مثلث التوازنات الإيرانية

تاريخ الإضافة الإثنين 8 شباط 2010 - 5:34 ص    عدد الزيارات 803    التعليقات 0

        

مثلث التوازنات الإيرانية

تغيرت توازنات إيران الداخلية في نهاية السنة الماضية، بحيث أصبح المشهد الداخلي الإيراني في مطلع السنة الجديدة مختلفاً كثيراً عما كان عليه قبل أسابيع مضت. ويرتب هذا التحول والتغير في المشهد الإيراني قواعد لعب جديدة ينتقل بمقتضاها الحراك الدائر إلى مثلث أضلاعه هي: الحراك السياسي في الشارع والتنافس داخل المؤسسة الدينية فضلاً عن الصراع في الطبقات العليا للدولة الإيرانية. وإذ انشغل العالم بمتابعة صور المتظاهرين في شوارع المدن الإيرانية الكبرى، بحيث طغت الصورة على تفاصيل المشهد ومعانيه، فقد راحت وسائل الإعلام المناوئة للنظام الإيراني تنطلق من فرضية أن هذه التظاهرات هي "مقدمة لسقوط النظام" قريباً، في حين راحت وسائل الإعلام الإيرانية والدائرة في فلكها تختزل الأمر في مجرد تظاهرات لبعض "الخارجين على القانون" و"عملاء الغرب". والشاهد أن كلا الفريقين ينطلق من أحكام قيمة سياسية مسبقة للحكم على التظاهرات، بين مفرط في التفاؤل ومستنطق لمعان أكبر بكثير من الواقع السياسي على الأرض، ومغرق في نكران المعاني السياسية الكامنة وراء التظاهرات. وبين الحدين الصاخبين غاب مثلث التوازنات الإيرانية الداخلية الذي يتكون من ضلع ظاهر أمام الكاميرات وهو التظاهرات والحراك في الشارع، في حين ظل الضلعان الآخران مختفيين وراء الكاميرات. بالتوازي مع التظاهرات في الشارع تجري معركة حاسمة حول الأدوار في المؤسسة الدينية وحوزتها تلك التي يخوضها آية الله العظمى يوسف صانعي حول أحقيته في المرجعية، وبعيداً عن الكاميرات أيضاً يخوض هاشمي رفسنجاني في الطبقات العليا للدولة الإيرانية معركة بقاء في قلب المؤسسة ومفاصل صنع قراراتها ستحسم إلى حد كبير مستقبل التوازنات الداخلية في إيران.

