الأبرز للديموقراطيّة التي تتطلّب الاعتراف بشروط عادلة لعيشنا معاً كمواطنين أحرار متساوين، ولكنْ أيضاً متنوّعين ومختلفين. ففكرة الشعب الواحد والمتجانس لا تعدو كونها فانتازيا، والشعب، وفقاً ليورغن هابرماس، لا يحضر إلاّ في صيغة الجمع. لكنّها فانتازيا خطيرة لأنّ الشعبويّين لا يكتفون بالحضّ على الاستقطاب، بل لأنّهم بالضبط يعاملون خصومهم بصفتهم «أعداء الشعب»، محاولين عزلهم. والحال أنّ ضعف التعريف ليس جديداً. ففي 1969، كتب إرنست غيلنر وغيتا يونيسكو، حاذيين حذو السطر الأوّل من «البيان الشيوعيّ»: «هناك شبح يؤرّق العالم: الشعبويّة»، في مقدمةٍ وضعاها لكتاب أعدّاه. الكتاب ارتكز على أوراق قُدّمت في مؤتمر انعقد في لندن حمل عنوان «كي نعرّف الشعبويّة»، وهو التعريف الذي لم يتّفق عليه المؤتمرون. وكوننا لا نزال عاجزين عن تعريف المفهوم، فهذا يجدّد السؤال عن المفهوم نفسه. ففي أواخر الستينات، ظهرت «الشعبويّة» في سجالات تتناول نزع الاستعمار ومستقبل «النزعة الفلاّحيّة» واحتمالات تطوّر الشيوعيّة عامّةً والماويّة خصوصاً. واليوم يبدي الليبراليّون قلقهم حيال ما يرونه وقوعاً متزايداً للجماهير في براثن الشعبويّة والقوميّة. وهناك منظّرون للديموقراطيّة يؤرّقهم صعود ما يعتبرونه «تكنوقراطيّة ليبراليّة» هي نخبة خبراء لا تتجاوب مع رغبات المواطنين، بحيث تتبدّى الشعبويّة، بلغة العالم الاجتماعيّ الهولنديّ كاس مود، «استجابة ديموقراطيّة غير ليبراليّة لليبراليّةٍ غير ديموقراطيّة». في الولايات المتّحدة تختلط الشعبويّة غالباً بفكرة اليساريّة «المساواتيّة» في مواجهة الحزب الديموقراطيّ الذي أصبح وسطيّاً. أمّا في أوروبا فتنهض ضدّ التكنوقراط أساساً. وفي أميركا أيضاً ثمّة من يتحدّث عن «شعبويّة ليبراليّة»، بينما يبدو تعبير كهذا متناقضاً ذاتيّاً في أوروبا، تبعاً لاختلاف التأويل على جانبي المحيط. وتعظيماً للالتباس، ظهرت بعد أزمة 2008 الماليّة حركات كـ «حفلة الشاي» و «احتلوا وول ستريت» وُصفت بالشعبويّة، وهو ما عزّزته انتخابات 2016 حين نُعت كلّ من ترامب «اليمينيّ» وساندرز «اليساريّ» بالشعبويّة إيّاها، لأنّهما مناهضان للمؤسّسة ومسوقان بـ «الغضب». ثم إنّ هناك ترابطاً مديداً بين «الشعبويّة» ووجود دَين عامّ كبير ومتراكم، الأمر الذي لازم النقاشات التي دارت حول «سيريزا» و «بوديموس» اللتين صُنّفتا «شعبويّتين يساريّتين».

