قراءة إسلامية في الأزمة المالية العالمية

تاريخ الإضافة الأربعاء 22 تشرين الأول 2008 - 10:27 ص    عدد الزيارات 1908    التعليقات 0

        

بقلم: د. محمد عبد الحليم عمر

  يعيش العالم الآن أزمة مالية عالمية بدأت شراراتها في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2007م، ثم اندلعت نيرانها في سبتمبر 2008م في صورة انهيارات متتالية لعدة مؤسسات مالية كبرى؛ من بنوك وشركات تأمين وشركات التمويل العقاري وصناديق استثمار، وشملت تداعياتها أسواق المال والبورصات العالمية في صورة انخفاضات حادة متوالية للمؤشرات بها، وامتدت تأثيراتها إلى جميع أنحاء العالم وإلى جوانب الاقتصاد في صورة ركود بدأ يُخيم على حركة الأسواق، وانخفاضات في معدل النمو، وأصبحت هذه الأزمة الشغل الشاغل لجميع المسئولين والخبراء، وشغلت أخبارها الصحف والمجلات وجميع وسائل الإعلام.

 وهذه الورقة مقدمة للندوة التي يعقدها مركز "صالح كامل" للاقتصاد الإسلامي حول هذه الأزمة، ونظرًا لأنه سوف تقدمَّ في الندوة عدة أوراق تتناول ملامح الأزمة من حيث أسبابها وحجمها ونطاقها وتداعياتها وآثارها على الاقتصاد المصري بصفةٍ خاصة والاقتصاديات العربية بصفة عامة؛ لذلك سوف تقتصر على القراءة الإسلامية للأزمة التي تدور حول بيان أن أسباب هذه الأزمة هي ممارسات مالية حرَّمها الإسلام، وأن بعض الأساليب التي اتُّخذت لعلاج الأزمة من الأساليب التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، كما أن من تداعياتها مطالبة المسئولين في الدول الرأسمالية والخبراء فيها بإدخال تعديلات جوهرية على النظام الرأسمالي، وبعض هذه التعديلات تعتبر من ركائز الاقتصاد الإسلامي.

 وهذا ما سيتضح من القراءات التالية.

 

القراءة الإسلامية الأولى في تشخيص الأزمة\"د.

تتلخص ملامح الأزمة المالية العالمية في أن المؤسسات المالية قدَّمت قروضًا هائلة للتمويل العقاري بلغت حوالي 11 تريليون دولار لشراء المنازل، كما قدمت مبلغًا مماثلاً بصفة قروض استهلاكية بموجب بطاقات الائتمان، ثم قامت ببيع هذه القروض لشركات التوريق وأعادت إقراض ما حصَّلته في تمويل عقاري جديد مرات متتالية، وقامت شركات التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه القروض وطرحتها في أسواق المال، وتم تداولها بإعادة بيعها لآخرين، ومنهم إلى غيرهم في تيارات متتالية؛ وذلك بأسعار أكثر من قيمتها الاسمية؛ اعتمادًا على ما تدرُّه من فوائد، والتي بدأت بسيطةً لمدة سنتين ثم تزايدت بعد ذلك، وفي المقابل قام المقترضون أصحاب المنازل بإعادة رهن العقارات بعد تقويمها بمبالغ أكثر من قيمتها الأصلية والحصول على قروضٍ من مؤسسات أخرى، التي بدورها باعت هذه القروض لشركات التوريق التي أصدرت بموجبها سندات وطرحتها في أسواق المال والبورصات للتداول.

 وفي خطوة ثالثة تم إصدار أدوات مالية مشتقات للمضاربة على فروق أسعار هذه السندات، وتم طرحها في الأسواق هي الأخرى، وتم تداولها منفصلةً عن السندات، وبالتالي حملت المنازل بعدد كبير من القروض التي تفوق قيمة هذه المنازل، وانقطعت الصلة بين حَمَلة السندات والمقترضين بضمان العقارات، ولما تشبع السوق العقاري وقلَّ الطلب انخفضت أسعار المنازل والعقارات، وفي ظل تزايد الفوائد وعدم قدرة أصحابها على إعادة بيعها أو رهنها والحصول على قروض جديدة توقفوا عن سداد أقساط القروض وفوائدها.

 وهنا بدأت أسعار السندات في الانخفاض، واتجه حَمَلتها إلى بيعها بخسارة، وتوقفت المؤسسات المالية عن الإقراض؛ نظرًا لتعثر المقترضين السابقين، وبالتالي قلَّ الطلب مرةً أخرى على العقارات فانخفضت قيمتها.

 ومن المقرر قانونًا أن المؤسسات المالية المقدمة للقروض رغم بيعها تعتبر مسئولةً مع شركات التوريق عن متابعة تحصيل الأقساط والفوائد وتسليمها لحملة السندات، وبتوقف المقترضين عن السداد تركوا المنازل للمؤسسات المالية والتي أصبحت قيمتها أقل بكثيرٍ من قيمة القروض، فضلاً عن عدم تمكُّن هذه المؤسسات من بيعها للركود الحاصل في سوق العقارات، وبالتالي أصبحت هذه القروض رديئةً؛ لا يمكن تحصيلها، والمُموَّلة أصلاً من ودائع عملاء آخرين، فبدأ العملاء في سحب جماعي لأموالهم عجزت معه المؤسسات المالية عن مواجهة السحب فأعلنت إفلاسها، وفي المقابل انخفضت أسهمها وأسهم شركات الاستثمار العقاري التي تقدم قروضًا أيضًا، فأدَّى ذلك إلى انهيار الأسواق المالية، وهكذا.

 وفي مثال مبسط أصبح يوجد منزل قيمته مليون دولار ترتبت عليه ديون متداولة في الأسواق المالية بحوالي 30 مليون دولار؛ بعضها يستند إلى بعض في توازنٍ هشٍّ بحيث إذا تعذر سداد أحدها انهارت المنظومة بكاملها فيه، وهو ما حدث في الأزمة العالمية.