الضلع الأول:
موسوي بين المأزق والمبادرة
 

ساقت الأقدار رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي إلى بؤرة المشهد الداخلي الإيراني بعد ترشحه للانتخابات الرئاسية التي جرت الصيف الماضي ممثلاً عن الطيف الإصلاحي داخل النظام الإيراني، وتطور موقفه بعد احتجاج الإصلاحيين وقتها على ما اعتبروه "تزويراً لإرادة الناخبين"، حيث لم يسلم موسوي بنتائج الانتخابات ولم يرضخ للضغوط وواصل اعتراضاته على الرئيس أحمدي نجاد في الواجهة، والحرس الثوري الإيراني في الخلفية. ومع إمعان الرئيس الإيراني في تجاهل مطالب المتظاهرين وتكوين حكومته الجديدة من لون سياسي وايديولوجي واحد، ودمغ معارضيه بالعمالة للغرب تحينت المعارضة فرصتها التي وجدتها أثناء تشييع آية الله الراحل حسين علي منتظري، ومع ذكرى عاشوراء لتعلن عن نفسها من جديد.
تعاني المعارضة الإيرانية من نقاط ضعف متنوعة أولها افتقار قيادتها إلى الكاريزما التي تجمع الجماهير حولها، وفي هذا السياق لا يمكن مقارنة تأثير الإمام الخميني الراحل بتأثير موسوي على الجماهير الإيرانية. صحيح أن كليهما استخدم تكنولوجيات العصر لمخاطبة الجماهير، فالإمام الخميني استخدم شرائط الكاسيت عام 1979 كوسيلة لإيصال صوته وأفكاره إلى الداخل الإيراني، في حين استخدم موسوي عام 2009 الانترنت والتويتر والفايس بوك؛ واستثمرت المعارضة التي نظمت نفسها من طريق أحدث وسائل التكنولوجيا لإنزال تظاهرات إلى الشارع في أيام يسمح فيها بالتظاهر في إيران، وما أكثر هذه الأيام في إيران الثورية. نزلت التظاهرات المعروف موعدها سلفاً في عاشوراء الأخيرة أي شهر كانون الأول، مثلما نزلت قبلها في شهر تشرين الثاني لمناسبة يوم الطالب، وقبلها في يوم القدس خلال شهر أيلول، وستنزل في شهر شباط الجاري في ذكرى انتصار الثورة؛ ولكن المشكلة الثانية للمعارضة تبدو تنظيمية الطابع، لأن التواريخ ستنفذ بعد شباط المقبل لشهور طويلة ممتدة من ذكرى انتصار الثورة في شباط وحتى حزيران ذكرى وفاة الإمام الخميني.
وبخلاف المشكلة التنظيمية فهناك مشكلة ثالثة تتعلق بأزمة القيادة لدى المعارضة، فموسوي ليس الإمام الخميني، من حيث انه لا يريد القيام بثورة على النظام القائم بل إدخال إصلاحات عليه. موسوي لا يبيع ايديولوجيا ولا يملك كاريزما الإمام الخميني، الذي كان موجودا في باريس في حين أن موسوي داخل طهران وفي متناول يد السلطة الإيرانية. تأسيساً على ذلك تفتقر المعارضة الإيرانية الجديدة إلى الرمز والكاريزما والقدرة على التنظيم والحشد، ناهيك عن راديكالية الأهداف وحرية الحركة للقيادة.
وبخلاف كل ذلك لا يمكن خامساً مقارنة "الحالة الثورية" التي عاشتها إيران عام 1979 في مواجهة نظام الشاه بالحالة الإيرانية الحالية، ومرد ذلك أن الشاه فقد في أعوامه الأخيرة أي ارتباط مباشر بالجماهير واقتصرت مصالح نظامه على شريحة ضيقة من رجال الأعمال الجدد ومجموعة أضيق من كبار قيادات الجيش الإيراني. وفي المقابل يمتلك النظام الإيراني الحالي شرائح من المؤيدين تعد بالملايين، سواء بسبب الإيديولوجيا الإسلامية الشيعية التي يمثلها النظام، أو بسبب مصالح الموظفين ومستخدمي جهاز الدولة الإيرانية الذي يقدر عددهم وحدهم بالملايين. فإذا عطفنا على كل ذلك أن النظام في جمهورية إيران الإسلامية برع في شراء رضا القطاعات الشعبية الإيرانية عبر دعم السلع الأساسية من طريق العوائد الضخمة للنفط، أمكننا استنتاج أن الحراك الحالي لا يجري بين متظاهرين ونظام حكم معزول شعبياً، بل بين قطاعات اجتماعية معترضة في مقابل نظام يمتلك تأييداً مقابلاً من قطاعات أخرى، وهو ما يعقّد موضوعياً من مهمة المعارضة. وفوق الجماهير المليونية يمتلك النظام الإيراني سادساً قوة عسكرية ضاربة هي الحرس الثوري والتي لم يضطر لاستعمالها حتى الآن، في ما كان سيذهب مؤشراً واضحاً على أن النظام يواجه أزمة وجودية، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
