سوق الجهاد: التطرّف في تونس

تاريخ الإضافة الإثنين 21 كانون الأول 2015 - 5:33 ص    عدد الزيارات 777    التعليقات 0

        

 

 
سوق الجهاد: التطرّف في تونس
جورج فهمي، حمزة المؤدّب
دراسة 16 تشرين الأول/أكتوبر 2015
المؤدّب هو باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، والأمن، والحدود، والتهريب، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
فهمي باحث زائر في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تتركّز أبحاثه على القوى الدينية في مرحلة الانتقال الديمقراطي، والتفاعل بين الدين والدولة، والأقليات الدينية.
على الحكومة التونسية وسائر الجهات السياسية والدينية الفاعلة أن تعمل معاً لوضع استراتيجية لمواجهة التطّرف، تؤدّي إلى إصلاح المجالين السياسي والديني.
بينما تُعَدّ تونس البلد العربي الوحيد الذي يمرّ في عملية انتقال ديمقراطي ناجحة حتى العام 2015، إلا أنها شهدت أيضاً حركة سلفية جهادية متنامية منذ سقوط الرئيس السابق زين العابدين بن علي في كانون الثاني/يناير 2011. فتح احتكار بن علي للمجال الديني وإهماله للقضايا الاجتماعية-الاقتصادية البابَ أمام التطرّف. وأدت هذه العوامل، إضافةً إلى خيبة أمل الشباب وسوء التعامل مع التيارات السلفية بعد الثورة، إلى تصعيد العنف في تونس وتصدير الجهاديين إلى سورية والعراق وليبيا.
جذور السلفية الجهادية
    منعت سيطرة بن علي المُحكمة على المجال الديني ظهور قوى دينية فاعلة بعد الثورة. وأدّى سقوط النظام إلى خلق فراغ سمح للمجموعات الراديكالية بنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب المحرومين.
    ركّزت النهضة، وهي حركة إسلامية بارزة وحزب سياسي، على عملية كتابة الدستور والصراعات السياسية، من دون أن تقيم توازناً سليماً بين المجالين السياسي والديني.
    تصرّفت النهضة بشكلٍ براغماتي لتوطيد مركزها السياسي، لكن فشلها في القطع مع; النظام السياسي السابق أتاح مجالاً أوسع للتحدّي الاجتماعي والسياسي من جانب السلفية الجهادية.
    تفاقُم الوضع الاجتماعي-السياسي في تونس منذ الثورة، أدّى إلى خيبة أمل في صفوف الطبقتين الدنيا والوسطى، وخاصة الشباب.
توصيات إلى الحكومة والنهضة
معالجة المظالم الاجتماعية-الاقتصادية. الشباب التونسيون منجذبون إلى السلفية الجهادية بسبب استمرار الركود و غياب الآفاق وشعورهم بخيبة الأمل. لذا ينبغي إعطاء الأولوية لتعزيز الإدماج والترقي الاجتماعيَّين ومواجهة الإحباط في صفوف الشباب.
توطيد الإدماج السياسي للحركة السلفية. ينبغي السماح للأفراد الراغبين في العمل ضمن الأطر السياسيّة المنظّمة والمجتمع المدني القيام بذلك بحرية في ظل احترام القوانين.
تحقيق التوازن في سيطرة الدولة على المجال الديني. يتعيّن على الدولة السماح للقوى الدينية السلمية بالتعبير عن نفسها، وتشجيع الأئمة الرسميين على التنافس مع الدعاة السلفيين لإنشاء سوق أكثر تنوعاً للأفكار الدينية.
الفصل بين الأنشطة الدينية والسياسية. سيتيح وجود هيكلين تنظيميين مختلفين داخل النهضة إمكانية عمل الحزب السياسي من دون تدخّل الحركة الدينية، وأيضاً عمل الحركة الدينية من دون استغلالها من جانب الحزب للحصول على مكاسب سياسية.
ائتلافات مواجهة التطرّف. ينبغي على الجهات الدينية والعلمانية التنسيق مع بعضها البعض لصياغة وتنفيذ سياسات ترمي إلى مواجهة التطرّف، وفك ارتباط وإعادة إدماج أعضاء الجماعات المتطرّفة في المجتمع.
مقدّمة
بينما تُعَدّ تونس البلد العربي الوحيد الذي يمرّ في عملية انتقال ديمقراطي ناجحة حتى العام 2015، إلا أنها شهدت أيضاً حركة سلفية جهادية متنامية منذ سقوط الرئيس السابق زين العابدين بن علي في كانون الثاني/يناير 2011. وتدعو الحركة السلفية الجهادية إلى إقامة دولة إسلامية، وترفض الاعتراف بشرعية مؤسّسات الدولة الحديثة. تصاعدُ التهديد الذي تشكّله الحركة من شأنه أن يزعزع عملية الانتقال الديمقراطي الهشّة في البلاد.
استقطب هجومان حدثا في الآونة الأخيرة اهتماماً عالمياً، أحدهما على شاطئ في سوسة في حزيران/يونيو 2015 والآخر على متحف باردو الوطني في آذار/مارس 2015، غير أن هذين الهجومين، واللذان خلّفا 38 و22 قتيلاً على التوالي، يمثّلان تصعيداً أكبر كان يتراكم منذ العام 2012، وهو العام الذي شهد أول هجوم إرهابي ضدّ قوات الحرس الوطني على الحدود التونسية-الجزائرية.
وفقاً لبلال الشواشي، السلفي الجهادي البارز الذي ينتمي إلى جماعة أنصار الشريعة، وهي جماعة سلفية جهادية تأسّست في نيسان/أبريل 2011، فإن في تونس أكثر من 50 ألفاً من السلفيين الجهاديين.1 في تموز/يوليو 2015، أعلن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن أكثر من 5500 تونسي يقاتلون ضمن الجماعات الجهادية في سورية والعراق وليبيا واليمن ومالي.2 ويتولّى الجهاديون التونسيون أدواراً قيادية في الحركات الجهادية في سورية والعراق. وبعد هجوم سوسة، أعلن رئيس الوزراء التونسي أنه تم منع 15 ألفاً من التونسيين من السفر للانضمام إلى الجماعات الجهادية.
   لقد تمكّنت السلفية الجهادية من الانتشار بسهولة أكثر في تونس بعد سقوط نظام بن علي بسبب ضعف المجال الديني وعدم الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية.
لماذا تنتشر السلفية الجهادية جنباً إلى جنب مع عملية التحوّل الديمقراطي التي كان من المتوقع أن تجعل هذه الأفكار المتطرّفة أقل شعبية؟ ففي إطار هذا التحوّل، تمكنت الأحزاب الإسلامية من أن تعمل بحرية وأن تحكم. وهذا هو حال حزب النهضة الإسلامي، الذي فاز في أول انتخابات عُقدَت بعد انتفاضة تونس (في تشرين الأول/أكتوبر 2011)، وهي ثاني أقوى كتلة في البرلمان الحالي، وحزب جبهة الإصلاح السلفي، الذي شارك في الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2014. ومع ذلك، فقد تمكّنت السلفية الجهادية من الانتشار بسهولة أكثر في تونس بعد سقوط نظام بن علي بسبب ضعف المجال الديني وعدم الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية.
يكمن السبب وراء هذا التطوّر في القواعد التي كانت تحكم المجالات السياسية والدينية في ظل حكم بن علي على مدى السنوات الثلاث والعشرين التي أمضاها في منصبه، والتي أثّرت في فترة مابعد الثورة. خلال سنوات مابعد الثورة، أدّى منح الأولوية للمسائل السياسية والدستورية إلى إهمال الشروخ الاجتماعية والاقتصادية الموروثة من عهد بن علي، ولم تتمّ إلى حدّ كبير تلبية توقّعات الطبقتَين الدنيا والوسطى.3 وهذا غذّى مشاعر الاستياء في أوساط الشباب وشجّع على التطرّف. كما أن تهميش بن علي للتعليم الديني وفرض ضوابط أمنية مشدّدة على المساجد، خلق فراغاً في المجال الديني سمح للفاعلين الدينيّين المتشدّدين بالظهور بعد سقوط النظام لتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب. ولذا تشهد تونس الآن الآثار الطويلة الأجل لأوجه القصور تلك.