 وفي تطوير مترتب على ذلك قامت شركات التمويل العقاري والبنوك بالاتفاق مع مشتري العقارات على التأمين على سداد القروض في شركات التأمين مقابل أقساط، وعندما عجز المشترون عن دفع الأقساط كانت شركة التأمين مطالبةً بالسداد، وعند تفاقم المشكلة عجزت هذه الشركات عن توفير السيولة اللازمة لدفع التعويضات فدخلت دائرة التعثر والإفلاس، وهكذا أصبح الجميع يتنازع ملكيةَ أو الحقوق على المنزل؛ فصاحب المنزل يظن أن له حقًّا في المنزل باعتباره مملوكًا له؛ لأنه اشتراه، وشركات التمويل العقاري والبنوك المقرِضة تظن أن لها حقًّا في المنزل؛ لأنه مرهون لها، والمؤسسات الأخرى التي أعاد المشتري رهن العقار لها مقابل قرض جديد تظن أن لها حقًّا في المنزل، وشركة التأمين تقول إن لها حقًّا في المنزل، أي إن العقار الواحد الذي يساوي مبلغًا ما أصبح عليه حقوق للعديد من الأطراف بأضعاف قيمة هذا المبلغ، وعندما توقف مشترو المنازل عن الدفع قامت الشركات والبنوك بمحاولة بيعها، ولكن المشتري رفض الخروج طبقًا للقانون، وهو ما دفع أسعار العقار إلى الانخفاض؛ لأنها مشغولة بساكن، وهنا بدأت أسعار السندات التي طُرحت برهن المنازل في الانخفاض لمحاولة تخلص حامليها منها بالبيع، وهكذا تعقَّدت المشكلة وتشابكت وتراكمت.

 هذا مع ملاحظة أن توقف البنوك عن ضخ قروض جديدة أصاب التمويل الذي تطلبه الشركات الإنتاجية؛ صناعيةً وزراعيةً وتجاريةً وخدميةً، التي لم تجد المال اللازم لتمويل عملياتها؛ مما أدَّى إلى تقليل نشاطها، وبالتالي الاستغناء عن بعض العمالة بها لتزيد البطالة ويدخل الاقتصاد حالة ركود متتابعة.

 وهنا حدثت تداعيات خطيرة؛ منها ما قررته الحكومات من ضخ أموال ضخمة للمؤسسات المالية لشراء القروض الرديئة وتأميم بعضها وإدماج البعض الآخر وفرض وصاية عليها، ولكن هذه الأساليب لم تستطع إيقاف الأزمة، بل ما زالت تتزايد يومًا بعد يومًا.

 وفي ضوء هذا التشخيص المبسط يمكن قراءة الأزمة؛ أسبابها وتداعياتها إسلاميًّا على الوجه التالي:

القراءة الإسلامية الثانية في أسباب الأزمة

نقصد بالقراءة الإسلامية لأسباب الأزمة بيان أن هذه الأسباب ناتجة من أساليب في التعامل وممارسات في العلاقات المترتبة عليها محرَّمة شرعًا كما يتضح مما يلي:

أولاً: موضوع الرهن العقاري: وصورته أن يتم التعاقد بعقد ثلاثي الأطراف بين مالك لعقار ومشترٍ وممول (بنك أو شركة تمويل عقاري)، على أن يقوم المالك ببيع العقار للمشتري بمبلغ معين، ويدفع المشتري جزءًا من الثمن 10% مثلاً، ويقوم الممول في ذات العقد بدفع باقي الثمن للبائع مباشرةً، واعتباره قرضًا في ذمة المشتري مقابل رهن العقار للممول، ويسدد القرض على أقساط طويلة الأجل ما بين 15- 30 سنة بفائدة تبدأ عادةً بسيطةً في السنتين الأُوليين، ثم تتزايد بعد ذلك، ويسجَّل العقار باسم المشتري، ويصبح مالكه له حق التصرف فيه بالبيع أو الرهن.

 وكان موضوع الرهن العقاري هو السبب الرئيسي للأزمة؛ لأن البنوك أهملت في التحقيق من الجدارة الائتمانية للمقترضين وأغرتهم بفائدة بسيطة في الأول ثم تزايدت وتوسَّعت في منح القروض ما خلق طلبًا متزايدًا على العقارات إلى أن تشبع السوق فانخفضت أسعار العقارات وعجز المقترضون عن السداد، وكانت البنوك قد باعت هذه القروض إلى شركات التوريق التي أصدرت بها سندات وطرحتها للاكتتاب العام، وبالتالي ترتَّب على الرهن العقاري كم هائل من الديون مرتبط بعضها ببعض في توازن هش أدي إلي توقف المقترضين إلي انهيار هذا الهرم وحدثت المشكلة.

 ومن منظور إسلامي فإن هذا الأسلوب للرهن العقاري غير جائز شرعًا من منظور إسلامي؛ وفي ذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 25/1/6 في دورته المنعقدة في مارس 1999م ما يلي:

"إن السكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفَّر بالطرق المشروعة بمال حلال، وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها من الإقراض بفائدة قلَّت أو كَثُرت هي طريقة محرمة شرعًا؛ لما فيها من التعامل بالربا، وهناك طرق مشروعة يُستغنَى بها عن الطرق المحرمة لتوفير المسكن بالتمليك.

 ومن الطرق المشروعة والتي تتعامل بها المؤسسات المالية الإسلامية شراء مؤسسة التمويل العقاري وبيعه مرابحة، وكذا إبرام عقد استصناع مقاولة مع العميل لبناء المبنى، وتوجد صورة أخرى تطبَّق في المؤسسات المالية الإسلامية العاملة في أمريكا، وهي صورة المشاركة التأجيرية، وهي أن يشترك العميل والمؤسسة المالية في شراء العقار ثم تؤجِّر المؤسسة المالية حصتها للعميل، وفي نفس الوقت تبيع له كل سنة جزءًا من حصتها حتى ينتهيَ العقد بتملك العميل للعقار.

وتفترق هذه الطرق عن طريق القرض العقاري بخلوها من الفوائد الربوية من جهة والربط بين التمويل والعقار دون توليد ديون متعددة.

