الإسلام والحرب و"حركة التوحيد الاسلامية" في طرابلس ثمانينات القرن العشرين [2]

تاريخ الإضافة الأحد 15 آب 2010 - 8:30 ص    عدد الزيارات 2437    التعليقات 0

        

الإسلام والحرب و"حركة التوحيد الاسلامية" في طرابلس ثمانينات القرن العشرين [2]

شبكات التأسيس الرمادية: العمل الأمني الفلسطيني و"خمينيّو فتح" اللبنانيون

مصطفى شمران وزير الدفاع الايراني الراحل. ياسر عرفات وخليل الوزير (ابو جهاد) في جولة استطلاع عسكري ميداني.

موكب تشييع أحد مقاتلي "حركة التوحيد الاسلامية" في طرابلس.

حلقة ثانية عن نشوء "حركة التوحيد الاسلامية" وحروبها ومساراتها ومصائرها في طرابلس بين مطالع ثمانينات القرن العشرين وآخرها. والحلقة هذه تروي مقتطفات من سيرة الجماعات النضالية والدعوية المسلحة والأشخاص الذين ائتلفت منهم الحركة الاسلامية الطرابلسية: الشبكات الأمنية الفلسطينية و"خمينيو فتح" اللبنانيون.
 

مسارات وشبكات رمادية
 

على المستوى غير العلني، مهد لتأسيس "حركة التوحيد الإسلامية"، قيام مشاورات ومناقشات داخلية بين عدد من مؤسسي الجماعات الإسلامية والمجموعات المسلحة في طرابلس. كان هدف هذه المشاورات، التي لم تغب عنها الروابط والولاءات الأمنية والسياسية الإقليمية المتداخلة، إنشاء إطار إسلامي جامع وموحد لهذه الجماعات والمجموعات. وكان أثر انتصار الثورة الخمينية من المحفزات الأساسية للمشاورات والمناقشات التي شارك فيها خليل عكاوي إلى جانب غيره من أمثاله الذين كانت تربطهم صلات وثيقة ببعض ناشطي الحركة الخمينية الإيرانية أثناء إقامتهم في لبنان، وعملهم الأمني والدعوي على حواشي منظمة "فتح" وفي حمايتها، قبل انتصار الثورة في إيران.
مَن هم هؤلاء المتشاورون، وإلى أية جماعات كانوا ينتمون، وما هي مصادرهم ومنابتهم الأهلية والدعوية، ومساراتهم وولاءاتهم السابقة على تأسيس "التوحيد الإسلامي"، وأدوارهم في هذا التأسيس؟

