الإسلام والحرب و"حركة التوحيد الاسلامية" في طرابلس ثمانينات القرن العشرين [4]

تاريخ الإضافة الأحد 29 آب 2010 - 8:40 ص    عدد الزيارات 1428    التعليقات 0

        

الإسلام والحرب و"حركة التوحيد الاسلامية" في طرابلس ثمانينات القرن العشرين [4]

مقتلة شيوعيي الميناء في روايات الأهالي: المستضعفون وثاراتهم الاجتماعية

ينقل هذا التحقيق الميداني روايات مدنيين في طرابلس ومدينة الميناء المتصلة بها، لما حدث في زمن سيطرة امراء "حركة التوحيد الإسلامية" وجند إماراتهم المسلحة على المدينتين الشماليتين في النصف الاول من ثمانينات القرن العشرين.
"حتى لون الهواء تغيّر في طرابلس أيام "التوحيد"، فصار أصفر باهتاً وثقيلاً، كأنما يغشاه رَمَدٌ يسكن العيون"، قالت إمرأة طرابلسية في شهادة لها عن تلك الأيام ما بين 1983 و1985. وفيما كنا نسجل شهادة عامر أرناؤوط في مكتبه، دخل صديق له وحضر جزءاً من اللقاء، فعلّق قبل مغادرته قائلاً إنها كانت حقبة "مظلمة وشنيعة، غيّرت طبيعة الحياة في المدينة". ويندر أن تلقى شخصاً من مدنيي طرابلس الذين عايشوا يوميات من تلك الحقبة، لا يجد لديه ما يرويه عن حوادث شهدها أو سمع أخبارها من جيران له أو أهل أو أصدقاء ومعارف في المدينة. الصفة الغالبة على هذه الحوادث هي "الإجرام"، على ما قال موظف في أحد فروع المصارف في الميناء.وجميع من تستمع إلى شهاداتهم يتهيأ لك أن طرابلس "التوحيد" تحضر في ذاكراتهم "كتلة من السواد الكثيف والحياة البيتية الخانقة واللزجة، كأنما الوقت استنقع وأسُن في البيوت"، على ما أرادت أن تقول امرأة من سكان شارع عزمي.
غالباً ما تحضر صور امراء "التوحيد" ومسلحيهم وأفعالهم في هذه الشهادات، كأنما الأرض إنشقت وأخرجت من باطنها كائنات شبحيّة، أو كأنما الفضاء انشق فجأة، فهبطت منه هذه الكائنات الشبحيّة إلى شوارع المدينة. أغرب خبر سمعته المرأة التي شعرت بثقل الهواء ورماده في العيون، هو ان "أبو عربي"(خليل عكاوي) صار أميراً توحيدياً، فراودها وأهلها إحساس داهم بدبيب الخطر. قبل ذلك "بدأت أخبار أمرائهم ومسلحيهم تصلنا، نحن سكان مدينة الميناء، من محلة القبة حيث ارتكبوا مجزرة بمجموعة مسلحة من الزعران الحشاشين المعروفين بأولاد أم عبدو". هؤلاء، وفقاً لعدد من الروايات الطرابلسية، كانوا بطَّالين وعاطلين ومتسيبين في الشوارع، ومنبتهم محلة القبة بين شارعي الأرز والجيش، حيث يقيم أهلهم. وفي بدايات الحرب (1975) تحلّقوا حول "شيخ شباب" يتيم الأب وبكر إخوته الستة، يدعى عبدو. وعصبة الأخوة الأيتام هذه شكّلت نواة زمرة جمعت حوالى 20 من فتية الشوارع وشبانها. وحصلت العصبة على السلاح والحظوة والحماية من أحد نافذي منظمة "فتح"، وعُرِفت باسم "شيخها" ابن أم عبدو. ومع انعطاف مجرى الحرب بعد سنتيها الأوليين (1975-1976) ومشاركة الزمرة فيها، احترف شبانها فرض الخوة وتعاطي المخدرات والكحول وذاع صيت سطوتهم في القبة وطرابلس. ولحاجة "التوحيد" في بدايات انطلاقها إلى إثبات حضورها وسطوتها في عمل مشهود، رأت أنه "يريح" الأهالي من تسلط عصبة "أولاد أم عبدو"، قامت مجموعة "توحيدية" مسلحة بهجوم على العصبة في القبة، فاشتبكت معها وقتلت ستة من شبانها.
غالباً ما تحضر أيام "التوحيد" وحوادثها متسلسلة في ذاكرة أهالي طرابلس والميناء الجمعية أو العامة. في معظم الروايات يتخذ التسلسل الزمني للحوادث الكبرى والمشهودة، صيغة هجمات وتصفيات قام بها جند "التوحيد" ضد جماعات حزبيّة ومجموعات مسلحة في أحياء المدينة. فبعد مدة من تصفية عصبة "أولاد أم عبدو" المسلحة، لاحت نذر الهجوم على البعثيين العراقيين و"حركة 24 تشرين" في نواحٍ من أبو سمرا والقبة، وامتداداً إلى أطراف الزاهرية والأسواق القديمة، وصولاً إلى مدينة الميناء. استمر الهجوم "التوحيدي" على مسلحي البعث العراقي ومحازبيه في الميناء يومين اثنين، واتخذ طابع المقتلة في شهادات الرواة من الأهالي. فبعد هجوم جند هاشم منقارة على مقر حزب البعث العراقي وحصاره في شارع بورسعيد، ومقتل حوالى 16 بعثياً في الاشتباك بين المهاجمين ومسلحي المقر الذين قتل معظمهم في داخله، قام المسلحون "التوحيديون" بعمليات دهم لبيوت البعثيين وأنصارهم من غير المسلحين، فقتلوا عدداً منهم أو أعدموهم ميدانياً، قبل أن يتمكن أهلهم وذووهم من اللجوء إلى أمير الميناء، لإنقاذهم وترحيلهم إلى خارج طرابلس التي فرَّ منها البعثيون وعائلاتهم جماعياً.
 