 ثانيًا: إعادة بيع أو رهن العقار:

كثيرًا ما يقوم المشترون ببيع العقار المرهون أو رهنه مقابل قرض جديد بفائدة، وبالتالي يتحمل العقار الواحد بحقوق رهن متعددة، وما حدث في الأزمة أنه عند توقف المقترض عن السداد لم تَكْفِ قيمة العقار المرهون عن سداد القرضين.

 وهذه المسألة باطلة شرعًا لأمرين: أولهما أنها معاملة تنطوي على قرض جديد بفائدة ربوية، والربا محرم شرعًا، وثانيهما: أن الفقه الإسلامي على أنه لو رهن الشخص الشيء المرهون بدين آخر غير الأول بدون إذن المرتهن لا يصح، ولو بإذن يصح الرهن الثاني ويبطل الرهن الأول؛ لأن الرهن حق على عين، ولا يجتمع حقان على عين واحدة، وكذا إذا باع الراهن الشيء المرهون يصير الثمن رهنًا لا يجوز التصرف فيه؛ فإذا أذن المرتهن للراهن بالبيع والتصرف في الثمن سقط حقه في الرهن، وبالتالي يكون القرض خاليًا من الرهن.

 ثالثًا: التوريق: وهي قيام البنوك وشركات التمويل العقاري ببيع دين القروض المتجمعة لديها على العملاء الذين اشتروا العقارات لإحدى الشركات المتخصصة، والتي تسمى قانونًا "شركات التوريق"، وهذا البيع يكون بمقابل معجَّل أقل من قيمة الدين، ثم تقوم شركة التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه الديون بقيمة اسمية لكل سند، وتطرحها للاكتتاب العام (بيعها) للأفراد والمؤسسات بقيمة أكبر وأقل من القيمة الاسمية، أي بعلاوة أو (خصم إصدار).

 ويحصل حمَلَة السندات على فوائد القروض، وتتولى شركة التوريق مع شركة التمويل عملية تحصيل الأقساط والفوائد من المقترضين الأصليين وتوزعها على حمَلة السندات؛ وبذلك تحصل شركة التمويل على سيولة وتكسب شركة التوريق الفرق بين قيمة القروض وبين ما دفعته لشرائها، ويكسب حمَلة السندات الفوائد، كما يمكنهم تداول هذه السندات في سوق المال بالبيع لغيرهم بأسعار أكثر من شرائهم لها في حالة ارتفاع سعر فائدتها عن سعر الفائدة السائدة، وقد يبيعونها بخسارة عندما يقل سعر الفائدة أو يحتاجون لسيولة عاجلة، وباستمرار تداول السندات تنتقل الملكية إلى عديدين في داخل البلاد وخارجها.

 وفي المقابل فإنه عندما يقترض مشترو العقارات من مؤسسات مالية أخرى برهن نفس العقارات تقوم هذه المؤسسات ببيع هذه القروض لشركة توريق التي تصدر بها السندات وتطرحها في الأسواق، وبالتالي يصبح للعديد من الناس والمؤسسات حقوق على العقار وتتزايد قيمة الأوراق المالية المصدرة عن قيمة العقارات، وإذا حدث وتحوَّلت هذه القروض إلى قروضٍ رديئة لتعثر مالكي العقارات عن السداد أو تنخفض قيمة العقارات في الأسواق فإن حملة السندات يسارعون إلى بيع ما لديهم فيزيد العرض وينخفض سعرها، وتزيد الضغوط على كلٍّ من المؤسسات المالية وشركات التوريق، وهكذا يمكن القول إن التوريق بما ينتجه من تضخم لقيمة الديون وانتشار حمَلة السندات الدائنين وترتيب مديونيات متعددة على العقار هو حجر الزاوية في حدوث الأزمة المالية.

 وتوريق الديون هذا في حد ذاته غير جائز شرعًا للآتي:

أن عملية التوريق تكون ببيع الدين لشركة التوريق بأقل من قيمته، وهذا يعني أن تدفع الشركة أقل وتأخذ أكثر، وهو عين الربا.

 أن السندات تدر دخلاً عبارة عن فوائد، وهي ربا.

أن عادةً ما يتم تداول هذه السندات في البورصة بالأجل أو على أقساط، وهو من بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعًا.

 وفي ذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 92/4/11 في دورته الحادية عشرة بتاريخ نوفمبر 1988م ما يلي:

"ولا يجوز بيع الدين المؤجل من غير الدين بنقد معجَّل من جنسه أو من غير جنسه؛ لإفضائه إلى الربا، كما لا يجوز بيعه بنقد مؤجَّل من جنسه أو من غير جنسه؛ لأنه من بيع الكالئ بالكالئ (أي المتأخر دفعه بالمتأخر قبضه) المنهي عنه شرعًا، ولا فرق في ذلك بين كون الدَّين ناشئًا عن قرض أو بيع آجل".

 وفي قرارٍ لمجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة المنعقدة في يناير 2003م جاء ما يلي:

"لا يجوز التعامل بالسندات الربوية إصدارًا أو تداولاً أو بيعًا؛ لاشتمالها على الفوائد الربوية، ولا يجوز توريق (تصكيك) الديون بحيث تكون قابلة للتداول في سوق ثانوية؛ لأنه في معنى حسم الأوراق التجارية الذي يشتمل على بيع الدَّين لغير الدين على وجه يشتمل على الربا".

 وربما يقول البعض إن العملية ليست بيعًا لدين ولكنها تدخل في إطار ما يسمى قانونًا "بحوالة الحق"، أي إن شركة التمويل تُحيل حقوقها الناشئة عن التمويل العقاري إلى شركة التوريق مقابل ما تدفعه لها؛ فهي مثل الحوالة التي يحيل فيها المدين دائنه على آخر مدين له؛ فهذا قياس مع الفارق؛ لأنه يشترط في الحوالة تساوي الدينين الأصلي والمحال به.

 وأما في حوالة الحق من خلال عملية التوريق فإن شركة التوريق تعطي لشركة التمويل مبلغًا أقل من الدين الأصلي المشترى.

 رابعًا: الفوائد الربوية: يلاحظ أن عمليات التمويل العقاري وتوابعها، والتي كانت السبب الرئيسي في الأزمة المالية العالمية، تقوم على الفوائد على القروض، وبإجماع المسلمين قديمًا وحديثًا فإن الفوائد القروض ربا محرم شرعًا، والربا في الإسلام من أشد الجرائم الاقتصادية والاجتماعية؛ لمخالفة مرتكبه لأمر الله تعالى القائل سبحانه: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (سورة البقرة: من الآية 275).