أليس في الأمر إذاً شيء من فوضى المفاهيم؟

العداء للتعدّد

جوهر المسألة، عند مولر، هو العداء للتعدّد المرتكز على معرفة وحقيقة متعاليتين. وضدّاً على هذا التعالي كما يمارسه «عارفون» بمصالح الشعب وإرادته، والذي اشتُهر به بعض كبار المثقّفين الأوروبيّين، الفاشيّين منهم والملكيّين والقوميّين– الدينيّين، أصرّ القانونيّ والمنظّر الديموقراطيّ هانس كِلسِن على الذهاب بعيداً في النسبيّة والتجزيء: فحتّى إرادة البرلمان ليست «الإرادة الشعبيّة» التي يكاد يستحيل التعرّف بدقّة إليها. إنّ كلّ ما يسعنا التحقّق منه، والحال هذه، هو نتائج الانتخابات النيابيّة. أمّا كلّ شيء آخر، خصوصاً الوحدة العضويّة لـ «الشعب» ومصالحه المتعالية على الأحزاب، فمجرّد «أخاديع ميتا- سياسية». ذاك أنّ الهويّة «الحقيقيّة»، وليس العدد الأكبر، هي التي يُحسب حسابها لدى الشعبويّين، استناداً إلى جوهر رمزيّ ما. فحين تأتي نتائج الانتخابات معاكسة لهواهم تكون هذه النتائج مصابة بخلل يضرب جوهر الأشياء المستقيمة، هذا إن لم تكن ببساطة نتيجة خرق وتزوير. أمّا القول بأنّ الشعبويّين يطالبون دوماً بالاستفتاءات، فهذا لا يتعلّق بطبيعة الاستفتاء كاستشارة للشعب، بقدر تعلّقه برفض إشراك الشعب بشكل منتظم في السياسة. فالاستفتاء، إذاً، تصديق على آخر ما اكتشفه القائد بوصفه مصلحة للشعب أو تكشّفاً لجوهره. وهذا كلّه ينتهي إلى خفض الحاجة إلى السجال، وتالياً إلى المؤسّسات الديموقراطيّة الوسيطة بين السياسيّ والجمهور. فإذا كان «تويتر» ترامب فاقع الدلالة على علاقة لا تتوسّطها مؤسّسات، فإنّ ضعف النقاش داخل الأحزاب الشعبويّة يقول الكثير: فالراديو الهنغاريّ يجري مقابلة أسبوعيّة مع أوربان، وقبله اشتُهر شافيز ببرنامج تلفزيونيّ («آلو رئيس»)، حيث كان أحياناً يعطي توجيهاته للوزراء (مرّة طلب على الهواء من وزير دفاعه أن ينقل دبّابات إلى الحدود مع كولومبيا). كذلك أنشئت برامج تلفزيونيّة لموراليس ورافاييل كوريّا. ومن جهة أخرى، سبق أن فكّر غيرت فيلدرز ومنظّره مارتن بوسما في تجنّب إنشاء حزب سياسيّ قبل أن تجبرهما القوانين الانتخابيّة على ذلك، لا سيّما أنّ الحزب، بمعناه العميق، يفترض تجزئة الشعب، وهما طبعاً ينظران إليه كأفكار جوهريّة ووحدة صخريّة. وعند الشعبويّين، يسير يداً بيد التوحيد الصخريّ في الأفكار مع العزل والنبذ في الواقع: فالأمّة عظيمة وواحدة لا تنشطر إلى أحزاب «تفرّقنا»، مع هذا فإنّ نصف أبنائها عملاء وجواسيس!

الشعبويّ حاكماً

أمّا حين يحكم، فتحظى حاكميّة الشعبويّ بسمات ثلاث:

- احتلال الدولة عبر توظيف الأتباع في وظائف بيروقراطيّة عامّة، والتدخّل خصوصاً في الإعلام والقضاء.

- الزبونيّة على نطاق جماهيريّ، والتي تتّخذ أحياناً شكل الرشوة الماليّة، وهو ما تسهّله الديموقراطيّة المباشرة التي تزيل الوسائط التمثيليّة والمؤسسيّة. هنا، مثلاً، يبرز استخدام شافيز عائدات النفط، أو تصرّف ساسة شعبويّين في أوروبا الوسطى بمساعدات الاتّحاد الأوروبيّ، أو علاقة الانتفاع التبادليّ بين أردوغان والطبقة الوسطى الأناضوليّة.

- القمع الممنهج للمجتمع المدنيّ، خصوصاً المنظّمات غير الحكوميّة التي تنتقد التمادي الشعبويّ في ممارسة السلطة. فالنقد هذا يثير مشكلة أخلاقيّة ورمزيّة مفادها تهديد مزاعم الحكّام الشعبويّين في تمثيلهم الأخلاقيّ الحصريّ للشعب. لهذا ينبغي تأكيد عدم انتمائهم إلى هذا الشعب، وعمالتهم للأجانب، كما يفعل فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان.

