كيف ينظر العرب الى تركيا؟ [1]:

تاريخ الإضافة الأحد 20 حزيران 2010 - 6:52 ص    عدد الزيارات 1014    التعليقات 0

        


 

دراسة تركية
كيف ينظر العرب الى تركيا؟ [1]: التغييرات في وجهات النظر العربية
بقلم مليحة بنلي التونيشيك

يبدو أنّ الآراء العربية حول تركيا شهدت تحوّلاً أكثر إيجابية في الأعوام الأخيرة. تهدف هذه الورقة إلى فهم هذا التحوّل. إلى أي حدّ تغيّرت الآراء العربية حول تركيا؟ لماذا حدث هذا التحوّل؟ ما هي النقاشات التي تدور في العالم العربي عن تركيا؟ هل من اختلافات عبر البلدان والأيديولوجيات السياسية؟
الهدف الأساسي لهذه الدراسة هو كشف النقاب عن آراء مختلفة حول تركيا في أوساط صانعي الرأي والبيروقراطيين وكذلك الرأي العام في العالم العربي. لهذه الغاية، أجريت استطلاعات للرأي العام ودراسات وأبحاث حول المسألة ومقابلات شخصية. وقد تمثّلت المصادر الأساسية لفهم النقاش العام حول تركيا في العالم العربي في المقابلات والنقاشات والتواصل الشخصي مع البيروقراطيين وصانعي الرأي، ولا سيّما الصحافيين والأكاديميين والخبراء في مراكز الأبحاث والدراسات. على الرغم من أن جزءاً مهماً من البيانات جُمِع في العام الأخير كجزء من هذا المشروع، يرتكز التحليل أيضاً على سنوات من الانخراط مع العالم العربي وما ينجم عنه من مراقبات ونقاشات.

