التنازع الدرامي بين التدين الشخصي والحزبي وبين الجامعة والحوزة الدينية

تاريخ الإضافة الأحد 1 تشرين الثاني 2009 - 7:37 ص    عدد الزيارات 1273    التعليقات 0

        

يعمل الدكتور علي سمير ايوب باحثا في احدى الوكالات العالمية في مجال الطاقة الحيوية المتجددة. وهو يقيم في باريس، ونشر بحوثاً اصيلة في مجال اختصاصه في مجلات ودوريات علمية عالمية متخصصة. وحاز جائزة من الجمعية اليابانية للتطوير العلمي العام 2004، وجائزة كلود هاغنر الفرنسية العام 2008. قبل مغادرته لبنان في اواسط تسعينات القرن الماضي، عاش ايوب طفولته وشبابه في ضاحية بيروت الجنوبية التي عاش مجتمعها في الثمانينات اوج تمزقه الحربي استكمالا للحروب الملبننة. وفي تلك الحقبة عاش ايوب الفتى والشاب تمزقه الوجداني ما بين التدين الشخصي والتدين الحزبي على ايقاع أصداء الثورة الايرانية الخمينية، وتصاعد نفوذ "حزب الله" في البيئة الشيعية في لبنان. وفي انتسابه الى الجامعة اللبنانية لدراسة الكيمياء، وانتسابه الى الحوزة الدينية، كان طالبا مجتهدا وشديد العصامية... وصولا الى خروجه من الحوزة واستكماله دراساته العليا في الكيمياء في فرنسا، من دون ان يتخلى عن تدينه الشخصي ونفوره من التدين الحزبي والسياسي. هذه المقتطفات من مسيرته، هي حصيلة مراسلات الكترونية مطولة بينه وبين كاتبة هذه المسيرة بناء على روايته.
عشت حياتي في سنواتها الاولى، داخل فضاء ضيق مختنق، تشح فيه سبل العيش، في ضاحية المدينة، فيما أزيز الرصاص المتناثر ينشر الخوف والرعب حولي. أبصرت النور في منزل تحضر فيه صورة مريم العذراء التي كانت تجلب لأمي انتقادات الأقارب والجيران. والى تلك الصورة لا ازال أتذكر المكتبة البيتية وعناوين كتبها ومضامينها. عشت وحيداً في ظلّ فقد أبي الذي غيّبته لعنة الحرب، ما ضاعف مسؤوليات امي ورقابتها الصارمة، هي التي كانت ولا تزال تقدّس العلم وتحترم التقاليد اللبنانية.
أمّي سليلة عائلة بيروتية من رأس بيروت، قبل زواجها من والدي وانتقالها للاقامة في الضاحية. في الخامسة فجرا ًكانت توقظني وتشغّل المذياع لنستمع الى النشيد الوطني اللبناني، وايات من الذكر الحكيم، فيما انا استعد للانطلاق الى مدرسة راهبات مار يوسف في حارة حريك التي كنت متفوّقاً في صفوفها. كانت الصلاة والقراءة تشكّلان ركيزة تربيتي، لكنني لم أكن اتردد الى المساجد القريبة من بيتنا، لأنها كانت تخضع لسيطرة الأخوة الأعداء انذاك (حركة "أمل" و"حزب الله”). وكان هذا الأمر ممنوعاً عليّ لخشية أمّي من مغبّة انخراطي في صفوف أحد هذين الحزبين. أذكر من تلك الحقبة حادثة بيّنت لي انذاك اختلاف أجواء بيتنا عن محيطه. كنت برفقة أمّي أزور منزل جيراننا، وصادف ان النهار كان عيد استقلال لبنان، وحين بثّ المذياع النشيد الوطني، وقفت احتراماً،  وفق ما كنت متعوداً، فما كان من أبناء جيراننا الا أن قهقهوا عالياً وأخذوا يسخرون منّي ومن النشيد والاستقلال.

