البلديات: من "نكسة" 1967 إلى انتكاسة 2010...

تاريخ الإضافة الأربعاء 14 نيسان 2010 - 5:29 ص    عدد الزيارات 1783    التعليقات 0

        

هو موسمٌ إنتخابي كما القطاف... يأتيك في موعده ولا يسأل عن جهوزية الزارع أو سوق التصدير. لا يتوقف أيضا عند تحسين الجودة وخصوبة التربة. هكذا هي انتخاباتنا البلدية والاختيارية: فالموسم أتى في ميعاده، وهو منتظر ومتوقّع منذ سنوات ست، وجهوزية الزارع تتشاركها وزارة الداخلية والبلديات والمرشحون والناخبون على السواء. أما تحسين الجودة وخصوبة التربة، فإصلاحات سلكت دربها إلى المناقشة من دون أن تقترن بإقرارٍ قبل القطاف، فإذا بوزارة الداخلية والبلديات أمام موجب (بل مسؤولية!) دعوة الهيئات الناخبة، وهي التي عملت، بتوجيه من فخامة رئيس الجمهورية ودعم من مجلس الوزراء ودولة رئيسه، على إدخال مفاهيم جديدة إلى قاموسنا الانتخابي، كالنسبية والكوتا والأوراق المطبوعة سلفا وغيرها من البنود، التي انتقلت، للمرة الأولى، من حيّز كلام الخبراء والباحثين ومنظمات المجتمع المدني والإعلام، إلى حيّز الإقرار في مجلس الوزراء، بما هو مؤسسة دستورية. وبذلك، خطا الملف الإصلاحي خطوة تأسيسية متقدمة سيكون من الصعب فعلا تجاهلها بعد اليوم. وإذا كانت وزارة الداخلية والبلديات، ومعها الحكومة، تلتزم القانون النافذ بمعزل عن رأيها فيه، حيث ان المشترع يملك منفردا حق تقييم الإصلاحات المقترحة وتوقيت إقرارها، فإن المسار التاريخي لتطوّر العمل البلدي يدعو إلى الأمل بأننا بتنا قاب قوسين من إصلاح آت لا محالة، على رغم خيبات عمرها عقود ألقت بثقلها ولا تزال على أية مناقشة راهنة.
وبالفعل، في نيسان 1997، أطلقت الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات و15 جمعية أخرى حملة وطنية تحت عنوان "بلدي، بلدتي، بلديتي"، رافقتها عريضة تطالب بإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية بعد انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على غيابها. يومها، استغرب البعض وسخر البعض الآخر، فيما أبدى البعض الأخير تصميما على خرق موانع تداول السلطة المحلية، هذه الموانع التي جعلت 41% من بلديات جبل لبنان، على سبيل المثال، منحلة وبعهدة المحافظ أو القائمقام (59% من بلديات قضاء جبيل كانت بعهدة القائمقام عام 1997!). وبذلك، انتقلت الحالة اللامركزية البلدية حكما إلى عمق المركز، بصلاحياتها ومواردها، فاختلّ ميزان الإنماء وسقطت الغاية التي من أجلها قامت البلديات.
وفي نيسان 2010، ها نحن أمام ارتدادات مخاض متعثر لقانون جديد للانتخابات البلدية والاختيارية لم يولد - بعد - تُذكّر، وبقوة، بأن المجالس المحلية في لبنان ليست تفصيلا، وأنها تدخل السياسة من بابها الواسع. ولعلّ حقبات التأجيل المزمن بين 1967 (وهي، للمصادفة، سنة "النكسة") و1997، تنطق بذاتها بهذا المعنى. ولنا عودة تفصيلية إلى ظروف تلك "النكسة البلدية"، بل ربما "النكبة"!
وإذا كانت بين "النيسانين"، محطتان بلديتان (1998 و2004) أعادتا إلى الديموقراطية المحلية حيويتها، فإن الفضل في قيامهما يعود من دون أي شك إلى المجلس الدستوري، الذي شكّل ضمانا حقيقيا مكّن، عام 1997، عددا من النواب من أن يطعنوا بدستورية التمديد، فالتقى الضامن الدستوري مع الحملة المدنية، في أجمل صور التكامل. وربما كان غياب المجلس الدستوري في الستينات سببا في فقدان مناعة التشريع يومذاك ودخول المجالس البلدية في دوّامة التمديد.
