تأملات حول التطرف الديني والإسلاموفوبيا في الصين

تاريخ الإضافة الخميس 31 آب 2017 - 6:46 ص    عدد الزيارات 1168    التعليقات 0

        

تأملات حول التطرف الديني والإسلاموفوبيا في الصين

الحياة...شوي تشينغ قوه

* باحث في الشؤون العربية - جامعة الدراسات الأجنبية ببكين. والنص هو كلمته في «ندوة الحوار بين الحضارتين العربية والصينية واجتماع المائدة المستديرة لمواجهة التطرف» التي عقدت في مدينة تشنغدو الصينية في 17 آب (أغسطس) 2017.

الإسلام دين عظيم بلا شك، وفي القرآن الكريم والأحاديث النبوية تعاليم كثيرة تحض المسلمين على الالتزام بمبادئ الاعتدال والتسامح والسلام والمساواة وغيرها من القيم السامية والنبيلة، كما أن التاريخ الإسلامي حافل بروايات ووقائع تجسد هذه المبادئ والقيم، ولا شك في أن هذه التعاليم والممارسات هي التي مكّنت المسلمين من خلق حضارة إنسانية عظيمة تعم فوائدُها البشرية جميعاً حتى يومنا هذا.

لذلك، فإنني، أنا الذي أمضيت أكثر من 30 سنة في بحوث وترجمة وتعليم الحضارة العربية الإسلامية في الصين، أضم صوتي بقوة إلى أصوات زملائي الصينيين والعرب في دعوة إلى مواجهة التطرف ورفض الإسلاموفوبيا. وفي الوقت ذاته، أعتقد أن حقيقة الدين بقدر ما تكمن في نصوصه وتعاليمه تتجسد أيضاً في ممارسات أتباعه، لذلك، أرى أن أفضل وسيلة لنشر صورة مشرقة وحضارية وتقدمية لدين الإسلام أمام شعوب العالم، هي بناء مجتمعات إسلامية تتحلى بسمات مشرقة وحضارية وتقدمية. أما التطرف والانغلاق والتخلف والتصارع وغيرها من السلبيات، فهي لا تتعارض مع قيم الإسلام الحنيف فحسب، بل توفر وقوداً لتفشي ظاهرة الإسلاموفوبيا في أنحاء العالم. وعند الحديث عن الإسلام في الصين، أحب أن أقتبس سطوراً مما كتب أشهر رائدين في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الصين الحديثة، وهما عالمان مسلمان درسا في الأزهر الشريف 9 سنوات في مطلع القرن الماضي، أحدهما أستاذي البروفسور عبدالرحمن ناتشونغ، الفائز بجائزة الشارقة للثقافة العربية عام 2001، وقد كتب ما يلي في افتتاحية لمجلة إسلامية صدرت عام 1929 عن المقارنة بين واقع المسلمين والغربيين آنذاك: «في الفكر، يسعى الغربيون إلى الانفتاح والتجدد، أما نحن، فوقعنا أسرى للمحافظة والانغلاق، وفي التعليم يبتغون التجديد والإصلاح لملاءمة الظروف الجديدة وشخصيات الأفراد، أما نحن، فتشبثنا بالتقاليد البائسة وسبحنا ضد التيار العالمي، وفي العلم يتبحرون في العلوم ويبتكرون في فروعها لمواكبة روح العصر ومستجدات الحضارة، أما نحن فاكتفينا بالدروس الشرعية والمناهج الدينية مهملين كل التيارات العصرية. صحيح أن الصلاة والصيام وغيرهما من الأركان والطقوس الدينية هي واجبات مهمة على كل مسلم الالتزام بها، ولكنها في النهاية أمور شخصية للمسلم، ولا يمكن بمكان حصر الإسلام في هذه الأمور فقط». والاقتباس