 جند الثأر الاجتماعي

المقتلة الأفظع والأشد حضوراً ووقعاً في ذاكرة أهالي الميناء، هي مقتلة الشيوعيين بعد حوالى شهرين من تصفية البعثيين العراقيين. وروت نسوة من عائلات، كان بعض شبانها أو رجالها من محازبي الشيوعيين، أن شيوعيّي الميناء، على كثرتهم وتنوعهم ما بين مسيحيين ومسلمين، كان معظمهم من غير المسلحين، لأن لا خبرة لهم في السلاح والأعمال العسكرية التي لم تكن تناسب أصلاً نمط حياتهم المدنية وأعمالهم. فهم كانوا في غالبيتهم من الطلبة (شباناً وفتيات) والموظفين وأصحاب المهن المختلفة، وليس بينهم بطّالون وعاطلون متسيبون في الشوارع. وحالهم هذه كانت على خلاف حال جند هاشم منقارة "التوحيدي"، الذي كانت منابت مسلحيه الاجتماعية والعائلية متشابهة في تواضعها، كتشابه استنقاع حياتهم في حضيض اجتماعي وتفكك أسري وعائلي، يسدان في وجههم منافذ الحراك والارتقاء من طريق التعليم والعمل والقيام بذات النفس. فهم من متسربي التعليم في مراحله الأولى، أميّون أو أشباه أميّين. وإذا حصّل بعضهم معيشته من طريق عملٍ ما، فغالباً ما يكون هذا العمل يدوياً وعضلياً ولا يحتاج إلى خبرات وتراكم، ويظلّ يومياً يشوبه التقطع الذي يفضي بأصحابه إلى حياة شبابية شقيّة وشارعية، من سماتها شظف العيش والقسوة والعنف. وقد يكون فتية الميناء وشبانها هؤلاء الذين استقطبهم جند منقارة، فئة من جيل تكاثر ظهورها في خضم ما بعثته الحرب وفاقمته من تصدع وتذرر واستنقاع في نسيج الحياة الإجتماعية والعائلية. عصبة "أولاد أم عبدو" المسلحة التي اجتثّها مسلحو "التوحيد" في القبة، نموذج سابق من فئة فتية الميناء هذه وشبانها الذين وجدوا في الإسلام "التوحيدي" وحلقات مساجده وسلاحه، أسباب الحظوة والحماية والقوة، على غرار ما وجد "أولاد أم عبدو" ذلك في سلاح "فتح" في سنتي الحرب الأوليين.
لكن مجتمع محلة القبة يختلف عنه في الميناء، حيث ترتفع نسبة الإختلاط الطائفي ما بين المسلمين والمسيحيين الذين ترتفع نسبتهم إلى النصف تقريباً، ويتميز حضورهم في نسيج اجتماعي محلي متماسك، قديم ومتجذر. وهذا ما يبعث على التنوع الاجتماعي والتفاوت والتثاقف بين فئات السكان الذين يختلط البلدي المحلي بالمديني في نمط حياتهم وتعارفهم ومبادلاتهم، كما يتيح لمثالاتهم ومساراتهم الإجتماعية، فئاتٍ وأفراداً، ألاّ تنكمش وتنغلق وتتخثّر، فتنفتح على التفاوت والتركيب. وقد يكون تكاثر الشيوعيين في الميناء، مسيحيين ومسلمين، من نتائج الاختلاط والتفاوت والتركيب في هذا النسيج الإجتماعي، المديني والبلدي المحلي، قبل ظهور جند إمارة هاشم منقارة "التوحيدية". هذا الجند الذي جمع في صفوفه شباناً وفتياناً من سواقط هذا المجتمع وحضيضه، فزوّد غضبهم وعنفهم الشارعي والرعاعي بإسلام دعوي، شكلي ومسلح، لاجتثاث بواعث ذلك الاختلاط والتفاوت والتركيب وعواملها النسيج الإجتماعي، أي