«المناطق الآمنة» في البوسنة جمعت الفشل والنجاح... وفي ظلها ارتكِبت مجزرة سربرنيتسا

تاريخ الإضافة الخميس 16 شباط 2017 - 5:18 ص    عدد الزيارات 874    التعليقات 0

        

 

«المناطق الآمنة» في البوسنة جمعت الفشل والنجاح... وفي ظلها ارتكِبت مجزرة سربرنيتسا
محمد م. الأرناؤوط 
مع اقتراح الرئيس الأميركي الجديد إنشاء «مناطق آمنة» في سورية واستعداد موسكو لمناقشة الأمر مع واشنطن، تستدعي الذاكرة تجارب «المناطق الآمنة» في العالم ولعل أشهرها تجربة البوسنة والهرسك خلال الحرب المأسوية (1992-1995) التي تراوحت بين الفشل والنجاح والتي لا بد من أخذ دروسها بعين الاعتبار في ما يتعلق بسورية. الأمم المتحدة آنذاك فوجئت بموجة الحروب التي اندلعت نتيجة لانهيار يوغوسلافيا خلال 1991-1999، وما صاحبها من تداخل القوى المختلفة والعنف غير المسبوق في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الذي تجلى في المجازر الجماعية والاغتصاب وتغيير الوضع الإثني- الديموغرافي ليناسب الحدود الجديدة للكيانات المتصارعة، ولذلك لم يكن التدخل سهلاً وسريعاً.
وكان انهيار يوغوسلافيا التيتوية بدأ مع صعود الزعيم الصربي الجديد سلوبودان ميلوشيفيتش في 1986 ودعوته الى «توحيد الصرب» في يوغوسلافيا التي ترافقت مع سعيه الى ضمان الهيمنة على غالبية الوحدات الفيديرالية الثماني التي كانت تتألف منها يوغوسلافيا. ومع نجاحه حتى 1989 في السيطرة على أربع وحدات (صربيا وكوسوفو وفويفودينا والجبل الأسود) حل دور البوسنة نظراً للوجود الصربي المعتبر فيها (أكثر من 30 في المئة)، وهو ما دفع سلوفينيا وكرواتيا الى الإعلان عن رغبتهما بالاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي خوفاً من أن يلحق بهما مصير البوسنة. وعلى حين أن الحرب مع سلوفينيا انتهت بسرعة لأنها لم تكن ضمن خريطة «صربيا الكبرى»، طالت الحرب مع كرواتيا بسبب الوجود الكرواتي فيها ورغبة صربيا في الوصول الى البحر الأدرياتيكي، وما رافق ذلك من تدمير واسع ومجازر جماعية، مما أدى الى تدخل الأمم المتحدة في أكبر عملية من نوعها بعد تدخلها في الكونغو عام 1960. ففي 21/1/1992 اتخذ مجلس الأمن قراره 743 بإرسال قوات لحفظ السلام للفصل بين القوات الصربية والكرواتية التي تشكلت من قوات 31 دولة، وهو ما مهّد لاندلاع القتال في البوسنة التي أصبحت ضحية الوضع الجديد في يوغوسلافيا المنهارة. تمخضت الانتخابات الأولى الديموقراطية في تشرين الأول (اكتوبر) 1990 عن فوز الأحزاب القومية لدى المكونات الثلاثة (البشناق والصرب والكروات) التي شكلت حكومة ائتلافية لتنهي بذلك حكم الحزب الشيوعي المستمر من 1945. ولكن الموقف مما بقي من يوغوسلافيا (التي أصبحت بعد استقلال سلوفينيا وكرواتيا تحت هيمنة ميلوشيفيتش بفضل الأكثرية العددية للصرب فيها) فرّق بين الأحزاب القومية. فقد كان الصرب يفضلون البقاء ضمن «يوغوسلافيا الفيديرالية» التي كانت تعني في الواقع تحقيق طموح ميلوشيفيتش في «صربيا الكبرى» تحت مظلة يوغوسلافيا، ولذلك عارضوا بشدة التوجه نحو الإعلان عن «سيادة جمهورية البوسنة والهرسك» في 15/11/1991. ولتأكيد ذلك، انسحب الوزراء والنواب الصرب من البرلمان وأسسوا في 24/11/1991 «برلمان صرب البوسنة والهرسك» الذي