ولكي تتغلّب على نمو التطرّف والجماعات المتطرّفة، تحتاج تونس إلى معالجة المطالب السياسية للشباب وتنويع المجال الديني. وعليه ستكون معالجة المظالم الاجتماعية والاقتصادية بهدف توسيع دائرة الإدماج والمشاركة في الترقّي الاجتماعي واجتثاث الإحباط في صفوف جيل الشباب حاسمة. كما أن إضفاء الطابع المؤسّسي على الحركة السلفية من خلال السماح لمن يرغبون في العمل في إطار السياسة الرسمية والمجتمع المدني بأن يعملوا بحرية، طالما أنهم يحترمون القانون، ستكون ضرورية أيضاً. ويجب على الدولة أيضاً أن تخفّف من سيطرتها على المجال الديني وتعزّز القدرة التنافسية للجهات الدينية الرسمية للسماح بظهور تنوّع في الأفكار الدينية. وأخيراً، تحتاج النهضة، في إطار دورها بوصفها أقوى حركة دينية في تونس، إلى إيجاد التوازن الصحيح بين الأنشطة الدينية والسياسية لأن وجودها في سوق الأفكار الدينية سيساعد على الحدّ من تأثير الجماعات المتشدّدة.
جذور السلفية الجهادية
يتطلّب فهم تطوّر فكر السلفية الجهادية في تونس أولاً نظرة ثاقبة لمعرفة كيف ولماذا همّشت الحكومة الدين منذ الاستقلال. فقد حاول أول رئيس لتونس في مرحلة مابعد الاستعمار، الحبيب بورقيبة (حكم تونس بين 1957-1987)، إخضاع الدين إلى السيطرة الكاملة للدولة. استهدف بورقيبة مؤسسة الزيتونة، أقدم مركز عربي وإسلامي سنّي للتعليم الديني، والتي تأسّست في العام 737 م، إذ أغلق التعليم الديني الزيتوني، واستدبله بكلية الشريعة وأصول الدين التي صارت إحدى مكوّنات الجامعة التونسية. وخلافاً لما حدث في مصر، حيث عمد النظام في ظل حكم جمال عبد الناصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وأنور السادات في السبعينيات، إلى توسيع المؤسّسات الدينية بهدف استخدامها لدعم سياساته، منع بورقيبة جامعة الزيتونة من لعب أي دور عام، حتى لخدمة النظام السلطوي. كما قام بتأميم الأوقاف وألغى المحاكم الدينية.
بعد انقلابه السلمي في العام 1987، سعى الرئيس السّابق زين العابدين بن علي إلى استخدام الدين لتعزيز شرعيته. وشدّد على أهمية الهوية والقيم الإسلامية. كانت محطة الإذاعة الوطنية تبث الأذان بصورة يومية، كما تمت إعادة الزيتونة إلى وضعها السابق كجامعة. وقد عفا زين العابدين بن علي عن زعيم حركة النهضة الإسلامية، راشد الغنوشي، ووعد بالسماح للحركة بالعمل بحرية. وكانت حركة النهضة (كانت تسمى في البداية حركة الاتجاه الإسلامي) قد تأسّست في العام 1981 على يد مجموعة من المفكرين الإسلاميين الذين استلهموا أفكار جماعة الإخوان المسلمين في مصر. وقد دعا هؤلاء إلى أن تكون هناك هوية إسلامية للدولة ومجتمع تونسي إسلامي.
تم إيقاف التقدم في مجال تخفيف القيود على الأنشطة الدينية، بعد أن عقد بن علي انتخابات تنافسية نوعاً ما في العام 1989، حين دفعه الأداء الانتخابي القوي نسبياً للحركة الإسلامية إلى تضييق الخناق على الفاعلين الدينيّين. تم سجن آلاف الأشخاص وأُرغم الكثيرون على الذهاب إلى المنفى، وانتقلت قيادة حركة النهضة إلى أوروبا. ومن ثمّ عزّز بن علي السيطرة الأمنية للدولة على المساجد وفرض قيوداً قانونية على الحجاب واللباس الإسلامي. وقد اعتبر أي تعبير سياسي، أو حتى أي تعبير علني، عن التديّن تهديداً. ووصف أحد قادة النهضة ذلك بالقول: "لم تكن تلك مجرّد حرب ضد الإسلاميين وحسب، بل ضدّ أي شكل علني للتديّن".4
بعد أن لجأت حركة النهضة إلى العمل السرّي في أعقاب حملة زين العابدين بن علي، بدأت الحركة السلفية في الصعود. وتشير السلفية إلى قراءة دينية حرفية للنصوص الإسلامية تدّعي أنها تتبع نهج السلف الصالح. وغالباً ماتصنَّف السلفية إلى فئتين: السلفية العلمية والسلفية الجهادية. الأولى غير سياسية بصورة عامة، وترفض الخروج على الحكام السياسيين طالما أنهم لايمنعون ممارسة الشعائر الإسلامية، في حين تؤمن الأخيرة بالكفاح المسلح لإقامة دولة إسلامية. نمت السلفية العلمية في تسعينيات القرن الماضي من خلال الاجتماعات الخاصة والكتب والمواد السمعية-البصرية، والقنوات التلفزيونية الفضائية الدينية التي جذبت الكثير من التونسيين الساعين للحصول على المعرفة الدينية. تسامح النظام نسبياً مع هذه الأنشطة غير السياسية. كان بن علي يعتقد أن السلفية يمكنها تقديم بديل غير سياسي للمشروع السياسي لحركة النهضة. ومع ذلك، فقد ظهرت أيضاً السلفية الجهادية، جنباً إلى جنب مع هذه النسخة غير السياسية من السلفية، مدفوعة جزئياً بالغزو الأميركي لأفغانستان في العام 2001، والعراق في العام 2003، مادفع الكثير من التونسيين إلى الانضمام للقتال ضدّ ما اعتبروه حرباً على الإسلام.
يمكن ربط نمو الحركة السلفية الجهادية بالعديد من العوامل، إضافةً إلى تهميش الجهات الدينية الأخرى وصعود الإيديولوجيا الجهادية في جميع أنحاء العالم. استفاد السلفيون الجهاديون من الفراغ الأمني ​​الذي شهدته البلاد في أعقاب سقوط نظام بن علي. وقد مكّنتهم الأنشطة الدعوية والخيرية من توسيع نفوذهم في المجال العام وتجنيد المتشدّدين في ضواحي تونس العاصمة والمناطق الداخلية، خاصة سيدي بوزيد وجندوبة والقيروان والقصرين. قدموا المساعدات إلى المحتاجين، مثل اللاجئين الفارّين من النزاع في ليبيا المجاورة في العام 2011 ومواطني مدينة جندوبة الذين تضرّروا من الفيضانات الغزيرة في العام 2012. كما استفادت الجماعات السلفية من تخفيف القبضة الأمنية في المناطق الفقيرة، من خلال المشاركة في الاقتصاص من المجرمين والوساطة الاجتماعية وحلّ النزاعات. ونجحوا في إقامة علاقات مع شبكات التهريب في المناطق الحدودية المحرومة.5 علاوةً على ذلك، تواصلوا مع وسائل الإعلام للدفاع عن أفكارهم.
أدّى الموقف السلبي لحكومة الترويكا بعد الثورة، وهي ائتلاف بقيادة النهضة، تجاه السلفية الجهادية إلى خلق مناخ متساهل مع هذه الحركة. وعلى الرغم من اتهام العلمانيين لحركة النهضة بالتواطؤ الواضح مع السلفيين الجهاديين، فموقف هذه الأخيرة بعد انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2011 يمكن فهمه في إطار ماوصفته نادية المرزوقي بأنه استراتيجية تجنّب المخاطر الملازمة لهدفها الأساسيّ المتمثِّل في أن تصبح حزباً سياسياً طبيعياً ومقبولاً من مختلف القوى السياسيّة الموجودة على السّاحة التونسيّة، بعد استبعادها لعقود.6 وقد استلزم ذلك تجنّب خلق أعداء بين خصومها العلمانيين أو منافسيها السلفيين.