أ- فؤاد الرشيد الكردي: اليساري - الخميني
 

روى أحد قدامى الناشطين التأسيسيين في "حركة اليسار الجديد" اللبناني، أن فؤاد الرشيد الكردي كان عضواً عاملاً في "منظمة العمل الشيوعي" أيام كان طالباً في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية في بيروت مطلع سبعينات القرن العشرين. وهو يعود بمنبته العائلي إلى بلدة المرج العكارية، قبل نزوله وإقامته في باب التبانة، حيث صار من أركان خليل عكاوي في "المقاومة الشعبية" بعد عودته من بيروت في أواسط السبعينات، وفقاً لروايتي عامر أرناؤوط وابرهيم الصالح الذي كان، مثل الكردي، يسارياً مقاتلاً في "المقاومة الشعبية"، قبل انضمامه إلى "حركة التوحيد الإسلامية" وعمله مساعداً دعوياً لأميرها سعيد شعبان، وارتدائه عمامة المشيخة، ووقوفه خطيب جمعة في مساجد طرابلس.
غداة انتصار الثورة الإسلامية في إيران (1979)، جرت داخل الأطر القيادية في "مقاومة" عكاوي، مناقشات وسجالات مدارها "خيار" قيادييها بين أن تستلهم "المقاومة" إسلامها الدعوي والنضالي من "حركة مجاهدي خلق" الإيرانية، اليسارية والإسلامية، بقيادة مسعود رجوي، أم تستلهمه من الإسلام الخميني. أدت هذه المناقشات والسجالات إلى "تنافر" بين عدد من النافذين في قيادة "المقاومة الشعبية". وإذ مال خليل عكاوي وبعض أركانه إلى استلهام إسلام "مجاهدي خلق" في البداية، حسم الكردي أمره، فاختار الإسلام الخميني، وسرعان ما خرج من "المقاومة" وعليها إلى إسلام خميني مباشر وجهازي، ليشارك مشاركة فاعلة في التمهيد لتأسيس "حركة التوحيد الإسلامية".
لا يذكر الرواة الطرابلسيون اسم فؤاد الرشيد الكردي، واسم غيره من مؤسسي "التوحيد" وأمرائها، إلا مسبوقة بلقب "الشيخ". وإذ تسأل أحدهم (ابرهيم الصالح) إن كان الكردي معمماً، يسارع إلى القول إن كلمة الشيخ في طرابلس تعني "التدين النضالي". فأبو عربي (خليل عكاوي)، صار اسمه الشيخ أبو عربي، شأن كثيرين من أقطاب العمل الدعوي الإسلامي في المدينة. وذكر عبد الغني عماد أن الكردي "برز" كصاحب "دور مؤثر في نمو الحركة التوحيدية"، وفي إطار قياداتها "التنظيمية والميدانية"، كناية عن تصدره العمل العسكري في الحركة، كأمير لجماعة مسلحة. ويضيف الصالح أن صوغ البيان التأسيسي للحركة التي سميت "حركة الوحدة الإسلامية" في البداية، شارك فيه الكردي الذي اقترح إبدال كلمة "الوحدة" بـ"التوحيد"، فكان له ما أراد. ويتابع الراوي قائلاً إن الرجل "لم يكن دينامو في نشاطه، بل بولدوزراً نضالياً إسلامياً، لأنه كان مثقفاً وغير متزوج، ما وفر له العمل والنشاط ليل نهار من دون توقف. وحين جرى اختطاف مدير مدرسة الليسيه الفرنسية في طرابلس وقتله، بالتزامن مع تفجير مقر قوات المارينز الأميركية والقوات الفرنسية في بيروت العام 1984، اتهم الكردي بتدبير الاختطاف والقتل، فصار اغتياله حاجةً لدى المخابرات الفرنسية. وهو اغتيل فعلاً في العام نفسه قرب مستشفى المظلوم الطرابلسية، فحامت شبهات اغتياله حول الشيوعيين" الذين كانت "حركة التوحيد الإسلامية" قد جرّدت حملة شعواء ضدهم، وقامت بتصفية محازبيهم في ما سمي "مجزرة الشيوعيين في الميناء". ويذكر عبد الغني عماد أن "الشيخ" فؤاد الرشيد الكردي "اغتيل في العام 1984، قبل أشهر قليلة من استشهاد الشيخ أبو عمارة" الذي "اغتيل"، وفقاً لشهادة ابرهيم الصالح. ويأتي عماد على ذكر مقتل هذين "الشيخين التوحيديين"، قبل اسمين آخرين هما "الشيخ عبد الكريم البدوي والشيخ بدر شندر، فضلاً عن العشرات من الأمراء الميدانيين والعسكريين الذين ترددت أسماؤهم في أحياء طرابلس، في مرحلة نمو حركة التوحيد الإسلامية السريع، وأثناء والصراع العسكري الذي خاضته منذ تأسيسها".