الثاني للأستاذ محمد مكين، بروفسور كبير في جامعة بكين وصاحب أكثر الترجمات الصينية أمانة وجمالاً لمعاني القرآن الكريم. كان قد ألقى محاضرة في القاهرة عام 1934 عن واقع الإسلام في الصين، أشار فيها إلى أن أسباب تخلف المسلمين في الصين هي الجهل والانقسام الداخلي والفقر. أما الجهل، فيكون على مستويين على حد قوله: أولاً الجهل بالثقافة الصينية والعلوم الحديثة، إلى حد أن بعض رجال الدين لا يتقنون على القراءة والكتابة باللغة الصينية، وبعضهم الآخر يزعم أن معرفة الثقافة الصينية والعلوم الحديثة ستفسد إيمانه الديني. ثانياً، الجهل بمبادئ الإسلام، إذ كانوا يَغرقون في جدالات حول جزئيات تافهة لا تجدي نفعاً، مثلاً: هل ينبغي للإمام خلع الحذاء عندما يصلي على الميت؟ وهل إطلاق اللحية واجب ديني للمسلم؟ وهل يحق للمسلمة إطلاق الشعر الطويل؟ وهل يجوز للمسلم أن يتاجر في شعر الخنزير؟ بل تدفعهم هذه الجدالات إلى العداوة والاقتتال في بعض الأحيان. إذا كان هذا هو واقع المسلمين في الصين قبل أقل من قرن، فكيف هو واقعهم اليوم؟ ولا شك في أن التقدم الكبير قد تحقق، خصوصاً بعد تطبيق الصين سياسة الإصلاح والانفتاح منذ 38 عاماً، في المجالات كافة تقريباً، لكن التحديات لا تزال قائمة. وفي رأيي أن هناك تحديين يواجهان الإسلام في الصين اليوم، أحدهما ظاهرة الإسلاموفوبيا، التي ظهرت، وللأسف الشديد، في بعض الفئات في المجتمع الصيني في السنوات الأخيرة، الأمر الذي لا يسيء إلى مشاعر المسلمين الصينيين فقط، بل يحول دون تحقيق الوحدة والتناغم بين القوميات والديانات المختلفة، ويشكل تهديداً للاستقرار والأمن في المجتمع الصيني. لذا، ينبغي أن نتصدى لها بكل حزم وبكل السبل المتاحة، فكرياً وثقافياً وإعلامياً. ويتمثل التحدي الثاني في سوء الفهم لمبادئ الإسلام لدى بعض المسلمين، وهو فهم لا يليق بعظمة هذا الدين وتاريخه المجيد. فالسلبيات التي أشار إليها العالمان الكبيران (رحمهما الله) ما زالت قائمة، إضافة إلى ظواهر جديدة في العقدين الأخيرين، ففي بعض الأقاليم المأهولة بالمسلمين، خصوصاً في جنوب إقليم شينغيانع الصيني، أُجبرت النساء، بل الصبايا أيضاً، على ارتداء الجلباب الأسود والبرقع أو النقاب، وظهرت موجة عارمة في تشديد التفرقة بين الحرام والحلال الى حد المبالغة، فبين مياه الشرب وأوراق الكتابة وفرش الأسنان ما هو حلال وحرام، ومتابعة الإذاعات والتلفزيونات الحكومية حرام، والموسيقى والغناء والبكاء في المأتم والرقص في حفلة الزفاف حرام، بل حتى الأدوات الكهربائية التي توفرها الحكومة لمساعدة الفقراء، هي كلها «حرام». هكذا، تتحول صورة إلإسلام من الانفتاح إلى الانغلاق، ومن التسامح إلى التعصب، ومن الاعتدال إلى التطرف، ومن دين اليسر إلى دين العُسر، ومن حضارة حققت إنجازات باهرة في كافة الفروع العلمية، إلى مسائل لا تتعدى اللحية والنقاب والملابس وغيرها.