السلفية الجهادية والعنف: القيم مقابل السلوك
لفهم السلفية الجهادية، من المهم أن نفهم علاقتها بالعنف. ذلك أن التطرّف إيديولوجيا تتحدّى شرعية المعايير والسياسات الثابتة. فالتطرّف لايرتبط بدين أو عقيدة سياسية معيّنة في حد ذاتها، وهو في حدّ ذاته لايؤدّي إلى العنف. وبالتالي، عند مناقشة التطرّف، ثمّة حاجة إلى التمييز بين مستوى القيم ومستوى السلوك. فامتلاك آراء متطرّفة أو راديكاليّة لايؤدّي بالضرورة إلى سلوك عنيف. وبالتالي، فإنه في الوقت الذي تُعَدّ السلفية الجهادية إيديولوجيا متطرّفة ترفض الانصياع إلى شرعية المؤسّسات السياسية، وتدعو إلى حكم الإسلام، وتقبل بمبدأ الكفاح المسلح لتحقيق أهدافها، فليس كل السلفيين الجهاديين عنيفين في الواقع.
بيد أن الكثير من السلفيين الجهاديين يؤمنون بأن العنف هو السبيل الوحيد لتحدّي الدولة. وقد تم تحويل هذا الاعتقاد إلى ممارسة خلال حكم بن علي، داخل وخارج تونس على حدّ سواء. ففي أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 والحرب اللاحقة على الإرهاب، انضم الشباب التونسيون إلى الجماعات السلفية الجهادية في الخارج، في العراق وفي أفغانستان واليمن والصومال أيضاً. في العام 2002، هاجم الجهاديون السلفيون كنيساً يهودياً في جزيرة جربة التونسية. وقد جرّ هذا الهجوم النظام إلى حرب شاملة ضد السلفية الجهادية، وأدّى إلى سنّ قانون مكافحة الإرهاب في العام 2003 واعتقال حوالى ألفي شخص في وقت لاحق. وكان 300 على الأقلّ من الذين تم سجنهم في إطار قانون مكافحة الإرهاب قبل ثورة العام 2011 يقاتلون خارج تونس.7
بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، ومع نهاية نظام بن علي الذي كان معادياً للسلفية الجهادية، رفض معظم السلفيين الجهاديين استخدام العنف في تونس، معتبرين أن تونس أرض للدعوة لا للقتال. وبينما لايزالون يرفضون الاعتراف بمؤسّسات الدولة، فإن عدداً كبيراً من السلفيين الجهاديين لا يعتقدون بضرورة مواجهتها، على الأقلّ ليس في هذه المرحلة.
على الرغم من أنه لايمكن المجادلة في نموها كحركة، قد يكون من الصعب تحليل السلفية الجهادية في تونس لأنها لاتتألف من كيان واحد، بل من جماعات مختلفة تفتقر إلى وجود بنية هرمية واضحة. وبينما تشترك تلك الجماعات في الأفكار نفسها، وغالباً ماتتحرك من أجل القضايا نفسها، إلا أنها غير منظَّمة ضمن إطار تنظيمي محدَّد. لابل يجادل بعضها بأن أي شكل تنظيمي يتعارض مع القيم الإسلامية. ولذلك من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الجماعات المرتبطة بالسلفية الجهادية، مثل أنصار الشريعة، هي كيانات فريدة من نوعها وليست ممثّلة للكل بالضرورة.
جماعة أنصار الشريعة السلفية الجهادية
تأسّست جماعة أنصار الشريعة في نيسان/أبريل 2011 كجماعة ضمن الإيديولوجيا السلفية الجهادية، غير أنها كانت تركّز بصورة خاصة على التطبيق الصارم للشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من أنها تعتبر في كثير من الأحيان الجماعة الأكثر تنظيماً داخل تيار السلفية الجهادية التونسي، فإنها مع ذلك ذات بنية فضفاضة، ويتزعّمها مؤسّسها سيف الله بن حسين، المعروف باسم أبو عياض.
حركة "أنصار الشريعة" هي مجموع ثلاثة أجيال من الجهاديين التونسيين ذوي الخلفيات والخبرات المختلفة. ذلك أن جيل الجهاديين الذين انضموا إلى تنظيم القاعدة في أفغانستان أو في أوروبا في تسعينيات القرن الماضي، والذين كان قد تم تسليمهم وحكم عليهم بالسجن في تونس وجيل من التونسيين الشباب الذين يشتبه في انضمامهم إلى الجهاد العراقي بعد الغزو الأميركي في العام 2003، غالباً ماوجدوا أنفسهم مسجونين معاً خلال العقد الماضي، واستفادوا من سجنهم لتنظيم الحركة السلفية الجهادية والتي سيطلق عليها في مابعد "أنصار الشريعة". انضم جيل أصغر سنّاً من الشباب إلى الحركة بعد انتفاضة العام 2011، وهو جيل مرّ بتجربة تسيُّس سريعة بفعل تحرُّر المجال العام الذي تلا سقوط نظام زين العابدين بن علي، وأصبحت حركة أنصار الشريعة راسخة تماماً، على الرغم من كونها نوعاً من التعبير عن العمل الاجتماعي والفكر الجهادي أكثر منها جماعة حسنة التنظيم.
وبينما كان بعض السلفيين الجهاديين الذين أسّسوا حركة أنصار الشريعة يؤمنون في السابق بالحاجة إلى الكفاح المسلح لإقامة دولة إسلامية، فقد دفعهم الربيع العربي إلى تغيير تكتيكاتهم والتركيز بدلاً من ذلك على العمل الدعوي لنشر العقيدة الدينية لتمهيد الطريق أمام قيام الدولة الإسلامية. ويعدّ مؤسّس "أنصار الشريعة" أبو عياض، الذي شارك في العام 2000 في تأسيس الجماعة التونسيّة المقاتلة (التي صنّفها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منظمة إرهابية في العام 2002)، مثالاً ساطعاً على هذا التطوّر. اعتقل أبو عياض في العام 2003 في تركيا وتم تسليمه إلى تونس، حيث سجن حتى كانون الثاني/يناير 2011. وبعد سقوط زين العابدين بن علي، قام بتغيير نهجه وأسّس حركة أنصار الشريعة. وقد أصرّ في مناسبات مختلفة على أن العنف فخّ وأن التركيز ينبغي أن ينصبّ على إعداد المجتمع لحكم الإسلام من خلال الأنشطة الدينية والاجتماعية، وليس القتال.8 ولتحقيق هذه الغاية، سيطر أعضاء أنصار الشريعة على عدد من المساجد ووزّعوا المنشورات الدينية، ونظموا اجتماعات دعوية لنشر أفكارهم.
لاحظ المراقبون أن حركة أنصار الشريعة تصرّفت في البداية كحركة اجتماعية شبابية تستهدف الجماهير المحرومة.9 كانت الحركة مرتبطة فكرياً، وليس سياسيا أو عملياً، مع الحركة السلفية الجهادية العالمية، وكانت في البداية بعيدة عن تبنّي الرؤية المروّعة التي يروّج لها تنظيم القاعدة.10
غير أن بعض أعضاء حركة أنصار الشريعة شاركوا بالفعل في الاحتجاجات العنيفة كوسيلة لمواجهة الدولة. ومن الأمثلة على ذلك الهجمات على سينما "أفريك آرت-Afric\'Art" بسبب عرضها الفيلم المثير للجدل "لا ربي لا سيدي" في 26 حزيران/يونيو 2011؛ وعلى مكاتب قناة "نسمة" التلفزيونية الخاصة بسبب بثّ الفيلم الفرنسي-الإيراني "برسيبوليس" في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2011؛ وعلى السفارة الأميركية للاحتجاج على فيلم أميركي مسيء للنبي محمد في14 أيلول/سبتمبر 2012.
ذهب البعض الآخر في أنصار الشريعة إلى أبعد من ذلك، حيث حملوا السلاح إمّا خارج تونس من خلال الانضمام إلى الجماعات الجهادية في سورية والعراق أو داخل تونس من خلال استهداف قوات الأمن والشخصيات السياسية العلمانية. وأدّى ذلك إلى سلسلة من الهجمات ضد الشرطة التونسية واغتيال اثنين من الشخصيات السياسية المعارضة، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، في شباط/فبراير وتموز/يوليو 2013، على التوالي. عرّضت الاغتيالات عملية الانتقال السياسي بعد الثورة إلى خطر لأن القوى السياسية العلمانية اتّهمت أنصار الشريعة بالوقوف وراء الاغتيالات وحزب النهضة الإسلامي الحاكم بحمايتها. صنّفت حكومة علي العريّض أنصار الشريعة كجماعة إرهابية في آب/أغسطس 2013، وتنحّت النهضة عن السلطة في كانون الثاني/يناير 2014.