ب- عصمت مراد و"حركة لبنان العربي"
 

يعود مراد بمنبته ونسبه العائليين إلى بلدة العيون العكارية. وفي طرابلس عمل طبيباً وحصّل شهرة مهنية بين أهلها. وفي نهاية ستينات القرن العشرين أسّس "حركة لبنان العربي" في محلة الزاهرية، فامتد نشاطها إلى بعض أحياء الأسواق الداخلية في المدينة. كان المناخ الذي أشاعه العمل الفلسطيني المسلح، باعثاً على انطلاق هذه الحركة، بايحاءٍ من منظمة "فتح" وفي كنفها الذي نشأت فيه وتوسعت على ضفافه حلقات ومجموعات كثيرة من طلبة المدارس والجامعات والمتعلمين والمدرسين وشبيبة الأحياء، من ذوي المنابت الشعبية في المدن الإسلامية اللبنانية، ومن أبناء الوافدين من الأرياف إلى هذه المدن. وكانت صورة الفدائي الفلسطيني الطالعة من هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران 1967، مثالاً ساحراً في مخيلة هذه الحلقات والمجموعات التي عملت المنظمات الفلسطينية الكثيرة والمختلفة، على جذبها وإنشائها واحتضانها وتدريبها في معسكراتها وتسليحها، لتكون "حاميات" احتياطية تتحصن بها خوفاً من تكرار تجربة طردها من الأردن، بعد حربها الدموية المريرة مع الجيش الأردني في أيلول 1970.
كان لمنظمة "فتح" حصة الأسد من هذه الحلقات والمجموعات "الشبابية" و"الطالبية" المتناسلة منذ العام 1968. و"حركة لبنان العربي" في طرابلس كانت واحدة من هذه الحلقات. لكن المؤسس قضى اغتيالاً العام 1983 في المدينة الشمالية، حين كان لا يزال في خضم عمله ونشاطه وولاءاته الأمنية والدعوية المتقلبة بين "فتح" والأجهزة الخمينية، قبل قيامه بدور مركزي في تأسيس "حركة التوحيد" وفي المنازعات الداخلية بين أمرائها.

