في وداع العام 2015.. هل القضاء على التطرّف بات مستعصياً؟!

تاريخ الإضافة الأربعاء 6 كانون الثاني 2016 - 6:31 ص    عدد الزيارات 695    التعليقات 0

        

 

في وداع العام 2015.. هل القضاء على التطرّف بات مستعصياً؟!
د. عبدالحسين شعبان ()
شهد العام 2015 حوادث وأعمال إرهابية على نطاق واسع، شملت مساحات واسعة، وغطّت دولاً وقارات متباعدة، والأمر ليس بمعزل عن ثقافة التطرّف والإرهاب، تلك التي تفشّت في أوساط غير قليلة، وهيمنت على عقول بعض الشباب، ودفعتهم أحياناً للتفريط بحياتهم، مقابل وعود زائفة بحياة آخرى، حتى وإن جاءت بعد قتل وإبادة آخرين.

التطرّف والتكفير ظاهرتان تكادان تشغلان الناس في مجتمعاتنا وفي مجتمعات أخرى، بما فيها متقدّمة، لأنهما أصبحا لا يهدّدان السلم المجتمعي والحياة العامة والعلاقات بين الناس فحسب، بل السلم والأمن الدوليان، خصوصاً إذا ما تحوّلا من الفكر والتنظير إلى الفعل والتنفيذ.

وقد شهد العالم ما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة، سلسلة من الأحداث الخطيرة أثّرت في ميدان العلاقات الدولية، خصوصاً لجهة علاقتها بالتطرّف والتكفير وارتباطها بالإسلام والإرهاب الدولي، وبالنبرة المرتفعة بخصوص استخدام القوة أو التهديد بها لحلّ النزاعات الدولية أو الداخلية، والسعي لإملاء الإرادة وفرض الهيمنة والتسيّد.

وانعكست تلك الأجواء العدائية على المجتمعات والبلدان في جانبها السياسي والفكري، وعلى المستويين الجماعي والفردي، وبأبعادها المختلفة، القانونية والحقوقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والنفسية وغيرها. ومن أهم تجلّيات تلك التطورات الدراماتيكية وقوع بلدين مسلمين (أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003 تحت الاحتلال) وتعرّض بلد ثالث للعدوان (لبنان) 2006، وصعود التيارات المتطرّفة والتكفيرية في عدد من البلدان.

وكان من نتائج ردود الفعل تلك انتشار ظاهرة الإرهاب Terrorism والعنف Violence في المنطقة، بدءًا من العراق حيث نشطت تنظيمات القاعدة وفروعها لاحقاً، ومنها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، ولا سيّما بعد احتلال محافظة الموصل شمال العراق العام 2014، والتمدّد نحو محافظات أخرى في غرب العراق، إضافة إلى احتلال محافظة الرقة في سوريا واختيارها عاصمة لتنظيم داعش، وهو ما زال اليوم يهيمن على ثلث الأراضي السورية، إضافة إلى نحو ثلث الأراضي العراقية، على الرغم من تراجعه وهزائمه في الفترة الأخيرة.

وترافقت الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، ولا سيّما مؤخراً باستفحال ظاهرة العنف لدرجة مريعة، خصوصاً بعد موجة الربيع العربي التي ابتدأت في مطلع العام 2011، التي كان من أعراضها تفشي الفوضى وانفلات العنف وتشظّي الدولة الوطنية، بل تآكلها، كما هو في ليبيا واليمن، إضافة إلى محاولات التفتيت والتقسيم، كما هو في العراق وسوريا، وارتفع منسوب العنف والإرهاب ليشمل خريطة واسعة وتضاريس مختلفة وأنظمة متباينة.

وباتت قضية الإرهاب الدولي مطروحة على طاولة التشريح والبحث في الأمم المتحدة التي أصدرت قرارات عديدة، بخصوص الإرهاب الدولي، وعلى الرغم من وجود نحو 12 اتفاقية وتصريح دولي حول الإرهاب، قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001 وعدّة قرارات دولية بعده، وكذلك قرارات عدّة قبل احتلال داعش للموصل وبعدها، لكن تعريف الإرهاب الدولي لا يزال غير متفق عليه. لقد طالت نيران الإرهاب الدولي بلداناً مختلفة وعواصم أوروبية عديدة، كان آخرها الهجوم الذي حصل في العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وقبله قتل صحافيين يعملون في صحيفة شارلي إيبدو، وهجوم آخر في كاليفورنيا.

