فلسطينيو لبنان – الجزء الثاني

تاريخ الإضافة الإثنين 5 تموز 2010 - 4:21 م    عدد الزيارات 687    التعليقات 0

        

فلسطينيو لبنان – الجزء الثاني

محمد بركات، الاثنين 5 تموز 2010
 
 



... الصورة النمطية عن الطفل الفلسطيني، لا سيما في لبنان، تبدو دائما مرتكزة على أنّه يلهو في زواريب مليئة بالنفايات، بثياب متّسخة. صورة وظيفتها أن تستعطف المشاهد بدلا من أن تنقل له الحقيقة. ويؤكد قاسم عينا، مدير عام "بيت أطفال الصمود" أنّ "هذه الصورة غير كاملة، لأن الطفل الفلسطيني مبدع وإلا فمن أين أتى العباقرة الفلسطينيون، أمثال الشاعر الكبير محمود درويش؟"، يسأل قبل أن يضيف: "لكن الظروف السكنية للأطفال في المخيمات أكثر صعوبة من أطفال غيرهم".

يحيلنا عينا إلى أطفال في حضانة يشرف عليها بمخيم شاتيلا. الأطفال يحفظون أسماءهم وأسماء المناطق التي يتحدّر منها آباؤهم وأجدادهم في فلسطين، ويقولون ماذا يريدون أن يعملوا حين يكبرون.

المهن تتراوح بين قصّ الشعر والطبّ وشراء هاتف، وأحدهم يريد أن يصير والدا: "قتل والده في حادثة قبل أشهر ولا يصدّق الموقف بعد، وكلّ يوم يخبرنا عن الهدايا التي جاءه بها والده"، تشرح المربية سناء شحادة. 

أطفال "بيت الصمود" لا يلعبون في الأوساخ بالشارع. مرتّبون ونظيفون كمثل أيّ طفل في لندن أو فرنسا أو فردان ببيروت. يلعبون في الروضة، بمراويل نظيفة، وبألعاب مرتّبة ويستمعون إلى أغنيات جميلة مع مربّيات متعلّمات.

مربّيات تعلمّنهم فلسطين، كدرس أبديّ: "أشعر أن الطفل الفلسطيني لا أمل له في المستقبل. يحكي عن فلسطين ولم يرها. سمع عنها من أجداده، والأجداد بدأوا يذهبون. ونحن هنا في الروضة نذكرههم بفلسطين. نعطيهم أملا في المستقبل. الطفل الذي يعيش في المخيم لا يعيش كبقية الأطفال، يعيش مقهورا".

نلتفت إلى الأطفال، نراهم يرسمون خريطة فلسطين، ويسمعون فلسطين في أغنيات خاصة باللاجئن على ما يبدو، ويحفظون فلسطين، رسما وغناء وذاكرة، رغم أنّهم لا يعرفونها.



الرطوبة وقلّة المساحات الكافية لبناء الملاعب والحدائق ليست مشكلتهم الأساسية: "ينقصهم شمس ترفع الرطوبة من الجسم ومساحة يلعبون فيها"، تقول المربية مريم شامية. وحين نسألها عما ينقصهم خارج أجسادهم، تجيب: "ينقصهم أرض ووطن"، وتجهش في البكاء. فهي تتحدث عن نفسها وليس عن الأطفال فقط. وتضيف بعدما تمالكت أعصابها: "أحمد قعبور كان يغني: الكل بيعرف شمس بلادي وأنا ما بعرف شمس بلادي"، وتبكي مضيفة: "وأنا ما بعرف شمس بلادي". هنا يتدخل قاسم عينا مهدّئا المربية وطالبا منا تركها في حال سبيلها.

الشمس إذًا ما ينقص أطفال المخيمات، شمس فلسطين، والأرض، أرض فلسطين، والأمان الإجتماعي في بلاد اللجوء الصعبة: "هؤلاء مثل كل أطفال العالم يحتاجون إلى أفق. لا أن يروا بنايات في العالي وبيوت مظلمة. هناك معاناة نفسية لديهم وتأخر دراسي وبنيتهم الصحية ليست قوية كبقية الأطفال"، يقول عينا ويتابع: "مستقبلهم انعكاس لواقعهم المرير والسيء، ولا يمكن أن ينتج أناس لديهم القدرة الكافية لبناء مستقبل مضيء"، ويختم بصوت مخنوق: "أنا أخاف على هؤلاء الأطفال من المستقبل".
لكن المربية ريما طه ترى في المأساة حافزا: "طموحهم وإرادتهم تزيد حين يجدون أنفسهم فقراء، فيحبون أن يكونوا أفضل من غيرهم، لأن الإرادة هي الأساس وليس المال".