* شهادة أمنية
 

لتقديم صورة عن عمل هذه الحلقات والمجموعات، نروي هنا شهادة ناشط لبناني بيروتي في شبكات "فتح" الأمنية، وفي تنظيمها الطلابي الذي يشبه في تأسيسه وعمله في بيروت "حركة لبنان العربي" في طرابلس. والشهادة هذه نموذجية في دلالتها إلى أن شبكات "الكفاح" المسلح الفلسطيني، اللبنانية أو الملبننة التي نشأت وبدأ عملها جهازياً وأمنياً في أطره وأنويته (جمع نواة) الأولى، قبل انتشار شبكاته في العلنية العامة الأهلية والتنظيمية والإعلامية، وبعده. والشبكات العلنية هذه انتشر نشاطها في أحياء المدن الإسلامية القريبة من المخيمات الفلسطينية، وفي مدارسها، إضافة إلى جامعة بيروت العربية والجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية، حيث نشط تجنيد "الأنصار" وتدريبهم على السلاح في المخيمات ومعسكرات "الفدائيين" على الحدود اللبنانية - السورية في البقاع والشمال. وهذا قبل سنوات من بداية الحرب العام 1975. ولم تغب عن الشبكات وأعمالها، وخصوصاً الأمنية منها، أجهزة الأمن والمخابرات العربية التي تستّرت بضباب كثيف بعثه "الكفاح" المسلح الفلسطيني الذي نشأ شطر منه كامتداد لأجهزة المخابرات، وخصوصاً السورية والعراقية، قبل أن تنشىء أجهزة الثورة الخمينية، منذ ما قبل انتصارها، شبكات لها على ضفاف منظمة "فتح". والحق أن التأريخ الميداني لمسارات الحرب الملبننة ومنعطفاتها، لن يتحصل من دون التأريخ لعمل هذه الشبكات الرمادية التي شكلت "البنية التحتية" للحروب المتناسلة.
شهادة الناشط البيروتي نموذجية في بابها وفي دلالتها إلى عمل شبكات "فتح" الملبننة التي احترفت العمل الأمني. لذا نترك لصاحبها أن يروي فصلاً صغيراً من تجربته ومسيرته في صيغة المتكلم.
مع بدايات التزامي العمل النضالي في "التنظيم الطلابي" لحركة "فتح"، العام 1969، طلب مني مسؤولي التنظيمي جمع معلومات عن تنظيم آخر ناشط في محلة المزرعة، حيث كان منزلي. كان التنظيم يعمل باسم "الفدائيين العرب"، ويقتصر نشاطه على إصدار بلاغات كاذبة عن عمليات عسكرية وهمية في فلسطين المحتلة، وجمع تبرعات مالية للفدائيين الفلسطينيين.
لم تكن منظمة "الفدائيين العرب" فريدة من نوعها في أحياء بيروت. فالتعاطف والالتفاف الشعبيان اللذان حظي بهما العمل الفدائي، فتحا مجالاً واسعاً للمدّعين والمزيفين للإفادة المادية والمعنوية منه. وهذا ما كان يؤدي إلى تبني منظمات كثيرة عملية عسكرية واحدة، واصدار بيانات متضاربة عن العملية نفسها. ثم إن أعمالاً وبيانات كثيرة، كانت صنيعة أجهزة مخابرات غايتها اختراق صفوف المقاومة الفلسطينية والتأثير فيها.
سريعاً وجدتني في حلقة "الفدائيين العرب". فالمسؤول عنها كان منزله قرب منزل زميل لي على مقاعد الدراسة. قدمني الزميل إلى المسؤول قائلاً: "هذا الشاب مجنون بالعمل الفدائي، خذه معك في المنظمة، فمنذ يومين وهو يلحّ عليّ لأعرّفه عليك. أهلاً بالمناضلين قال المسؤول، وهل تستطيع أن تجمع لنا التبرعات؟ طبعاً ، هذه أبسط الأعمال، أجبته، ثم إنني أحتاج إلى تدريب عسكري، ومستعد للعمل ضد العدو الصهيوني"، تابعت قائلاً. أعطاني بعضاً من بيانات المنظمة لأوزعها في المدرسة، ودفتر إيصالات لجمع التبرعات. وفي اليوم التالي دُهش المسؤول المدعو رفعت، حين أعطيته مئة ليرة لبنانية، قلت إنني جمعتها من تبرعات الطلبة. لكن دهشته لم تنمْ عن شك بي، أنا الذي كان مسؤول تنظيم "فتح" الطلابي أعطاني المئة ليرة ثمناً لدفتر الإيصالات.
بعد لقاءات عدة به، اختفى رفعت ولم أعد أسمع عنه ولا عن منظمته خبراً واحداً. وفي التقرير الذي قدمته لمسؤولي التنظيمي، كتبت: لم يعد لـ"الفدائيين العرب" من وجود. رفعت غادر