لم تستطع المعارضة الإيرانية الجديدة تطوير حركتها في اتجاه عصيان مدني ولم تفلح في استقطاب شرائح اجتماعية جديدة في صفوفها، إلا أن مبادرة مير حسين موسوي ذات النقاط الخمس والتي أطلقها عقب قمع التظاهرات تظهر وعيه العميق بأهم نقاط الضعف في حركة المعارضة الجديدة. يعد مكمن الخلل البنيوي الأساسي لحركة المعارضة، بخلاف العوامل الستة المذكورة سابقاً، في افتقارها إلى أطار فكري محدد، لأنها عبارة عن فسيفساء لمجموعات تنتمي إلى فئات عمرية مختلفة وعلى خلفية ميول سياسية متباينة، وإن اتحد قوامها الأساس في الانتماء إلى الشرائح العليا للطبقة المتوسطة في المدن الإيرانية. لم تسجن المعارضة الإيرانية الجديدة نفسها في إطارات ايديولوجية أو فكرية محددة، وجرياً على ذلك جاءت مبادرة موسوي بنقاطها الخمس. وتضمنت مبادرة موسوي خمسة شروط بحيث تركز على جانبها الإيجابي –من منظار المعارضة - وهو الحشد، وإطلاق مبادرات تحظى بالإجماع وبالتالي تحول دون انفراط عقد الفسيفساء المكونة للكتلة المتظاهرة:
(1) أن تتحمل الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية مسؤولية قمع التظاهرات أمام الأمة. (2) ضمان انتخابات حرة وشفافة. (3) إطلاق المعتقلين السياسيين. (4) ضمان حرية الصحافة. (5) قبول حق الشعب في التعبير عن رأيه.
تدل النظرة المتأنية في المبادرة إلى استنتاج مفاده تعمد مير حسين موسوي وضع الشروط الخمسة في إطار ايديولوجي فضفاض، بالتوازي مع رفع سقف المطالب، وخصوصاً المطلب الأول، بهدف الإبقاء على الحشد الجماهيري الموالي للمعارضة الجديدة. ويعود ذلك إلى أن قبول الشرط الأول القاضي بتحمل السلطات الثلاث، الرئاسة والبرلمان والقضاء المسؤولية عما جرى أثناء التظاهرات سيعني هزيمة كاملة للمؤسسات الثلاث أمام المتظاهرين، وهو أمر غير منطقي على كل حال بالنظر إلى توازنات القوى الداخلية الراهنة. ويتأكد الاستنتاج بملاحظة أن المطالب الأربعة الباقية هي مطالب عامة ومفهومة ولا تأتي بجديد، وهو ما دفع المرشح المحافظ السابق في انتخابات الرئاسة محسن رضائي إلى القول أن موسوي لا يتحدى شرعية النظام، تصريحات يمكن تأويلها على أساس أنها عرض للوساطة بين المتظاهرين والحكومة. ولكن الأخيرة تركت رئيس تحرير "كيهان" المحافظة حسين شريعتمداري، القريب من مكتب المرشد، يرد على عرض الوساطة بانتقادات عنيفة لرضائي. وبغض النظر عن رفض النظام مبادرة موسوي، فإن قرار تيار الرئيس أحمدي نجاد بالتحاور مع المعارضة حتى تحت شروط مغايرة، كان من المحتمل جداً أن يظهر التناقض في المصالح بين مجموعات المعارضة المختلفة، وربما كان منع التدهور في صورة إيران في المنطقة والعالم. لذلك يبقى إنجاز المعارضة الأساس متمثلاً في إحراج النظام أمام العالم والنيل من شرعية الرئيس أحمدي نجاد على الصعيد الشعبي، ولكن دون أن تشكل التظاهرات تهديداً لقبضة النظام على السلطة حتى الآن. وبسبب تطور الحراك السياسي في إيران إلى مستوى "النظام" و"المعارضة" وانتهاء مرحلة الأجنحة ضمن النظام الإيراني، فقد دخلت المعارضة إلى معادلة إيران الداخلية بغض النظر عن موازين القوى الراهنة، وهنا إنجازها الحقيقي حتى الآن.