الخلفية التاريخية
 
كانت وجهات النظر العربية حول تركيا متعدّدة الوجه تاريخياً بقدر ما هي اليوم. في الحقبة المعاصرة، يمكن تحديد نقاط تحوّل عدّة أثّرت في الآراء العربية حول تركيا. فعلى سبيل المثال، تابع القوميون في أجزاء مختلفة من العالم العربي حرب الاستقلال التركية عن كثب. غير أن الإصلاحات التي أعقبت إنشاء الجمهورية التركية ولّدت ردوداً متفاوتة. وأدّى إلغاء الخلافة في شكل خاص إلى بعض الخيبة والانتقادات. ظلّ الإسلاميون ينتقدون بشدّة العلمانية في تركيا. لكن على الرغم من ذلك، كانت مرحلة الإصلاح في تركيا آنذاك مصدراً لـ"الإعجاب بمصطفى كمال في أوساط النخب الحديثة الصاعدة" في البلدان العربية(1).
لاحقاً أدّت وجهة النظر القومية العربية الطاغية دوراً مهماً في وضع تركيا في أطر سلبية إلى حد كبير. في مرحلة ما بعد الاستقلال، وصفت الرواية القومية العربية العثمانيين بالمستعمرين واعتبرتهم مسؤولين عن تخلّف العالم العربي. في الجانب التركي، تأرجحت المشاعر من الابتعاد عن الإرث العثماني إلى شعور بـ"الخيانة" عقب الثورة العربية. على الرغم من أن علم التأريخ الحديث يشكّك في شكل خاص في هذا التصنيف الحاد للقمع والخيانة، تطوّرت العلاقات بين تركيا والعالم العربي ضمن هذه الذاكرة التاريخية السلبية التي ظلّت حية من خلال الكتب المدرسية والتجلّيات الثقافية.
خلال الحرب الباردة، اصطفّت تركيا إلى جانب الكتلة الغربية. لكن في السنوات الأولى لهذه الحرب، كانت العلاقات بين الأنظمة العربية الكبرى والكتلة الغربية عدائية، وكانت المشاعر الشعبية انتقادية أيضاً نظراً إلى الدعم الذي كان الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، يقدّمه لإسرائيل. لقد ساهم هذا الواقع أكثر فأكثر في العلاقة الإشكالية. وهكذا كانت وجهة النظر الطاغية في العالم العربي تعتبر تركيا تابعة أميركية. وتعزّزت وجهة النظر هذه بعد مشاركة تركيا في التوصّل إلى ميثاق بغداد عام 1955. وفي غضون ذلك، ولّد اعتراف تركيا بإسرائيل عام 1949 مزيداً من الشقاق.
اعتباراً من عام 1980، ازداد الاهتمام العربي بتركيا من جديد، وذلك لأسباب استراتيجية مثل الشعور المتنامي بالتهديد من الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979، وانسحاب مصر من السياسة الإقليمية بعد توقيعها سلاماً مع إسرائيل. وفي تركيا، ركّز النظام العسكري أيضاً على علاقات تركيا مع الشرق الأوسط. استمرّ الاهتمام بتوسّع العلاقات التركية مع العالم العربي خلال عهد تورغوت أوزال. وأحد انعكاسات هذا الاهتمام الجديد كان تزايد عدد الطلاّب العرب الذين يدرسون في تركيا وكذلك فورة في السياحة والتجارة بين تركيا والعالم العربي(2). ووصل هذا الاهتمام أيضاً إلى ميدان الأبحاث والدراسات. فمن خلال الاجتماعات والعديد من المنشورات، ظهرت نزعة شدّدت على أهمّية إعادة النظر في التاريخ الشائع والتمعّن في الأفكار النمطية المشتركة بهدف المساهمة في تحسين العلاقات بين تركيا والعالم العربي(3).