لبنان إلى الأردن، على ما أعتقد. عدد المنتمين إلى منظمته لا يتجاوز الخمسة: زينب صديقته من مخيم برج البراجنة، وهي فتاة للمهمات كلها، تحسين شاب بسيط لا يفقه شيئاً، يوسف طالب كسول، أبو فؤاد استمر على علاقة بنا في رحلات كشفية يلقّننا في أثنائها بعض تدريبات عسكرية، قال إنه تلقاها جراء التحاقه بالعمل الفدائي في الأردن.
نصف سنة مرت قبل أن ألتقي أبو فؤاد، مصادفة، في مقهى في محلة المزرعة، فروي لي أن رفعت ملازم أول في جيش التحرير الفلسطيني العراقي (القادسية)، وأرسلته المخابرات العراقية إلى بيروت ليؤسس منظمة أمنية، لكنه لم ينجح في مهمته التي تستّر عليها بانشاء منظمة "الفدائيين العرب". وقال أبو فؤاد إن خاله، وهو عقيد في جيش التحرير الفلسطيني السوري (اليرموك)، أرسله بالتنسيق مع المخابرات السورية إلى بيروت، للقيام بمراقبة رفعت. بعد انصرافي من المقهى فكرت: كم هو صغير وضيق عالم المخابرات. لكن قصة منظمة "الفدائيين العرب" لم تنته فصولها بذلك اللقاء المفاجىء بأبي فؤاد. فبعد 4 سنوات لمحت الرجل إياه في قاعة للمهرجانات قرب جامعة بيروت العربية، حيث كان يحرّض مع مجموعة ترافقه ضد كلمة يلقيها المفكر الفلسطيني منير شفيق، في إطار ندوة سياسية حاشدة، وكان شفيق المنظّر الأساسي لـ"تنظيم فتح الطلابي"، و"الكتيبة الطلابية" لاحقاً. ولأن أبو فؤاد كان لمحني في القاعة، أسرع إلى الانسحاب منها، واختفى قبل تمكني من الوصول إليه. سألت الذين لاحظوا وجوده إن كانوا يعرفونه، فقال بعضهم إنه عضو في "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين". وبعد شهرين رأيت صور أبو فؤاد منتشرة على الجدران في محلة الطريق الجديدة، ومذيلة بعبارة: "استشهد أثناء قيامه بواجبه النضالي". كان من المعروف أن العبارة هذه تعني أن "الشهيد" قتل في حادثة ما، قد تكون غامضة، وقد تكون تصادم سيارتين، مثلاً.
منذ العام 1969 لم أعد ألتقي رفعت، إلا في العام 1980. لمحته فجأة يخرج من مدخل العمارة التي كنت أسكن فيها قرب جامعة بيروت العربية. وهي العمارة نفسها التي كان يسكن فيها قائد قوات "العاصفة" لمنظمة "فتح"، خليل الوزير (ابو جهاد). يقيني بأننا تبادلنا نظرة خاطفة، وبأن واحدنا تذكر الآخر وعرفه، ألهب الشك عقلي، حين رأيته يتفاداني متجاهلاً، ويخرج مسرعاً من مدخل العمارة. توجهت إلى الحارس الذي عليه أن يكون على علم بكل داخل إلى العمارة وخارج منها، وسألته عن الرجل، فقال إنه من جهاز "أمن الـ17" في "فتح"، وهو مسؤول عن الحواجز التي تؤمن الحماية الليلية في المنطقة. كم العالم صغير، وكم الذاكرة جميلة حين لا تنسى، وكم مليء عالمنا بالألغام البشرية؟! فكّرت قبل أن أبادر إلى ملاحقة أبو فؤاد.