 ولأن الربا هو الذنب أو المعصية التي توعدها الله سبحانه وتعالى بأكثر من عقوبة وهي: المحق وذهاب البركة بذهاب المال أو نفعه، فيقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 276).

 ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الربا وأن كثر فإن عاقبته إلى قلِّ" (مسند أحمد: 8/357 حديث رقم 3825)، وها نحن نرى أن البنوك وشركات التامين وحمَلة السندات وكل من تعامل بالربا خسر أصل ماله والفوائد.

 الأزمات النفسية التي تصيب أكَلة الربا لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ﴾ (البقرة: من الآية 275)، والفزع والهلع والحزن والاكتئاب الذي يخيم على الخاسرين في الأزمة إلا نوع من مس الربا.

 الوعيد بالحرب من الله ورسوله لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)﴾ (البقرة)

 وها هي الحرب قامت في صورة إعصار مالي عالمي على جميع المؤسسات الربوية والمتعامين معها.

 الخلود في النار يوم القيامة لمن لم تردعه الأزمة وعاد إلى الربا؛ حيث يقول ربنا عز وجل: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: من الآية 275).

 خامسًا: المشتقات المالية: إن شياطين التمويل المعاصر من أجل الجشع نحو مزيد من الأرباح والفوائد ابتكروا ما يسمَّى بالمشتقات المالية، وهي حسب تعريف صندوق النقد الدولي "عقود تتوقف قيمتها على أسعار الأصول المالية محل التعاقد، ولكنها لا تقتضي أو تتطلب استثمارًا، أي دفع نقود لأصل المال في هذه الأصول، وهي كعقد بين طرفين على تبادل المدفوعات على أساس الأسعار أو الفوائد؛ فإن انتقال ملكية الأصل محل التعاقد والتدفقات النقدية يصح أمرًا غير ضروري".

 

وفي تعريف آخر: "المشتقات عبارة عن عقود فرعية تُبنَى أو تشتق من عقود أساسية لأدوات استثمارية، (أوراق مالية، عملات أجنبية، سلع) نشأت عن تلك العقود الفرعية أدوات مالية مشتقة؛ وذلك في نطاق ما اصطلح عليه بالهندسة المالية".

 وفي تعريف ثالث "أن المشتقات ليست أصولاً مالية وليست أصولاً عينية، وإنما عقود كسائر أنواع العقود؛ يترتب عليها حق لطرف والتزام على الطرف الآخر".

 وتوضيح ذلك بمثال مبسط من نوع من أنواع المشتقات أنه يوجد شخص يريد أن يشتريَ أسهمًا أو سندات بسعر اليوم على أن يتسلمها في المستقبل ودون أن يدفع الثمن حالاً ويخشى إن خفضت أسعارها بعد تسلمها أن يخسر فيها عند بيعها، فيتفق مع البائع على أن يعطيَ حق الخيار في الرجوع عن الصفقة بمقابلٍ لهذا الحق في الاختيار، وليكن 5 جنيهات مقابل كل سهم أو سند ودون إلزام لمشتري حق الخيار في شراء الأسهم، ويتم إصدار ورقة مالية بقيمة حق الاختيار هذا تتداول في السوق بأسعار متغيرة أن يبيع حق الشراء أو عدمه لشخص آخر؛ فإن انخفضت أسعار الأسهم أكثر من 5 جنيهات يكتفي بخسارتها ويتم تصفية العملية، وإن ارتفعت أسعار الأسهم أكثر من 5 جنيهات لا يشتري ولكن يأخذ الفرق من البائع، أي إن المعاملة تدور حول حق الاختيار، فكأنها مراهنة على الأسعار في المستقبل.

 وهذا يتم بالنسبة للأسهم والسندات والسلع والنقود وأسعار صرفها وأسعار الفوائد، بل وصل الأمر إلى إصدار الأوراق المالية بمؤشرات البورصات، أي المراهنة على انخفاض أو ارتفاع المؤشر يومًا بعد يوم.

 وتتعدد أدوات المشتقات المالية؛ من أهمها ما يلي:

1- العقود المستقبلية: وهي إبرام عقد بين بائع ومشترٍ على شراء سلعة أو أوراق مالية أو نقود بسعر معين، على أن يتم تسليم الثمن أو المبيع عند التعاقد، وإنما يدفع كلٌّ من المشتري والبائع مبلغًا لهيئة السوق يمثِّل نسبةً من الثمن في حدود التغيرات التي يتوقع أن تحدث في الأسعار بصفة هامش جدية، وحتى تدفع منه الهيئة مستحقات أي طرف عند التصفية.

 والغرض من إبرام هذه العقود ليس تسلم المعقود عليه أو الثمن، بل المضاربة على فروق الأسعار؛ فالبائع يضارب على هبوط السعر في المستقبل، وبالتالي يكسب الفرق، والمشتري يضارب على صعود السعر في المستقبل ليكسب الفرق؛ ولذلك فإنه لا يتم تسليم أو تسلم للصفقة، فإذا انخفض السعر في المستقبل عن سعر التعاقد دفع المشتري الفرق للبائع، والعكس صحيح.

 والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، ولكن تصدر أدوات مالية بهذه العقود، ويتم تداولها، أي بيعها، للغير فهو في حقيقة الأمر لا يبيع السهم أو السند أو السلعة، وإنما يبيع توقع ارتفاع أو انخفاض الأسعار لها.

 وما حدث في الأزمة أن تتم عقود مستقبليات على سندات التمويل العقاري، وعلى أسهم البنوك المقرضة وشركات التمويل العقاري والشركات العقارية على أمل ارتفاع أسعارها، وحينما بدأت الأزمة وتم فقد الثقة في السوق المالية سارع الجميع إلى تصفية مراكزهم المالية فانهارت هذه الأدوات المستعملة.