اللافت في هذا المسار "التأجيلي" أنه لم ينشأ عام 1967– كما قد يعتقد البعض للوهلة الأولى- نتيجة لحرب "الأيام الستة" وما عرف بـ"خط الرابع من حزيران"! اللافت فعلا هو أن يكون قانون التمديد للمجالس البلدية والاختيارية (القانون الرقم 31/67) قد صدر في 16/5/1967، أي قبل الحرب وأوزارها! واللافت اللافت أكثر وأكثر هو أن يكون القانون المذكور قد صدر بناء على اقتراح معجّل ومكرّر، بمادة وحيدة، لا تتضمّن أية تبريرات أو أسباب موجبة مرافقة، وهذا نصّها: "تمدّد حتى تاريخ 30 حزيران 1969 ولاية المجالس البلدية والمختارين والهيئات الاختيارية، ويعمل بهذا القانون فور نشره". أما مداخلات النواب في جلسة المناقشة، على ما نقلته المحاضر، فناطقة بذاتها. وهذه نماذج منها:
يقول النائب الشيخ بهيج تقي الدين في مداخلته: "على أثر تصويت هذا المجلس وإقراره لقانون البلديات المعمول به حاليا (وكان يعني به قانون 1963)، قامت ضجة في البلاد وفي هذا المجلس نفسه، ترمي إلى وجوب تعديل أحكام هذا القانون لأن الاختبار دلّ وتطبيق القانون دلّ على أن هنالك ثغرات فيه يجب سدّها ومواقف يجب تلافيها، وان هنالك بعض قواعد يجب تغييرها". ويتابع النائب الشيخ تقي الدين: "إن مبرر التأجيل ليس حالة إستثنائية موجودة لا سمح الله في البلاد. مبرّر التأجيل هو أنه يجب تصحيح أوضاع الاشتراع المتعلّق بالبلديات، ويزيدني رغبة في أن أرجو المجلس أن يقر هذا الطلب، ما علمته من أن معالي وزير الداخلية يعدّ مشروعا لتعديل قانون الانتخابات ويجب ان تجري الانتخابات على أساسه".
أما النائب اللواء جميل لحّود، فاعترض يومها على مبررات التأجيل، قائلا في البرلمان: "هذا السبب وهذا المبرر لا يوجب تأجيل الانتخابات البلدية. يمكننا أن نقرّ قانون تعديل البلديات بصفة مستعجلة كقانون معجل مكرر، ثم تجري الانتخابات إن لم يكن في موعدها ففي موعد غير بعيد".
وفي الاتجاه ذاته، ذهب النائب الدكتور ألبر مخيبر، قائلا: "أنا أريد أن تجري الانتخابات البلدية في ميعادها، وهنا أود أن أقول انه لا تجوز المزايدة في هذا الأمر، ولكن من الضروري بعد أربع سنوات على انتخاب المجالس البلدية (وكانت تلك هي مدة ولايتها في قانون 1963) أن تعود الناس وتقول رأيها في هذه المجالس ويعرف كل منا ما هو رأسماله في كل منطقة من مناطق الجمهورية اللبنانية".
اقتراح التأجيل إقترن سنتذاك بإقرار القانون بالأكثرية، فيما خالفه 8 نواب. ثم كرّت السبحة وأقرّت قوانين تمديد أخرى استمرت، لا تحمل تبريرا مقنعا، حتى عام 1975.
كأن التاريخ يعيد ذاته، قد يقول قائل...
وإذا كانت الحرب التي استعرت بين 1975 و1990 قد حملت معها تأجيلا تبرّره ما أتت به من ويلات، فإن التمديد الذي استمر بعدها، بين 1990 و1997، بقي مجرّدا من كفاية التبرير، خصوصا في ظل تنظيم عمليتين انتخابيتين نيابيتين عامي 1992 و1996، تماما كما التمديد الذي فُرض بين 1967 و1975.