أعلن في 9/1/1992 عن تأسيس «جمهورية الصرب». ولكن البشناق والكروات رفضوا هذه الحركة الانفصالية وأعلنوا عن إجراء استفتاء على الاستقلال في 29/2/1992، مما عمّق الانقسام في البلاد. ففي ذلك اليوم، قاطع الصرب الاستقلال وخرج فقط البشناق والكروات (63,4 في المئة) ليصوتوا بنسبة 99,7 في المئة لأجل الاستقلال لتبدأ بعد أسابيع (نيسان-أبريل 1992) الحرب بين الأطراف الثلاثة ويبدأ معها تدخل الأمم المتحدة. كانت سراييفو مقراً للقيادة العامة للقوات الدولية في يوغوسلافيا السابقة، التي كانت تغطي مناطق الهدنة بين القوات الكرواتية والصربية، ولكن مع اندلاع القتال في سراييفو وتصريح الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي (الذي انتقد كثيراً لموقفه من الحرب الدائرة في البوسنة) بأن سراييفو لم تعد مكاناً آمناً تم تخفيض القوات الموجودة فيها حتى الثلث (200 جندي فقط). فأصبحت هذه القوة عاجزة عن فعل أي شيء. وفي الفترة الأولى ركزت الأمم المتحدة على تأمين وصول «قوافل إغاثة» الى المدنيين في سراييفو التي كانت محاصرة من الجبال المحيطة بها وتحت القصف المدفعي. وفي 18/6/ 1992 وصلت بصعوبة الى سراييفو قافلة تضم 60 مراقباً للمساعدة على إعادة فتح مطار سراييفو لاستقبال الشحنات الجوية للمساعدة. كانت المشكلة الكبرى تتمثل في وجود الجيش النظامي (التابع لميلوشيفيتش) في البوسنة. فمع الاعتراف باستقلال البوسنة بعد الاستفتاء وانضمامها إلى الأمم المتحدة، طالبت المنظمة الدولية يوغوسلافيا بسحب جيشها فوراً من البوسنة. ونظراً لأن معظم قيادة وأفراد الجيش (بعد استقلال سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا) كانوا من الصرب فقد انضموا هؤلاء مع أسلحتهم الى القوات الصربية، بينما كانت حكومة سراييفو تفتقد الى الجيش والأسلحة والاستعداد للحرب. وقد أدى هذا الى تقوية طرف (الصرب) واجتياحهم مناطق واسعة في البوسنة خلال ربيع- صيف 1992، مع ما صاحب ذلك من مجازر جماعية وتطهير عرقي لأجل إحداث تغييرات إثنية- ديموغرافية تناسب الحدود الجديدة ليوغوسلافيا الجديدة- الميلوشيفية. في هذا الوضع، ومع تسرب صور المجازر الجماعية ومعسكرات الاعتقال والاغتصاب، تتابعت قرارات مجلس الأمن لتتدرج نحو السقف الأعلى. ففي 13/8/2017 صدر القراران 770 و771 اللذان ركزا على حماية قوافل الإغاثة والسماح للجان الدولية المختصة بزيارة معسكرات الاعتقال. ثم تتالت القرارات الأخرى التي نصّت على وقف أي شكل من أشكال التدخل الدولي في البوسنة ومنع أية محاولة لتغيير التركيبة الإثنية- الديموغرافية للمناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة. ومع عدم الانصياع لقرار مجلس الأمن السابق حول وقف التدخل الدولي (من صربيا المجاورة)، صعّد مجلس الأمن في مضمون قراراته بالتوجه الى فرض حظر جوي فوق البوسنة بالقرار رقم 781 تاريخ 19/10/1992، الذي كان يقصد منه منع دخول الطائرات من صربيا المجاورة، والذي تعزز بالقرار 787 تاريخ 16/10/1992 الذي شمل أيضاً فرض المزيد من العقوبات على يوغوسلافيا (صربيا في الواقع). ثم أقدم مجلس الأمن على خطوة جديدة لتفادي حدوث مجازر جماعية وموجات تهجير كبيرة ضمن البوسنة أو الى الدول الأوروبية المجاورة فأصدر أولاً