الموازنة ما بين الاقتصاد والسياسة

تاريخ الإضافة الثلاثاء 28 كانون الثاني 2014 - 6:11 ص    عدد الزيارات 664    التعليقات 0

        

 

الموازنة ما بين الاقتصاد والسياسة
بقلم د. ماجد منيمنة
كثيرة هي الصراعات السياسية التي تخفي وراءها مصالح اقتصادية كبرى، وتزداد هذه العلاقة تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي فاعلا اقتصاديا في نفس الوقت. في مثل هذه الحالة تتم الإساءة للاقتصاد وللسياسة معا، فلا الاقتصاد يمكن أن يتطور في بيئة تنعدم فيها شروط المنافسة الاقتصادية، ولا السياسة يمكن أن تتطور بسبب هيمنة المال على الشأن السياسي.
و من الأسباب العميقة لاندلاع الثورات العربية، بالإضافة إلى الانسداد السياسي، غياب العدالة الاجتماعية وتحكم أقلية في الثروات الوطنية في الوقت الذي تعيش فيه الأغلبية في القاع الاجتماعي. ومع التحولات السياسية التي جرت في المنطقة ارتفع انتظار الشعوب وارتفع سقف تطلعاتها أملا في تحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية. 
و في تفسير الأسباب المباشرة لهذه الأزمة، يطفو التحليل الاقتصادي الذي يركز على أسباب تراجع الاقتصاد الإنتاجي، وتخلف التنمية الاقتصادية والإنسانية في الوطن العربي مقارنة بدول ومجموعات تقل إمكاناتها عن تلك المتوافرة في البلدان العربية، كدول أميركا اللاتينية مثلا، كما الانعكاسات المباشرة لسيادة الاقتصاد الريعي والاستهلاكي على معدلات النمو غير المستديم، وتأثيره المباشر على توسع قاعدة الإنتاج، والحد من قدرات الدول على تحقيق فرص نمو متوازنة وفرص تشغيل واسعة، وطبيعة السياسات الاقتصادية ذات المرجعية الليبرالية، كالخصخصة وسياسات التقويم الهيكلي التي اعتمدت في العديد من الاقتصاديات العربية بتدخل من صندوق النقد الدولي، وهو ما أدى إلى تقليص نسبة الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية من الناتج الوطني، في ظل هشاشة منظومة الحماية الاجتماعية، ومع غياب العدالة الجبائية وسيادة التملص الضريبي من طرف النخب المحسوبة. وفي ظل نظام العولمة الاقتصادية انخرطت معظم الدول العربية في اتفاقيات التبادل الحر، مع اقتصاديات دول كبرى من دون أن تجعل من تعزيز سبل الاندماج الاقتصادي العربي أولوية مستعجلة لبناء كتلة اقتصادية حرجة قادرة على الصمود أمام التكتلات الاقتصادية الكبرى.
إن الأسباب العميقة لهذه الأزمة، مرتبطة بدرجة أساسية بنموذج تنموي قائم منذ مرحلة ما بعد الاستعمار الأجنبي. كما أن حالة الاقتصاديات العربية لا يمكن فصلها عن النموذج السياسي المتبع، فالحالة الاقتصادية هي نتيجة لسيادة نموذج تسلطي، يسمح بالتداخل بين النخب الحاكمة وبين عالم المال والأعمال في إطار شكلي لليبرالية الاقتصادية، ويعتمد على شركاء اقتصاديين تقليديين يراعون مصالحهم بالدرجة الأولى. كما أن الفقر المدقع وسيادة الاقتصاد الريعي وتدني الإنتاجية وتشوهات توزيع الناتج الوطني وتزايد حجم الفئات الاجتماعية المهمشة والفقيرة على حساب الفئات الوسطى، والنمو المفرط للمدن والبناء العشوائي واتساع دائرة الاقتصاد غير المهيكل، وانتشار البطالة، وتزايد التفاوت الاجتماعي بين الفئات المحظوظة والفئات الاجتماعية المسحوقة، كل هذه المظاهر تعكس الخلل البنيوي الحاصل في رسم سياسات التنمية في هذه البلدان. هذه السياسات كانت تسهر عليها النخب المتحكمة من الأعلى ولم تكن نابعة من متطلبات الناس واحتياجاتهم، لأغراض سياسية بالدرجة الأولى.