 - الخيارات أو الاختيارات: وهي عبارة عن عقود يسمح بموجبها بائع الخيار (مصدره) الحق لمشتري الخيار (المكتب بالخيار) ببيع أو شراء عملة أو سلعة دولية أو ورقة مالية بسعر محدد سلفًا في تاريخ مستقبلي مقابل تعهد مشتري الخيار بدفع مبلغ لاكتسابه حق الخيار.

 وبالتالي فإن من اشترى أداة مالية تعطيه حق الخيار في الشراء أو البيع تخلص منها بسرعة في بداية الأزمة، وبالتالي تقلص التعامل بهذه الأداة وفقدت السوق المالية عدة نقاط من مؤشراتها.

 وأثر المشتقات على الأزمة يظهر في أن التوسع في اشتقاق أدوات مالية جديدة تعتمد على الثقة في تحقيقها مكاسب في المستقبل، ونظرًا لانهيار أسعار الأسهم والسندات الصادرة عن البنوك والشركات الاستثمارية انهارت قيمة هذه المشتقات، وحدث ذعر في الأسواق المالية نتيجةً لتكالب الجميع على تصفية مراكزهم، فانخفضت مؤشرات الأسواق انخفاضًا كبيرًا أدى إلى شلل هذه الأسواق، ومن عجب أن من أهم أهداف هذه المشتقات هو مواجهة المخاطر التي يمكن أن تحدث، وأظهرت الأزمة عجزها حتى عن حماية نفسها.

 والمشتقات بهذا الشكل غير جائز شرعًا، وفي ذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 7/1/65 في دورته السابعة في مايو 1992م بالتمثيل لبيع السلع بأسلوب مستقبليات ما نصه:

"الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسلم سلعة موصوفة في الذمة؛ في موعدٍ آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهيَ التسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس، وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز شرعًا".

 كما جاء في ذلك القرار ما يلي: "إن عقود الاختيارات كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية هي عقود مستحدثة؛ لا تنطوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة، وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقًّا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه فأنه عقد غير جائز شرعًا، وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها".

 وأما التعامل بالمؤشرات (أي الأرقام القياسية التي تبين حالات التعامل في البورصات)، فجاء في نفس القرار بشأنها ما يلي:

"المؤشر هو رقم حسابي يُحسَب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق المالية العالمية، ولا يجوز بيع وشراء المؤشر؛ لأنه مقامرة بحتة، وهو بيع خيالي لا يمكن وجوده".

 سادسًا: أساليب المضاربات قصيرة الأجل: من الأساليب التي أشعلت نيران الأزمة المضاربات التي تقوم على توقعات المضاربين بتغير الأسعار في الفترات القصيرة لكسب فروق الأسعار وزيادة حجم التعامل بإتاحة التعامل لمن يملك مالاً أو أوراقًا مالية، الذي عبَّر عنها الاقتصادي الفرنسي البارز "موريس آليه" بقوله: "من الممكن أن تشتريَ بدون أن تدفع، وأن تبيع بدون أن تجوز"، ويتم من خلال عدة آليات؛ منها ما يلي:

أ- البيع على المكشوف: وهو حسب ما عرَّفته الموسوعة الأمريكية: بيع شخص ما لا يملكه؛ حيث يتوقع شخص انخفاض سعر ورقة مالية (سهم أو سند) في المستقبل القريب فيضارب "يقامر" على الهبوط ويقترض من السمسار من المخزون لديه أو يقترض السمسار له من شخص آخر عددًا من هذه الأسهم أو السندات لبيعها حالاً لحسابه بالسعر المرتفع، ويظل المبلغ لدى السمسار يستثمره دون أن يدفع عنه فوائد، وبعد مدة قصيرة، إن صدق توقع المضارب وارتفع السعر، يأمر السمسار بشراء بدل منها ويسلمها للمقترض ويكسب الفرق بعد دفع عمولة السمسار، وإن لم يصدق توقعه وانخفضت الأسعار يكون ملزمًا بدفع مبلغ لتكملة ثمن شرائها لردها إلى صاحبها الأصلي، وهذا الأسلوب غير جائز شرعًا؛ فلقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة السابقة الإشارة إليها ما نصه: "لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع، وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنه من بيع ما لا يملكه البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض".

 ب- الشراء بالهامش: وصورته أن يرغب شخص في شراء عدد من الأسهم أو السندات بمبلغ لديه فيتيح له السمسار أن يشتريَ بمبلغ أكبر يعادل 80% أو أكثر مما معه عن طريق إقراضه الباقي بضمان الأوراق المالية المشتراة مقابل فائدة، ويقصد المضارب من وراء ذلك توقع ارتفاع أسعار الأسهم أو السندات فيبيعها ويسدد من الثمن القرض ويكسب الباقي، وإذا لم يصدق توقعه وانخفضت الأسعار يخسر الفرق ويدفعه من المقدَّم (الهامش) الذي دفعه.

 والشراء بالهامش غير جائز شرعًا، وفي ذلك جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي السابق ما نصه: "لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم؛ لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن، وهما من الأعمال المحرمة بالنص على "لُعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه".

 كما أن المضاربات على صعود أو هبوط الأسعار تتم بواسطة المضاربين الذي لا تتوفر لديهم القدرة على دراسة أحوال السوق، وهذا النوع من الغرر الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم، والغرر هو الجهالة والمخاطرة بمعنى دخول الإنسان في معاملة بناءً على توقُّع مكسبٍ في المستقبل وهو لا يدري أيحصِّل مقصوده أم لا.

 وصلة هذه الممارسات بالأزمة يظهر في أن المسئولين في أمريكا وأوروبا أصدروا قرارات بوقف المضاربات قصيرة الأجل لمدة 12 يومًا في أمريكا ولمدة أربعة أشهر في إنجلترا، وعلى الأخص أسلوب البيع على المكشوف؛ مما يؤكد أن لهذه الأساليب دورًا في حدوث الأزمة.

 سابعًا: تضخم الاقتصاد المالي والانفصام بينه وبين الاقتصاد الحقيقي: إن الاقتصاد في حقيقته هو النشاط الذي يدور حول توفير السلع والخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية من خلال وظائف اقتصادية، مثل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، ولكن هذا يتطلب التبادل؛ لأنه لا يوجد أحد يمكنه إنتاج ما يحتاجه من سلع وخدمات بنفسه.