المسيحيين الشيوعيين. هذا ما يفسر طبيعة العنف الدموي الذي سلّطه مسلحو الإمارة في الميناء على شيوعييها، المسيحيين والمسلمين في الدرجة الأولى، قبل أن يروّعوا السكان المسيحيين ومن يماشيهم من المسلمين في نمط عيشهم، في الدرجة الثانية. فأهالي الميناء، في شهاداتهم عن أيام "التوحيد" في مدينتهم، وفي وصفهم ملامح مقاتلي الحركة، غالباً ما يركزون على رعاعيّتهم المسلحة وإسلاميتهم الشكلية والطارئة التي تقنّعوا بها سريعاً وعشوائياً، بعد حياتهم الشارعية الشقية، من دون أن يظهر في إسلاميتهم هذه أثر للتديّن والدين وشعائره وفروضه وتعاليمه الغريبة عن حياتهم أصلاً، غربتهم عن النسيج الإجتماعي العام في المدينة المحلية، وسقوطهم على هوامشه. والإسلام الذي تقنَّع به هؤلاء المقاتلون وأظهروه، وفقاً لمشاهدات الأهالي، هو تركهم لحاهم تطول، وارتداؤهم جلاليب أفغانية فضفاضة، وإكثارهم من ركوب دراجات نارية في تنقلهم ودورياتهم وعملياتهم، فيما بنادق الكلاشنيكوف على ظهورهم.
أما حين يحاول الأهالي أنفسهم سبر أغوار مصدر العنف الدموي الذي أطلقه هؤلاء المسلحون لاجتثاث شيوعيّي الميناء والمسيحيين، فلا تفوتهم الإشارة إلى عمق الثأر الإجتماعي والثقافي الذي لابس المقتلة التي نفذوها. فـ"هم - في شهادة امرأة من الميناء اختطف "توحيديون" شقيق زوجها - شبان معقّدون نفسياً"، ومن فئات الحضيض الإجتماعي، و"معدمون"، ومدججون "حقداً" (طبقياً وثقافياً؟) على أبناء الفئات "المرتاحة" إجتماعياً، والمنفتحة على "الموضة والأزياء" ونمط الحياة العصرية، والاختلاط "الشبابي" بين الجنسين، والذي يفضي إلى "المصاحبة" و"السهر". وقد يكون العامل الأساسي في "العقدة" النفسية الباعثة على هذا "الحقد"، هو عدم قدرة هؤلاء الشبان على "مصاحبة فتاة جميلة" من اللواتي كانوا يصادفونهن في شوارع الميناء وطرابلس، أيام كان يمكن ظهور فتيات سافرات وزاهيات بأناقتهن وأزيائهن العصرية وحضورهن وعبورهن في أماكن المدينة العامة، قبل أيام "التوحيد" وإماراته "الكالحة". آنذاك، أي قبل ظهور "التوحيد"، كان يستحيل على أي من شبان جندها اللاحقين، أن يقترب من واحدة من هاتيك الفتيات، إلا في أحلام اليقظة أو النوم أو الاستمناء. وهي الأحلام التي حوّلها الإسلام "التوحيدي" المسلح، المستعجل والملفّق، "حقداً" على أولئك الفتيات وأهلهن وبيئتهن ونمط حياتهن وقيمهن، فصار في مستطاع جند الإمارة أن يصبّوا هذا الحقد عنفاً كلامياً وجسمانياً على الفتيات السافرات، ويروّعونهن ليصرن إسلاميات "توحيديات" يلفهن السواد الذي يحجبهن عن الأبصار "الزانية". ثم إن فكرة "الكفر والإلحاد" التي يلصقها هذا الإسلام بالشيوعية والشيوعيين، أضفت على ذلك الحقد "مشروعية دينية"، وحرّرته من الحدِّ والكبت والكتمان والروادع الإجتماعية، وحولته عنفاً ثأرياً "دينياً" مشروعاً أو شرعياً.
 