القرار 819 تاريخ 16/4/1993 لإنشاء منطقة آمنة UN Safe Area في جيب سربرنيتسا في شرق البوسنة، ثم أصدر القرار رقم 824 بتاريخ 6/5/1993 باعتبار مدن سراييفو وجيبا وغوراجده وتوزلا مناطق آمنة أيضاً مع إرسال وحدات من قوات حفظ السلام، ولكن لم يسمح لها باستخدام النار إلا في حالة الدفاع عن النفس. ولكن القوات الصربية اجتاحت شرق البوسنة في صيف 1995 لتطهر تلك المناطق من البشناق حتى تصبح الحدود الجديدة التي يتم الاتفاق عليها في المفاوضات مناسبة أكثر لهم. ومن هذه الحالات دخلت المنطقة الآمنة في سربرنيتسا التاريخ في شهر تموز(يوليو) 1995 عندما اجتاحتها القوات الصربية على الرغم من وجود الوحدة الهولندية (400 جندي) التابعة لقوات الأمم المتحدة التي لم تتدخل لمنع مجزرة جماعية أودت بحياة حوالى ثمانية آلاف مسلم.
وقد حرّك هذا التحدي الاستفزازي المجتمع الدولي ودفع الغرب إلى تحريك قوات شمال الأطلسي لقصف مواقع القوات الصربية لتدفع بذلك أخيراً الصرب الى التفاوض في قاعدة دايتون الأميركية والتوصل في تشرين الثاني(نوفمبر) 1995 إلى حل وسط قضى بانسحاب الصرب من مناطق واسعة احتلوها ليقبلوا بـ 49 في المئة لكيانهم (جمهورية الصرب) التي بقيت ضمن «جمهورية البوسنة والهرسك» التي تعترف بها الأمم المتحدة.
ومن تجربة البوسنة، يمكن استنتاج بعض الدروس:
1- إن الحروب في يوغوسلافيا السابقة جاءت مفاجئة (من حيث الانتشار السريع والعنف البالغ المصاحب لها) للجماعة الأوروبية والأمم المتحدة، ولذلك حدث الارتباك في التعاطي معها بسبب المصالح المختلفة للدول الأعضاء.
2- كان السياق الدولي، بخاصة بين الولايات المتحدة وروسيا الجديدة اليلتسينية، يسمح بالتوافق على قرارات مجلس الأمن حول يوغوسلافيا السابقة والبوسنة تحديداً.
3- كان موقع البوسنة والتعدّد الاثني- الديني فيها يساعدان على تدخل الدول المجاورة وحتى البعيدة (ايران) التي وجدت في هذه الحرب فرصة لتحقيق أجندة خاصة بها.
4- في هذا السياق، جاءت قرارات مجلس الأمن لتشمل أيضاً وقف التدخل من الخارج وسحب القوات الأجنبية الموجودة في البوسنة.
5- جذبت البوسنة بعد انتشار صور المجازر والاغتصاب مئات «المجاهدين» من الدول العربية الذين حاولوا تحويل البوسنة الى «ساحة جهاد» ونشر الإسلام المتطرف الذي حملوه معهم وكان غريباً على تقاليد المسلمين هناك.
6- لم تتوافر في المناطق الآمنة التي تشكلت قوة كافية من الأمم المتحدة وولاية واضحة لها لاستخدام القوة للدفاع عن هذه المناطق إزاء أي هجوم تتعرض لها.
7- بسبب تعقيدات الوضع في البوسنة (التنوع الاثني- الديني) كان يفترض بقوات الأمم المتحدة أن تكون أكثر تنوعاً ومن دول مقبولة من الأطراف المختلفة، لأن القوات الموجودة في هذه المناطق (كما هي حالة القوات الهولندية في سربرنيتسا) اتهمت بالتواطؤ في ما حدث بسبب علاقتها مع القوات الصربية.
8- صحيح أن تجربة المناطق الآمنة فشلت مع سربرنيتسا في شكل خاص ولكن هذا الفشل دفع المجتمع الدولي إلى تدخل حازم (قصف جوي لمواقع جمهورية الصرب) أدى في النهاية إلى الالتزام بالتفاوض للتوصل إلى حل سلمي (اتفاقية دايتون).
 
 

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,141,512

عدد الزوار: 6,756,651

المتواجدون الآن: 121