وقد يظن بعض الناس أن هذه المسائل هي مجرد عادات حياتية تدل على الهوية الإسلامية وليست لها أية علاقة بالسياسة، وبالتالي لا يجوز إدراجها في خانة التطرف. ولكن، أليس من الظلم تقزيم هوية الإسلام، رمز الإبداع والإشعاع عبر العصور، في هذه الشكليات؟ وأليس أكثر المناطق محافظة وتشدداً تلك التي كانت وقعت أو لا تزال تقع في أيدي تنظيمات مثل طالبان و «القاعدة» و «داعش»؟ وهل تخلو أساليب الحياة هناك من دلالات أيديولوجية أو أجندات سياسية حقاً؟ وكيف يمكن الناس المنشغلين بالقيود والمحرمات أن ينطلقوا بكل شجاعة في ميادين الحياة العلمية والعملية للخلق والابتكار؟

وهناك ظاهرة ثانية في أوساط المسلمين في الصين، حيث أن بعضهم يقصر فهمه للإسلام في جانب «الدين» وفتاوى الفقهاء وتفسيرات المفسرين، ولم ينظر إلى الإسلام باعتباره حاضنة لحضارة إنسانية عظيمة. فلا يعرف عن التراث الهائل الذي خلفه كبار الفلاسفة والعلماء والأدباء والمتصوفة المسلمين عبر التاريخ، الذين لمعت أسماؤهم في الفضاءات الحضارية. وتأثر بعض المسلمين في الصين بأقوال سيد قطب وأبو الأعلى المودوي وغيرهما من المنظرين الأصوليين، فيميلون إلى تقديس الماضي في شكل أعمى، ويتخوفون من الفكر والعقل والإبداع باعتبارها أموراً مشبوهة أو مضلة، معلنين العودة إلى النصوص الدينية بينما يهملون فهم جوهر الدين وقراءة نصوصه وفق متطلبات العصر. ونعرف أن فهم النصوص الدينية على نحو آلي أو دوغماتيكي بمعزل عن سياقاتها وخلفياتها قد ساهم، مع عوامل أخرى، في تفشي ظاهرة التطرف والإرهاب في عالمنا اليوم. وأحب أن أضيف هنا مثالاً يرجع إلى أسرة يوان الصينية (1271-1368)، حيث سجل المستشرق السويدي D’ohsson في القرن التاسع عشر في كتابه الضخم «تاريخ مغول» قصة حدثت مع كوبلاي خان أول إمبراطور في أسرة يوان: «يقال إن في كتاب القرآن ما يبيح قتلَ عباد آلهة غير الله، فوسوس بعض المسيحيين عن ذلك إلى الإمبراطور كوبلاي خان، فأمر الإمبراطور بإحضار بعض المسلمين من ذوي العلم وسأل كبيرهم: هل في كتابكم المقدس ما يحمل هذا المعنى حقاً؟ فأجاب: نعم. فقال كوبلاي: هل تعتقدون أن القرآن كتاب الله عندكم؟ فأجاب: لا نشك في ذلك أبداً. فقال: إذا أمركم الله بقتل المشركين فلماذا لا تطيعون أمره؟ فأجاب: إنما الوقت لم يحن بعدُ لقتلهم. فغضب الإمبراطور قائلاً: ولكن الوقت قد حان لقتلك الآن. فأمر بقتله فوراً». نعرف أن في القرآن الكريم آيات تتحدث عن «قتل المشركين»، ولكنها نزلت في سياقات تاريخية ولأهداف سياسية معينة، وليس في الأمر غرابة، إذ لا يخلو دين من الأديان الكبيرة من تعبيرات مماثلة. والمهم أن الإسلام يرفض قتل أو إقصاء غير المسلمين بشكل عشوائي، بل نجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى السلام والتسامح والحوار. لذا، كان ذلك المسلم المسكين بين يدي كوبلاي خان فهم الدين فهماً سطحياً وخاطئاً مما أوقعه في نهاية مأسوية.

أخيراً، أعود إلى موضوع الإسلاموفوبيا. فقد أصبح الإسلام في نظر بعض الناس مرادفاً للتخلف والانغلاق والتعصب، ومقترناً بأحداث العنف والإرهاب، والتالي فهو يستلزم القلق والخوف والرهاب. أما في نظري، فالإسلام مغاير تماماً لذلك. فمن خلال كتابات الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون وابن عربي وغيرهم من الفلاسفة العرب القدماء، والمتنبي وأبي العلاء المعري وابن المقفع وأمثالهم من الأدباء العظام في التاريخ القديم، وجمال الدين الأفعاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وأحمد أمين وزكي نجيب محمود ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وغيرهم من المفكرين المعاصرين الكبار، وطه حسين ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني ومحمود درويش وأدونيس ونوال السعداوي وغيرهم من الأدباء المعاصرين الذين قرأتهم وترجمتهم وتربط بين بعضهم وبيني علاقة صداقة أعتز بها كثيراً، من خلال كتاباتهم جميعاً، وإضافة إلى أعمال وتعليمات أساتذتي المسلمين الصينيين أمثال عبدالرحمن ناتشونغ ومحمد مكين وغيرهما، تعرفت إلى هذا الإسلام المغاير تماماً للصورة النمطية السلبية:

إنه منظومة حضارية متكاملة ذات تاريخ باهر وتراث هائل، ويحرص دوماً على تحقيق التوازن بين المادية والروحانية، الفرد والمجتمع، الواقع والمأمول، الحقوق والواجبات، الدنيا والآخرة. فرسالة المسلم وفق هذا المنظور الإسلامي، بل رسالة الإنسان وقيمته في هذا الوجود، لا تكمن في الالتزام بالقيود والشكليات، أو في التعلق بالآخرة والزهد في الدنيا، حتى أنها لا تكمن في تقوى الله تعالى وعبادته فحسب، بل في القيام بخلافة الله في الأرض وتحويلها إلى جنة أرضية. ووفقاً لذلك المنظور، إن هوية المسلم لا تتجلى في التشبث بالماضي، بل في الانطلاق إلى الأمام مستلهماً الماضي، محتضناً العصر، مستشرفاً آفاق المستقبل بهمة وشجاعة. وهكذا فقط يستطيع المسلمون، أن ينخرطوا في بناء تقدم البشرية مثل أجدادهم في العصور الذهبية الإسلامية، بصفتهم مشاركين دافعين سابقين، لا بصفتهم مهمشين متخلفين أو ضحايا. وفي عصرنا المعولم الذي تعاني فيه البشرية من أزمات ومآزق متعددة، ينبغي أن يكون الإسلام، وهو الغني بموارد قيمية وروحية فريدة، مصحِّحاً لانحرافات الإنسان في مسيرته إلى التقدم والرقي. لن يكون هذا الإسلام، موضع خوف ورهاب من شعوب العالم، بل سيكون زهرة يانعة مبهرة في روضة الحضارات البشرية.

 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,260,189

عدد الزوار: 6,942,574

المتواجدون الآن: 139