إن المساحة التي يغطيها الإرهاب تشمل قارات وبلدان متنوعة من الباكستان والهند وأفغانستان وتركيا إلى العراق وسوريا ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وصولاً إلى السودان ومصر والمغرب وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا ومالي ونيجيريا، وحتى الشيشان وروسيا واليونان وأوكرانيا وإندونيسيا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها، وعلى الرغم من ارتفاع هاجس الأمن وعلى حساب الكرامة أحياناً، واختلال معادلة الحقوق والأمن، فإن الإرهاب لم ينحسر، بل أخذ بالتصاعد بحكم انتشار الأفكار المتطرّفة والتكفيرية، ويستوي في ذلك البلدان المتقدمة والبلدان المتأخرة، لأن العولمة جعلت الإرهاب معولماً.

للتطرّف أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية والتربوية والدينية والطائفية والنفسية وغيرها، ولكن هذه جميعها ناجمة عن التعصّب (Fanaticism) وكلّ متعصّب هو متطرف في حبّه أو كرهه، لا سيّما إزاء النظر للآخر، وعدم تقبّله للاختلاف، فكل اختلاف بحسب وجهة نظر المتعصّب يضع الآخر في خانة الارتياب، وسيكون غريباً، وكل غريب أجنبي، وبالتالي مريب، بمعنى هو غير ما يكون عليه المتطرّف.

التطرّف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، والتطرّف الديني يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً، كما يمكن للتطرّف أن يكون علمانياً، حداثياً، أو سلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر، باعتباره مخالفاً للدين أو خارجاً عليه أو منحرفاً عن العقيدة السياسية أو غير ذلك.

الإرهاب يتجاوز التطرّف، أي إنه ينتقل من الفكر إلى الفعل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف هو إرهاب، خصوصاً إذا ما كان دفاعاً عن النفس واضطراراً من أجل الحق ومقاومة العدوان.

وكلّ إرهاب تطرّف، ولا يصبح الشخص إرهابياً إذا لم يكن متطرّفاً، ولكن ليس كلّ متطرّف إرهابي، فالفعل تتم معالجته قانونياً وقضائياً وأمنياً، لأن ثمة عملاً إجرامياً تعاقب عليه القوانين، أما التطرفّ ولا سيّما في الفكر، فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإنْ كانت قضايا التطرّف عويصة ومتشعّبة وعميقة، وخصوصاً في المجتمعات المتخلّفة.

وإذا كان البشر يستندون إلى مرجعيات مختلفة دينية وسياسية وفكرية، فمن الطبيعي أن يختلفوا في ما بينهم، وتلك إحدى سمات الحياة، لأن الاختلاف من طبيعة الأشياء. والتطرّف يؤدي إلى الانغلاق والمغالاة والتشدّد، وقد يذهب أبعد من ذلك حين يمارس الفعل فيؤدي إلى الإرهاب، سواء على أساس عنصري استعلائي (النازية الألمانية)، والعنصرية الجنوب أفريقية للأقلية البيضاء ضد السود، والعنصرية الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب والآخرين، أو ديني أو مذهبي (ضد الأديان الأخرى ) بزعم التفوّق والأغلبيات وامتلاك الحقيقة.

وعكس ذلك الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوعة، وذلك من طبيعة البشر والإنسان على مرّ العصور، حيث التنوّع والتعدّدية، والاختلاف، وهذه كلّها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية، وهي النقيض لفكر التطرّف والتكفير.

التطرّف يعني في ما يعنيه ادعاء الأفضليات، فالأنا أفضل من الأنت، والنحن أفضل من الأنتم، وديني أفضل من الأديان الأخرى، وقومي فوق الأمم والقوميات الأخرى لدرجة الزعم بامتلاك الحقيقة، وهكذا.