من محاسن الأمور، بل من ضمانات حقوق المواطنين، أن التعديلات الدستورية التي أقرت عام 1990 أنشأت (بموجب المادة 19 الجديدة من الدستور) مجلسا دستوريا (وقد اكتمل تنظيمه عام 1993). ومن محاسن الأمور أيضا، أن حملة مدنية وطنية عابرة للمناطق والطوائف، واكبت الطعن الدستوري الذي أنتج قرارا مبدئيا غاية في الأهمية صدر في 12/12/1997 (هما في الواقع قراران يحملان الرقمين 1 و2/97، أحدهما يتعلق بالقانون الرقم 654 تاريخ 3/4/1997 والآخر يتعلق بالقانون الرقم 655 بالتاريخ ذاته، وكان القانونان يرميان إلى تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية لغاية 30 حزيران 1999). قرار المجلس الدستوري (الذي صدر بالأكثرية، لا بالإجماع) انتهى إلى إبطال قانون التمديد، مما جعل الحكومة أمام موجب تنظيم الانتخابات البلدية والاختيارية. لكن أهمية القرار لم تكن في النتيجة التي آل إليها فحسب، بقدر ما كانت في حيثياته والتعليل، حيث ربط المجلس بين حق الاقتراع، كحق دستوري، وارتباط ممارسته بحق آخر يتمثل بالحق بانتخابات دورية، مستندا في تعليله إلى المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صدر عام 1966 وانضم إليه لبنان عام 1972. وربما كان "العمق الاستراتيجي" للقرار، إذا صح التعبير، يتخطى السنتين اللتين نص عليهما قانون التمديد، ليبلغ بدايات التمديد عام 1967 وما تركته ثلاثة عقود من التأجيل المتواصل من رواسب ومخاوف ونتائج.
وفي نظرة سريعة الى القانون المقارن والتجربة الفرنسية، تحديدا، يتبين أن تأجيل الاستحقاق البلدي تكرّر مرات عدة، وإن بشكل متقطّع وغير متواصل، بخلاف التمديد اللبناني. فقد تدخّل المشترع الفرنسي، مثلا، عام 1966 وعام 1972 وعام 1988 وعام 1994، ليؤجل الانتخابات المحلية بضعة أشهر ولكن – وهنا الفرق، كل الفرق- فقط بسبب تزامن تلك الانتخابات مع أخرى، رئاسية أو نيابية.
لماذا التأجيل إذاً، خارج تلك الحالات؟ هل لأن السلطة المركزية – أية سلطة مركزية، وفي أي زمن – تخشى تبلور الحالة اللامركزية إلى حدود اضمحلال حاجة المحليين إليها؟ أم إن الديموقراطية المحلية تشكل عبئا على تلك الوطنية؟ كيف يمكن أن نفسّر هذا التناقض بين مقولة أن البلديات هي عصب إنمائي أساسي وبين الممانعة المزمنة في إطلاق عملها ومقدراتها ودعمها دعما كاملا؟
قلت إن عام 1967 كان عام "النكسة البلدية". ذلك أن تمديد ذلك العام كان المسمار الأول في النعش. فالتجربة كانت لا تزال طرية وفي بداياتها، وانتخابات عام 1963 كانت الأولى من نوعها على المستوى الوطني المعمّم، واقتصرت سابقاتها على محطات لم تُدخل البلديات إلى المشهد السياسي اللبناني من بابه الواسع، على رغم أن التجربة البلدية تضرب عميقا في العراقة، حيث يعود مفهوم البلديات في لبنان - لانها لم تكن بلديات بالمعنى الكامل في الأصل - الى عام 1833، وكنا لا نزال في ظل الحكم العثماني. يومذاك، أنشأ حاكم بيروت محمود بك نامي ما سماه "مجلس المدينة". ومجلس المدينة لم يكن بلدية بالمعنى المتعارف عليه ولكن كانت مهمته صيانة شوارع بيروت. وبذلك أدخل مفهوم المشاركة المحلية عبر ما سمي مجلس المدينة.
عام 1864 كان محطة مفصلية، فهو العام الذي شهد إنشاء أول مجلس بلدي بالمعنى الكامل، وكان ذلك في دير القمر بموجب فرمان عثماني وهذا الفرمان كان صادرا عن المتصرفية وقتذاك.