 والتبادل يحتاج إلى تمويل، ومن هنا وُجد الاقتصاد المالي لخدمة الاقتصاد الحقيقي، ولكن السوق المالية انفصلت عن السوق الحقيقية، وأصبح يتم التعامل في النقود والتمويل ذاته بيعًا وشراءً من خلال المداينات، وترتب على ذلك أن أصبح حجم التمويل المتاح من خلال الائتمان أضعاف أضعاف قيمة الاقتصاد الحقيقي؛ مما أدى إلى خللٍ في التوازن بينهما.

 ولما كان الاقتصاد المالي أصبح لا يستند إلى قاعدة من الأصول، وإنما إلى أهرامات من الديون التي رُكِّبت بعضها فوق بعض في توازن هش، ومن أجل المزيد من كسب العوائد في صورة فوائد وفروق أسعار؛ لذا فإنه عند وجود خلل في إحدى حلقات الديون المركَّبة كما حدث في توقف المقترضين في سوق التمويل العقاري عند سداد القروض، انهار البناء المالي بكامله وحدثت الأزمة، وهذا ما عبَّر عنه الرئيس الفرنسي ساركوزي بقوله: "إنه يجب جعل الرأسمالية أخلاقيةً بتوجيهها إلى وظيفتها الصحيحة؛ هي خدمة التنمية الاقتصادية وقوى الإنتاج والاقتصاد بعيدا تمامًا عن قوى المضاربة".

 ومن الجدير بالذكر أنه رغم الانفصام الواقع بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي فإن آثار الأزمة ستمتد إلى الاقتصاد الحقيقي؛ لأن الانهيار المالي للبنوك سيجعلها تكف عن الإقراض حتى عن الجزء الصغير الذي كان يوجه منها إلى الشركات الإنتاجية بما يجعلها تقلص إنتاجها وتطرد بعضًا من عمَّالها، ومن جانب آخر فإن الخسارة التي مُني بها المواطنون من جرَّاء تعاملهم في الأسواق المالية جعلتهم يخفِّضون مشترياتهم من الشركات الإنتاجية، وبالتالي يقع الركود الاقتصادي.

 وفي الاقتصاد الإسلامي فإن أي تيار مالي لا د أن يقابله تيار سلعي في ربط محكم، ولا يسمح الإسلام بجَنْي أرباح من خلال التيارات المالية وحدها، وإلا كان هذا ربا؛ ولذا جاء القرض الحسن الذي يمثِّل تيارًا ماليًّا شُرع من أجل حاجة المقترضين للإنفاق على السلع والخدمات، وبدون أن يحصل المقرض على زيادةٍ على قرضه، ومجرد التعامل في النقود ذاتها.

 "ويمنع من جعل النقود متجرًا؛ فإنه بذلك يُدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها".

 ثامنًا: الجوانب السلوكية والأخلاقية للأزمة: لقد أظهرت الأزمة أن من أهم أسبابها هي السلوكيات غير السوية من جانب المتعاملين في المجال المالي، مثل الطمع والجشع والفزع والهلع إلى جانب الممارسات غير الأخلاقية التي استشرت في المؤسسات والأسواق المالية، مثل الفساد والمعلومات المضللة والكذب والاحتيال، وهذا ما أكده المسئولون والخبراء؛ حيث تقول سارة بالين المرشحة نائبًا لماكين عن الحزب الجمهوري "بأن الطمع والجشع والفساد من أهم أسباب الأزمة".

 ويظهر ذلك في أن الدفع الرئيس للمتعاملين في البورصات أو الأسواق المالية هو المضاربة للحصول على فروق الأسعار، وليس الاستثمار في الشركات، وأن البنوك تسعى إلى حصد مزيد من الفوائد بتدوير القروض مرةً بعد أخرى، ويدفعهم إلى ذلك الطمع والجشع لتحقيق المزيد من الأرباح لأنفسهم على حساب الآخرين، كما أن غالبية المضاربين في الأسواق المالية يسلكون أسلوب القطيع الذي يفزع من مجرد حفيف الأشجار، ويظنه زئير الأسود فيسارع بالهرب في موجاتٍ جماعيةٍ عشوائيةٍ، وبالتالي فسلوكهم مبني ليس على المعلومات وتحليلات وإنما على مجرد الإشاعات، وهذا ما جعلهم يتكالبون على بيع ما لديهم من أوراق مالية، وبكميات كبيرة جدًّا فزاد العرض وتوالى انخفاض الأسعار في البورصات، وتراجعت مؤشراتها إلى حدٍّ كبير، ولو كانوا مستثمرين لنظروا إلى الشركات التي أصدرت هذه الأوراق، ومن عجب أن كبار المتعاملين في البورصات، والذين يطلق عليهم في كتب الإدارة المالية "الثيران ذوي القرون الطويلة" الذين لا يخافون حتى من زئير الأسود، أصابهم الفزع وهرعوا إلى بيع ما لديهم من أدوات مالية، فتزايد انهيار الأسواق، ولو كان هدف الجميع الاستثمار الحقيقي والحصول على نصيب من الأرباح التي تحققها الشركات المساهمون فيها لما أهمتهم الانخفاضات في أسعار الأسهم طالما الشركات باقية وتحقق أرباحًا.