 الإمارة المارقة
 

"لم يكونوا مثل شباب أبو عربي غير المتزمتين"، قالت المرأة نفسها. وهي ربما تكني بعدم تزمت جند أبو عربي، عن أن شبانه كانوا أبناء "شرعيّين" لـ"الحارة - الأمة" في باب التبانة التي تتجانس منابت أهلها ومساراتها الإجتماعية المتواضعة، وكذلك نمط حياتهم ومثالاتهم التي رسمتها وصاغتها لهم "مشيخات الشباب"، "النضالية" العروبية والفلسطينية الهوى، ورسّختها في وجدانهم الجمعي، قبل تحول "المشيخات" هذه إسلامية في أيام "التوحيد".
والحق أن "مشيخات شباب" باب التبانة، منذ أيام علي عكاوي وبعده في أيام أخيه ووارثه أبو عربي، كانت ردّاً أو جواباً "اجتماعياً - ثقافياً" و"نضالياً" متدرجاً على التفكك والتذرر والاستنقاع في مجتمع باب التبانة. الردُّ هذا، في خروجه على سلطة القانون العام والدولة، كان يلتزم وجهاً من وجوه معايير أهل الحارة وقيمهم و"مصالحهم"، ويعمل على صوغها في حركة "مقاومة شعبية" عضوية ومسلحة، لكن عنفها لم يكن منفلتاً على الغارب، حتى بعد تحولها إلى الإسلام "التوحيدي". فالإسلام الذي تحولت إليه "مقاومة" عكاوي، كان إسلاماً شعبوياً محلياً لصيقاً بأهل الحارة، ولم يخرج على المعايير العامة لحياتهم وقيمهم، بل جاء استكمالاً لها في وجهه الغالب. ثم إن بعضاً من أركان أبو عربي اعترض على استدخال الإسلام عنصراً نضالياً في "المقاومة". ومن المعترضين بلال مطر الذي جمّد نشاطه منذ مشاركة عكاوي في تأسيس "التوحيد"، فيما ذهب فؤاد الرشيد الكردي مذهباً خمينياً جهازياً في إسلامه، وانفصل عن "مقاومة" قائده، وأسس إمارة "توحيدية" مستقلة.
وروى ابرهيم الصالح أن خليل عكاوي دعا أهالي طرابلس إلى اجتماع عام في أثناء حملات الترويع التي قام بها بعض جند أمراء "التوحيد" في المدينة، وراح يطمئن الأهالي، مشدداً على "حريتهم في نمط حياتهم" وعدم "المس بها وبكرامتهم". وقد تكون الفظاعات التي ارتكبها غيره من الأمراء في أصل ما حمله على الانفصال عن "التوحيد" والعمل في إطار مستقل سمّاه "لجان الأحياء والمساجد".
هذا كله يشير إلى أن جند أبو عربي "التوحيدي" كان على خلاف جند هاشم منقارة الذي "لمَّ" مسلحيه في الميناء، فجأة وسريعاً من الرعاع المتبطّلين في الشوارع، والمنقطعين عن مجتمع الأهل المتفاوت الفئات، المركب وغير المتجانس، في مدينة مختلطة السكن الطائفي. والذين "لمَّهم" أمير الميناء وجمع شملهم في جند مسلح، هم من دهماء هذا المجتمع وسواقطه. وما جمعهم - وفقاً لشهادة المرأة التي اختطف شقيق زوجها - هما "المال والإسلام الإيرانيان" اللذان "تدفقا" سريعاً وفجأة على أميرهم الذي تستبطن سيرته الشخصية ثأراً اجتماعياً كثأرهم من مجتمع الخليط والتفاوت والتركيب في الميناء. وقد يكون زواجه السابق من شقيقة "نجمة الجنس والإغراء" - الصاعدة فجأة في سينما مطالع سبعينات القرن العشرين، المصرية واللبنانية، والمنطفئة نجوميتها والتائبة توبة إسلامية - وجهاً من وجوه شهوته المحمومة إلى الصعود الاجتماعي السريع، استجابة منه لرغبته الفجة في إمتلاك نمط حياة معاصرة. الفجاجة نفسها برزت مجدداً في استعماله "المال والإسلام الإيرانيين" وسلاح "فتح" ياسر عرفات، وسيلة إلى الصعود السريع على رأس جند من مسلحين، خرج بهم على سوية مجتمع الخليط والتفاوت، وتسلّط على أهله تسلّطاً عارياً فجاً، باسم "إسلام" ليس سوى قناع صفيق للعنف الرعاعي.
فامرأة الميناء في وصفها جند "التوحيد" في مدينتها، قالت إنهم "سريعاً صعدوا وسيطروا"، بعد ما تولّت الخطابة الإسلامية الدعوية المحمومة للأمراء وأمير الأمراء (سعيد شعبان) عملية "غسل دماغ سريعة" لهم. فاستولوا على "مرافق" حيوية في المدينة، منها "المرفأ والسرايا الحكومية"، بعد "قتلهم عدداً من جنود الجيش اللبناني على حواجز كانت على تخوم الميناء". وعلى مثال ما تقلّد العصابات المسلحة فكرة "الحكومة" تقليداً مبتذلاً، جعلوا لـ"العسكر أميراً، هو المدعو أبو أحمد خسوك في الميناء، وللتربية أميراً، هو أخوه عمران خسوك الذي قتل أو اغتيل". وفرض أمثال هذين الأميرين "تعليم الدين الإسلامي وإقامة مصليات في المدارس، وتولوا هم أنفسهم وغيرهم من الأمراء، التدريس الديني الذي فرضوه بالسطوة والقهر على تلامذة المدارس الإرسالية وطلبتها المختلطين طائفياً". ثم أنشأوا شركات تجارية للإستيراد والتصدير. وبالقوة والترهيب فرضوا على مسيحيين من أصحاب مثل هذه الشركات أن يدخلوهم "شركاء" فيها. ومرة قاموا باسم تدينهم الإسلامي بمصادرة مستوعب من الويسكي في المرفأ، وقاموا ببيعه لـ"المشركين" في زغرتا. وكان المدعو "أبو فادي" أمير المرفأ "التوحيدي"، فشارك في عمليات تهريب وقرصنة، قبل أن يُعثر عليه مقتولاً في شقة استأجرها في "ديار المشركين" وجعلها مرتعاً لـ"السكر والتحشيش ومعاشرة النساء".
قد يكون المدعو (طارق. ف. د) - وفقاً لروايات طرابلسية شائعة - أشهر الذين "تعاونوا" مع "التوحيد" في العمليات "التجارية" عبر المرفأ، فأثرى ثراءً فاحشاً قبل اجتثاث الجيش السوري جند الإمارات وأمرائها، فانقلب الرجل أداة في يد المخابرات السورية، وقام بدور "منسّق العلاقات" بين القصر الحكومي اللبناني وأركان النظام في دمشق، أيام كان أحد الزعماء الطرابلسيين رئيساً للحكومة اللبنانية، في زمن السيطرة السورية على أجهزة الحكم في لبنان، وإدارتها على مثال إدارة الدولة في سوريا.