وقد يفعل حكّام غير شعبويّين الشيء نفسه في هذا الوقت أو ذاك، لكنّ الشعبويّين يبرّرون الأمر بزعمهم التمثيل الحصريّ للشعب، ولروحه، ما يتيح لهم أن يعلنوا بصراحة، إن لم يكن بجرأة، عن أفعالهم. وهذا ما يفسّر لماذا لا يضعفهم انكشاف فسادهم: فحزب الحرّيّة النمسويّ وعصبة الشمال الإيطاليّة أشدّ فساداً بكثير من النخب التي ينتقدانها، لكنّ ذلك لم يحدّ من قوّتهما الشعبيّة، كما أنّ فضائح الفساد لم تهزّ عرش أردوغان. فهم، في نظر أتباعهم، «يفعلونها لأجلنا... نحن الغلابة»، أو «نحن الشعب العظيم»، لا فرق. ثمّ إنّ ما يفعلونه صغائر وتفاصيل قياساً بمجد الأمّة الذي يمثّلون، أو التآمر الداخليّ والخارجيّ الذي يتصدّون له. فما يأخذه الشعبويّون على النخبة القديمة، المتّهمة بتمييز نفسها عن الشعب، هو بالضبط ما يفعلونه أضعافاً مضاعفة وبلا أيّ وخز في الضمير أو تعرّض للمحاسبة. والشعبويّون قد يضعون دساتير، كما في فنزويلا وهنغاريا، وهذا ما يجافي الصورة الشائعة عنهم بوصفهم لا يطيقون القيود على حركتهم. لكنّ الواقع أنّهم لا يرغبون في تلك القيود إلاّ حين تعمل بطريقة فئويّة. فبدل اشتغالها كأدوات لتعطيل التفرّد وحفظ التعدديّة، فإنّها تشتغل بالعكس تماماً. وقد يريح بعضَ نقّاد الشعبويّة المتسرّعين الاعتقادُ أنّها لا بدّ أن تفشل في الحكم لأنّها فانتازيا، ولأنّها اعتراض، فكيف يحكم من يعترض على الحكم؟ لكنّ هذا التقدير ينطوي على شيء من المخادعة. ذاك أنّهم حين يفشلون في السلطة سيكون في وسعهم أن يردّوا فشلهم إلى النخبة نفسها التي هاجموها حين كانوا في المعارضة: إنّها تتآمر في الداخل أو في الخارج، ما يضيء على علاقة الشعبويّة بنظريّات المؤامرة. وبدورهم، يمضي الحكّام الشعبويّون في التصرّف كأنّهم ضحايا. فشافيز لم يكفّ عن اتّهام معارضيه بالتآمر، وحين لم يبدُ هذا كافياً، أمكنت الاستعانة دوماً بالولايات المتّحدة الأميركيّة. أمّا أردوغان الذي أمسك بخيوط السلطة كلّها، فما زال يتحدّث كمناضل إسلاميّ يتصدّى، في أحياء إسطنبول الشعبيّة، لمؤامرات المؤسّسة الكماليّة و «من يقف وراءها». وفي مناخ كهذا لا بدّ من تحضير المواطنين، وباستمرار، للاستقطابات الحادّة والمواجهات الرؤيويّة، من غير الكفّ عن أخلَقة النزاع السياسيّ: فبوش، مثلاً، «شيطان» لشافيز، وهؤلاء طبعاً أعداء الشعب كلّه لا يصنعون له إلاّ الأزمات والمخاطر الوجوديّة التي تبرّر للشعبويّ ممارسة الحكم اعتباطاً.

ديموقراطيّات غير ليبراليّة؟

لكنْ لماذا لا يتخلّى الحكّام الشعبويّون عن الانتخابات، ويُخرجون خصومهم كلّياً من اللعبة؟