 

الضلع الثاني: آية الله العظمى يوسف صانعي والمؤسسة الدينية
 

يلعب الدين في إيران دوراً رئيساً في التأثير على مجريات السياسة ولا يقتصر ذلك على جمهورية إيران الإسلامية بل يتعداها ليطول تاريخ إيران السياسي في القرن العشرين بكامله، ويؤدي هذا الترابط والتداخل بين الدين والسياسة إلى صعوبة الفصل بينهما بشكل يجعل المؤسسة الدينية الإيرانية وتوازناتها مؤشراً مهماً على توازنات النظام السياسي بكامله. من ناحيتها وجدت الحركة الإصلاحية في آية الله العظمى الراحل حسين علي منتظري مرجعيتها الروحية وذلك مقابل رجال الدين المؤيدين للتيار الأصولي المتشدد، حيث وفر منتظري للمعارضة مرجعية دينية وسياسية قلّ مثيلها. ولأن منتظري عاش منذ عشرين عاماً رهن الإقامة الجبرية منذ عزله عن خلافة الإمام الخميني عام 1989 وحتى وفاته عام 2009، فإنه كان رمزاً سياسياً يعارض النظام الإيراني بضراوة ولكن على أرضية دينية. وبوفاة منتظري حدث فراغ روحي وسياسي كبير عند الإصلاحيين الذين فقدوا الغطاء الديني والمعنوي مقابل خصومهم.
صحيح أن سعيد منتظري ابن آية الله العظمى الراحل طالب بأن يحل مير حسين موسوي محل أحمدي نجاد في رئاسة الجمهورية لإعادة الهدوء إلى البلاد، إلا أن افتقار المعارضة إلى رمز ديني كبير كان يهدد مناعتها الروحية والوجدانية بالرغم من تصريحات عائلة منتظري المؤيدة لها. استقرت المعارضة على آية الله العظمى يوسف صانعي ليكون خليفة لمنتظري بالمعنى السياسي وبالمعنى المؤسسي، لأن انتقال مقلدي منتظري إلى صفوف صانعي سيضع هذا في الصف الأول لآيات الله العظام داخل إيران وخارجها. الجدير بالذكر هنا أن المسلم الشيعي يقلد ويتبع تعاليم أحد آيات الله العظام ويدفع له خمس أرباحه عن طيب خاطر لينفقها الأخير في مصارفها الشرعية في معزل عن السلطة السياسية كما يستفتيه في أمور دينه ودنياه، ولكن استقر العرف على عدم جواز تقليد الميت وبالتالي ينتقل المقلدون عند وفاة المرجع إلى تقليد مرجع أخر.
ولد آية اللّه العظمى يوسف صانعي عام 1937، في قرية من توابع أصفهان في أحضان أسرة علمية، إذ أن جدّه آية اللّه حاج ملَّى يوسف، كان من العلماء المتقين الورعين في زمانه، ممَّن تتلمذ في الفلسفة على يد جهانگيرخان، وفي الفقه على يد آية اللّه العظمى ميرزا حبيب اللّه رشتي. والده حجة الإسلام محمد علي صانعي، كان عالماً زاهداً ورعاً، واتساقاً مع التراث العائلي العلمي فقد دخل الشيخ يوسف صانعي الحوزة العلمية في أصفهان عام 1946، حيث تلقّى فيها الدروس التمهيدية والمقدمات، ثم انتقل إلى مدينة قم وحوزتها العلمية في عام 1951 ليواصل دراسته فيها مكتسباً بعد ذلك لقب ثقة الإسلام. ثم نال الشيخ صانعي المرتبة الأولى في امتحانات مرحلة السطوح العالية في الحوزة عام 1955 ومستحقاً بذلك لقب حجة الإسلام والمسلمين، فأخذ بتشجيعه المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي مرجع الشيعة الأوحد في العالم حتى عام 1961.
أخذ الشيخ صانعي يحضر دروس بحث الخارج للإمام الراحل الخميني بالإضافة إلى دراسة الأصول والفقه ليصبح أحد أبرز طلابه، فاستطاع أن ينال درجة الاجتهاد وهو في الثانية والعشرين، وهي الدرجة المؤهلة للقب آية الله عند المسلمين الشيعة. وبالإضافة إلى تلقّيه دروس الإمام الخميني، نهل الشيخ صانعي من معين أساتذة عظام آخرين، كآية اللّه العظمى بروجردي، وآية اللّه العظمى محقق داماد، وآية اللّه العظمى أراكي. وفي عام 1975 أخذ الشيخ بتدريس البحث الخارج بشكل رسمي أي حيازة لقب آية الله فعلياً ومبتدأً بكتاب الزكاة، وذلك في مدرسة الحقاني. وبابتداء دروس البحث الخارج للشيخ، راح عدد كبير من طلاب الحوزة ينهلون العلم منه، وبمرور الوقت ازداد عدد مريدي آية الله يوسف صانعي حيث أصبح العديد منهم من الباحثين المرموقين في الحوزة، ونال بعض آخر درجة الاجتهاد ليعملوا في الحوزات العلمية أو في مؤسسات الدولة في الجمهورية الإسلامية.