المحطة الأخيرة على سطح الروضة، المسقوف بألواح الزينكو، حيث يرقص الأطفال على أنغام أغنية فلسطينية ثورية. فلسطين هي الرقص أيضا. يرقصون على أنغام فلسطينية وبكلمات فلسطينية وبأعلام فلسطينة. حتى تملؤهم فلسطين: تزداد حضورا في الغياب.



الخروج من "بيت أطفال الصمود"، وإلقاء نظرة على الشارع، يبعث في النفس جملة غريبة: تتشابه المخيمات الفلسطينية في لبنان، بؤسا ورداءة في الأوضاع الصحية والبيئية.

هذا المخيم مثلا، مخيم شاتيلا، بني على أقلّ أربعمئة متر مربع ليستوعب نحو خمسة آلاف نازح، صاروا اليوم أكثر من سبعة عشر ألفا. التوسع العمراني جلب الويلات على السكان.

"هناك أزمة سكنية والبنايات صارت مكتظة على بعضها البعض، فانقطع الهواء. وما عادت الشمس تدخل البيوت، ما زاد الأمراض الصدرية كثيرا. المباني تشاد هنا بمواصفات غير صحيحة فنيًا، والبيوت التي بنيت في السبعينات لتتحمل 3 طبقات باتت اليوم تحمل 7 و8 طبقات فأضحت مهددة بالإنهيار"، يقول حسن البكير، المسؤول الإعلامي في "فتح" ببيروت، ويضيف: "المخيم يحتاج إلى المياه النظيفة، والكهرباء غير كافية هنا، على أنّ استكمال تركيب عدادات للمخيم سيساعد، وبالطبع يجب إيقاف حركة البناء العشواية".

لكن هناك بارقة أمل لا بدّ من الحديث عنها. فاليوم تشرف الأونروا، من خلال هبة أميركية، على مشروع حفر بئر وتكرير المياه وبناء خزان كبير لتوزيع مياه الشفة، وشركة الكهرباء تعمل على تركيب العدادات، كما أنّ الأونروا ساهمت في تدشين بنية تحتية جديدة هذا العام، قد تمنع الفيضانات في الشتاء الآتي.



واضح للعيان أنّ البناء العشوائي "أكل" الطرق، وحوّلها إلى زواريب ضيقة، حابسًا الشمس والهواء خارج أسوار المخيم. وقد أتلف هذا البناء شبكات الصرف الصحي المحدودة، وأرهق كميات الكهرباء القليلة المخصصة له، ولوّث مياه الشفة. في حين أن الإكتظاظ السائد يتسبب بزيادة مضطردة في نسب بعض الأمراض الخطيرة جدا... "لدينا أمراض مميزة وخاصة بنا وببيئتنا الفقيرة المغلقة"، يقول الدكتور جمال الحسيني، وهو جراح عام في مخيم شاتيلا: "لدينا أعلى نسبة فقر دم لدى الأطفال في العالم، حتى أعلى من النسب في الدول الافريقية، لدى الأم خلال الحمل ولدى الطفل بسبب الوضع الغذائي السيء. بالطبع الى جانب الاسهال والحساسية لدى الرضّع. ونسبة التشوه الخلقي مرتفعة لدينا. كما أنّ نسبة التيفوئيد عالية جدا وتضاهي النسب الإفريقية".

الأحوال البيئية والصحية السيئة تتسبب في أنّ نسبة المصابين بسرطان البروستات لمن هم فوق الخمسين في المخيمات تزيد عن خمسة وثلاثين في المئة، ونسبة السكري تزيد عن ثلاثين في المئة، في حين أنّ المعدّل الأعلى عالميا لا يزيد عن عشرين، بحسب الحسيني: "نشهد في المخيمات ارتفاع نسب أمراض القلب، والفلسطينيون في لبنان هم أكثر من لديهم مشاكل في الضغط والقلب، فالفلسطينييون يتغلّبون على جميع مرضى المستشفيات اللبنانية في ارتفاع نسب أمراض الجهاز الهضمي والتنفسي"، وينظر الى عدد من الرجال الموجودين في العيادة ويتابع: "حتى العجز الجنسي يرتفع هنا، بسبب المشاكل الصحية والنفسية، وكيف لنا أن ننسى كذلك ارتفاع نسبة سرطان الثدي".