فهم قد يغيّرون النظام الانتخابيّ أو يمارسون ضغوطاً على الإعلام، لكنّهم لا يقطعون كلّيّاً مع الديموقراطيّة. أغلب الظنّ أنّهم ربّما فكّروا بالكلفة الباهظة للسلطويّة الكاملة والسافرة: فالسمعة الدوليّة تتردّى، والحرمان من معونات عسكريّة، كما في حالتي مصر وتايلندا، يوضع على الطاولة. واقع كهذا، يراه البعض متناقضاً، هو ما أغرى بتسمية أنظمتهم ديموقراطيّات غير ليبراليّة. لكنّ هذه التسمية، وفقاً للمؤلّف، مضلّلة ولا تساعد على الحدّ من أضرارهم. فهي تتيح لهم أن ينسبوا سلطاتهم إلى ديموقراطيّة ما، حتّى لو لم تكن ليبراليّة، مع أنّ ما يدمّرونه هو الديموقراطيّة بالذات من خلال ثنائيّة: نحن الشعب وهم أعداء الشعب. ففي هنغاريا اليوم، كلّ من ينتقد الحكومة ودستورها الموضوع في 2012 إنّما ينتقد الوطن، وفقاً لمقدّمة هذا الدستور المسمّاة «المعتقَد القوميّ». ونجدنا أمام صياغة دستوريّة بالغة الغرابة للشعب الهنغاريّ بصفته أمّة ملتزمة بالعيش والصمود في عالم مُعادٍ، كأمّة مسيحيّين صالحين وكمجموعة إثنيّة يمكن تمييزها بوضوح عن أقليّات «تعيش مع» الهنغار الحقيقيّين. أي أنّه وفقاً للقانونيّ الألمانيّ دياتر غرِمّ، «دستور استثنائيّ» أو فئويّ. فهو استبعد أحزاب المعارضة لأنّها لم تشارك في كتابة الدستور أو تمريره، لكنّه استبعدها أيضاً لأنّ أهدافها السياسيّة ليست قابلة للتحقّق ما دام الدستور نفسه يستبعدها!