يبدو أن صانعي أظهر في مؤلفاته المختلفة اقتناعاته التقدمية خصوصاً مساواة الرجل والمرأة في الدية والقصاص، ومساواة المسلم وغير المسلم في ذلك أيضاً. ومن أشهر مؤلفاته: "مصباح المقلدين"، و"لباب الألباب"، و"منتخب الأحكام"، و"مائة مسألة وعشر من مسائل الحج"، و"سلسلة الفقه المعاصر" من عشرة أجزاء. وبخلاف الآراء الفقهية التقدمية فقد حرص صانعي على إظهار مواقفه الميالة إلى التيار الإصلاحي في مقابل التيار الأصولي المتشدد الذي يمثله الرئيس محمود أحمدي نجاد، حيث استقبل في بيته المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي مؤيداً حملته الانتخابية قبل موعد الانتخابات وواصفاً إياه "أنتم حصيلة عمر الإمام الخميني في السياسة وتدبير شؤون المجتمع". بدوره خاطب موسوي صانعي قائلا: "إنّكم مرجع جليل وكنت ولا أزال أكنُّ لكم الحب". من هنا كانت خيارات صانعي واضحة لجهة تأييد موسوي والتيار الإصلاحي، خصوصاً بعد وفاة منتظري والتظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدينة لتشييعه، أو مقاطعة نجف آباد مسقط رأسه. فذهبت مناسبة تشييع منتظري وهي خليط بين المعاني الدينية والسياسية. حرص صانعي أن يحل محل منتظري ويمكن ملاحظة ذلك من برقية التعزية التي أرسلها عقب وفاته مباشرة، حيث أن المؤسسة الدينية الشيعية درجت على إبراز معاني أعمق بكثير من مجرد إرسال برقية تعزية.
اندلعت المواجهة فوراً عقب نشر برقية صانعي التي يعزي فيها برحيل منتظري، حيث أصدرت جمعية المدرسين في الحوزة العلمية في قم، والقريبة من تيار الرئيس أحمدي نجاد، بياناً قالت فيه ان صانعي "فاقد ملاك هاي لازم براي تصدي مرجعيت" (يفتقر إلى المؤهلات اللازمة لمنصب المرجعية)، وسرعان ما أيد ذلك خطيب الجمعة في طهران الأصولي المتشدد آية الله أحمد خاتمي. وفي المقابل فقد أيد رجل الدين الإصلاحي آية الله طاهري خطيب جمعة أصفهان السابق مرجعية آية الله يوسف صانعي في مواجهة رجال الدين القريبين من آية الله مصباح يزدي، وهو الراعي الروحي للرئيس أحمدي نجاد. وأصدر مجمع رجال الدين المناضلين "مجمع روحانيون مبارز"، الذي انتمى إليه خاتمي وكروبي، في قم بياناً أيد فيه مرجعية صانعي. وفي سؤال ورد إلى مكتب آية الله العظمى علي السيستاني في العراق حول ما جرى من جمعية المدرسين قال: "جمعية المدرسين ليست جهة تحديد المراجع"، في ما يفهم منه تأييد لصانعي. وكما كان متوقعاً فقد أيد آية الله العظمى مكارم شيرازي فضلاً عن آية الله العظمى موسوي أردبيلي أحقية صانعي في أن يصبح مرجعاً للتقليد وحائزاً بالتالي لشرائط المرجعية ولقب آية الله العظمى، فأصبح هناك شرخ طولي – بحسب تعبيرات ماكس فيبر- في المؤسسة الدينية الإيرانية بين رجال الدين المؤيدين للإصلاحيين ونظرائهم المؤيدين لتيار أحمدي نجاد.
يمكن تلخيص الحراك الدائر في المؤسسة الدينية في فريقين، الأول بقيادة آيات الله مصباح يزدي ونوري همداني المؤيدين للرئيس محمود أحمدي نجاد والتيار الذي يمثله، في مقابل آيات الله بيات زنجاني وموسوي أردبيلي ويوسف صانعي المؤيدين للمعارضة، وعلى الحياد يقف حتى الآن آيات الله العظام مكارم شيرازي وصافي كلبايكاني ووحيد خراساني وجوادي آملي. ويؤدي صعود آية الله العظمى يوسف صانعي إلى مقام المرجعية العظمى حسما من رصيد آيات الله المؤيدين لأحمدي نجاد وتياره، وبالتالي تستقر توازنات المؤسسة الدينية على نسق مغاير لمثيلاتها في الشارع. صحيح أن المؤسسة الدينية الإيرانية لم تعد مرتبطة بالكامل بنسبة الخمس التي يدفعها المؤمنون من أرباحهم للصرف منها على الحوزات والطلاب والقيام بأنشطتها الاجتماعية، وذلك بسبب أن عوائد النفط الإيراني التي يتدفق جزء منها إلى الحوزة تعد أكبر بكثير من كل الأخماس، ولكن الصحيح أيضاً أن المؤسسة الدينية كانت ولازالت جزءاً أساسياً من شرعية النظام الإيراني وتوازناته، لأن البناء الفوقي للنظام الإيراني قام منذ انتصار الثورة عام 1979 على تحالف بين مؤسسة رجال الدين والبازار، وانضم إليهما كطرف ثالث الحرس الثوري، الذي جاء انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية انعكاساً لصعوده إلى البناء الفوقي للنظام.