 

 مقتلة شيوعيي الميناء

رائحة الدم ملأت البيوت في ذلك النهار الأسود. أزيز الرصاص يدوّي في الشوارع والأزقة مختلطاً بصرخات المسلحين التي سمّت المسيحيين "خنازير" والشيوعيين "كفاراً"، ودعتهم إلى الخروج من البيوت. في الساعة العاشرة صباحاً بدأ هجومهم على مقر الحزب الشيوعي، فحاصروه بغزير رشقاتهم النارية، فيما هاجمت مجموعات منهم بعض البيوت وأخرجت منها أشخاصاً إلى الشوارع والأزقة. كانوا يوقفونهم إلى الجدران، ومن الخلف يطلقون على ظهورهم ورؤوسهم رشقات من بنادقهم، فتهوي أجسامهم إلى الأرض. حدث أيضاً ذبح وقطع رؤوس. لا شفاعة للشيوعيين، مسيحيين ومسلمين، ولا تهاون مع عائلاتهم. كل من استطاعوا الوصول إليه منهم، أعدموه. كان الرعب على السكان المسيحيين أقوى منه على المسلمين الذين خفّفوا من رعبهم بحمايات عائلية قد تفضي شبكاتها إلى بعض من المسلحين القتلة، فتمكّن المستنجد بهذه الشبكات من الفرار من المقتلة والخروج من المدينة.
هذه بعض من وقائع مقتلة الشيوعيين ومشاهدها في الميناء، وفقاً لرواية إمرأة مسلمة كانت في نهاية العقد الثاني من عمرها. والدها مدير مدرسة وأشقاؤها موظفون ويعملون في مهن حرة، ويميلون في ثقافتهم وعلاقاتهم إلى الحزب الشيوعي وأجوائه. سيارة بيك أب رُكّب في صندوقها مدفع دوشكا، وقفت في الشارع قبالة بيتها. مع دوي رشقات المدفع الرشاش انطلقت صرخات المسلح قائلاً: يا أستاذ، يا خنزير... نزال. لم يكن والدها في المنزل، ولا أي من إخوتها. فجأة قُتِلَ مسلح الدوشكا، فتوقفت الطلقات. مجموعة من المسلحين اجتاحت منزلهم بحثاً عن "الخنازير" و"الكفرة". وحدها وأمها كانتا في المنزل الذي قذف المسلحون من شرفته ما استطاعوا حمله من أثاث، ثم غادروا إلى دهم بيوت أخرى.
في الساعة الثالثة بعد الظهر من ذاك النهار، عاد ممثل مسرحي يقيم في الميناء من بيروت، بعد إيصاله صديقاً له إلى المطار. من نافذة سيارته بدت طرابلس خاوية خامدة، فيما هو يجتاز شوارعها. سمع أن مسلحي "التوحيد" دهموا مقر الحزب الشيوعي في الميناء. حين وصل إلى مدخل شارع مار الياس حيث منزله، سمع أصوات طلقات نارية في شارع علم الدين. أوقف سيارته، وتوجه سيراً على قدميه إلى منزله، فرأى في جدرانه ثقوباً خلّفتها رشقات نارية.
استيقظ باكراً في صبيحة النهار التالي. في الطريق المؤدي إلى الشاطىء شاهد مجموعة من شبان مستريبين خائفين يتلطّون بالجدران ويسرعون نحو الشاطىء، فأيقن أنهم شيوعيون يحاولون الفرار. قفزوا إلى مركب صغير كان ينتظرهم حذو الشاطىء، ثم انطلق بهم سريعاً. بعد قرابة ساعتين عاد المركب إلى حيث كان يقف. حين ترجل منه صاحبه، وهو مسيحي، دهمه مسلحون ووضعوه في سيارة فولكس واكن خضراء، وانطلقوا بها. بعد يومين علم الممثل المسرحي أن شابين من أصدقائه الشيوعيين سقطا في المقتلة، وأن صاحب المركب قتل ايضاً. على مقاعد الدراسة في المرحلة المتوسطة، كان وصديقيه القتيلين معاً في الفريق الكشفي الأرثوذكسي. من الروايات التي سمعها عن يوم المقتلة، أن مسلحي "التوحيد" قتلوا شباناً في الشوارع أمام أنظار أهلهم وجرّوا بعضاً من الأهل إلى حيث أبناؤهم كي يبصقوا عليها.