هذا لا يعني أنّ الأمور ستسير دائماً وفق ما يرغب الشعبويّون. فما دامت هناك انتخابات تُجرى بالحدّ الأدنى من إتاحة الفرصة للمعارضة، فالتعدديّة لن تختفي كليّاً. حينذاك قد يتأدّى عن الدساتير الشعبويّة مآزق وصراعات دستوريّة: ففي فنزويلا، أواخر 2015، حقّق الائتلاف المعارض انتصاراً كبيراً بإحرازه أكثريّة كافية لتغيير الدستور. في البداية هدّد مادورو بأنّه سيحكم بلا برلمان (لكنْ مع الجيش طبعاً)، لكنّه أيضاً فعل كلّ ما يمكن للتشكيك بشرعيّة انتخاب نوّاب ثلاثة يؤدّي إلغاء نيابتهم إلى خفض الأكثريّة المعارضة عن الحدّ الذي يتيح لها تغيير الدستور. صلاحيات السلطة التنفيذيّة التي سبق أن وسّعها شافيز كثيراً في «دستوره»، زاد مادورو في توسيعها حتّى صار في إمكانه تعيين وعزل مديري البنك المركزيّ من دون طرح الأمر على البرلمان. لكنّ ذلك لم يكن كافياً، فحاول أن ينشئ نوعاً من برلمان مضادّ على شكل «برلمان الكوميونات» (وهو ما فعله ثانيةً أخيراً)، وذلك تكراراً لما سبق أن قام به شافيز لتوليد شرعيّة موازية للبرلمان، إذ أنشأ ما أسمي الدوائر البوليفارية، وقد فشل فيه. بمعنى آخر، فالدساتير الشعبويّة إنّما توضع للحدّ من قوّة غير الشعبويّين حتّى حين يكون هؤلاء في الحكم. عندذاك يصبح الصراع حتميّاً إذ يكفّ الدستور عن كونه إطاراً للسياسة ويجري التعامل معه كمجرّد أداة فئويّة للسيطرة على الحياة السياسيّة. لقد شاع تعبير «ديموقراطيّة غير ليبراليّة» منتصف التسعينات، كوصف للأنظمة التي تُجري انتخابات لكنّها لا تتقيّد بحكم القانون كما تخلّ بالضوابط والتوازنات الكابحة للسلطة والتي ينجم عن اشتغالها توسيع للحقوق. والمعروف أنّه بعد سقوط المعسكر الاشتراكيّ، ما إن خفت الصراخ الديموقراطيّ، حتّى أجريت انتخابات وضعت حكم الأكثريّة وحكم القانون في تعارض. فالأكثريّات المنتخَبة قمعت الأقليّات وهددت بعض الحقوق الأساسيّة. هذا الانفصال المفهوميّ بين الليبراليّة والديموقراطيّة ليس جديداً، ولطالما أكّده نقّاد ماركسيّون ويمينيّون، زعموا التمسّك بديموقراطيّة ما فيما نبذوا الليبراليّة. وهذا غالباً ما وازاه انشطار مفهوميّ آخر بين الشعب والنتائج التجريبيّة للانتخابات واستقصاءات الرأي العامّ. وأخيراً جادل نقّاد «هيمنة الليبراليّة»، خصوصاً المنظّرة اليساريّة شانتال موفّ، بأنّ الفكر الليبراليّ «العقلانيّ» رفض شرعيّة الصراع والاختلاف ممّا هو في أساس الديموقراطيّة، وتخلّت أحزاب الاشتراكيّة الديموقراطيّة عن توفير بديل للنيوليبراليّة آخذةً بـ «الطريق الثالث». هكذا تعزّزت القناعة بأنّ الخيار الانتخابيّ صار كالخيار بين الكوكا والبيبسي. فالتلاقي حول «الطريق الثالث» واللهاث وراء الإجماعات، مما يمكن التدليل على مصادره عند جون راولز وهابرماس، إنّما استثار حركات قويّة في مناهضة لليبراليّة أخصّها وأبرزها اليمين الشعبويّ. والكثير من هذا النقد، على عكس الانتقادات القديمة اليساريّة واليمينيّة الأقرب إلى التعالي الجوهريّ، وجيه. ذاك أنّ الفئات