لكنّ هذه المحاولات وُلدت ميتة، إذ بدأت علاقات تركيا مع العالم العربي تتدهور نحو أواخر ثمانينات القرن العشرين. فبعدما أطلقت تركيا "مشروع جنوب شرق الأناضول" بهدف استعمال مياه دجلة والفرات لريّ مساحات شاسعة من الأراضي، بدأت علاقاتها مع جيرانها العرب تتدهور. وفي الوقت الذي كان فيه العراق منشغلاً بحربه مع إيران، كان لمسألة المياه تأثير أكبر على العلاقات التركية-السورية. فقد اعتبرت دمشق، انطلاقاً من أيديولوجيا الاكتفاء الذاتي، أنّ "مشروع جنوب شرق الأناضول" هو "سيطرة تركية على مياهها"، وحوّلتها مسألة عربية شاملة عبر إدراجها على جدول أعمال اجتماعات الجامعة العربية في مرحلة التسعينات. أما تركيا فكانت تعتبر من جهتها أن المسألة الأساسية هي الدعم السوري لحزب العمّال الكردستاني الذي كان قائده يقيم في دمشق، الأمر الذي ساهم أكثر فأكثر في تفاقم الأزمة بين البلدَين. نتيجةً لذلك، ساد مناخ من الشك المتبادل وانعدام الثقة. وبلغت المشكلات في العلاقات السورية - التركية الذروة في تشرين الأول 1998 عندما هدّدت تركيا سوريا باللجوء إلى القوة إذا لم توقف دعمها لحزب العمّال الكردستاني. وقد انتهى الشجار عندما أرغمت سوريا زعيم حزب العمّال الكردستاني على مغادرة البلاد، ووقّع البلدان اتّفاقات أضنة في 20 تشرين الأول 1998.
في التسعينات، غرقت المنطقة في نقاش حول نظام شرق أوسطي جديد في مرحلتَي ما بعد الحرب الباردة وما بعد حرب الخليج. لم يكن هذا النقاش عن الفاعلين وخصائص النظام الإقليمي الصاعد وحسب، إنما أيضاً عن انخراط هذا النظام مع القوى الخارجية، ولا سيما القوّة العظمى الوحيدة الصاعدة آنذاك. لم تكن تركيا تُعتبَر جزءاً من هذه النقاشات، إذ لم يكن يُنظَر إليها بأنّها عضو مهم في النظام الإقليمي الصاعد(4). من جهة أخرى، كانت تركيا تشعر بأنّها مهدَّدة من التطوّرات في المنطقة، ولا سيما في العراق بعد حرب الخليج وكذلك الدعم السوري لحزب العمّال الكردستاني. وقد اختارت مواجهة هذه التهديدات عبر اعتماد سياسات تعطي الأولوية للوسائل العسكرية وتُوازِن التهديدات من طريق التحالفات. وهكذا اعتُبِرت تركيا خلال الجزء الأكبر من التسعينات أنها غير ذات صلة إلى حد كبير بالنقاش في العالم العربي، وانطبعت العلاقات بالتصوّرات المتبادلة عن التهديد وبانعدام الثقة. بدأ هذا المناخ يتغيّر إلى حد كبير بعد عام 2003(5).