 ومن جانب آخر فإن السوق الحر وعدم التدخل فيها جعلت الكثيرين وبدافع الطمع يحاولون الحصول على أكبر قدر ممكن من الأرباح والعوائد، وفي سبيل ذلك وُجدت ممارسات غير أخلاقية؛ منها فساد أعضاء مجالس إدارات البنوك والشركات الكبرى، والاستيلاء على الأموال بمعلومات مضللة عن تحقيق أرباح عالية فيحصلوا على جزء منها بصفة مكافآت، واستخدام المعلومات المتاحة لديهم عن أحوال الشركات والاستفادة من هذه المعلومات في تداول ما يملكونه هم أو أقاربهم وشاركهم في ذلك مراقبو الحسابات الذين يشهدون بصحة حسابات مزورة، إلى جانب تقديم بعض الأساليب الاحتيالية، مثل الاعتماد على ما يسمى بالقيمة العادلة عند تقويم العقارات المقدمة بصفة ضمانات للقروض أو تقويم الاستثمارات في الشركات والبنوك؛ فمن المعروف أن أي أصل له قيمة أو تكلفة تاريخية، وهي ما دفعه الشخص لحيازته، وله قيمة سوقية وهي ما يباع بها ويشترى في الأسواق عند التقديم، ولكنهم تركوا ذلك وابتكروا مصطلح القيمة المعادلة التي تعني ما يوافق على طرفي المعاملة دون النظر إلى القسمة السوقية، وبالتالي كانوا يقوِّمون العقارات عند الاقتراض بقيمة أعلى من حقيقتها ليزيد القرض الممنوح، كما كانوا يظهرون الاستثمارات في الميزانيات بهذه القيمة العادلة، ويعتبرون الفرق بين القيمة الدفترية المسجَّلة بها وهذه القيمة العادلة أرباحًا توزع.

 وهذا الفساد والممارسات غير الأخلاقية التي استشرت في الأسواق والشركات حدثت قبل الأزمة بكثير، عندما ظهر ما يطلق عليه الفضائح المالية الكبرى إثر انهيار كبريات الشركات، مثل انهيار مؤسسة الادخار والإقراض الأمريكية عام 1994م بعد بخسارة بلغت 179 مليار دولار، وانهيار شركة إنرون الأمريكية للطاقة بخسارة 60 مليار دولار، وانهيار شركة وورلد كوم للاتصالات الأمريكية بلغت 50 مليار دولار.

 ومن المعروف أن الأخلاق شعبة من شعب الإسلام الثلاثة مع العقيدة والشريعة، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلق وعاء الدين".

 وأنه بالنظر نجد أن جميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول أحكام وتوجيهات المعاملات المالية تربط بينها وبين قيم خلقية حسنة، مثل: العدل والأمانة والصدق، وتنهى عن القيم الخلقية السيئة، مثل الظلم والخيانة والكذب، وأن ارتكاب الممارسات يعرِّض مرتكبها لغضب الله عز وجل وعذابه ويمحق البركة..

 وبذلك ننتهي إلى أن أهم أسباب الأزمة هي ممارسات وأساليب يحرمها الإسلام.

 القراءة الثالثة: في تداعيات الأزمة

تتمثل تداعيات الأزمة في آثارها والخسائر التي لحقت بالاقتصاد وما اتُّخذ أو ما يوصى به لمواجهتها.

 أما الآثار فلن نتناولها؛ لأنها ما زالت تتوالى، ومن الصعب الآن تقدير حجم الخسائر التي بدأت بآلاف المليارات من الدولارات وتتزايد كل يوم، وأما أهم ما اتُّخذ من إجراءات لمواجهة هذه الأزمة وقراءة ذلك إسلاميًّا فإنه يتخلص في الآتي:

أولاً: في البداية قامت السلطات المختصة في الولايات المتحدة الأمريكية بالموافقة على ضخ حوالي 700 مليار دولار في السوق المالية لشراء القروض الرديئة من البنوك وشركات التمويل العقاري؛ حتى تتمكن من مواجهة سحب الودائع منها وتبعتها في ذلك العديد من الدول الأوروبية، وبالنظر في هذا الأسلوب رغم أهميته في التخفيف من حدة الأزمة يتضح ما يلي:

أ- أنه يكافئ المتسببين في الأزمة بالإهمال وسوء الإدارة لأموال المودعين ويحمِّل دافعي الضرائب فاتورة ذلك.

 ب- أن الحكومة سوف تدير هذا المبلغ من خلال الاستدانة بموجب سندات حكومية تزيد من الدَّين العام، وعلى حساب الأعباء للأجيال القادمة، وتزيد من حجم الأوراق المالية في السوق المالي المنهار هو الآخر لعدم وجود تعاملات، ومن جهة ثانية لو وفرت هذا المبلغ من خلال طبع النقود فإنها ستزيد من التضخم.

 ثانيًا: إن تدخل الدولة في الاقتصاد بالتأميم والإشراف والرقابة ضد مبادئ الرأسمالية وخروج عن مقتضياتها، ويُظهر عدم صلاحية النظام الرأسمالي بمبادئ الأساسية، وتدخل الحكومات في الاقتصاد بالتأميم أمر عليه محاذير إسلامية، أما التدخل بالإشراف والرقابة فهو مطلوب، ومن واجبات الحاكم إنشاء الأجهزة الخاصة بمراقبة الأسواق والمعاملات لضمان التحقق من الالتزام بأحكام الشريعة ومبادئ الأخلاق الإسلامية؛ مما يؤكد أن ما اتخذته السلطات بإقرار الإشراف والرقابة يقتربون به من الاقتصاد الإسلامي.

 ثالثًا: يطالب البعض بإعادة النظر في النظام المالي والنقدي الرأسمالي وتعديله ليكون في خدمة التنمية والإنتاج، وفي إطار ذلك يقول الرئيس الفرنسي ساركوزي: "نحن بحاجة إلى إعادة بناء النظام المالي والنقدي من جذوره، وإن فكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة بدون قيود وبدون تدخل من الحكومات هي فكرة مجنونة".

 وإذا كانت الشيوعية قد قامت على القيود المكبلة التي أدت إلى انهيارها، والرأسمالية تقوم على فكرة الحرية المطلقة (المنفلتة)، فإن النظام الاقتصادي الإسلامي يقوم على فكرة الحرية المنضبطة بضوابط الحلال التي تحقِّق النفع للجميع في عدالة وتوازن، والبعد عن الحرام الذي يؤدي إلى الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وبالطبع لا يقصد ساركوزي أو غيره من إعادة بناء النظام الرأسمالي التوجه نحو الشيوعية، وإنما إلى ضبط الحرية الرأسمالية المنفلتة، وهذا ما يحققه الإسلام الذي يمكن القول إنه قادر على علاج هذه الأزمة من خلال مرتكزات الاقتصاد الإسلامي، والتي تتلخص في الآتي:

1- تعديل أسلوب التمويل العقاري ليكون بإحدى الصيغ الإسلامية، ومنها أسلوب المشاركة التأجيرية السابق ذكره، ويطبَّق في أمريكا بنجاح؛ ليس فقط بواسطة المؤسسات المالية العاملة فيها، وإنما بواسطة مؤسسات مالية أخرى، مثل بنك ديفون.