* تصوف مافيوي
 

تتعقّب هذه الشهادة الجزئية بدايات عمل شاب لبناني في إحدى شبكات "فتح" الأمنية. وهو مال إلى هذا العمل واستمر فيه واحترفه، وصولاً إلى شبكات "الحرس الثوري الإيراني" لاحقاً. لكن شهادته هذه التي تنقل ملامح وجه أمني داخلي من وجوه العمل الفلسطيني، لا تستنفذ النشاطات الأخرى العلنية وشبه العلنية في الأحياء والمدارس والجامعات. فأعمال التعبئة والتأطير وتجنيد الأنصار، والتظاهر وحملات التأييد والمؤازرة، ودورات التدريب العسكري، والمجموعات والمنظمات التي تقوم بها - كـ"حركة لبنان العربي" الطرابلسية، و"أنصار الثورة" و"التنظيم الطلابي" قبل إنشاء "السَّرية" ثم "الكتيبة الطلابية" لـ"فتح" في بيروت - كانت أطرها وشبكاتها أوسع من الأطر والشبكات الأمنية الضيّقة التي جذبت الراوي واحترف العمل فيها.
كان يقوم بدور الحلقة القيادية الوسطى في تنظيم الشبكات والمنظمات "الفتحاوية" الناشطة في الأحياء والمدارس والجامعات، وتأطيرها، خليط متنافر من منظمين احترفوا العمل "النضالي" وتفرغوا له في أجهزة "فتح" المتداخلة والمتنافرة، وتجمع بينهم صلات وولاءات متباينة بقياديي الحركة "الكبار" المعروفين بـ"الأبوات" من عرّابي الاجهزة النافذين، وفي طليعتهم "ابو جهاد"، خليل الوزير، قائد "قوات العاصفة" والقابض على أطراف من خيوط شبكات هذه الأجهزة، وعلى المال والسلاح والحظوة والقوة والقرار داخل الحركة الفلسطينية. من هؤلاء المنظمين في الحلقة الوسطى والوسيطة بين الناشطين البارزين في شبكات العمل ومنظماتها في الأحياء والمدارس والجامعات، وبين "الأبوات" أو "عرّابي" الأجهزة، برز كل من محجوب عمر (شيوعي مصري سابق) منير شفيق (أبو فادي، الفلسطيني - الأردني و"المفوض السياسي" لـ"لواء الجرمق"، أحد ألوية "فتح" العسكرية المرابطة في لبنان)، ناجي علوش (أبو ابرهيم، وهو فلسطيني من قياديي "حركة القوميين العرب" سابقاً) وجواد أبو شعر (فلسطيني، وقائد ميليشيا "فتح" في لبنان). وكان لهؤلاء وأمثالهم، أتباع ومريدون من المنظمين اللبنانيين البارزين في شبكات التعبئة والتأطير والتدريب العسكري والتظاهر والعمل الدعوي، كـ"حركة لبنان العربي" و"انصار الثورة" و"كتيبة فتح الطلابية". هذه وغيرها كان "ابو جهاد" نفسه "عرّابها" الخفي، الذي أشيع أنه كان صاحب ميول إسلامية "إخوانية" وأبقى عمله وشخصيته في الظل، خلف ستار من الصمت والكتمان، من دون أن يسعى