الحسيني، الممنوع من مزاولة مهنة الطب في لبنان يجري عمليات سريعة وطارئة في غرفة حوّلها إلى غرفة عمليات، مبرّدة ومعقّمة، يستعملها في حالات الطوارىء، مثل التعرض لإطلاق نار أو الولادة المفاجئة أو ما شابه. وهو يعتبر أنّ الأوضاع البيئية ليست وحدها سبب الأزمات الصحية، مشددا على أنّ "الضغط النفسي ربما يكون السبب الأكبر".



ربما يكون الضغط النفسي الاكبر على الفسطينيين، إلى جانب الظروف البيئية والسكنية الصعبة، منعهم من مزاولة نحو خمس وسبعين مهنة. ما يؤدي إلى رفع نسبة البطالة إلى أكثر من خمسين في المئة بين الفلسطينيين، وفي بعض المخيمات تزيد عن خمسة وستين في المئة... الدكتور وسيم محمود طبيب فلسطيني متخصّص في الأشعة والتصوير الصوتي. درس لخمسة عشر عاما في روسيا، وعاد ليعمل منذ عشرين عاما في مخيم برج البراجنة، مع راتب لا يزيد عن ستمئة دولار فقط: "تخرجت في العام 1991، وجئت إلى هذا البلد حالمًا بالتعاون مع أطباء لبنانيين في مستشفيات ومراكز كبير مع تقنيات متطورة درستها وأتقنتها، ونلت الكولوكيوم اللبناني في العام 1994 وكنت آمل أن تحل المشكلة وأن أزاول العمل بشكل عادي".

يقول محمود إنّه تلقى عروضا بالعمل في مستشفيات خارج المخيم، لكنّها غير شرعية، فرفضها "خوفا من الملاحقة القانونية، خصوصا أن أرباب العمل لا ينصفون الطبيب الفلسطيني، ولا يعطونه حقوقا، ولا أحد يمكن أن يحميه ويحصّل له حقوقه"، ففضّل البقاء في المخيم.

الدكتور الحسيني يروي أنّ عددا كبيرا من الأطباء الفلسطينيين يزاولون الجراحة والطب خارج المخيم لحساب أطباء لبنانيين "والأرباح تقسم مناصفة، أو يحصل الطبيب اللبناني على نسبة من دون أيّ مجهود".



محمود، الذي يحلم بالعمل خارج المخيم، أورث ابنه الحلم نفسه، وأرسله إلى روسيا، مع والدته الروسية التي عاد بها في التسعينات. هناك يدرس منذ عشرة أعوام، ووصل إلى سنوات التخصص الأخيرة. لكنّه مهدّد بوراثة مصير والده، تماما كما ورث آماله: "أتمنى من المشرع أن يمنحنا حق العمل لنمارس مهنة الطب"، لكن ماذا يمكن أن يحصل للإبن اذا لم تحصلوا على هذا الحق؟: "يعيش في حيرة مثل والده، لا يعرف إلى أين يذهب وإلى أين يعود؟". 

هكذا قد يرث الإبن مأساة والده لا مهنته. هذا الإبن الذي يعمل من الثامنة مساء حتى الثالثة فجرا، وينتظر القطار، في البرد الروسي، حى السادسة صباحا، لينام بضع ساعات قبل أن يتوجه إلى كليته الجامعية.

لكن في لبنان ينتظره المنع. فالمهن الممنوعة على الفلسطينيين تتغيّر بقرارات سنوية من وزير العمل، تبعا لاحتياجات سوق العمل اللبنانية. وكان آخرها القرار 1 / 10، الذي أصدره قبل أشهر وزير العمل بطرس حرب، والذي سمح للفلسطينيين المولودين بلبنان من العمل في بعض المهن التي كانت ممنوعة عليهم.

لكنّ المهن دائمة المنع تتراوح بين العمل في المصارف والمحاسبة والحلاقة والطهي والديكور والتدريس والتبليط والتوريق وغيرها. بالطبع إلى جانب المهن الحرّة النقابية الممنوعة إطلاقا، وأهمها المحاماة والطب والصيدلة والهندسة.

... إنهم فلسطينيو لبنان، وأوضاعهم الإجتماعية العصية على المقاربة بعيدًا من "ميزان" السياسة والأمن والديمغرافيا.


 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,700,241

عدد الزوار: 6,909,224

المتواجدون الآن: 107