الإقصاء السياسي والتهميش الاجتماعي-الاقتصادي للشباب
تمكنت السلفية الجهادية، التي بدأت كحركة متطرّفة على هامش المجتمع، من التوسّع في تونس بعد العام 2011 بسبب التغيّرات السياسية والاقتصادية السريعة. وجذبت في المقام الأول الشباب الذين يشعرون بأنه تم استبعادهم من جانب النظام السياسي في مرحلة مابعد بن علي، ووفّرت متنفّساً لردود فعلهم العنيفة في بعض الأحيان على فشل الدولة في دمجهم اجتماعياً واقتصادياً. وقد أدّى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي للطبقتين الدنيا والمتوسطة بعد الثورة، وفشل الحكومة في معالجة المطالبات الاجتماعية والاقتصادية، إلى إذكاء تطرّفهم. وعلى الرغم من أنه تم إضفاء الشرعية السياسية على النهضة في الانتخابات التي أعقبت ثورة العام 2011، فقد فشل الحزب الإسلامي في مابعد في ترويض ظاهرة السلفية الجهادية عن طريق التعاطي بصورة ملائمة مع تهميش الشباب.
    تمكنت السلفية الجهادية، التي بدأت كحركة متطرّفة على هامش المجتمع، من التوسّع في تونس بعد العام 2011 بسبب التغيّرات السياسية والاقتصادية السريعة.
ثمّة سوء فهم شائع بأن انتشار الإيديولوجيا الجهادية بين الشباب يعكس صراعاً طبقياً حيث تمثّل النهضة الطبقة الوسطى المحافظة بينما تعبّئ الحركة السلفية الجهادية الطبقات الدنيا. وعلى الرغم من أن الكثير من الشباب الذين انجذبوا إلى الحركة السلفية كانوا يعيشون على أنشطة اقتصاديّة هامشيّة وكان بعضهم من أصحاب السوابق العدليّة، فإن الكثير منهم من خرّيجي الجامعة من أبناء الطبقة الوسطى ومع ذلك فقد فشلوا في العثور على وظائف وفرص تلبّي توقّعاتهم.
تشهد المعلومات المختصرة عن الشباب المشاركين في الهجمات الأخيرة على انتشار الحركة الجهادية بين الطلاب من أبناء الطبقة الوسطى والمهنيين الشباب. أحد منفّذي الهجوم على متحف باردو كان طالباً في المرحلة الثانوية من الطبقة الوسطى ووالده مزارع، وأعمامه معلمون من محافظة القصرين. كانت القصرين، الواقعة على الحدود الجزائرية، واحدة من معاقل الثورة ضدّ نظام زين العابدين بن علي، ولكن بعد أربع سنوات لاتزال تعاني من التهميش وغياب التنمية. الشاب الثاني المتورّط في هجوم باردو يتحدّر من إحدى الضواحي الخاصة بالطبقة العاملة في تونس. وقد انقطع عن التعليم في المرحلة الجامعيّة وكان يعمل ساعي بريد في وكالة سفر. أما سيف الدين الرزقي، منفّذ هجوم سوسة يوم 26 حزيران/يونيو 2015، فقد كان طالب ماجستير من منطقة سليانة المهمّشة. كانت عائلته من الطبقة الدنيا، على الرغم من أن والديه كافحا لضمان مستوى لائق من المعيشة لأبنائهما. وعلى الأرجح أصبح الرزقي متطرّفاً من خلال الإنترنت.11
تعكس هذه المسارات حقيقة أن التطرّف يخترق كل الطبقات الاجتماعية. كما أنها تعكس الدور المتطوّر لعملية تطرّف ذاتي تجري خارج المجال الديني وتستفيد من التغيّرات التي تحدث في حياة الشباب وفشل النظام السياسي والإقتصادي في دمجهم وتوفير الحماية لهم. فقد شهد الشباب التونسي أزمة عميقة تنطوي على سمتين أساسيتين: أزمة اقتصادية-اجتماعية تميّزت بعدم يقين عام بشأن المستقبل فاقمها البحث العميق عن معنى في مجتمع يعيش استقطاباً حادًّا.
مامن شكّ في أن خطر الحركة الجهادية يكمن في قدرتها على جذب الشباب، مثل الثلاثة المذكورين آنفاً، الذين لم يكونوا راضين عن وضعهم الاجتماعي. وقد أظهر مسح أجري في منطقتي سيدي بوزيد والقصرين حول العوامل الاجتماعية والديموغرافية التي فجّرت الانتفاضة أن 62 في المئة من الشباب المتخرّجين حديثاً يعتقدون أن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي أسوأ من وضع ذويهم.12 وقد تطوّر هيكل البطالة في السنوات العشر الماضية وأثّر بقوة على الأشخاص من ذوي التعليم العالي بصورة خاصة، حيث ازداد عدد خريجي الجامعات بين الباحثين عن العمل من 11 في المائة في العام 2000 إلى 33.2 في المئة بحلول نهاية العام 2013. ومن بين العاملين حالياً، هناك 85 في المئة من العمال لم يتخرجّوا من المدرسة الثانوية. وبعبارة أخرى، فإن الشباب التونسي، وخاصة خريجي الجامعات، عالقون في مجتمع غير قادر على توفير الفرص الاجتماعية والمهنية.
يرتبط استياء الخريجين بالفجوة بين مخرجات النظام التعليمي والفرص التي تتيحها سوق العمل، إذ يدخل سوق العمل كل عام حوالى 140 ألف شخص للتنافس على 60 إلى 65 ألف وظيفة فقط، مايحكم على قطاع واسعٍ من الشباب التونسي بالبطالة التي تنطوي على مفارقة متناقضة: الحاصلون على مؤهلات جامعية هم في الواقع أكثر عرضة إلى أن يبقوا عاطلين عن العمل أو أن يعملوا في وظيفة لاتتوافق مع مؤهلاتهم.13 وهذا يعني أن النظام التعليمي لم يعد يسمح للشباب بتسلّق السلّم الاجتماعي، مايتسبّب في انكماش الطبقة الوسطى وتغذية التوتّرات الاجتماعية.
أصيب الشباب المتضرّرون من هذه الظاهرة بخيبة أمل، خصوصاً عندما انتهت تغييرات العام 2011 الثورية فجأة. فقد كانت السياسات التي نفّذتها حكومات مابعد بن علي، مثل "الحظائر"، وهو برنامج توظيف على نطاق واسع، وعلاوة (أمل)، التي كانت منحة مؤقّتة لخريجي الجامعات تم وقفها في أيار/مايو 2015، أساساً تدابير طارئة حاولت كبح جماح الغضب الاجتماعي. ارتفعت معدلات البطالة في الواقع منذ سقوط نظام بن علي، لأن تباطؤ الاستثمارات وزيادة حالة عدم اليقين السياسي وتجدّد الفساد واستمرار الركود الأوروبي (تُعَدّ أوروبا الشريك الاقتصادي الرئيس لتونس) تضافرت جميعاً وأدّت إلى تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وأظهر تقرير للبنك الدولي صدر مؤخراً حول إدماج الشباب في تونس أن 33 في المئة من الشباب (مابين خمسة عشر وتسعة وعشرين عاماً) غير مندمجين بأيّ شكل من الأشكال، وهذا يعني أنهم لايتعلّمون أو يعملون أو يتدرّبون.14
    وجد الكثير من الشباب التونسيين ممن تلقّوا تعليماً جيداً وكانوا مصمّمين على تحقيق نهوض اجتماعي على مايبدو، أنفسهم بدل ذلك مهمّشين بسبب البطالة أو انعدام الأمن.