من المشاهد التي أبصرها الممثل المسرحي في يوم من أيام "التوحيد" مشهد لمسلحين منهم يقتربون من فتاة تمر حاسرة الرأس على كورنيش الميناء البحري. صرخ أحدهم في وجه الفتاة قائلاً: "روحوا احتشموا يا نسوان. غطي ايديكي وشعرك وليه"، فصرخت الفتاة قائلة إنها ابنة شيخ، فانهالوا عليها بأقذع الشتائم.
بين 23 و25 شخصاً كانت حصيلة مقتلة شيوعيّي الميناء، وفقاً لرواية بعض المدنيين. بعد المقتلة جمعوا الشيوعيين الأحياء وعائلاتهم (ومنهم القياديان محمود الواوي ورشيد يوسف) في ملعب طرابلس البلدي، ثم رحّلوهم إلى الكورة.
عندما خُطف الشقيق الأصغر لزوجها بعد مدة من مقاتل شيوعيي الميناء، كانت المرأة التي روت وقائع عملية الاختطاف في سنتها الجامعية الأولى، وهجر أهلها وعائلة عمها وسائر عائلات الشيوعيين ومعظم المسيحيين، بيوتهم في المدينة البحرية. وفي مجيئها اليومي إلى الجامعة اللبنانية في القبة، كانت تعرّج إلى الميناء لتتفقّد بيت أهلها المهجور، فأخذ مسلحان من "التوحيد" يعرفانها وتعرفهما في الحي، يطاردانها كلما أتت وأبصراها تمر في شارع، فيمتطيان دراجة نارية ويعبران سريعا إلى جانبها، ويظلان يواكبانها حتى خروجها من الميناء. بعد مدة من مثل هذه المطاردات أوقفها المسلحان في الطريق وقالا لها إنها جاسوسة للشيوعيين، وهدّداها بالاعتقال إن لم تتوقف عن المجيء.
لم تكن تلك الأيام تخلو من حوادث قتل واختطاف متفرقة في الميناء وطرابلس. من هذه الحوادث إقدامهم على قتل شاب وفتاة كانا جالسين في سيارتهما المتوقفة قرب رصيف الكورنيش البحري، وقيامهم بوضع جثتيهما في برميل وملئه باطوناً ورميه في منطقة مهجورة على شاطىء الميناء تدعى رأس الصخر، واشتهرت في أيام "التوحيد" بأنها المكان الذي يأخذون اليه من يختطفونهم فيعدمونهم هناك ويصبّون عليهم الباطون في براميل معدنية. وهذا ما أشاع مناخاً من دبيب الرعب والشائعات في الحياة العامة في الميناء وطرابلس، وأدى إلى موجات من النزوح والهجرة الموقتة أو الدائمة إلى بلاد الاغتراب، بين سكان المدينتين المتصلتين، وخصوصاً المسيحيين منهم. لكن دبيب الخوف كان اشد قوة ووقعاً على مسيحيي طرابلس الذين حرمهم توزعهم وانتشارهم في أحياء المدينة، كل شعور بالأمن والحماية، فانسلّوا من بيوتهم خائفين وهاجروا، فخسر المجتمع الطرابلسي الغالبية الساحقة من مسيحييه. أما مسيحيو الميناء الذين لم يهجروا بيوتهم وديارهم، فأشعرهم بشيء من الحماية والأمن تجذّرهم السكني القديم في أحيائهم التي انكفأوا فيها إلى حياة داخلية بيتيّة تنطوي على خوف حميم ومقيم في إيقاعها البطيء، كأنهم جالية غريبة، منقطعة ومحاصرة في ديارها. ولا يصعب في هذه الحال تخيّل على أي نمط خاو ورتيب من الاجتماع والعلاقات رست الحياة في مدينة محليّة خلّف القتل لطخاً من دم كثيرين من شبانها ورجالها في شوارعها وأزقتها وعلى جدران بيوتها، واستسلم الباقون من سكانها وأهلها إلى قدرهم وعجزهم عن الرحيل، فيما غادر الشبان من أبنائهم باحثين عن سبيل للعيش في ديار أخرى. فأيام "التوحيد" وعواصفها الدامية افقدت الميناء وطرابلس ما كان قد راكمه مجتمعهما من تفتّح واختلاط وخبرات وأعمال وقدرات طوال عشرات من السنين.
 