التغييرات في وجهات النظر العربية حول تركيا
 
يبدو أن التحوّل الأكثر إيجابية في وجهات النظر حول تركيا في العالم العربي حصل نتيجة العديد من التطوّرات شبه المتوازية. ترتبط بعض هذه التطوّرات بتركيا، في حين أنّ بعضها الآخر عبارة عن عوامل مرتبطة بالمنطقة.

-1 العوامل المرتبطة بتركيا
في الآونة الأخيرة، أدّت تطوّرات عدّة على صلة بتركيا إلى ظهور نظرة أكثر إيجابية إليها في العالم العربي: وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة عام 2002؛ القرار الذي اتّخذه البرلمان التركي في آذار 2003 برفض التعاون مع الولايات المتحدة في حربها ضد العراق؛ المستجدّات في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ولا سيما انطلاق مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد في كانون الأول 2004؛ رد الفعل التركي على حرب غزة وما يُعرَف بمسألة دافوس عام 2009.
ولّد انتخاب "حزب العدالة والتنمية" ذي الجذور الإسلامية عام 2002، اهتماماً بتركيا في العالم العربي. لقد اهتمّ الليبراليون والإسلاميون على السواء بفوز "حزب العدالة والتنمية" لأسباب مختلفة، كما سوف أعرض بالتفصيل أدناه. لكن في الإجمال، أدّى هذا التطوّر إلى إعادة النظر في تركيا. والأهم من ذلك هو أنه تحدّى النظرة الخام إلى السياسة التركية التي كانت ترى هذه السياسة من خلال عدسة النخبة العلمانية الصغيرة في مقابل الجماهير المسلمة. وأعقب ذلك قرار البرلمان التركي في الأول من آذار 2003 رفض تدخّل تركيا في الاجتياح الأميركي في العراق. لقد تحدّى هذا القرار النظرة التي كانت قائمة منذ وقت طويل وتعتبر تركيا "تابعة أميركية" في العالم العربي، وعزّز صدقية تركيا في المنطقة. في هذه الأثناء، كانت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي تتقدّم. عام 1999، قرّر مجلس الاتحاد الأوروبي المنعقد في قمة في هلسينكي اعتبار تركيا مرشّحة للعضوية في الاتحاد الأوروبي. وأعقب ذلك قرار بدء مفاوضات الانضمام في كانون الأول 2004. لقد بدّدت هذه التطوّرات نظرة أخرى كانت رائجة في العالم العربي بأنّ "تركيا تنتظر عند باب الاتحاد الأوروبي، لكن الاتحاد لا يكترث لها على الإطلاق".
أخيراً، جاءت السياسات التركية خلال الهجوم الإسرائيلي في غزة وردّ فعل رئيس الوزراء التركي في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2009 لتزيد من شعبية تركيا في العالم العربي. فالكلام الغاضب الذي تبادله رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس خلال جلسة نقاش حول غزة جعله يكتسب شعبية كبيرة في أوساط الرأي العام العربية، وتحدّى النظرة إلى تركيا بأنها حليفة مقرّبة لإسرائيل(6).
كانت كل هذه التطوّرات مرتبطة بالتطوّرات في العالم العربي، وكانت لها صلة تالياً بالنقاشات في المنطقة. وكانت النتيجة الإجمالية تغيّر النظرة إلى تركيا على مستوى الرأي العام والدولة.
إلى جانب هذه الأحداث المحدّدة، يمكن القول بأنّ التحوّل الاقتصادي والسياسي في تركيا وكذلك سياستها الخارجية الجديدة في الشرق الأوسط ولّدا في شكل عام اهتماماً بالبلاد تُرجِم في حالات عدّة آراء أكثر إيجابية. فقد باشرت تركيا، مدفوعةً برغبتها في أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي وبجهودها الهادفة إلى تحقيق الانسجام مع تشريعات الاتحاد الأوروبي، في إجراء إصلاحات سياسية واسعة النطاق. في موازاة هذه التغييرات السياسية، كانت تركيا تشهد أيضاً تحوّلاً اقتصادياً. حدث تحوّل أساسي في الاقتصاد التركي في الثمانينات من خلال اعتماد سياسات اقتصادية أكثر ليبرالية. فعلى الرغم من الأزمات المتعدّدة، تطوّر الاقتصاد التركي إلى درجة كبيرة، فأصبح الاقتصاد السادس عشر في العالم من حيث الحجم. لقد عزّز الاقتصاد الحيوي والإصلاحات الديموقراطية قوّة تركيا الناعمة في المنطقة وأكسباها جاذبية كبيرة في نظر الإصلاحيين.
أخيراً، ساهمت السياسة الخارجية التركية في المنطقة في التطوّر الإيجابي لوجهات النظر حول تركيا. لقد سلّطنا الضوء أعلاه على تأثير بعض القرارات المحدّدة التي اتّخذتها تركيا في السياسة الخارجية. لكن أبعد من هذه القرارات، بدا أن السياسة الخارجية التركية تطوّرت في اتّجاه لقي ترحيباً إيجابياً في المنطقة في شكل عام. لقد استطاعت تركيا أن تُحدِث تحوّلاً في علاقاتها الإشكالية مع جيرانها الشرق الأوسطيين، وشدّدت على الديبلوماسية والحوار والتكافل الاقتصادي في انخراطها مع المنطقة. كما أصبحت أنقرة أكثر تلهّفاً لتأدية دور الطرف الثالث في النزاعات الإقليمية، ويُنظَر إليها في شكل عام بأنّها فاعل محايد وبنّاء. في الإجمال، بدأت تركيا ترويج رؤية تركّز على منطقة مستقرّة تنعم بالسلام والازدهار وتُبرهِن عن قدرة على معالجة مشكلاتها، واعتبرت أن منطقة من هذا النوع تصبّ في مصلحة تركيا أيضاً. وقد أثّرت هذه اللغة الجديدة في النظرة إلى تركيا في المنطقة.