 

البلوغ ومرجع التقليد
 

على أبواب مرحلة المراهقة، كنت أسمع نسوة الحيّ من جيراننا يسألن أمّي عمّا اذا كنت قد بدأت "أميّز" أم لا. والسؤال هذا كان يعني استفهامهن عمّا اذا كنت دخلت مرحلة البلوغ، حتى اذا ما اجابت امي بأنني بلغت، يصير مفروضاً على النسوة ارتداء غطاء الرأس في حضوري.
في تلك الآونة كنت أدرّس بعض زملائي من التلامذة، نظراً الى تفوّقي، فأنال لقاء هذا بعض المال الذي أنفقه على اقساطي المدرسية والكتب والثياب.
 يقضي المذهب الشيعي على من يصل الى سن البلوغ أن يقلّد مرجعيّة دينيّة. ونظراً الى جهل والدتي الأمر لانتمائها الى الطائفة السنية، حضر أحد أقارب والدي ليبلغني بالأمر. ففي بيئة اهل والدي، تعدّ كلّ من فريضتي الصوم والصلاة باطلتين في غياب المرجع الديني الذي يتوّج الأعمال الروحانية. وغالباً ما يتكفل هذا التقليد أحد الأخوة أو الأقارب، فيوجه من يبلغ السنّ الشرعية الى المرجع الذي يراه الأعلم، وتتأقلم تعاليمه مع الحياة اليومية والمتطلبات والحاجات الاجتماعية في بيئته. وتدور هذه العمليّة عادةً وفق طريقة التلقين، بعيداً من أي حوار او مناقشة، وتلعب فيها القربى والعلاقات العائلية، والهيئات النافذة في البيئة الاهلية، الدور الابرز. ورغم تعدّد المرجعيات انذاك، لم تسد في بيئتنا سوى مرجعية واحدة، نتيجة البروباغندا الاعلامية التي كانت سائدة والجهد المتنامي لبعض الجماعات المندفعة الى الواجهة.
كان "الناصح" يقف مشدوهاً أمام أسئلتي الكثيرة، فيعجز عن الرد عليها رغم فارق السن الكبير بيننا. كنت أشعر بنبرة التململ في كلامه كلّما استفسرت عن أمر معيّن. دفعني فضولي في ذلك الوقت الى شراء كتب دينيّة لشفاء غليلي المعرفي، لكن قراءاتي في هذه الكتب زادتني حيرة في مسألة مرجع التقليد الذي عليّ اختياره، وتركت في نفسي شعوراً بالعطش لم أقو انذاك على ريّه.  

الدين والثقافة والحب
 

الى جانب القراءة ودوامي المدرسي، كنت اسرق اوقاتًاً للهرب من مناخات الحرب، فأقوم بنزهات متباعدة على كورنيش بيروت البحري، او اشارك بعض اترابي في لعب كرة القدم، رغم انني لم أكن أهوى هذه الرياضة. كانت القراءة خبزاً يومياً وعشقاً ألوذ اليه من شظف العيش والأوضاع المتوترة في حيّنا. كنت أحاول من خلال القراءة ان أفقه جوهر الدين والمزاوجة بينه وبين العلوم الطبيعية التي أميل اليها ميلاً جارفاً. وهذا ما لا ازال افعله حتى اليوم في عملي البحثي، مؤمناً بأن الدين والعلوم الطبيعية لا تتناقض منطقياً وعلمياً، بخلاف الفكرة الشائعة.
كنت ألاحظ أن أقراني يتفادون النقاش معي نتيجة تفوّقي الثقافي عليهم، لكني لم أكن اولي الأمر اهتماماً كبيراً، فآمالي وأحلامي كانت منصبّةً بقوة على التحصيل الدراسي، ولو تحت القنص. وقد أثّر فيّ الجوّ العاصف الذي كان يلزمنا تلقي الدروس في الملجأ، وأدى الى خسارة بعض الزملاء الذين قضوا في حرم المدرسة. انذاك، نشأت علاقة حبّ بيني وبين فتاة في المدرسة، فعشت وصالها في الاوقات القصيرة لتناولنا الطعام في ملعب المدرسة وفي اثناء مرافقتي اياها لتوصيلها الى منزلها بعد انتهاء الدوام. لكن الاختلاف المذهبي بيننا وضغط عائلتها عليها أديا الى افتراقنا على أبواب الجامعة. ورغم أن هذه الحادثة أثرت فيّ بعض الشيء، الا انها لم تترك في نفسي فراغاً روحياً كبيراً، لأن أمّي كانت تغذّي هذا الجانب الجوّاني فيّ، فيما كانت حياتي تدور في اطار الكتب والأسئلة، منشدّاً الى فكرة أنني "الولد الصالح" لأب لم اره  ولم أعرفه، لكنّي موقن أنّه يرى من عليائه عملي ويسمع صلاتي ورجائي.