 النكاية والثأر

في أيام الحرب السابقة على ظهور "التوحيد"، كان شقيق زوج المرأة لا يزال فتىً غراً ومراهقاً، فجذبته صحبة شبان شيوعيين في الميناء، فانضوى في "اتحاد الشباب الديموقراطي" الذي جعله الحزب الشيوعي اللبناني إطاراً شبابياً لتجميع الأنصار والمحازبين وتكتيلهم في المدارس والجامعات والأحياء. وكانت للأحزاب والجماعات المسلحة على اختلافها وتنوعها آنذاك، لجاناً وأطراً شبابية مماثلة، منها لجان أو حلقات للتدين الإسلامي العامي بدأت تظهر في بعض أحياء الميناء المختلطة طائفياً في الحقبة الفاصلة بين حرب السنتين (1975 - 1976) وظهور "التوحيد" في العام 1982. وجمعت حلقات التدين هذه في صفوفها فتياناً وشباناً من منابت الحضيض الاجتماعي والمتسربين من التعليم والأميّين أو أشباه الأميّين، على خلاف منابت الفتيان والشبان المناصرين للشيوعيين في "اتحادهم" ومساراتهم الاجتماعية والعائلية. وبما أن الوظيفة الأساسية لهذه الأشكال التنظيمية الشبابية، هي التأطير والتعبئة والتحريض في الأحياء، أخذت تحدث بين فتيانها وشبانها حزازات ونكايات واحتكاكات، باعثها التحزّب والانتماءات المتضاربة. من مظاهر هذه الحزازات والنكايات، التزاحم بين المجموعات الشابية على الاستئثار بالفضاء العام واستتباعه والسيطرة عليه في الأحياء، حيث لكل مجموعة حضور ومقرّ تقيم فيه انشطتها وتسلياتها وحفلاتها التعبوية. فإذا كان أصحاب الهوى الشيوعي يطلقون من مقرّهم أغاني مطربهم "الثوري" مرسيل خليفة، فإن أصحاب الهوى الإسلامي الذين ينفرون من هذه الأغاني، كانوا يواجهونهم بإطلاق تلاوات من القرآن من مقرّهم.
في بدايات أيام "التوحيد" في الميناء، كان الفتى قد صار شاباً شيوعياً أخذته حميَّته إلى أن يصير في عداد مقاتلي حزبه. بهاء طلعته وغروره وتنمّره واندفاعه بين أقرانه، منحته لقب "غيفارا" في الحي. أما يُسُر أهله المادي وميلهم إلى الاعتداد به، فحملاهم على شراء سيارة خاصة له، فلم تعد زجاجة البيرة تفارق يده في رواحه وغدوه في سيارته. وهذا كله أكسبه حظوة بين الفتيات، أخذت تزيده غواية واعتداداً بنفسه وتنمّراً واندفاعاً لا يخلو من التهوّر، وتزيد مسلحي "التوحيد" من شبان الحضيض الاجتماعي حسداً وغيرة منه وحقداً عليه، يبادلهم إياها الشاب الشيوعي المغرور بنفسه وسيارته وحظوته، تشاوفاً وسخرية. وكان المدعو أبو أحمد خسوك الذي صار أحد الأمراء العسكريين الميدانيين "التوحيديين" في الميناء، في طليعة حاسدي ذلك الشاب والحاقدين عليه، ومتلقّي سخريته، منذ ايام اللجان والأطر الشبابية المتنابذة في الميناء، مع العلم ان حضور الإسلاميين في أحيائها كان ضعيفا وهامشياً قبل أيام "التوحيد".
وحدثت مقتلة الشيوعيين في الميناء التي هجرها شبان الحزب الشيوعي الناجون وأهلهم وعائلاتهم، وبينهم "غيفارا" وعائلته التي أقامت في الكورة وفرضت على ابنها عدم الذهاب إلى طرابلس والميناء أو المرور فيهما، خوفاً عليه من نفسه وتهوّره. لكن الشاب الذي كان عليه أن يسلك طرقاً خارج طرابلس للذهاب إلى سوريا حيث يتابع أعمالاً تجارية مع إخوته، أخذ يجازف اختصاراً للطريق، فيقود سيارته عابراً في طرابلس. هذا ما فعله نهار الجمعة الذي تعرّض فيه للاختطاف ما بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة ظهرا. ونهارات الجمعة في أيام "التوحيد" الطرابلسية، كانت استثنائية ومشهودة في خطبها الدينية التي تعلو صخّابة في المساجد وتملأ فضاء مدينة فُرض على اصحاب مقاهيها ومتاجرها ومطاعمها وأعمالها ومهنها وحرفها، حتى المسيحيين منهم، التعطيل والاقفال الشاملان في تلك النهارات. أما من لا يلتزم القرار "التوحيدي" هذا، فكان الحرق يتهدد مقر عمله المفتوح.
في نهار الجمعة ذاك كان جند "التوحيد" في حال استنفار، لمواكبة عدد من أمرائهم المجتمعين إلى المحافظ في السرايا الحكومية، وحمايتهم فيما هم يتفاوضون ويفاوضون المحافظ في شأن مصير حمولة باخرة من الويسكي وصلت إلى المرفأ، ويريدون منع إفراغها أو الاستيلاء على حمولتها. حين وصل الشاب الشيوعي في سيارته إلى مدخل طرابلس الجنوبي، وتقدم في شارع البحصاص - تقع السرايا في منتصفه تقريباً، وينتهي إلى "ساحة الله" التي كانت تسمى ساحة عبد الحميد كرامي قبل ايام "التوحيد" - سرعان ما حُشرت سيارته في زحمة سير خانقة، ورأى على مسافة قصيرة منه، حاجزاً "توحيدياً" مسلحاً أمام السرايا. ما أن انتبه إلى أن مسلحي الحاجز رأوه وعرفوه، وأخذوا يتكلمون في أجهزتهم اللاسلكية متوترين وينظرون إليه، حتى خرج من السيارة وتركها وسط الشارع راكضاً في اتجاه السرايا، طلباً للاحتماء فيها، من دون أن يعلم ان الأمراء ومرافقيهم المسلحين في داخلها.