الى إنشاء نسيج تنظيمي مركزي، جامع ومتماسك ومتجانس، للحلقات الوسيطة من مريديه، وللشبكات الأهلية والشبابية والطالبية "الفتحاوية". شأنه في هذا شأن سائر "أبوات" الحركة المسلحة التي تركت شبكاتها اللبنانية تنتشر وتتناسل أفقياً وعلى نحو فوضوي، قوامه الولاءات والشلليّة. وتبين شهادات بعض من "لبنانيّي فتح" عن تلك الحقبة، أن "أبو جهاد" كانت تربطه بحلقات الوسطاء والبارزين من منظمي الشلل، علاقات ولاء أبوي تشوبه مسحة من "المافيوية" الجهازية و"الصوفية النضالية". وهذا ما جعله قطب أحلام مريديه ورغباتهم "الثورية" في الأبوة والرعاية، جواباً عن شعور المريدين بـ"اليتم" الرمزي والثقافي الذي كانوا يشعرون بأنهم ورثوه عن خروجهم اليساري على ثقافة الأجسام الأهلية التي صدروا عنها، وعن الفطرة الشعبية للجماهير الفقيرة التي اعتبروا أنهم تغرّبوا عنها بفعل ثقافة التعليم واللغات الأجنبية. وكان "مسيحيو فتح" اللبنانيون من أشد هؤلاء المريدين شعوراً بالغربة والحاجة إلى الخلاص منها، لأن اللغات الأجنبية وثقافتها كانت تشوب حياتهم البيتية والعائلية. وروى سعود المولى، وهو أحد "لبنانيي فتح" في تلك الحقبة (1973 - 1978) أن شاباً مسيحياً كان أهله وكلاء إحدى كبريات الشركات العالمية في لبنان، أصابه ذهابه بعيداً في عمله داخل أجهزة "فتح" الملبننة، بعارض من الفصام الضاغط، مما ساهم في حمله على انتحار مروع. وذكر المولى أيضاً أن المنظمات والأجهزة الفلسطينية، استخدمت يساريّيها المسيحيين في علاقاتها الدولية والإعلامية، وفي الاستطلاع ونقل المعلومات عن المجتمع المسيحي ومناطقه.
لم تكن الشبكات "الفتحاوية" الناظمة لهذه الأعمال والنشاطات وحلقاتها الوسيطة والأوسع منها في الأحياء والمدارس والجامعات، تؤلف جسماً تنظيمياً متراتباً ومتماسكاً ومترابطاً. بل كانت شللاً مستقلة، مبعثرة ومتنافرة، في بناء عنقودي تجتمع أطراف خيوطه في يد "الأبوات - العرّابين". لذا جرى تنقيل الشلل والمجموعات الكثيرة بين جبهات القتال، من خطوط التماس في بيروت وطرابلس، إلى أعالي جبل صنين لمجابهة "عصابات الكتائب اللبنانية" المسيحية (1975 - 1976)، فإلى بحمدون لصدّ وحدات الجيش السوري الزاحفة في اتجاه بيروت (1976). هذا قبل أن يجري نقلها أخيراً إلى بعض القرى على حدود لبنان الجنوبية (1977 - 1982)، لقتال "العدو الصهيوني" على طريق "تحرير فلسطين"، ومن بعدها الأمة العربية.