-2 العوامل المرتبطة بالمنطقة
 
أدّت التطوّرات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في الشرق الأوسط أيضاً إلى تغييرات في وجهات النظر حول تركيا. وقد ولّد العديد من التطوّرات الأخيرة في المنطقة شعوراً بوجود أزمة: انهيار عملية السلام العربية-الإسرائيلية عام 2000 وتدهور النزاع الفلسطيني؛ الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003؛ صعود إيران كقوّة إقليمية؛ الانقسامات العربية؛ كما أن خطر الانهيار جعل بعض الدول مثل سوريا تشعر بأنها ضعيفة في المنطقة. لقد سلّطت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي كما توثّقها تقارير التنمية البشرية العربية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واستمرار السلطوية، الضوء على مشكلات الشرعية المتفاقمة التي تعاني منها الأنظمة العربية. وهكذا دخل العالم العربي القرن الحادي والعشرين مع شعور عميق بأنه في أزمة.
تمثّلت الدينامية الإقليمية الأساسية التي شجّعت تركيا على تأدية دور الطرف الثالث، في الانقسامات العربية وبروز فراغ في السياسة الإقليمية. لم يُضعِف انقسام العالم العربي قدرة الدول على معالجة المشكلات الإقليمية مثل المسألة الفلسطينية والأزمة العراقية وحسب، بل سمح أيضاً لقوى أخرى بالتدخّل سعياً لتحقيق مصالحها. والفراغ الثاني في المنطقة خلّفته الولايات المتحدة. فقد أصبح فشل إدارة بوش مرة أخرى في خلق نظام شرق أوسطي واضحاً جداً للعيان بعد اجتياح العراق عام 2003. حتى قبل 2003، كانت إدارة بوش لا تبالي إلى حد كبير بعملية سلام عربية-إسرائيلية. وفراغ السلطة الذي اقترن مع فراغ أيديولوجي ونجم عن تراجع نفوذ الولايات المتحدة وصدقيّتها في المنطقة ملأته من جديد قوى إقليمية على غرار إيران وتركيا. لكن خلافاً لإيران، ظهرت تركيا طرفاً ثالثاً "مستقلاً ومحترماً وذا صدقية"(7) نظراً إلى قدرتها على التكلّم مع كل الأفرقاء في المنطقة. وقد عزّزت النظرة إلى تركيا بأنها محاوِر جيّد، موقع أنقرة.
وهكذا لم يولّد السياق الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي - الاجتماعي الجديد فرصاً جديدة وحسب كي تنخرط تركيا أكثر في المنطقة، بل زاد أيضاً جاذبيتها. لكن تركيا عنت أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. لقد انطبعت الآراء حول تركيا بالمواقف والصراعات ضمن السياقات العروبية والوطنية. ولذلك ليس مفاجئاً الوقوع على اختلافات بين البلدان وكذلك على مواقف أيديولوجية مختلفة من تركيا في العالم العربي(8).
الرأي العام
 