من الجامعة الى الحوزة
 

حين صرت طالبا جامعيا في كليّة العلوم في الجامعة اللبنانية، بدأت صفحة جديدة في حياتي. لكن الجديد قد لا يحمل دوماً ما يتمنّاه المرء! كنت طالباً في فرع الكيمياء، وفوضى الجامعة في السنة الأولى اضطرتني الى الخروج من بيتي في الرابعة صباحاً، والمرور في أحياء الضاحية المحروسة بالمتاريس، والسير في طرق رملية فد تتخلّلها الألغام. حين أصل الى قاعة الصف، كنت أنام على المقعد الذي أحجزه في مقدم القاعة، منتظراً موعد بدء المحاضرة في الثامنة صباحاً.  قوى "الأمر الواقع" كانت تسيطر على تفاصيل يومي الجامعي، من المدخل الى المقعد في داخل القاعة الى الأساتذة والمحاضرات وحفل تخريج الطلاب والانتخابات، وصولاً الى تعيين المدير: صلف وقبضة من حديد ومواجهة لكل من يجرؤ على المعارضة. كنت أمتعض من الأجواء السائدة، فأعزّي النفس حينها بأنّها مرحلة، وتمضي، وعليّ الترفع عنها بالتركيز على هدفي العلمي.  لم يكن الامر يخلو من بعض المناوشات العرضية التي تبيّن اعتراضي على الامور الشاذّة، وما أكثرها في تلك البيئة.
مع حلول سنتي الجامعية الثالثة عقدت العزم على دخول الحوزة الدينية، الملاصقة لمنزلي، وسط استغراب أمّي وأصدقائي والمسيطرين على الجامعة، لكن أحداً لم يستطع أن يؤثّر في قراري حينذاك. كنت أفهم دوافع أمي الرافضة والمحقة في جانب معيّن، الا أن للاخرين غايات طال الوقت لأفقهها. تمثّلت حجّة أمّي المباشرة في التعب الذي سيستنزفني نتيجةً اتباع منهجين دراسيين مختلفين، مما سيؤدي حتماً الى ضياعي بينهما وتراجعي في دراستي الجامعية، معتقدة أن رجل الدين ورجل العلم متعارضان، فكيف اذا كان ابنها ينوي الجمع ما بين رجل العلم ورجل الدين؟! وفي مجال اخر، كنت أقرأ الامتعاض والاستغراب في عيون القيّمين على الجامعة ومحاولتهم صدّي عن مسعاي، ومنهم طالب صار لاحقاً نائبا عن "حزب الله". لكن هذا الصد لم يقلل من عزيمتي ورغبتي في دخول عالم الحوزة لتلقّي اجابات عن أسئلتي.
كان هدفي من الانتساب الى الحوزة الدينية الالمام الفعلي بعلوم الدين والتدين الشيعي ومراجعه التي يقلدها الناس في بيئتي الاهلية والعائلية. اما نفور طلبة "حزب الله" من عزمي على دخول الحوزة، ونفوري انا من سلوكهم في الحياة الجامعية، فكان باعثهما تديني الشخصي الذي لا يستسيغ تحويل الدين عقيدة سياسية حزبية تنطوي على ممارسات شاذة غايتها النفوذ والسيطرة على مؤسسات المجتمع العام والحياة العامة، كالحي والشارع والجامعة... الخ.
لا أخفي أنّي وجدت صعوبة في الانتساب الى الحوزة. فقد كان انتسابي الى الجامعة أسهل بكثير، اذ لم يكن دخولها يستوجب احضار إفادات من أشخاص يعرّفون عنّي ويوصون بدخولي، ولم يمطرني أحد بالأسئلة لاكتشاف دوافعي. لا أنكر أن هذه التدابير أثّرت فيّ كثيراً، لظني أن هذه المدارس الدينية مفتوحة الأبواب لكلّ امرئ، ومن دون حجّة. قاومت هذه المعوقات عبر القبول بها ولو على مضض، فأحضرت شهادة حسن سلوك وسيرة من المختار في الحي، وخضعت لامتحان دخول يتضمّن اسئلة تكشف عنها اجاباتي المتعلقة بهويتي ومدى علاقتي بالله، وذلك لتحديد مستواي والصف الذي سأدخله. ثم لم البث ان لمست استغراباً لوضعي كطالب جامعي في كليّة العلوم يريد دخول عالم الحوزة الدينية، لكنني تجاهلت الأمر.