الفقيرة والضعيفة التي أدارت ظهرها للديموقراطية إنّما سبق للديموقراطيّة أن أدارت ظهرها لها. بيد أنّ الانتباه إلى المسألة الاجتماعيّة شيء واستخدامها للتشكيك بوجود الشعبويّة (التي «اختُرعت» كي لا تُمسّ الرأسماليّة!) شيء آخر. والحال أنّ لقاء الليبراليّة والرأسماليّة المطلقة، بعد أزمة 2008، حرّض على ظهور أشكال مختلفة منسوبة إلى الديموقراطية: أردوغان قدّم نفسه كـ «محافظ ديموقراطيّ»، وأوربان دعا إلى «دولة غير ليبراليّة»، ثمّ مع موجة اللجوء والهجرة الواسعين، أعلن نهاية زمن «طقّ الحنك» الليبراليّ في أوروبا، لأنّ القارّة ستلتفّ حول رؤيته «المسيحيّة والقوميّة». وبات في وسع هؤلاء القول: إنّنا إذاً ديموقراطيّون، وهذا من نتاجات الدولة-الأمّة، لكنّنا لسنا ليبراليّين، وهذه من نتاجات الاتّحاد الأوروبيّ أو طرف خارجيّ ما سيّء النيّات حيال الأمّة والشعب. وهذا لا يستبعد وجود ديموقراطيّة غير ليبراليّة، إلاّ أنّه لا يجوز وصف الشعبويّين بها. فعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، سمّى مسيحيّون ديموقراطيّون كثيرون أنفسهم «غير ليبراليّين»، لكنّ ذلك لم يجعلهم يتجاهلون حقوق الأقليّات السياسيّة، كما أقرّوا بأنّ الأقليّات قد تغدو، هي نفسها، أكثريّات في انتخابات مقبلة. لا بل عرف هؤلاء تمام المعرفة معنى عدم حماية الأقليّات من الأقوياء: ألم يكن الكاثوليك أنفسهم ضحايا حملات ثقافيّة عدوانيّة شنّتها دول علمانيّة، كحالهم مع «الكفاح الثقافيّ» البسماركيّ أواخر التاسع عشر؟ ثمّ أنّهم لم يعتبروا المؤسّسات غير المنتخبة، كالمحاكم، غير ديموقراطيّة. ذاك أنّهم يعملون أنّ مبدأ السيادة الشعبيّة من دون قيد قد يسيء إلى الأقليّات الدينيّة. هؤلاء نبع موقفهم من مماثلتهم بين الليبراليّة وبين الفرديّة والماديّة، وغالباً الإلحاد. فمثلاً، جاك ماريتاين، الفيلسوف الفرنسيّ الكاثوليكيّ، جادل بأنّ الديموقراطيّة يمكن تعزيزها على أرضيّة الوعي والسلوك الكاثوليكيّين مع التمسّك برفض الليبراليّة. ولمفكّرين كهؤلاء لا تعني مناهضة الليبراليّة نقصاً في احترام الحقوق السياسيّة الأساسيّة والتعدّد الديموقراطي. فإذا كان مشروعاً السجال ضدّ تضييق هذا الصنف من الديموقراطيّة لبعض الحقوق، كالطلاق والإجهاض، فذلك لا يجعله غير ديموقراطيّ. وربّما جاز، والحال هذه، الكلام عن مجتمعات محافظة وغير ليبراليّة تستنهض ديموقراطيّات محافظة كهذه. أمّا مع الشعبويّين، فنحن حيال هجوم شرس ومتواصل على حريّات التعبير والاجتماع وتعدديّة الصحافة وحماية الأقليّات وحياديّة القضاء. وحقوق وضمانات كهذه لا تتعلّق فحسب بالليبراليّة، بل هي تأسيسيّة للديموقراطيّة ذاتها. فحتّى لو لم تُزوّر الانتخابات، سيكون غير ديموقراطيّ أن لا تستطيع المعارضة إعلان رأيها وألاّ تستطيع الصحافة تغطية الانتخابات بحرّيّة. هكذا فالمسألة مع الشعبويّين ليست نوعيّة ديموقراطيّتهم، بل عدمها. إنّها تحطيمهم للديموقراطيّة من أجل خلطة من قوميّة ثقافيّة وسياسات سلطويّة وعداء للسوق.