يبدو أن النظرة الإيجابية إلى تركيا في العالم العربي تنعكس لدى الرأي العام الواسع. هذا ما يُظهره استطلاع آراء أجرته "المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية" (تيسيف)(9) عبر الهاتف بين 24 و29 تموز 2009 في مصر والأردن والأراضي الفلسطينية ولبنان والسعودية وسوريا، ووجهاً لوجه في العراق – وقد شارك في الاستطلاع 2006 أشخاص(10) وأظهر نظرة إيجابية جداً إلى تركيا.
وكما تظهر نتائج الاستطلاع كانت لتركيا صورة جيّدة في البلدان السبعة. في تصنيف البلدان التي يُنظَر إليها بالإيجابية الأكبر في المنطقة، حلّت تركيا في المرتبة الثانية بعد السعودية مع تسجيل نسبة 75 في المئة من المجيبين الذين ينظرون إليها بإيجابية كبيرة أو بإيجابية. وكان عدد المجيبين الذين ينظرون إلى تركيا بإيجابية كبيرة أو بإيجابية مرتفعاً في شكل خاص في سوريا والأراضي الفلسطينية والأردن. في الأراضي الفلسطينية، كانت تركيا البلد الذي يُنظَر إليه بالإيجابية الأكبر، وكذلك في سوريا بعد سوريا ذاتها.
وأظهر الاستطلاع أيضاً أن الرأي العام في هذه البلدان السبعة يعتبر تركيا فاعلاً أساسياً تلقى آراؤه آذاناً صاغية ويمارس تأثيراً. وهناك أيضاً دعم واضح لأدوار الطرف الثالث التي تضطلع بها تركيا وكذلك لتأدية تركيا "دوراً أكبر في العالم العربي"، مع العلم بأن المجيبين السوريين والفلسطينيين واللبنانيين هم الأكثر دعماً لهذه الفكرة. وفقاً للاستطلاع، اعتُبِرت تركيا أيضاً مثالاً ناجحاً عن انسجام الإسلام والديموقراطية، وأنّها تشكّل تالياً "نموذجاً" للعالم العربي. يبدو أن هناك دعماً واسع النطاق لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، مع الإشارة إلى أن هذا الدعم هو الأكبر في لبنان.
أجري هذا الاستطلاع بعد حرب غزة و"مسألة دافوس"، في وقت كانت فيه شعبية تركيا ورجب طيب أردوغان مرتفعة جداً. وهو يعطينا تالياً لمحة سريعة عن نظرة الرأي العام إلى تركيا في مرحلة زمنية محدّدة.
وقُدِّم برهان إضافي على شعبية رئيس الوزراء التركي أردوغان عام 2009 في "استطلاع الرأي العام العربي السنوي" الذي أجرته مؤسسة "زغبي إنترناشونال"، وكان البروفسور شبلي تلحمي المحقِّق الأساسي. أجري الاستطلاع في نيسان - أيار 2009 في مصر والأردن ولبنان والمغرب والسعودية والإمارات العربية المتّحدة وشمل عيّنة من 4087 شخصاً. طُلِب من المجيبين أن يذكروا قائدَين عالميين من خارج بلادهم يكنّون لهما الإعجاب الأكبر. وقد ظهر اسم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في لائحة 2009، مع العلم بأنه لم يرد في لائحة القادة التسعة الأكثر شعبية عام 2008. في ذلك العام، بلغت شعبية رئيس الوزراء التركي 9 في المئة مع احتساب مصر، و16 في المئة من دون مصر(11). من الواضح أن موقف الحكومة التركية من الهجوم الإسرائيلي على غزة و"مسألة دافوس" أدّيا دوراً أساسياً في هذا السياق(12). وكانت نسب التأييد لأردوغان لترتفع أكثر على الأرجح لو أُدرِجت سوريا والأراضي الفلسطينية في الاستطلاع إذ اعتُبِر المجيبون في هذين البلدين الأكثر تأييداً لتركيا وفقاً لاستطلاع "تيسيف".
على الرغم من أن الاستطلاع المذكور آنفاً يُظهر تغييراً في شعبية رئيس الوزراء التركي، هناك أدلّة أيضاً بأن صورة تركيا لدى الرأي العام العربي كانت سلبية إلى حد كبير عام 2002. فالاستطلاع الذي أجرته مؤسسة "زغبي إنترناشونال" في آذار ونيسان 2002(13) يُظهر بوضوح هذه النظرة السلبية. تضمّن الاستطلاع 600 مقابلة وجهاً لوجه في كل من مصر والأردن والسعودية، ومقابلات مع 400 بالغ في المغرب ولبنان والكويت والإمارات العربية المتحدة. استطلع أحد الأسئلة المواقف العربية من 13 بلداً غير عربي، ولا سيما روسيا والصين والولايات المتحدة وفرنسا والهند وإسرائيل وباكستان وإيران واليابان وتركيا وكندا وألمانيا والمملكة المتحدة: تبيّن أن مواقف المجيبين من تركيا هي الأكثر سلبية بعد إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. خلال تلك المرحلة، كانت تغطية الصحافة العربية لتركيا تقتصر إلى حد كبير على روابطها مع إسرائيل، وكان هذا مرتبطاً بتعاون البلاد في البداية مع الولايات المتحدة استعداداً للحرب في العراق(14). يمكن الافتراض بأن ذلك الموقف بدأ يتغيّر بعد آذار 2003 عندما رفض البرلمان التركي مشروع القانون الذي يجيز لتركيا التدخّل في حرب العراق. لكن لا تتوافر بيانات لدعم هذه الحجّة.