لذلك، فإن التفاؤل الذي نجم عن الثورة تعكّر حيث يقدّر 90 في المئة من الشباب الذين يعيشون في ضواحي تونس أن وضعهم لم يتغيّر، ويعتبر 46 في المئة منهم أن وضعهم أصبح أسوأ مما كان عليه في ظل نظام بن علي.15 في هذا السياق من خيبة الأمل العامة، تغذّي تجاوزاتُ أجهزة الشرطة مشاعرَ الاستياء والمرارة في أوساط الشباب في المناطق الحضرية والأحياء الشعبيّة. والواقع أن غياب الإصلاح الجادّ في وزارة الداخلية فتح الباب أمام عودة العديد من الممارسات القمعية من أيام نظام بن علي، بما في ذلك التعذيب في أقسام الشرطة والسجون. وكما أشار آرون زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، فإن "الانتهاكات يمكن أن تكون مصدراً للتطرّف أو إعادة التطرّف بالنسبة إلى أولئك الذين تخلّوا عن الحركات الجهادية في السنوات القليلة الماضية".16 وفي ظل هذه الظروف، من المرجّح أن يخلق تطبيق حالة الطوارئ بعد هجوم سوسة والتدابير المقيّدة للحريات في قانون مكافحة الإرهاب الصادر في تموز/يوليو 2015 مناخاً من الإفلات من المحاسبة بين الأجهزة الأمنية ويُذكي التطرّف.17 ومن المرجّح أن يستمر الشعور العام بالظلم لدى الشباب المحبَطين، ويتجلّى في عدم الرضا الشعبي تجاه السياسة الحزبية والاعتقاد بأنه تم اختطاف الثورة من جانب النخبة السياسية.
إن وجود شباب ساخطين لايؤدّي إلى التطرّف بصورة ثابتة، ومع ذلك، فإن التصور القائل إنهم لايستحقّون مكانتهم المتدنّية يؤجّج الشروخ المجتمعية ويستدعي العنف.18 وقد وجد الكثير من الشباب التونسيين ممن تلقّوا تعليماً جيداً وكانوا مصمّمين على تحقيق نهوض اجتماعي على مايبدو، أنفسهم بدل ذلك مهمّشين بسبب البطالة أو انعدام الأمن، بدءاً من برنامج الإصلاح الهيكلي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، مروراً بتنفيذ إصلاحات الخصخصة وتحرير الاقتصاد في التسعينيات، وانتهاءً بفشل وعود ثورة العام 2011. وكما تقول أغنية سلفية شهيرة، فإنهم "غرباء" فقدوا الشعور بالانتماء إلى المجتمع.19 بالنسبة إلى هؤلاء الطامحين لأن يكونوا أفراداً في الطبقة الوسطى والذين فشلوا في أن يجدوا مكاناً لأنفسهم في مجتمع يعاني من الفساد والمحسوبية،20 أصبحت السلفية الجهادية توفّر هوية احتجاجية.
ضعف المجال الديني
ثمّة عاملان رئيسان أسهما في تشكيل المجال الديني في تونس بعد سقوط بن علي. الأول هو ضعف المؤسّسات الدينية الرسمية، إما لأنها أُضعِفت بسبب السياسات التي اتبعها النظام القديم، كما هو الحال مع المؤسّسة الزيتونيّة، أو لأنها فقدت شرعيتها في مرحلة مابعد بن علي بسبب دعمها للنظام القديم، كما هو الحال مع الأئمة الرسميين التابعين لوزارة الشؤون الدينية. والعامل الثاني هو تركيز حركة النهضة على الأنشطة السياسية على حساب الأنشطة الدينية. هذان العاملان خلقا فراغاً دينياً سهّل انتشار الأفكار الدينية المتطرّفة.
وإذا كان عهد بن علي اتّسم بالرقابة المشدّدة على المجال الديني، فقد تميّزت السنوات التي تلت سقوط النظام في العام 2011 بفقدان الأجهزة الأمنية لهذه السيطرة. إذ تم منع الدعاة الذين أشادوا ببن علي من دخول المساجد، وفقدت وزارة الشؤون الدينية السيطرة على حوالى خُمس مساجد تونس التي يصل عددها إلى خمسة آلاف مسجد.21 وعلى عكس حالة مصر في ظل حكم مبارك، حيث امتلأت سوق الدين بمؤسسات الدولة الدينية القوية نسبياً، مثل الأزهر، والحضور القوي لجماعتي الإخوان المسلمين والسلفيين، كانت سوق الدين في تونس فارغة تقريباً عندما سقط النظام. وقد استفادت الجماعات الدينية المتطرّفة من هذا الفراغ الديني لنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد.
نجحت الحكومات المختلفة في الفترة الانتقالية إلى حدّ كبير في استعادة السيطرة على المجال الديني. في أيار/مايو 2013، أعلن الوزير السابق للشؤون الدينية، نور الدين خادمي، أن 100 مسجد فقط لاتزال خارج سيطرة الوزارة. ومع ذلك، فإن هذا العدد لايشمل حوالى 189 مسجداً بنيت من دون تصريح رسمي. وأصدرت وزارة الشؤون الدينية مؤخراً بياناً يفيد بأن على هذه المساجد تعديل وضعها القانوني، وإلا فإن الوزارة ستتّخذ التدابير اللازمة ضدّها. ويبدو أن وزير الشؤون الدينية الجديد، عثمان بطيخ، عازم على تطبيق القانون من خلال إخضاع كل المساجد والأئمة إلى سيطرة الوزارة.
يمثّل ذلك تحرّكاً متنامياً نحو وضع المجال الديني مرة أخرى تحت رقابة الدولة الصارمة، كما كان عليه الحال في عهد بن علي. فبعد الهجوم الذي وقع في سوسة، أعلن رئيس الوزراء الحبيب الصيد أن الحكومة ستغلق 80 مسجداً لاتخضع إلى سيطرة الدولة. كما أعفت الوزارة الداعية السلفي الشهير بشير بن حسن من منصبه وعيّنت إماماً آخر مكانه. لابل إن هذه التدابير تجاوزت المشايخ السلفيين لتشمل شخصيات دينية مقرّبة من حركة النهضة، مثل وزير الشؤون الدينية السّابق نور الدين خادمي نفسه، الذي مُنع من الخطابة. وقد أعربت بعض الشخصيات الدينية، ومن ضمنها القياديّ في حركة النهضة الحبيب اللوز، عن خشيتها من ألا تتمكّن هذه التدابير من وقف التطرّف العنيف، وقد تعزّزه بدل ذلك. لذا، فإن الحكومة في حاجة لأن تتلمّس طريقها بين طرفي النقيض من الفوضى والرقابة الصارمة على المجال الديني. ويتعيّن على الوزارة أن تتولّى إدارة المجال الديني، لا أن تسيطر عليه.
دعّمت حركة النهضة مكانتها في السّاحة السياسيّة التونسيّة من خلال التصرّف بصورة براغماتية خلال الفترة الانتقالية. ففي أعقاب انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في العام 2011، وافقت النهضة على تقاسم السلطة مع اثنين من الأحزاب السياسية العلمانية، وشكّلت تحالف الترويكا. كما فضّلت النهضة إجراء حوار مع خصومها السياسيين كوسيلة لحلّ أزمات سياسية عدّة تواجه حكمها. وبعد هزيمتها في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 2014، أعلنت النهضة قبولها بالنتائج، وبالتالي تحدّت الفكرة التي تقول إن الأحزاب الإسلامية تقبل الديمقراطية فقط إلى أن تصل إلى السلطة.
مع ذلك، تحقّق هذا النجاح السياسي بثمن لم يفطن له أحد في الغالب. فقد تضرّرت مكانة النهضة داخل المجال الديني. أولاً، أضرّت التسويات السياسية التي كان لزاماً على النهضة أن تعقدها أثناء عملية كتابة الدستور في المسائل المتعلقة بالشريعة بصورتها لدى الشباب المحافظ المتديّن. إذ تساءل أحد الشباب السلفيين قائلاً: "ماهو الإسلامي في النهضة، إذا كانوا لايستطيعون حتى إضافة مادة عن الشريعة الإسلامية في الدستور؟" وتساءل رجل آخر كبير السن أمضى أكثر من عشر سنوات في السجن في ظل النظام القديم، قائلاً: "لماذا ذهبنا إلى السجن إذا لم يكن بمقدور النهضة في نهاية المطاف، وهي في السلطة، أن تدافع عن مبادئها الدينية؟" ثانياً، ركّزت النهضة على الصراعات السياسية ولم تهتمّ إلا قليلاً بأنشطتها الدينية. وعلى الرغم من أن شخصيات في النهضة، مثل الصادق شورو والحبيب اللوز، يشاركون في أنشطة دينية فردية، فإنه ليس لدى الحركة نفسها حالياً أي مشروع ديني.