 2- ضبط عملية التوريق لتكون لأصول عينية لا للديون، وهو ما يتم في السوق المالية الإسلامية في صورة صكوك الإجارة والمشاركة والمضاربة، أما الديون فيمكن توريقها عند الإنشاء، ولا تُتداوَل، وهو ما يتم في السوق المالية الإسلامية بصكوك المرابحة والسلم والاستصناع، والتي يزيد حجم التعامل بها رغم حداثتها عن 180 مليار دولار، وتتوسع يومًا بعد يوم وتتعامل بها بعض الدول الغربية.

 3- منع أساليب المضاربات قصيرة الأجل من البيع على المكشوف والشراء بالهامش، وهو ما تم إثر الأزمة في أمريكا وإنجلترا، ومن العجيب أن قانون سوق المال المصري رقم 95 لسنة 92 صدر خاليًا من هذه الأساليب، ثم تم تعديله أخيرًا وسُمحَ فيه بالبيع على المكشوف و الشراء بالهامش.

 4- عدم التعامل بالمشتقات مثل المستقبليات، والتعامل بدلاً منها بأسلوب بيع السلم، وجعل الخيارات بدون مقابل، كما قرر الفقه الإسلامي، والانتهاء عن التعامل في المؤشرات بيعًا وشراءً.

 5- الانتهاء عن الفوائد الربوية واستخدام أساليب المشاركات والبيوع، ومن الجدير بالذكر أن أحد أساليب مواجهة الأزمة في أمريكا وأوروبا هو تخفيض معدل الفائدة حتى وصل إلى 1%.

 6- وضع ضوابط للمعاملات ووجود هيئات متخصصة للإشراف والرقابة على الأسواق والمؤسسات في إطار الحرية المنضبطة التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي.

وفوق ذلك كله العمل على جعل الاقتصاد أخلاقيًّا ووضع السبل التي تساند الالتزام بالأخلاق الحميدة في التطبيق.

 هذه مجرد إشارات إلى وسائل العلاج الإسلامية، والتي تحتاج إلى بحث مستقل نأمل أن ننجزه في المستقبل بمشيئة الله تعالى.

 ومن العجيب أن العالم الاقتصادي الفرنسي البارز والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988م كتب مقالاً مطولاً بعنوان "الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق.. من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد"؛ سطر فيه انتقادات حادة إلى أسلوب عمل الأسواق المالية والنظام المالي الرأسمالي، وتنبأ فيه بحدوث أزمات حادة، والمهم في هذا المقال القيم أنه قدَّم مجموعة من الإصلاحات كلها تتفق مع ما جاء به الإسلام؛ ولذا فقد استضافه المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي بجدة ليلقيَ محاضرةً ضمَّنها هذه الآراء، وقام المعهد بترجمة ونشر المحاضرة تحت سلسلة محاضرات العلماء البارزين رقم 1 في عام 1993م.

 وفي الختام..

هذه قراءة في بعض الصفحات الأولى التي سُجِّلت من دفتر الأزمة، والذي ما زال مفتوحًا ويسجَل فيه كل يوم صفحات؛ قصدنا منها بيان أن من أسباب حدوث الأزمة أساليب وممارسات محرمة شرعًا، وأن ما يُطالَب به لإصلاح النظام الرأسمالي يعد من مرتكزات الاقتصاد الإسلامي، وإذا كانت البشرية قد جرَّبت بقيادة الغرب نظامَي الشيوعية والرأسمالية وسرنا نحن في العالم الإسلامي وراءهم في ذلك، ولم نَجْنِ سوى الثمار الحامضة في صورة تخلف اقتصادي وتبعية سياسية واجتماعية.

 فهل آن الأوان للرجوع إلى ديننا والتمسك بأحكامه في جميع المجالات، وخاصةً في الاقتصاد الإسلامي؟! إننا بذلك لن ننقذ أنفسنا من الأزمات المتلاحقة، والتي بلغ عددها- حسب تقرير أفاق الاقتصاد للعالم الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي- 113 أزمة في 17 بلدًا خلال الثلاثين سنة الماضية؛ فالأزمات لن تنتهيَ، والمشكلات ستتفاقم، ويكفي أنه في ظل هذه النظم الغربية يعيش العالم الآن ما بين كثرة فقيرة تعاني الحرمان والبؤس، وقلة قليلة تستولي على الموارد في وفرة واضحة وتعيش في بحبوحة من العيش، ولكنها خالية من البهجة، أي إن البشرية كلها تعاني وتعيش حياة ضنكًا، وصدق الله تعالى إذْ يقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ (طه: 124).

 كما أننا بتمسكنا بديننا نكون مساهمين في الحضارة الإنسانية لتقديم للعالم النموذج الاقتصادي السليم.

 وهذه الدعوة ليست شماتةً في الرأسمالية أو تعصبًا لديننا، ولكنها كلمة حق يقول بها بعض الغربيين الآن:

ففي مقال (رولاند لاكسين) رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دي فايننيس) في الافتتاحية يوم 25/9/2008م جاء عنوان المقال: "هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت؟"؛ يقول فيه :"إذا كان قادتنا حقًّا يسعون إلى الحد من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية".

 أما "بوفيس فينست" رئيس تحرير مجلة (تشالنجر) كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا؛ فقد كتب مقالاً افتتاحيًّا للجريدة في 11 سبتمبر 2008م بعنوان :"البابا أو القرآن"، ومما جاء فيه: "أظن أننا بحاجةٍ أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن لفَهْم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من أحكام وتعاليم وطبَّقوها ما حلَّ بنا ما حلَّ من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد نقودًا".

 ندعو الله عز وجل أن يلطف بنا وأن يقيَنا والعالم كله شر الأزمات.

والله من وراء القصد.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,189,753

عدد الزوار: 6,939,725

المتواجدون الآن: 133