عسر الدين ويسره
 

الحوزة الدينية مدرسة داخلية مؤلفة من طبقات عدّة،  تُخلع الأحذية لدى دخولها وتغيب عنها الكراسي، فيجلس  طلبتها وأساتذتهم أرضاً، باستثناء المدير العام المخوّل استقبال الناس من خارجها. حين استدعاني المدير مرة صُدمت ببروز علم الجمهورية الاسلامية الايرانية كبيراً في مكتبه، فسألت نفسي حينها: "أين العلم اللبناني؟". لكن سؤالي هذا ذهب ادراج الرياح، حين لمست غياب كلّ ما يمتّ بصلة أو رابط برموز الجمهورية اللبنانية في ذلك المكان.
أطلعت المدير على دوافعي وأبرزها ايجاد اجابات عن اسئلتي الدينية، وتحدّثت اليه عن رغبتي في متابعة الدروس في الحوزة بدوام جزئي، لضرورة الجمع بين تعاليمها ودروسي الجامعية، فجرى قبولي. كنت اصل الى الحوزة عند صلاة الفجر وأمكث فيها حتى الثامنة صباحاً أيّام الاثنين والثلثاء والأربعاء، ودواماً كاملاً في عطلة نهاية الأسبوع.
في يومي الأول، أدركت أن هدف وجودي في الحوزة يختلف عن هدف وجود زملائي فيها، رغم تلقينا الدروس والمحاضرات عينها التي يلقيها علماء لهم من الدراية والحكمة ما يكفي لتخريج عالم دين يتقن علم الكلام والشريعة والعقيدة. لم تكن تشوب مضمون الدروس الدينية شائبة، سوى ان طرح أي موضوع سياسي أو نقاش أي فتوى دينية صادرة عن مرجع اخر، أو الخوض في مفهوم الوطنية، كانت كلها تحفّز الغرائز السلطوية والفئوية، كأن ايات الله لم تكن كافية وواضحة في إقرارها احترام الرأي الاخر، قائلة إن الدين يسر وليس عسراً.
كنت احاذر الخوض في المناقشات، وخصوصاً في ما يتعلق بمجتمع الحرب السائد آنذاك، فأكتفي بالاستماع وتحليل الأمور بمفردي، وأشكو غياب الاندماج مع طلبة الحوزة الذين ينتمي معظمهم الى طبقات كادحة وعامية الثقافة الدينية وغير الدينية. ورغم أوضاعي الاقتصادية الصعبة، لم أشعر يوماً بأنني أشبههم. كان هدفي محدّداً ومنصبّاً على المعرفة، لإشباع الوسوسة او الهاجس الذي ينخر كياني منذ الصغر وواجهت بسببه سخرية  كثيرين ولومهم، وخصوصاً من أقربائي الذين كانوا يردّدون "أن علي فقد عقله بسبب العلم ويريد أن يتحوّل شيخاً". اما الآخرون من معارفي، فقد جذبتهم حكايتي، حتى باتوا يريدون التعرّف أكثر على تفاصيل حياتي التي كانت هادئة ويختصرها التعلّم وممارسة رياضة الجري والمشاركة في بعض السباقات (الماراتون) والاستماع الى الراديو. وكنت ايضا ذلك القارىء النهم الذي يتأبط كتباً منها ما يحمل صورة الكيميائي الايطالي أفوغادرو. وكان لي ايضاً عقل وقلب مفتونين بالامام علي بن ابي طالب. والى جانب امتناعي الجازم عن التكلّم في السياسة داخل جدران المنزل بطلب من أمّي، كنت لا أشعر بمتعة تضاهي متعتي بالقراءة التي تطرح عليّ أسئلة متتالية، وتحليلاً غير مكتمل في سماء ضيقة تطبق على النفس، فيما صوت أمّي، رغم حزمه، يبعث فيّ الأمل والرجاء، وانا أسرّح بصري من شباك نحو البيوت العشوائية الاسمنتية التي تفوح منها رائحة الافتتان بأفكار هدّامّة، وأهلها مسيرون وعاجزون طوعاً عن اختيار مستقبلهم واختباره في حاضرهم الكئيب.