تدعم الشعبية المتزايدة لتركيا ورئيس الوزراء التركي عام 2009 الخلاصة التي توصّلت إليها دراسة فوريا ولوكاس بعنوان "العوامل المحدِّدة للرأي العام العربي حول العلاقات الخارجية". تعتبر الدراسة أن "الجماهير العربية تقوِّم البلدان غير العربية بالاستناد في شكل أساسي إلى ممارساتها الحديثة نسبياً في السياسة الخارجية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط"(15). وفقاً للكاتبَين، المسألة الأهم في هذا المجال هي المسألة الفلسطينية، إذ إن هذه المشكلة "يمكن أن تكون بمثابة ‘محك الاختبار’ الذي يقوِّمون على أساسه البلدان الأخرى"(16). وقد اعتبر بهجت كوراني أيضاً أن المسألة الفلسطينية هي مسألة سياسية محورية بالنسبة إلى العرب في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وأنها ساهمت في خلق "مساحة عامة" عربية(17). في ما يختصّ بالرأي العام العربي حول تركيا، أهمّية المسألة الفلسطينية واضحة. ووفقاً لمارك لينش، أصبح العراق أيضاً في العقدَين الماضيين مسألة مهمة بالنسبة إلى المساحة العامة العروبية(18). في الواقع، كانت سياسة تركيا العراقية وتعاونها مع الولايات المتحدة في العراق في التسعينات أحد الأسباب وراء النظرة السلبية إلى تركيا في العالم العربي. وهكذا، يمكن القول بأن رفض البرلمان التركي الاقتراحات الأميركية بتمركز جنود في تركيا للانطلاق منها إلى الحرب في العراق، ساهم ربما في جعل الرأي العام العربي وصانعي الرأي في العالم العربي ينظرون بإيجابية أكبر إلى تركيا.
بناءً عليه، يبدو أن هناك ترابطاً واضحاً بين التغيّرات المتصوَّرة في السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط، ولا سيما في ما يتعلّق بالمسألة الفلسطينية، والنظرة الأكثر إيجابية إلى تركيا. لكن بالاستناد إلى استطلاع "تيسيف"، يجوز القول بأنه يمكن تفسير النظرة الإيجابية إلى تركيا ليس انطلاقاً مما "تفعله" وحسب إنما أيضاً انطلاقاً مما "هي عليه". كان هذا واضحاً في الإجابات عن الأسئلة المتعلّقة بنجاح تركيا في الجمع بين الإسلام والديموقراطية، وإذا كان يمكن اعتبارها نموذجاً في ما يختصّ بتحوّلها السياسي. لكن على الرغم من هذا، على الأرجح أن شرارة التغيير الأولى في الآراء عن تركيا حدثت مع التغيّرات المتصوَّرة في السياسة الخارجية التركية، ثم تُرجِم ذلك اهتماماً أكبر بما "هي عليه" تركيا. في الواقع، ارتبط جزء من النقاش في العالم العربي عن الدمقرطة المتنامية في تركيا بسياستها الخارجية، مثل رفض التعاون مع الولايات المتحدة في العراق والسياسات التركية خلال حرب غزة. اعتبر البعض في العالم العربي أن تركيا استطاعت التصرّف على هذا النحو لأنها ديموقراطية، ولم تفتهم الإشارة إلى أن هذا يضعها في تعارض واضح مع الأنظمة العربية الأخرى(19). نقرأ على سبيل المثال: "قد يبدو التناقض بين موقف أردوغان وموقف القادة العرب مثيراً للحيرة، لكنّه ليس كذلك. انتُخِب أردوغان ديموقراطياً، وهو تالياً يخضع للمساءلة أمام الأمّة التي أوصلته إلى السلطة. لا تتحمّل أي أمة تعيش بحرية وفي ظل حاكمية جيدة، الظلم، حتى تجاه الآخرين. كما أن القادة الذين يُنتخَبون في انتخابات حرّة وعادلة لا يمكنهم تجاهل مشاعر شعبهم. هل من أمثولة هنا؟"(20)
وامتدحت صحيفة "القدس العربي" أيضاً السياسة التركية في افتتاحيتها مستلهمةً دروساً للعالم العربي: "لا يستحقّ قرار البرلمان التركي التصفيق وحسب، بل إنه شهادة أيضاً على الديموقراطية التركية وقوّة الرأي العام التركي. عارضت الغالبية الساحقة من الأتراك الاجتياح الأميركي للعراق. لقد قدّم البرلمان التركي درساً في الأخلاق والعدالة للبرلمانات والحكومات العربية التي دعمت الاجتياح في العلن أم الخفاء. من الواضح أن الشعب العربي سوف يحترم دائماً هذا الموقف النبيل لتركيا وشعبها، ويقدّره"(21).
 