بينما ينظر الكثير من الناس إلى النهضة كحزب سياسي، وبالتالي يقيّمون تجربتها خلال الفترة الانتقالية باعتبارها نجاحاً، يرى البعض الآخر أنها حركة دينية وبالتالي يعتقدون أنها فشلت في التمسّك بمبادئ الإسلام. وبما أن النهضة حزب سياسي وحركة دينية في آن واحد، فإنه ينبغي أخذ التقييمين بعين الاعتبار. ومن هنا يبدو أحد الاتهامات معقولاً، حيث فشلت النهضة في الحفاظ على توازن صحيح بين أنشطتها السياسية والدينية.
وفي الوقت نفسه، فإن مقارنة النهضة بحزب العدالة والتنمية في تركيا والاحتفاء بحقيقة أن النهضة تقترب أكثر من النموذج التركي، تتجاهل فارقاً هاماً بين الحالتين. إذ إن السوق الدينية في تركيا مليئة بالحركات الدينية القوية، مثل النقشبندية والسليمانية والنورسية، وبالتالي لم يكن لزاماً على حزب العدالة والتنمية أن يختار بين المجالين الديني والسياسي لأن الاثنين كانا منفصلين بالفعل. ليست هذه هي الحال بالنسبة إلى حركة النهضة في تونس، حيث السوق الدينية فارغة تقريباً؛ وحيث حرم قرار النهضة بالتركيز على الجانب السياسي السوق الدينية من فاعل ديني قوي كان بمقدوره أن يوازن وجود الحركات الدينية المتطرّفة. وقد أدركت قيادة النهضة هذه المشكلة؛ حيث أكد الغنوشي مؤخراً على ضرورة معالجة الأنشطة الدينية وإيجاد توازن بين التركيز على المجتمع وعلى الحكم.22
سوء تعامل النهضة مع السلفيين
في حين ركّز السلفيون الجهاديون على الوعظ والعمل الخيري، وحاولوا جذب جيل الشباب والسيطرة على المساجد في الضواحي والمناطق الأخرى المهمّشة اقتصادياً، أهملت النهضة العنصر الديني، وعزّزت مكانتها كقوة سياسية. لكن، بعد فوزها في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2011 للجمعية التأسيسية التونسية، كان على النهضة أن تواجه التحدّي السلفي الجهادي، والذي جسّدته جماعة أنصار الشريعة في المقام الأول.
كانت حركة النهضة متردّدة بين نهجين متنافسين للتعامل مع السلفية الجهادية. كان النهج الأول يجادل في أنه إذا تم السماح للسلفيين الجهاديين بالعمل بصورة علنية، فإنهم سيعدّلون أفكارهم من خلال التفاعل مع الجماعات الإسلامية الأخرى، وبالتالي يمكن أن يكونوا رصيداً للحركة الإسلامية. أما النهج الثاني فلم يكن ينظر إليهم باعتبارهم يشكّلون تهديداً للعملية السياسية التونسية وحسب، بل أيضاً تهديداً لأول تجربة لحركة النهضة في الحكم. في المرحلة الأولية التي أعقبت الثورة، كان النهج الأول هو المهيمن، وسمحت النهضة للسلفيين الجهاديين بالعمل في المجال الديني.
مع ذلك، انتهى الأمر بحركة النهضة في نهاية المطاف، والتي كانت تسعى إلى الوفاء بمسؤوليتها باعتبارها الحزب الحاكم، بمواجهة الجماعات السلفية الجهادية، على سبيل المثال في العام 2012 في "حرب المساجد"، والتي سعى فيها وزير الشؤون الدينية إلى استعادة السيطرة على المساجد التي كانت تحت سطوة الجماعات السلفية. احتجّ أبو أيوب، أحد قادة أنصار الشريعة، قائلاً: "نحن سنبقى في المساجد فنحن لانريد مقاعد المجلس التأسيسي. نحن نريد المساجد وهي مسألة لانساوم عليها ولانعتقد أنهم سيمنعوننا منها".23 ازدادت الاختلافات مع السلفيين الجهاديين عندما امتنعت حركة النهضة عن الإشارة إلى الشريعة في مسوّدة دستور نيسان/أبريل 2012، والتزمت بدعم حرية الضمير وحظر التكفير (الاتهام بالردّة)، وقبلت بالمساواة بين الجنسين في النسخة النهائية من دستور العام 2013.
    كانت حركة النهضة متردّدة بين نهجين متنافسين للتعامل مع السلفية الجهادية.
حين نجحت النهضة في تعزيز مكانتها في المجال السياسي من خلال المساومة وتقديم التنازلات لحلفائها أو خصومها العلمانيين، أصبح موقف الفصائل التي تؤيّد العنف داخل أنصار الشريعة أقوى. بحلول كانون الأول/ديسمبر 2011، هدّد أبو عياض النهضة بأن تكون هناك عواقب إذا ماقدّمت تنازلات لمواءمة مواقف العلمانيين،24 كما أن تصاعد العنف السياسي في العام 2013 منح الجماعة التي أرادت مواجهة أنصار الشريعة، داخل حركة النهضة، الشرعية اللازمة لتنفيذ رؤيتها. في أيار/مايو 2013، رفضت حكومة النهضة السماح لأنصار الشريعة بعقد اجتماعهم السنوي الثالث. وفي آب/أغسطس 2013، أعلن رئيس الوزراء آنذاك، علي العريّض، وهو الآن أمين عام حركة النهضة، أنصار الشريعة منظمة إرهابية بسبب تورّطها في قتل شكري بلعيد ومحمد البراهمي وعناصر من الأجهزة العسكريّة والأمنيّة. كما أن اعتقال أكثر من 6500 من الشباب الذين كانوا أعضاء في أنصار الشريعة أو متعاطفين معها أضعف قيادتها، وهو الأمر الذي أدّى، بدوره، إلى فقدان السيطرة على صفوفها وانخراط بعض الأعضاء في أعمال العنف.25
أثبت تصويت النهضة ضدّ استبعاد الشخصيات البارزة في النظام السابق من المشاركة في انتخابات العام 2014 براغماتية الحركة في سعيها للحصول على الاعتراف السياسي، وبالتالي استعدادها لقبول الاستمرارية مع الماضي. هذا الفشل في القطع مع النظام السياسي السابق أتاح مجالاً أوسع للتحدّي الاجتماعي والسياسي من جانب السلفية الجهادية. غير أن التحوّل في أنماط الجهاد العالمي زاد أيضاً في نمو السلفية الجهادية. ومنذ إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية قوبلت التصدّعات في النظام الاجتماعي والسياسي بوعد بـ"مدينة فاضلة" على أساس نظام اجتماعي وسياسي جديد يتمحور حول الإسلام. وعلى غرار تنظيم القاعدة في العقد الماضي، نجح تنظيم الدولة الإسلامية في اختراع ماوصفه أوليفييه روا بأنه "سردية قد تسمح للمتمردين الذي ليست لديهم قضية بالارتباط بقضية".26 وبعبارة أخرى، توفّر السلفية الجهادية للشباب المحبَطين قواعد للتمرّد، وتحوّل تنظيم الدولة الإسلامية إلى بديل للدولة الوطنية "غير الشرعية". هذه السرديّة تدمج المسائل السياسية والدينية بهدف حشد المتطوّعين للجهاد في سورية والعراق وليبيا، وعلى نحو متزايد، في تونس.