* خمينيو "فتح"
 

أثناء هذه المسيرة الحربية، كانت هذه المجموعات اللبنانية "الفتحاوية" المقاتلة، كـ"حركة لبنان العربي" و"الكتيبة الطلابية" تقترب من اعتناق الإسلام الخميني عقيدة نضال "سياسي" مسلح، بوحي من عرّابيها الأيديولوجيين أمثال منير شفيق وغيره من الذين خلطوا المقولات "الماوية" في "حرب الشعب" بالخمينية، وصولاً إلى دعوة "المناضلين" إلى "احترام" تقاليد الشعب وتراثه وثقافته الإسلامية. لذا راح "اليساريون العروبيون والماركسيون" في هذه المجموعات، يذوبون في عادات وتقاليد أهلهم المفترضة، ويستلهمونها على "دروب النضال" ويدعون إلى إحيائها في وجه "الثقافة البورجوازية الغربية والغريبة". وهي "الثقافة الإمبريالية" وفقاً لعنوان كتاب لإدوار سعيد، داعية نبذ "الاستشراق" الغربي وثقافته.
وسط هذه المناخات المحمومة بدأت هذه الجماعات في أداء شعائر الإسلام، من صلاة وصيام، فانكفأت عن نمط حياتها الطالبية السابقة المختلطة في المدارس والجامعات. بعض من هؤلاء الناشطين يمّم شطر إيران الخمينية وسافر أو هاجر إليها، وكان بينهم مشايخ "فتحاويون" معممون، ومنهم من "تمشيخ" وتعمّم في المهجر الإيراني وعاد إلى لبنان. ولم تخلُ هذه الموجة من بعض محترفي "النضال" في صفوف "الحرس الثوري" الإيراني، على شاكلة الناشط الأمني "الفتحاوي" في شبكات عالمية، أنيس نقاش الذي شارك في عملية اغتيال رئيس وزراء إيران السابق، شاهبور بختيار في باريس. وهنالك الكثير من الشهادات والمتابعات الصحافية التي أشارت إلى أن بعضاً من الخلايا التأسيسية للحركة الخمينية في لبنان، كانت من المجموعات "الفتحاوية". وقد يكون الأبرز في هذه الخلايا السرية، الشيعي اللبناني، عماد مغنية الذي ورد في سيرته "النضالية" انه انتقل من "كتيبة فتح الطلابية" إلى جهاز "أمن الـ17 الفتحاوي"، قبل أن يختفي منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين حتى اغتياله في دمشق في 12 شباط 2008.
أما عصمت مراد، مؤسس "حركة لبنان العربي" في طرابلس، فيرى عامر أرناؤوط أنه انتقل من نشاطه وولائه "الفتحاويين" إلى صلة وثيقة بـ"الحرس الثوري" الإيراني. ومهّدت لصلته هذه علاقته بالناشط الإيراني مصطفى شمران الذي كان يقيم في لبنان ويعمل في أجهزة "فتح" وينشىء مجموعات لبنانية إسلامية خمينية، قبل انتصار الثورة الإيرانية وتوليه وزارة الدفاع في حكومتها الأولى بطهران. وفي مطالع ثمانينات القرن العشرين، فيما كان الجهاز الخميني و"حرسه الثوري" يبلوران فكرة "تصدير الثورة" وإنشاء "حركة خمينية شيعية" في ضاحية بيروت الجنوبية، كانت طرابلس تحظى باهتمام كبير من "الحرس الثوري" لأن التيارات والحركات الإسلامية كانت راسخة فيها وقوية، ناشطة وجاهزة، لتلقف "تصدير الثورة". لذا بدأت ترتسم في أفق المدينة اللبنانية الشمالية عواصف نزاع أقليمي مدمّر ومثلث الطرف، سوري، فلسطيني وإيراني. وذلك قبل أن تصل هذه العواصف إلى بيروت التي عاجلتها وحاصرتها في صيف 1982، الحملة العسكرية الاسرائيلية على المنظمات الفلسطينية المسلحة ووحدات الجيش السوري المرابطة في لبنان. وبعدما أجلت هذه الحملة الوحدات السورية ومسلحي المنظمات إلى سوريا والبقاع، وأجلت القيادة الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات وشطراً من مسلحيه، بحراً عن بيروت في نهاية ذلك الصيف العاصف، سرعان ما عاد عرفات بحراً إلى طرابلس في أواسط العام 1983، ليدير منها حربه مع القيادة السورية، طالباً "النصرة" من المدينة الإسلامية التي تأسست فيها "حركة التوحيد الإسلامية" تحت لواء أميرها الشيخ سعيد شعبان.
كان عصمت مراد، وفقاً لعبد الغني عماد، "أبرز المساهمين في تأسيس الحركة" إلى جانب شعبان، فيما يرى أرناؤوط أنه كان المنظم الأساسي لعلاقة أمير الحركة بالجهاز الخميني الإيراني. ودليله إلى هذا الدور أن عصمت مراد جمعته صور فوتوغرافية صحافية كثيرة مع بعض القادة الخمينيين في طهران، أثناء زيارته العاصمة الإيرانية 9 مرات في العامين 1980 و1081، وأن شعبان ومراد وخليل عكاوي وغيرهم من بعض أمراء "التوحيد" المؤسسين، كانوا في طهران غداة الحملة العسكرية الاسرائيلية على لبنان صيف 1982، فأجبروا على العودة من قبرص بحراً إلى طرابلس، بسبب قفل مطار بيروت الدولي. وهذا دليل إلى عزوفهم عن العودة عبر دمشق، التي كانت علاقتهم بها سيئة، على خلفية ارتباطهم بالأجهزة "الفتحاوية" والإيرانية.
لذا يؤكد أرناؤوط أن مراد قدّم صلاته الوثيقة بـ"الحرس الثوري" الإيراني على منشئه "الفتحاوي"، بل تخلى، على نحو غير علني، عن ولائه لـ"فتح" عشية تأسيس "حركة التوحيد الإسلامية" التي رعاها ياسر عرفات وعاد إلى طرابلس لإدارة حربه الملبننة مع النظام السوري. وعشية عودته في أواسط العام 1983، اغتيل عصمت مراد، فتولى بعده مالك علوش (أبو سمير) إدارة "حركة لبنان العربي" التي ذابت في "حركة التوحيد" وانطفأ ذكرها في طرابلس.
 

محمد أبي سمرا     

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,225,091

عدد الزوار: 6,941,185

المتواجدون الآن: 134