ترجمة نسرين ناضر

هوامش

1 - Basheer M. Nafi, "The Arabs and Modern Turkey: A Century of Changing Perceptions", Insight Turkey, Vol. 11, No. 1 (2009) pp.68.
-2 المرجع نفسه، ص. 71.
-3 Ofra Bengio and Gencer Ozcan, "Arab Perceptions of Turkey and the Alignment with Israel", Middle Eastern Studies, Vol. 37, No. 2, (2001) p.54.
-4 محمد السعيد سليم، في منتدى الحوار العربي-التركي، اتّجاهات سياسية عالمية، مركز دراسات الوحدة العربية، مؤسسة الديموقراطية العربية، 21-22 تشرين الثاني 2009، اسطنبول، تركيا.
-5 للاطّلاع على تقويم أوّل لهذا التغيير، انظر Meliha Benli Altunişik, "The Turkish Model and Democratization in the Middle East", Arab Studies Quarterly, Vol. 27, Nos. 1 & 2, pp.1-17; ولإلقاء نظرة ثانية على بعض حججه، انظر Meliha Benli Altunişik, "The Possibilities and Limits of Turkey’s Soft Power in the Middle East", Insight Turkey, Vol. 10, No. 2 (2008) pp. 41-54.
6 - "Erdogan Hailed after Davos walkout", Al Jazeera (English Edition), 31 January 2009, available at http://english.aljazeera.net/news/europe/2009/01/20091303153967187.html (accessed on 31 March 2010).
7 - "Turkey’s Foreign Policy", The Jordan Times, 16 September 2009.
8 - Mustafa Ellabbad, "Understanding New Turkey: An Egyptian Perspective", Insight Turkey, Vol. 11, No. 1, (2009) pp.53-61.
9 - Mensur Agkün, Gökçe Perçinoğlu, Sabiha Senyücel Gündoğar, The Perception of Turkey in the Middle East, Istanbul: TESEV Publications, 2009.
-10 عدد "المجيبين" الذين طُرِحت عليهم أسئلة في كل بلد مرتبط بعدد سكّان هذا البلد.
11- Zogby International, The 2009 Arab Public Opinion: A View from the Arab World, available at http://www.brookings.edu/"/media/Files/events/2009/0519-arab-opinion/2009-arab-public-opinion-poll.pdf (accessed on 28 March 2010).
-12 Khalaf Ahmad Al Habtoor (Chairman of the Habtoor Group) "Turkey Feels Palestinian’s Pain", the Daily Star, 13 January 2009.
13- Zogby International, What Arab Thinks: Values, Beliefs and Concerns, NY: Zogby International, 2002: 61 cited in Peter A. Furia and Russell E. Lucas, "Determinants of Arab Public Opinion on Foreign Relations", International Studies Quarterly, Vol. 50 (2006) pp. 585-605.
14 - مثلاً، انظر Galal Nassar, "The Axis of Evil-Form Another Angle", Al-Ahram Weekly, 7 March 2002 cited in Peter A. Furia and Russell E. Lucas, "Determinants of Arab Public Opinion on Foreign Relations".
-15 المرجع نفسه، ص. 586.
-16 المرجع نفسه، ص. 596.
17 - Bahgat Korany, "National Security in the Arab World: The Persistence of Dualism", in D. Tschirgi, ed. The Arab World Today (Boulder, Colo.: Westview, 1994), p. 166.
18 - Marc Lynch, "Taking Arab Seriously", Foreign Affairs (September/October 2003).
19 - انظر أيضاً Rami G. Khoury (Director, Issam Fares Institute For Public Policy and International Affairs, American University of Beirut), Conflict Management in the Middle East: Regional Solutions to Regional Problems? Körber-Stiftung, Bergdorf Round Table-March 20-22, 2009, Beirut, p.49.
20 - Nader Fergany, "More Arab than the Arabs?", Al-Ahram Weekly, 27 November 2004.
21 - Al-Quds Al-Arabi, 4 March 2003 cited in Yousef Al Sharif and Samir Salha, Reflections of EU-Turkey Relations in the Muslim World, Open Society Foundation, Istanbul, 1st print (July 2009) p. 10.
 


( رئيسة قسم العلاقات الدولية في جامعة الشرق الأوسط التقنية في تركياالاحد المقبل القسم الثاني من الدراسة التركية: صانعو الرأي والقرار العرب )      

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,735,580

عدد الزوار: 6,911,111

المتواجدون الآن: 99