توصيات لعكس نمو السلفية الجهادية
التصعيد في العنف الجهادي لايدلّ بشكلٍ واضح على التحدّيات الأمنية وحسب، بل أيضاً على التحدّيات السياسية والدينية التي تواجهها الجهات الفاعلة في عملية الانتقال الديمقراطي في تونس. ثمّة عدد من التدابير المطلوبة لمواجهة الموجة الحالية من التطرّف في تونس والسماح بقيام علاقات بين الدين والدولة تحمي الحريات الدينية من دون تعريض العملية الديمقراطية إلى الخطر. وتشمل هذه التدابير الإدماج السياسي للسلفيين السلميين، وإنشاء سوق أكثر تنوعاً للأفكار الدينية، ومحاولة من جانب حركة النهضة، باعتبارها الحركة الدينية الأكثر أهمية في تونس، لإيجاد توازن صحيح بين السياسة والدين. وإضافةً إلى هذه التدابير، ثمّة حاجة لوضع استراتيجية شاملة لمواجهة التطرّف تشمل الجهات الفاعلة الأخرى في مايمكن تسميته ائتلاف مواجهة التطرّف.27
الإدماج السياسي للسلفيين
غالباً ماتكون العوامل الإيديولوجية أقلّ تأثيراً في استقطاب المجنّدين للسلفية الجهادية من السخط تجاه الجهات الفاعلة السياسية والمؤسّسية، سواء كانت علمانية أو إسلامية. فالمواجهة بين الحركة الجهادية وقوات الأمن هي لعبة محصلتها لاغالب ولامغلوب ويمكن أن تتسبّب في حالة من عدم الاستقرار الدائم، مايهدّد العملية الديمقراطية. وبالتالي فإن نجاح الديمقراطية التونسية يتطلّب الإدماج السياسي لجزء من الحركة السلفية على الأقلّ. ومن شأن عملية الإدماج هذه أن تشجّع الحركة السلفية التونسية على الشروع في عملية مراجعات فكرية. ويوفّر الشيخ منير أبو مظفّر التونسي، أحد الآباء المؤسّسين للحركة للسلفية في تونس، مثالاً على ذلك. إذ يمكن النظر إلى المراجعات الفكرية التي يحاول القيام بها وتقاربه مع حزب جبهة الإصلاح باعتبارها خطوات لإضفاء الطابع المؤسّسي على هذه الحركة. يرفض التونسي مساواة الديمقراطية بالكفر، مشيراً إلى أن الديمقراطية أفضل من حكم استبدادي مفروض. وهو يدعم أيضاً حرية الضمير طالما أنها تكون مصحوبة بحرية الدعوة إلى القيم الإسلامية.28
    ينبغي أن نرسم خطاً فاصلاً بين من يدعون إلى العنف وبين الملتزمين بالدعوة السلمية إلى أفكارهم.
إضافةً إلى إدماج السلفيين، ثمّة حاجة أيضاً إلى تجنّب استبعاد الجماعات الدينية من العمل في المجال السياسي والمجتمع المدني طالما أنها لاتستخدم العنف أو تدعو إلى استخدامه. وينبغي أن نرسم خطاً فاصلاً بين من يدعون إلى العنف وبين الملتزمين بالدعوة السلمية إلى أفكارهم. وهذا هو حال حزب التحرير، الذي لايُعَدّ جماعة سلفية بل حزباً إسلامياً يدعو إلى استعادة الخلافة الإسلامية. بعد هجوم سوسة، زاد الضغط على الحكومة لحظر حزب التحرير، من جانب القوى العلمانية بصورة رئيسة، بحجّة أن هذا الحزب لايعترف بالدستور الجديد والنظام الجمهوري.
على الرغم من موقفه السياسي المتطرّف والداعي إلى إقامة الخلافة، ينبغي أن يُسمح لحزب التحرير بالعمل بحرية. فمن شأن إقصاء هذا الحزب أن يؤجّج الغضب بين مؤيّديه وعلى نطاق أوسع بين السكان المحافظين والمتديّنين، الذين سيشعرون بأنهم مستبعدون من المجال العام، ويمكن تجنيدهم بسهولة من جانب جماعات العنف. وهذا من شأنه خلق شعور بالظلم والاغتراب وتغذية التطرّف.
السماح بوجود سوق متنوّعة للأفكار الدينية
قبل الثورة لم تكن في تونس فعاليات دينية قوية. كانت وزارة الشؤون الدينية تحتكر المجال الديني، بيد أن دعم أئمتها للنظام القديم، رفع غطاء الشرعية عنها بعد سقوط النظام. وتسعى الوزارة الآن إلى استخدام الشرعية الانتخابية للحكومة التي تمتلك زمام السلطة، سواء في ظل حكم الترويكا أو الحكومة الحالية بقيادة حزب نداء تونس، من أجل استعادة سيطرتها على المجال الديني. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية قد تصبّ الزيت على نار عملية التطرّف.
بدلاً من السماح للمؤسسات الدينية الرسمية باحتكار المجال الديني أو السماح للدعاة غير الرسميين بالاستفادة من النظام الضعيف، يحتاج النظام إلى تعزيز السوق التنافسية للأفكار، بحيث يمكن لأي طرف ديني فاعل لايمارس العنف السياسي أو يدعو إليه أو يتبنّى خطاب كراهية، أن يعمل. كما تحتاج وزارة الشؤون الدينية إلى توفير تدريب للأئمة الرسميين يشمل موضوعات دينية وأخرى حديثة حتى يتمكّنوا من منافسة الدعاة السلفيين. وعلى النظام أن يوازن بين السيطرة المُحكَمة وعدم وجود رقابة. فإذا مامنحت الوزارة المؤسّسات الدينية الرسمية احتكار السوق، فإنها بذلك تضرّ بشرعيتها وتسمح بظهور سوق موازية للأفكار الدينية حيث لاتملك الدولة السيطرة ولا تكون المؤسسات الدينية الرسمية لاعباً فيها.
جهود النهضة لتحقيق توازن بين الأنشطة السياسية والدينية
 قبل العام 2011، اضطرّ أعضاء حركة النهضة إلى الخروج من البلاد أو العمل بصورة سرّية. وبالتالي، وعلى عكس حال جماعة الإخوان المسلمين في مصر، لم تكن هناك أنشطة اجتماعية أو دينية قائمة لحركة النهضة عندما وصلت إلى السلطة. بعد سقوط زين العابدين بن علي، ركّزت النهضة على الصراعات السياسية في الفترة الانتقالية ولم تولِ المجال الديني الاهتمام الكافي، ماسمح للسلفية الجهادية بنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد، ولاسيّما في صفوف الشباب. وتحتاج النهضة الآن إلى إيجاد توازن أفضل بين السياسة والدين، وإلى التفريق بين هويتَيْها كحزب سياسي وحركة دينية.
ينبغي أن يُسمح لحزب النهضة بالعمل في المجال السياسي من دون أي تدخّل من جانب الحركة الدينية على أساس حجج دينية، وينبغي أن تكون الحركة الدينية قادرة على العمل داخل المجال الديني من دون أن تُستَغل من جانب الحزب لتحقيق مكاسب سياسية. ولضمان هذا التمايز، ينبغي أن يكون للحزب والحركة هيكلان تنظيميان منفصلان. وينبغي أن يكون كل هيكل قادراً على وضع أجندته وتشكيل تحالفاته الخاصة لتحقيق أهدافه. وفي حين أن الهيكلين قد يشتركان في المرجعية الإيديولوجية نفسها، ينبغي أن يعملا في مجالَين مختلفَين: السياسي والديني.
    يقدّم النموذج المغربي تجربة ملهمة للحركة الإسلامية التونسية.
قد يقدّم النموذج المغربي تجربة ملهمة للحركة الإسلامية التونسية. فحركة التوحيد والإصلاح المغربية منظمة دينية إسلامية تشترك مع حزب العدالة والتنميّة في المرجعيّة الفكريّة والقيميّة، لكنها تنظيميّاً مستقلة عنه. وفي حين أن انقساماً مماثلاً داخل النهضة يستتبع عملية معقدة وطويلة، يمكن لراشد الغنوشي الاعتماد على قوته الكاريزمية لمساعدة النهضة على القيام بهذه الخطوة وفرض هذا التوازن إلى أن يتم تعزيز القواعد واحترامها من جانب الحركة والحزب.