 

حوزات الفتنة السياسية
 

كانت كل حوزة تتمتع بنظام داخلي خاص بها، علماً أن طفرة الحوزات كانت قوية في مساحة محدّدة، فلا يفصل بين الحوزة والأخرى سوى كيلومترين في ظل غياب برامجها الموحّدة. كان يجدر بالطالب متابعة دروس تتعلّق بالعقيدة الاسلامية واللغة العربية والمنطق والتاريخ الاسلامي وعلم

الكلام وحفظ القران وتفسيره. وذلك قبل أن تقرّر الادارة منحه شهادة رجل دين بعد مدة تراوح ما بين خمس سنوات وسبع. لكن كثيرين من الطلبة كانوا يتخرجون قبل هذه المدّة لأسباب خاصّة. ويعود سبب تمتع كل حوزة بنظام خاص الى المرجعية الدينية التي تتبعها الادارة. لكن الأبرز في اختيار المرجعية، كان المورد المالي الذي يشكل شريان حياة الحوزة ادارة ومدرسين وطلبة.
واذا كانت حوزة النجف تعتبر من أعرق المدارس الدينية وأقدمها في العالم الاسلامي المعاصر، فإن الظروف السياسية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط، حوّلت أعين الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع وتمويله الى دولة ايران الاسلامية وحوزاتها الوليدة في قم. وممّا لا شك فيه أن سياسات الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين والإمكانات المادية لايران، ساهمت في تسليط الأضواء على قم، ودفعت الحكومة الايرانية الى ان تكون حوزاتها مرجعيّة الحوزات في العالم الشيعي.
بعد مدّة، بدأت الصورة تتوضح لديّ، ولمست صورة المصالح المغلّفة بأمور عقائدية نؤمن بها عادةً، وانزعجت من أن تكون هذه المصالح قاعدة "الأجندة" السياسية الخارجية التي تمليها علينا الدول، وتلعب دوراً في تأجيج الصراع الفئوي المذهبي، الذي خرّب اركان هويتنا الوطنية الهشة اصلا في لبنان.
ينصت تلامذة الحوزة، الى الدروس الدينية والأفكار، التي يبثها المشايخ فيتشربونها من دون سؤال أو ملاحظة.
كنت اشهد تيههم وهيامهم بتلك الافكار التلقينية، فلا يجدون غرابة في الخلط بين السياسة وعالمها وعالم الدين، حتى بات رجل الدين جزءاً لا يتجزأ من الفتنة، ولاعبا اساسياً في تأجيجها. وكيف أنسى في تلك المرحلة أحد هؤلاء، وقد بات اليوم شخصيّة فذّة في الحياة السياسة، يجيّش مشاعر الشباب عبر خطابه "الديني" الثوري، ويدعوهم الى حمل السلاح لقتال اخوة لهم قد يسكنون البيت أو الحي عينه، بهدف السيطرة على بضعة أمتار في الضاحية الجنوبية. لا أنفي وجود علماء دين مجتهدين ومتنوّرين كالامام محمد مهدي شمس الدين الذي كان يطالب الطائفة الشيعية بأن تفكّر بلبننة الشيعية وليس بتشييع اللبنانيين سياسياً أو التأثّر بمناخات التشيّع السياسي الايراني، ولكن من كان يعمل بأقواله؟

 