ولعلّ جميع الحركات الشمولية قامت على التطرّف، لإلغاء الآخر والادعاء باحتكار الحقيقة، سواء كانت شيوعية أو قومية أو إسلامية أو يهودية أو مسيحية، كما أن جميع المنظمات الإرهابية في العالم كانت تقوم على التعصّب، من الناحية الفكرية، ومن الناحية العملية، ممارسة الإرهاب والعنف وسيلة لتحقيق أهدافها. ولا تقتصر الحركات المتطرفة وأفعالها الإرهابية على الإسلاميين وحدهم، فهناك حركات «علمانية» أو غير دينية، مارست أعمالاً إرهابية تحت عناوين مختلفة.

لا يمكن القضاء على فكر التطرّف والتكفير وجذورهما، ما لم يتم القضاء على التعصّب والتطرّف وأسبابهما، ذلك إن الفكر المتطرّف والتكفيري لا يتم القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلح أو مواجهة العنف بالعنف والقوة بالقوة، وعنفان لا يولدان سلاماً، كما أن رذيلتين لا تنجبان فضيلة، وظلمين لا ينتجان عدالة.

التطرّف والتكفير يمثلان فكراً، وهذا الفكر لا يمكن قتله أو مقاومته بالقوة أو بالعنف، ولا بدّ من العمل على تفكيكه وفضح معانيه وكشف أهدافه ووسائله، والوسيلة جزء من الغاية، بل إنهما مترابطان ولا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة، وعلى حد تعبير المهاتما غاندي، الوسيلة والغاية مثل البذرة من الشجرة.

الأمر يحتاج إلى تقديم فكر نقيض، يعترف بالآخر ويقرّ بالتعددية والتنوّع، ويرتكز على منظومة قيم حقوقية وإنسانية تناهض التمييز وتنبذ ادعاء الأفضليات، وتؤمن بالشراكة والعدالة والمساواة وعدم التمييز بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو اللغة أو القومية أو الأصل الاجتماعي.

إن الفكر المتطرّف والتكفيري يعتبر كل خلاف معه محرّم وعليه إقصاءه وإلغاءه واستئصاله، في حين أن نقيض ذلك هو مبادئ التسامح والاعتراف بالآخر والحوار واللاّعنف. والإرهابي لا يؤمن بالحوار ويبسط سلطانه على محيطه بالقوة، وبدلاً من الإقناع يلتجئ إلى التفجير والمفخخات خارج أي اعتبار إنساني، طالما تتلبسه فكرة امتلاك الحق والسعي للوصول إليه وإلى الحقيقة بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة أحياناً، وقد تكون هذه الأخيرة بنظره مشروعة، طالما يحاول «أدلجة» سلوكه وإعطاء نفسه مبرّرات قمع الآخر أو تصفيته، سواء كان ذلك بزعم الدخول إلى الجنّة أو إبادة الخصم الكافر أو القضاء على المروق والإلحاد، أو مصلحة الحزب والثورة أو تحرير فلسطين أو مصالح الكادحين، أو غير ذلك من محاولات إخضاع الآخر.

لا يمكن للتطرّف الذي يصبح عنفاً إرهابياً وفعلاً ارتكابياً ضد الإنسان، إلاّ إذا تمكّن من التوغّل إلى العقول، وهذه غالباً ما تتم بعملية غسل أدمغة بحيث تعمى البصيرة وتعطّل العقول والمشاعر الإنسانية، ليقوم المرتكب بفعلته سواء بتفجير نفسه أو تفجير عدوّه أو خصمه، أو السعي لإذلاله والقضاء عليه.

ولكن ما السبيل لقطع دابر الإرهاب؟ هل بالعنف أو بالقوة وحدهما؟ وإن كان آخر العلاج الكي كما يقال؟ ولكن التجارب أكّدت أن المعالجة الأمنية غير كافية، لأنه الإرهاب سيتناسل ويتوالد إذا ما استمرّت الظروف على ما عليه، ولا يمكن القضاء على الإرهاب وقطع نسله، إلاّ بالفكر المعاكس والمضاد، وبالمزيد من احترام الحقوق والحرّيات واعتماد مبادئ المواطنة المتساوية وتحقيق القدر الكافي من العدالة وتحسين ظروف العيش.

() كاتب وحقوقي من العراق
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,078,067

عدد الزوار: 6,977,695

المتواجدون الآن: 85