بناء تحالفات لمواجهة التطرّف
تلعب الجهات الدينية الفاعلة دوراً أساسياً في مواجهة التطرّف، لكنها تحتاج إلى تنسيق جهودها مع الجهات الفاعلة الأخرى في مايمكن تسميته "تحالف مواجهة التطرّف". وقد أصبحت صياغة السياسات الرامية إلى مواجهة التطرّف، وفك ارتباط وإعادة إدماج أعضاء الجماعات المتطرّفة في المجتمع ندّاً أساسياً لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب الكلاسيكية. في الدنمارك على سبيل المثال، بدأ جهاز الأمن والمخابرات الدنماركية منذ سنوات برنامجاً يجمع بين المدارس والمؤسسات الاجتماعية والشرطة المحلية للحيلولة دون تطرّف الشباب الدنماركي المسلم. ويحتاج المسؤولون في الدولة والسلطات الدينية ومنظمات المجتمع المدني والأكاديميين وممثلي وسائل الإعلام إلى العمل معاً لصياغة وتنفيذ هذه السياسات في تونس.
خاتمة
في حين توصّلت النهضة والأحزاب العلمانية إلى اتفاق سياسي محدود لتتمكّن من المضي قدماً في عملية التحوّل الديمقراطي في تونس، المطلوب الآن هو بدء نقاش أوسع حول الدين والسياسة وكذلك عملية العدالة الانتقالية، من شأنه توسيع نطاق الإدماج داخل المجتمع ومواجهة تيار التطرّف. ذلك أن الاعتماد على استراتيجيات مكافحة الإرهاب الكلاسيكية لن يفشل في منع التطرّف العنيف وحسب، بل ربما يزيده في الواقع. لذا، فإن الحكومة التونسية والجهات السياسية والدينية الفاعلة الأخرى بحاجة إلى العمل معاً بشأن استراتيجية لمواجهة التطّرف تأتي بالإصلاح إلى المجالين السياسي والديني.
هوامش
1"بين البشير بن حسن وبلال الشواشي في برنامج التاسعة مساءً"، شريط فيديو على يوتيوب، 19:05، نشرته "جمعية الصحفيين بالقيروان"، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2012.
https://www.youtube.com/watch?v=WkIx0YJgOvA.
2 United Nations Office of the High Commissioner for Human Rights, “Un Groupe d’experts de l’ONU appelle à des mesures urgentes pour arrêter le flux de combattants étrangers de Tunisie [A group of UN experts calls for urgent measures to stem the flow of foreign fighters from Tunisia],” news release, July 10, 2015, http://www.ohchr.org/FR/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=16223&LangID=F
Maha Yahya, “The Dark Side of Tunisia\'s Success Story,” RealClearWorld, June 11, 2015, http://www.realclearworld.com/articles/2015/06/11/the_dark_side_of_tunisias_success_story_111258.html 3
4 مقابلة مع عضو في مجلس شورى النهضة، تونس العاصمة، تونس، آذار/مارس 2015.
5 مجموعة الأزمات الدولية، "الحدود التونسية: بين الجهاد والتهريب"، تقرير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رقم 148، (بروكسل، مجموعة الأزمات الدولية، شباط/فبراير 2013)، 10 كانون الأول/ديسمبر 2013، http://www.crisisgroup.org/ar/Regions Countries/Middle East - North Africa/North Africa/Tunisia/148-tunisia-s-borders-jihadism-and-contraband.aspx
6 Nadia Marzouki, “Tunisia\'s Rotten Compromise,” Middle East Research and Information Project, July 10, 2015, http://www.merip.org/mero/mero071015.
7 مجموعة الأزمات الدولية، "تونس: العنف والتحدي السلفي"، تقرير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رقم 137، (بروكسل، مجموعة الأزمات الدولية، شباط/فبراير 2013)،http://www.crisisgroup.org/~/media/Files/Middle East North Africa/North Africa/Tunisia/Arabic translations/137-tunisia-violence-and-the-salafi-challenge-arabic
8 "الزعيم الروحي للسلفية الجهادية في تونس أبو عياض التونسي في حوار لـلشروق"، الشروق أونلاين، 8 آذار/مارس 2012،http://www.echoroukonline.com/ara/articles/124052.html
9 Fabio Merone, “Enduring Class Struggle in Tunisia: The Fight for Identity beyond Political Islam,” British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 42, no. 1 (2015): 74–87.
10 Michael Béchir Ayari and Fabio Merone, “Ansar al-Charia Tunisie: Une institutionnalisation à la croisée des chemins [Ansar al-Sharia Tunisia: Institutionalization at a crossroad],” in Soulèvements et recompositions politiques dans le monde arabe [Unrest and political realignments in the Arab world], edited by Michel Camau and Fréderic Vairel (Montréal: Les Presses de l\'université de Montréal, 2014), 414–428.
11 Emma Graham-Harrison, “Tunisian Gunman Seifeddine Rezgui: From Breakdancer to Islamic Radical,” Guardian, June 28, 2015, http://www.theguardian.com/world/2015/jun/28/tunisian-gunman-seifeddine-rezgui-breakdancer-islamic-radical.
12 محمد علي بن زينة، "قراءة سوسيوديمغرافية في تحوّلات واقع الشباب في سيدي بوزيد والقصرين ودورها في قيام الثورة التونسية"، في كناب "الثورة التونسية: القادح المحلي تحت مجهر العلوم الإنسانية"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحرير المولدي الأحمر (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، 149-180.
13 المصدر السابق.
14 World Bank, Tunisia: Breaking the Barriers to Youth Inclusion (Washington D.C.: The World Bank Group, 2014), http://www.worldbank.org/content/dam/Worldbank/document/MNA/tunisia/breaking_the_barriers_to_youth_inclusion_eng.pdf.
15 (Olfa Lamloum et al., Experiences and Perceptions of Young People in Tunisia: The Case of Douar Hicher and Ettadhamen (London: International Alert, 2015.
16 Aaron Y. Zelin, “Tunisia\'s Fragile Democratic Transition,” Statement before the U.S. House of Representatives, Committee on Foreign Affairs, Subcommittee on the Middle East and North Africa, July 14, 2015, http://www.washingtoninstitute.org/uploads/Documents/testimony/ZelinTestimony20150714.pdf.
17 Karina Piser, “Tunisia’s Counterterrorism Strategy Could Fuel Extremism,” World Politics Review, July 24, 2015, http://www.worldpoliticsreview.com/trend-lines/16312/tunisia-s-counterterrorism-strategy-could-fuel-extremism.
18 Michele Dunne, “Is Unemployment to Blame for Radicalization?,” World Economic Forum, May 22, 2015, https://agenda.weforum.org/2015/05/is-unemployment-to-blame-for-radicalization.
19 Olivier Roy, “Al Qaida et le nihilisme des jeunes,” Esprit, March-April 2014.
20 (Farhad Khosrokhavar, The New Arab Revolutions That Shook the World (Boulder, CO: Paradigm Publishers, 2012.
21 Tom Heneghan, “Ambiguous Religion Policy Backfires on Tunisia\'s Ruling Islamists,” Reuters, September 3, 2013, http://www.reuters.com/article/2013/09/03/us-tunisia-crisis-religion-idUSBRE9820C920130903.
22 “Tunisia: Islamists in Fragile Democracy - Interview with Rashid Ghannouchi,” by Konrad Pedziwiatr, Religioscope, March 24, 2015, http://religion.info/english/interviews/article_662.shtml#.VgBIUJoVjIV.
 23هادي يحمد، تحت راية العقاب، (تونس: دار الديوان، 2015)، 187-188.
24 المصدر السابق، 174.
25 Fabio Merone, “Explaining the Jihadi Threat in Tunisia,” openDemocracy, March 21, 2015, https://www.opendemocracy.net/arab-awakening/fabio-merone/explaining-jihadi-threat-in-tunisia
26 Olivier Roy, “Al Qaeda in the West as a Youth Movement: The Power of a Narrative,” Policy Brief No. 168 (Brussels: Center for European Policy Studies, August 2008), http://www.ceps.eu/system/files/book/1698.pdf.
27 (Georges Fahmi and Lasse Lindekilde, De-radicalization Coalition Building: Lessons from the Past and Future Challenges (Cairo: Al-Ahram Centre for Strategic Studies, 2012.
28 ماهر الزغلامي،"الجهادي السلفي في تونس"، في "السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات"، تحرير محمّد الحاج سالم، (تونس: المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، 2014، 334).
 
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,999,955

عدد الزوار: 6,974,352

المتواجدون الآن: 87