كان الشقيق الأكبر للشاب يعمل مع أحد شركاء "التوحيد" في تجارة الاستيراد والتصدير عبر المرفأ. زوجته المسيحية عانت كثيراً من سطوة جند الإمارة في الميناء. أمها تعرضت مرة للإهانة والضرب في الشارع، لأنها تناولت حبة مشمش عن عربة لبيع الخضر والفاكهة، ووضعتها في فمها لتتذوق طعمها، من دون أن تنتبه إلى أن الشهر هو شهر رمضان. وفور إخباره بحادثة اختطاف أخيه، ذهب شقيقه الأكبر إلى أمير الميناء هاشم منقارة، لمقابلته. كان الأمير لا يزال يصلي في المسجد، فاضطر الساعي في تخليص أخيه إلى أن يدخل مسجداً للمرة الأولى في حياته، ويندس بين المصلين إلى جانب منقارة، كي يوشوشه طالباً منه التدخل والمساعدة قبل فوات الأوان، فرد عليه الأمير بأن ينتظر فراغه من الصلاة. في الأثناء، واصراراً منه على البقاء في المسجد إلى جانب الأمير، أخذ الخائف على أخيه يقلّد المصلين في حركاتهم. ما إن فرغ منقارة من صلاته، ووعده الشقيق بأي مبلغ من المال يطلبه لقاء العثور على أخيه المخطوف، حتى كان جواب الأمير الوحيد: "خير إن شاء الله، والله لا يطلب سوى الخير من عباده".
بعد خروجه من المسجد وسيره مسافة قصيرة في سيارته، انتبه شقيق المخطوف إلى أن سيارتين تلاحقانه، ثم اقتربت منه إحداهما ليقول له سائقها أن عليه أن يغادر طرابلس الآن فوراً، ولا يعود إليها قط، فتوجه مسرعاً إلى بيت أهله في الميناء، حيث كانت تنتظره زوجته الحامل. في طريق خروج الزوجين من الميناء، كانت السيارتان "التوحيديتان" تواكبان سيارتهما من الخلف وتقتفيان أثرها. الهلع الذي أصاب الزوجة، فيما أطلق زوجها العنان لسيارته، كاد أن يؤدي بها إلى الإغماء. منذ ذلك الوقت لم يعد أي من الزوجين إلى طرابلس ولا إلى الميناء، إلا عقب اجتثاث جند "التوحيد" وإماراتهم من المدينتين بعد سنتين.
في الشهور الأولى لاختفاء الشاب، راح وسطاء مقرّبون من "التوحيد" ينقلون إلى أهله أخباراً تفيد أن ابنهم حيّ يرزق في سجن القبة "التوحيدي" وقد شاهده هناك سجناء أطلق سراحهم. على قصاصات من ورق أو على علب تبغ فارغة، أخذ الوسطاء ينقلون رسائل من السجين إلى أهله، فيقبضون منهم ثمنها أموالاً وفيرة في كل مرة، رغم أن إخوة المختفي كانوا يعلمون أن الخط الذي كتبت به الرسائل ليس خط أخيهم ولا يشبهه في شيء. أما الشقيق الأكبر فاستمر بين اليأس والرجاء في محاولاته للوصول إلى خبر شاف عن مصير أخيه، فوسّط شبكة علاقاته ومعارفه وصولاً إلى نافذين في الأجهزة السورية والإيرانية، لكنه لم يفد من هذا كله في شيء سوى أخبار وروايات متناقضة. في واحدة من الروايات أن شقيقه المختفي، بعد تركه سيارته وسط شارع البحصاص وركضه في اتجاه السرايا الحكومية، استطاع الوصول إلى مكتب المحافظ في داخلها، وأن مسلحين من مرافقي أمراء "التوحيد" اعتقلوه في المكتب. وفي رواية أخرى اقتيد المعتقل إلى التحقيق في مكتب أحد الأمراء، بينما تقول رواية ثالثة إنه أُدخل فوراً إلى السجن ونُسي هناك. أما الرئيس رشيد كرامي فقال للشقيق أخيراً إن عليه أن يكفَّ عن تعذيب نفسه وأهله، لأن أحد النافذين في "التوحيد" أخبره بأن الشاب قتل في نهار اختطافه.
لكن الشقيق تابع وساطاته واستقصاءاته حتى أطلعه أحد أمراء "التوحيد" العسكريين الميدانيين على رواية تفصيلية عما حصل ما بعد اختطاف أخيه. في هذه الرواية أن المسلحين اقتادوا الشاب سريعاً إلى منطقة رأس الصخر المهجورة على شاطىء الميناء حيث تعودوا إنزال عقوبة الإعدام الميداني بـ"الكفرة" أو "المشركين"، وصب الباطون على جثثهم في براميل معدنية. وقال الراوي أيضاً أن ثلاثة من المسلحين، بينهم الأمير العسكري في الميناء أبو أحمد خسوك، نفذوا عملية الإعدام، بعدما طلب الأمير خسوك من غريمه السابق في "اللجان الشبابية" في الحي، أن يشتم الشيوعيين والشيوعية، لكن الشاب المخطوف بصق في الأمير قائلاً له: "اقتلني إن كنت رجلاً، هيا اقتلني"، فعاجله خسوك برشق من بندقيته الحربية وأرداه.
"طوال عملية التقصي ومتابعة الوساطات، كنا نعيش كمن يغوص في دم المقتلة وأخبارها"، قالت زوجة شقيق المخطوف في شهادتها عن الشهور التي تلت نهار الاختطاف. كانت دائمة الهلع على إخوتها، فتراهم في كوابيسها الليلية المروعة، تارة فارّين من شوارع وخلفهم مسلحو "التوحيد" يصوّبون نحوهم بنادقهم، وطوراً تتهاوى أجسامهم في صمت إلى الأرض، أمام بيتهم في الميناء. مثل هذه الكوابيس الليلية عن الاختطاف والإعدام والقتل، لم تكن من نصيب المرأة وحدها، بل كانت شائعة في ليالي عائلات طرابلسية كثيرة. وإلى المستشفى الطرابلسي الذي وضعت المرأة مولودها فيه، بعث إليها الأمير خسوك خبراً بأنه سوف يقتل المولود إذا سمّته باسم شقيق زوجها، فأصرَّت على التسمية، ورفضت أن تضع الممرضات طفلها في القسم الخاص بحضانة المواليد في ليلتهم الأولى، فأتاها طوال الليل كابوس متقطع، كلما أيقظها رعبه عادت إلى نوم كابوسي أسود يشقّ أشباح "التوحيد" ظلامه ويخنقون ابنها النائم إلى جانبها في سرير ما بعد الولادة.
 

محمد أبي سمرا      

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,246,463

عدد الزوار: 6,942,008

المتواجدون الآن: 127