الضلع الثالث: رفسنجاني
والطبقات العليا للدولة
 

يعد هاشمي رفسنجاني أحد أهم رموز النظام الإيراني، وهو الشخصية التي يجمع أفراد النخبة الإيرانية على أنها تأتي في المرتبة الثانية في الدولة الإيرانية بعد المرشد، وإن كان هناك اختلاف في تقدير المسافة التي تفصله عن الرقم واحد. تقلّب رفسنجاني في مناصب الدولة الإيرانية العليا منذ انتصار الثورة حين شغل منصب رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية لفترتين منذ عام 1989 وحتى عام 1997، ويشغل الآن منصب رئيس مجلس الخبراء الذي يعين المرشد ويعزله. وفوق ذلك فالشيخ رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يفصل في الخلافات بين المؤسسات الدستورية الإيرانية المختلفة، وله دور مفتاح في الفصل بين صلاحياتها في بنية إيران الدستورية المعقدة والمتشعبة. انتمى رفسنجاني إلى الجيل الأول للثورة وكان دوماً بالقرب من الإمام الخميني الراحل، والدليل على ذلك أنه أدار الحرب العراقية-الإيرانية بالرغم من أنه لم يكن وقتها رئيساً للجمهورية، ولا حتى وزيراً للدفاع، ولكنه امتلك الأهم من ذلك: ثقة الإمام الخميني وحسن ظنه. وبعد وفاة الإمام الخميني أخرج رفسنجاني معركة انتقال السلطة إلى المرشد الحالي، بالرغم من وجود المراجع الأكبر سناً والأعلى في المؤهلات العلمية الفقهية، تاركاً بصماته على المحكات الأساسية للنظام وتاريخ الثورة.
تجمع رفسنجاني بالمرشد السيد علي خامنئي علاقة تاريخية معقدة، كلاهما كان إلى جوار الإمام الخميني، كلاهما تلقى الاتهام من الشيخ منتظري بالعمل على اطاحته من منصب قائم مقام مرشد الجمهورية قبل وفاة الإمام الخميني بشهرين. كلاهما امتلك مستوى متقارباً من التحصيل الفقهي، ومعاً أدارا إيران في الفترة الواقعة منذ رحيل الإمام الخميني عام 1989 وحتى عام 2005، وقادا مرحلة "إعادة البناء" لترميم ما تخرب في الحرب العراقية-الإيرانية وتحسين علاقات إيران الإقليمية والدولية. ولكن منذ انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد للمرة الأولى عام 2005 متغلباً على منافسيه وضمنهم رفسنجاني، بدا أن هذه العلاقة التاريخية بين الرجلين قد اهتزت. يشبه رفسنجاني سيزيف في الأسطورة الإغريقية، يصعد الجبل حاملاً صخرة كبيرة وما أن يقترب من القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى أسفل من جديد، فيعود مرة أخرى ليحملها صاعداً الجبل ويتكرر الأمر، فيتكرر الهبوط والصعود في مشهد أزلي. وفي الوقت الذي توقع فيه الكثيرون نهاية لدور رفسنجاني السياسي فقد عاد الأخير دوماً بدأب وإصرار إلى بؤرة المشهد السياسي الإيراني، وإذ يتهمه خصومه بأنه يسعى وراء مصالحه ولا يبتغي مصلحة الثورة وأن عائلته منخرطة في التجارة ولها أياد أخطبوطية في مفاصل الدولة الإيرانية، فقد ظل السياسي الواقعي المخضرم رفسنجاني ممسكاً بالخيوط من خلف الستار وواعياً للتوازنات وخريطة التشابكات.