بين الثوريّة والشعبويّة

لكنْ هل تنطبق هذه الشعبويّة على كل مزاعم تمثيل «الشعب»، كتلك التي عبّرت عنها تظاهرات ميدان التحرير في القاهرة أو تظاهرات برلين الشرقيّة في 1989؟ لا. فالشعار هذا شرعيّ جدّاً في مواجهة أنظمة تقول إنّها هي وحدها الشعب، وتستثني الآخرين. إنّ «نحن الشعب» في أنظمة كتلك زعمٌ ثوريّ مبرّر، بل مناهض للشعبويّة. فـ «نحن الشعب» و «الشعب يريد» ينطويان، في هذه الحال، على معنى «نحن أيضاً الشعب» و «الشعب، الذي هو نحن، أيضاً يريد». وهذه المخاطبة لا تلغي اشتراك الخصوم في الشعب، كما لا تطوّر أفكاراً في العزل والاستثناء اللذين يتجاوزان الأشخاص المسؤولين عن أسوأ اقترافات العهد البائد. إنّ أصحابها لا يعزلون فئة أو جماعة أو طبقة أو حركة، بل يؤسّسون، في المقابل، لتحوّلهم حركة سياسيّة ذات وعي متجانس، حركةً لا يعفيها الصواب المفترض لموقفها السياسيّ من خوض الانتخابات والتنافس على قدم المساواة مع الآخرين على السلطة. وهذا ما يجافي كلّيّاً شعبويّات الأمّة التي لا تنقسم ولا تنشقّ فيما تلفظ من جسدها حفنة من المخرّبين. إنّ الإقبال على الشعبويّة لا يُفهم من دون ما أسماه نوربيرتو بوبيو الوعود المكسورة للديموقراطيّة. فهناك غياب الديموقراطيّة الحزبيّة بعدما كانت الأحزاب تتوسّط بين المجتمع التعدديّ والنظام السياسيّ. ويلاحَظ اليوم أن الشعبويّة تكون أقوى حيث تكون الأحزاب أضعف، أو حيث تضعف بعد قوّة. لقد جاء سيلفيو بيرلوسكوني، مثلاً، نتاجاً لانكسار النظام الحزبيّ لما بعد الحرب الثانية في إيطاليا. ثم إنّ الديموقراطيّة تفتقر بالفعل إلى حلّ للمشكلة التي تتبجّح الشعبويّة بأنّها تملك الحلّ لها، أي مشكلة رسم حدود الشعب. فإن لم تدفع الديموقراطيّة الليبراليّة باتّجاه المساواة في المواطنة على نطاق كونيّ فستبقى حجّتها ضعيفة في مواجهة الصورة التي يقدّمها الشعبويّون عن الشعب، والتي يتخلّل وحدتَها الفانتازيّة قدر كبير من مراتبيّة الاستثناء والاستبعاد. وعلى العموم، سيكون من الخطأ التغطية على الافتقارات الديموقراطيّة بمقاطعة الشعبويّين ورفض التعاطي معهم ما داموا يعملون ضمن إطار القانون ولا يحضّون على العنف. ذاك أنّه ينبغي الكلام «مع» الشعبويّين، لا مجرّد الكلام «عنهم»، لأنّ هذا يهدّد بجعل المتكلّم يتكلّم «مثلهم». وفي هذا الإطار لا بدّ من الإقرار بوجود المشاكل التي يطرحونها مع توكيد الاختلاف عنهم في طريقة طرحها وفي الحلول المقدّمة لها. ولا بدّ تالياً من التفاعل على مستوى رمزيّ مع بعض ما يقولون ويفعلون. بهذا يخاطب الديموقراطيّون فئات كانت مستبعدة تولّى القادة الشعبويّون وضعها في الضوء والمنظوريّة السياسيّين. فموراليس وأردوغان لا تكفي شعبويّتهما المؤكّدة لتجاهل إنجازاتهما على هذا الصعيد: ذاك أنّ الأوّل دافع عن السكّان الأصليّين لبوليفيا الذين أُبقوا طويلاً خارج العمليّة السياسيّة، فيما كان الثاني ديموقراطيّاً حين دافع عن مؤمني الأناضول في مواجهة الصدّ العلمانيّ والكماليّ المزمن لإشراكهم في السياسة. ويتقدّم مولر خطوة أبعد مدافعاً عن الحزب الشعبويّ الأميركيّ في القرن التاسع عشر (ومعادله النارودنيّ الروسيّ) بصفته حزباً زراعيّاً لا شعبويّاً. فأزمة القطاع الزراعيّ حينذاك هي التي قادته إلى رفع ظلاماته وتمثيل مصالح ذاك القطاع وتوحيد مواطنين بيض وسود وراء أهدافه، وهذا من دون زعمه تمثيل الشعب كلّه. فطروحاته إذاً سياسيّة تفضي، في حال تحقّقها، إلى توسيع قاعدة الديموقراطيّة. فإذا انتقلنا إلى يومنا واجهَنا، في الولايات المتّحدة، سببان يقفان وراء التعاطف الشعبيّ مع الشعبويّة: أوّلهما خليط من تحوّلات ثقافيّة وقيميّة باتّجاه ليبراليّ مصحوبة بتغيير في التركيب الإثنيّ للسكّان، والثاني أزمة اقتصاديّة طاحنة. أمّا السبب الأوّل فليس من المبالغة القول إنّ أميركا قادرة على أن تهضمه وتتكيّف معه، وتاريخها يشهد لها بهذه القدرة. ما لن يكون في المستطاع التسامح معه هو البؤس الذي بات يطاول الملايين ويطحنها. ومن هنا تنبع أهميّة بيرني ساندرز وبرنامجه، هو الذي لا يصحّ فيه وصف الشعبويّة بالمعنى الذي يقترحه المؤلّف. في المقابل، فإنّ الثقافة السياسيّة في أوروبا، وبسبب التجربة الفاشيّة وردّاً عليها، استدخلت حذراً مبالغاً فيه من نظريّات السيادة الشعبيّة وممارساتها. وهذا ما جعل كلّ نقد للتكنوقراط والمؤسّسة يبدو شعبويّاً أو يوصم كذلك. وهنا أيضاً لا يبدو النقد دقيقاً لأنّ الشعبويّ هو فحسب ذاك الذي يجوهر فكرة الشعب فيما يلفظ بعضه، «العميل والمتآمر»، عن هذا الشعب. ربّما كان تمريناً مفيداً (ومسلّياً) أن نطبّق اليوم هذه القراءة على الواقع العربيّ عموماً، واللبنانيّ خصوصاً.

 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,777,023

عدد الزوار: 6,914,462

المتواجدون الآن: 103