الخميني والخامنئي والسيستاني
 

بدأت أسأل نفسي عمّا اذا كنت اخترت المرجعيّة الأعلم؟ وأدرت شريط  ذكرياتي مجدّداً: كانت أصداء الثورة الايرانية بقيادة الامام الخميني تُسمع في أحياء الضاحية حيث أسكن. ويوم اعلان وفاته سادت مشاعر الحزن الجماهيري في هذه البيئة، فكان القنوط أقوى من صوت العقل في قلب شاب يافع مثلي. وساهم الاستثمار الاعلامي الناشط في اشاعة أن الخامنئي هو الأعلم وأن المرجعية الشيعية تكمن في الجمهورية الاسلامية الايرانية.
في خطابه الافتتاحي قائداً جديداً للثورة في حزيران من العام 1989، قال خامنئي:"أنا فرد كثير العيوب والنواقص، ولست سوى عالم دين متواضع". وهذه العبارة أثّرت فيّ وجعلتني أعيد حساباتي، وأتابع بحثي، فرأيت أنّه صار رئيساً لايران بعيد مقتل محمد علي رجائي، وطُلب منه أن يتقدّم كمرشح للرئاسة فأجاب معتذراً، شارحاً أن تردّي أحواله الصحيّة يحول دون قدرته على أداء دور الرئيس، كما يجب، فما كان منهم إلاّ ان أجابوه: "لهذا السبب، نعرض عليك هذا المنصب!".
 بيّن لي بحثي ايضاً أن الدستور الايراني يدعو الى أن يكون الولي الفقيه محصّلاً مرتبة اية الله العظمى. وكان هنالك خلاف بين الخميني والشخص الوحيد المحدّد لخلافته، اية الله منتظري. وانطلاقاً من هذه الخلافات، قام الخميني قبل ثلاثة أشهر من وفاته، بتغيير الدستور بصورة تسمح للولي الفقيه بأن يكون خبيراً فقط في الفقه الاسلامي، وكان لرفسنجاني دور بارز في التشجيع على هذه الخطوة.
واذ لم تخفَ على أحد مقوّمات الخامنئي الدينية المحدودة في ما بعد، أثار هذا الأمر سخط النخبة الايرانية الدينية في قم. وفي المقابل احتشدت النخب السياسية وراء الخامنئي، ففهمت أن تنصيبه جاء بتشجيع من النخبة السياسية وليس الدينية.  حينها، قرّرت تغيير مرجعيتي الدينية من ايران الى العراق متمثّلة بالسيد علي السيستاني. كان الفارق واضحاً، خصوصاً في مجال دفع السيستاني مقلديه من أبناء الطائفة الشيعية الى احترام قوانين وطنهم والعمل في سبيل تطويره، فضلاً عن أعلميته  الدينية، وعدم تسجيل أي تدخّل له في النظام أو الشؤون الداخليّة لأيّة دولة.
في الثانية والعشرين من عمري، فرغت من دراستي الجامعيّة، في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية، فلم أشارك في حفل تخرجي لرفضي أن يكون الحفل منظّماً ممّن يسيطرون على الجامعة، وبدأت البحث عن أفق مختلف. شعرت بأن ضيق أمّي بخياراتي بدأ يتفاقم، بالتزامن مع حادثة دفعت أحد الشيوخ لدى مناقشتي واياه في مسألة دينيّة الى ان قذفني بالقول: "لست في موقع المجتهد لتعلّق على هذه الفتوى"، فأيقنت أنّي اكتفيت  من علوم الدين في هذه البيئة، بالتزامن مع حصولي على منحةً لاتمام الدراسات العليا في الكيمياء في خارج لبنان.

 

من الحوزة الى اوروبا
 

غادرت الحوزة طوعاً وكرهاً ومسروراً وخائب الامل. صحيح أنّي ذهبت بقدميّ الى مكان كنت أعتبره المرجع الصالح لتلقّي اجابات عن أسئلتي، وخصوصاً لدى المرجعية التي كنت أقلّدها، لكنني فوجئت بأنّ كل ما يدور في الحوزة يهدف الى ابعاد شيعة لبنان عن مجتمعهم وأدبياته الاجتماعية والسياسية. ولا أخفي أنّي استنتجت في خلال هاتين السنتين، وبعد أسئلة عدّة، أن غالبية طلبة الحوزات كانوا يستغلون هذه التعاليم للهروب من خدمة العلم الالزامية، حينذاك. لا أتحامل على الحوزة التي أجد وجودها ضرورياً في المجتمع، الا انّي أجد ضرورة في سنّ قانون يراقب نظامها الداخلي وبرامجها الدينية.  
لم أشعر بالندم يوماً على السنتين اللتين قضيتهما في الحوزة الدينية، الا أنّي أستغرب وبعد سنوات كثيرة وما حصل فيها من تطورات، ان كثيرين ممن ينتمون الى البيئة التي عشت فيها لا زالوا على حالهم ودأبهم من رفض الانتماء الى لبنان ومجتمعه باعتباره وطناً نهائياً لجميع ابنائه وطوائفه. 
 


(رواية الدكتور علي سمير ايوبكتابة نسرين حمود)  

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,233,074

عدد الزوار: 6,762,640

المتواجدون الآن: 77