عام 1877 صدر قانون عثماني هو الاول من نوعه يتعلق بالبلديات، وبقي هذا القانون نافذا حتى 1922، وطبعا هنا لا يمكن الحديث عن تجربة بلدية بالمعنى الكامل لسببين: أولا لأن المجالس المحلية لم تكن بلديات بالمعنى الكامل، وثانيا لأن التنظيم الفعلي اقتصر على بعض البلديات الكبرى ولم تعمم التجربة على سائر المناطق اللبنانية.
عام 1922، أي بعد سنتين من إعلان دولة لبنان الكبير وفي ظل الانتداب الفرنسي، أصدر حاكم لبنان الكبير نظاما بلديا متكاملا بموجب قرار حمل الرقم 1208. وهذا القرار كان يستلهم القانون الفرنسي الصادر عام 1884 حول تنظيم المناطق، وبقي هذا القانون ساريا حتى 1943.
في العهد الاستقلالي، صدر عدد من القوانين منها قانون المختارين عام 1947، والقانون البلدي في العام ذاته، ثم المرسوم الاشتراعي تاريخ 10/12/1954 الذي استبدله، ثم قانون 29/5/1963 الذي صدر قبل اسابيع قليلة من إجراء الانتخابات البلدية يومذاك. وهذا الأخير يعتبر اول قانون جرت على اساسه انتخابات شاملة لعدد كبير من البلديات في معظم المناطق اللبنانية. أما المرسوم الاشتراعي الرقم 118/1977 تاريخ 30/6/1977، فلم يُكتب له أن تجري انتخابات على أساسه إلا اعتبارا من 1998 وبعد تعديلات جوهرية تناولت بعض أحكامه بموجب القانون الرقم 665/1997. قانون البلديات لعام 1977 هو قانون متطوّر من دون أي شك. ربما أصابه بعض الوهن بفعل الزمن وربما أصابته الرغبة السياسية في ضرب مبدأ الرقابة المحدودة الذي نصّ عليه، فإذا بالممارسة تطيح أحيانا ليبرالية القانون. لكن يبقى، في الحصيلة، أن البلديات لا تزال تعتبر حتى الآن الشكل الوحيد للاّمركزية الإدارية، ولذا، فإن أية مقاربة لتعديل قانون 1977 ككل متكامل، لا بد أن تأتي في سياق أوسع يتناول اللامركزية الإدارية، فيأتي التشريع متجانسا. ولذا، فقد اقتصر مشروع قانون الحكومة (المحال على مجلس النواب بالمرسوم 3441 تاريخ 5/3/2010) على الأحكام الانتخابية فقط، محاولا إدخال بعض الإصلاحات على قانوني البلديات والمختارين. أما ثاني يوم الانتخابات، فلا بد للورشة الإصلاحية من أن تتناول البنى التشريعية برمتها، فندخل إلى البلديات من باب اللامركزية وإليها، وهو ما شارفت وزارة الداخلية والبلديات وضع اللمسات الأخيرة عليه من خلال وثيقة عمل للمناقشة.
في 17 تشرين الأول 2010، حرص فخامة الرئيس العماد ميشال سليمان، على إطلاق ورشة اللامركزية الإدارية من طرابلس. وفي كلمته، اعتبر أن "المجالس المحلية هي الأقرب إلى هموم الناس. ولأننا على أبواب انتخابات بلدية، نأمل أن ترسّخ الإصلاحات التي اعتمدت في الانتخابات الماضية (...) كل هذه الإصلاحات وغيرها تحتاج إلى إصلاحيين يسهرون ليل نهار على مصلحة المواطن الذي تسكن هواجسه هواجسهم". وإذا كان من انتكاسة في 2010، إلاّ أن خيار التزام القانون، مهما كان صعبا وموجعا ومؤسفا، أحبط نكسة تشبه تلك التي أدخلت البلاد عام 1967 في دوّامة استمرّت ثلاثة عقود، في انتظار إصلاحات سنستمر ندافع عنها ونتمسك بها مع المنتخبين الجدد، علّ تجديد النخب ينسحب تجديدا في التشريع...

 

زيـاد بـارود وزير الداخلية والبلديات     

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,176,248

عدد الزوار: 6,938,901

المتواجدون الآن: 130