يختلف رفسنجاني عن الثلاثي موسوي وكروبي وخاتمي من حيث امتلاكه تأثيراً عميقاً على الطبقات العليا للدولة الإيرانية، إذ لم يفقد رفسنجاني حضوره عندما خرج من مؤسسات الدولة الإيرانية مثل الثلاثي الإصلاحي، بسبب نفوذه العميق في مفاصل الدولة الإيرانية. حتى اللحظة يملك رفسنجاني مؤيدين داخل وزارة الخارجية الإيرانية ويمسك رجاله بخيوط الوزارات الحساسة مثل النفط والتجارة الخارجية. رفسنجاني ليس ظاهرة وظيفية أو انتخابية هو ظاهرة دولتية بإمتياز. هنا يكمن الفرق الأساسي بينه وبين الثلاثي الإصلاحي، ويضاف إلى ذلك أن مصالح رفسنجاني في عمق النظام تجعله مرتبطاً بالنظام أكثر من الثلاثي المذكور، وهنا فارق أساسي أخر. على العكس من الثلاثي الإصلاحي يعرف رفسنجاني أن أهمية الرئيس أحمدي نجاد في توازنات إيران الحالية تنبع أساساً من القوى الدولتية الداعمة له وليس بالضرورة في القوى الشعبية المؤيدة له. حتى وهي حاضرة وموجودة بالفعل. رغبة الشيخ رفسنجاني في إزاحة أحمدي نجاد لا تجعله يفقد التمييز بين أحمدي نجاد والنظام بأكمله، لذلك فهو يستعمل مشرط الجراح لمحاولة فصل أحمدي نجاد عن الجسم الأساسي للدولة، وهو المشرط الذي طالما أجرى به العمليات الدقيقة دون أن يحدث مضاعفات خطيرة على النظام، بسبب مهارته وفراسته في التكهن بالآثار الجانبية لما يقوم به. مشكلة رفسنجاني الراهنة أن أحمدي نجاد لا يمثل نفسه بل مؤسسة الحرس الثوري، التي استشرت في نسيج ومفاصل الدولة الإيرانية في السنوات الخمس الماضية، وبالتالي مهاراته في الجراحة الدقيقة لا تكفي وحدها لاجتياز مهمته الصعبة والشائكة. تكمن أهمية ما يقوم رفسنجاني به الآن في أن تأثيرات ما يحدثه مشرطه ستنعكس فوراً على تحالفات وتوازنات النخبة السياسية الإيرانية، وبشكل أعمق كثيراً من تظاهرات الشارع.
ربما كانت التظاهرات أكثر صخباً وقمعها أكثر دموية وأكثر وضوحاً أمام العدسات، إلا أن مصير مثلث التوازنات الإيرانية سيتحدد وفقاً لقدرة رفسنجاني على وضع العراقيل أمام أحمدي نجاد ومن يمثلهم، وانتزاع مساحات تأثير متزايدة. وفي النهاية لن يتبقى أمام رفسنجاني إلا طريقان إما إحداث فجوة بين المرشد علي خامنئي والحرس الثوري لينفذ من خلالها إلى تغيير عميق في التوازنات؛ أو الفشل في ذلك والاصطدام بالمرشد مباشرة وبالتالي الخسارة وتكريس سيطرة الحرس الثوري على السياسة والدولة في إيران. ستتحد النتيجة الإجمالية لتوازنات إيران الداخلية وفقاً لنتيجة نقاط المعارك الثلاث وليس في كل معركة على حدة، في حين ستلعب ضغوط الخارج دوراً مؤثراً في النتيجة التي سيرسو عليها مثلث التوازنات الداخلية الإيرانية بسبب العلاقة الجدلية التي تربط بين الداخل والخارج. بمعنى أن نمط العقوبات الاقتصادية التي ستحاول إدارة أوباما فرضها على إيران في الفترة المقبلة، سيسهل حسم النتيجة لجهة تكريس الفريق المؤيد لحكومة أحمدي نجاد في السلطة أو لناحية تمهيد الطريق أمام انطلاق قوى المعارضة. آنذاك ستتأثر النتيجة وفقاً لتأثير العقوبات الاقتصادية على مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية الإيرانية المختلفة، وبالتالي بروز اصطفافات سياسية جديدة مؤسسة على أسس اقتصادية - اجتماعية متغيرة... ولكن تلك مسألة أخرى!

مصطفى اللباد – القاهرة     

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,713,288

عدد الزوار: 6,909,930

المتواجدون الآن: 102