إن إصرار الجهات النافذة على انماء المدن المركزية وتهميش القرى ، والتأخر في إنعاش المدن الصغيرة والمتوسطة وإدماجها في عملية التنمية، ساهم في احتكار العملية السياسية من طرف نخب معينة ولم يسمح لفئات اجتماعية أخرى بولوج المسرح السياسي، ذلك أن استراتيجيات التنمية الحقيقية تفرز فاعلين جددا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي أيضا، وتدفع بجماعات مهمشة عديدة لأن يكون لها صوت مسموع في الساحة، وهو ما يغير قواعد المشاركة السياسية، ويجعلها مستعصية على الضبط والتحكم. ان التنمية الاقتصادية هي شرط للحرية، بمعنى أن جانبا جوهريا من حرية المواطن يعتمد على تغطية الخصائص الاجتماعية للأفراد والجماعات، حتى يتمكن المواطن/ الفرد من بناء اختياراته في حياته اليومية على كافة المستويات. إن توسيع أفق هذه الاختيارات بالنسبة للأفراد والأسر يعتمد على حجم وعدالة وصولهم إلى الموارد وامتلاكهم الوسائل والقدرات المادية التي تمكنهم من الحصول على حاجاتهم المعيشية، كما يعتمد على تمتعهم بحقوق المواطنة في مجتمع حر يشارك فيه جميع المواطنين في تقرير شؤونه من خلال التمثيل الانتخابي والمشاركة السياسية الواسعة، والتداول السلمي على السلطة السياسية الفعلية. 
إن تطور البلاد سياسياً وتخلفها اقتصادياً لن يحقق لها الاستقرار المنشود، بل سيكون وقوداً لاضطرابات تأتي عاجلة أم آجلة، كيف لا وأهم ما ينشده المجتمع والمواطن هو الحصول على احتياجاته اليومية والحياة الكريمة. ربما يؤدي التخلف الاقتصادي إلى انتشار الجريمة وهو ما يمكن ملاحظته وتلمسه من خلال النظر لدول تعاني من تفشي البطالة والتي تزدهر فيها تجارة التهريب، والتي تعتبر من أكبر الدول المنتجة للمواد المخدرة، وهو ما يؤشر في النهاية إلى فشل السياسة.
إذا، ان تقدم الاقتصاد على السياسة أو العكس لن يحقق استقرار البلاد، وإنما سيكون وقوداً ودافعاً للفوضى ودليلاً على الفشل. ما نحتاجه هو الموازنة بين هذين الطرفين. نحتاج إلى تبني سياسة قوية للبلاد، تكون قادرة على دعم الاقتصاد وتقويته، وشق الطريق أمامه وفتح آفاق التطور، لا أن تكون عبئاً على الاقتصاد أو عملية شكلية كتوقيع اتفاقيات ازدواج ضريبي لا يتم الاستفادة منها نتيجة إلى عدم وجود تبادل تجاري مع تلك الدول أصلاً. نحتاج إلى سياسة تحمي الاقتصاد وتحارب الفساد وتحقق الاستقرار لا أن تكون حامية وحاضنة أو عاجزة عن المساواة وتحقيق العدالة. نحتاج إلى اقتصاد يشكل طوق حماية لسياسة البلاد، يبعد عنها شبح عداء مع دول اخرى ويدفعها إلى الموازنة بين ما ستتكبده وما تكسبه جراء السياسة التي تتبعها مع البلاد. نحتاج إلى اقتصاد يوفر لنا الاستقلالية دون الارتهان لدولة من هنا أو مساعدة من هناك. نحتاج إلى اقتصاد يخلق فرص العمل، ينمي البلاد، يجذب الاستثمار ويحقق الاستقرار.
من هذا المنظور تكون التنمية شرطا للحرية، وتكون ممارسة الحرية بتكافؤ ومساواة من قبل المواطنين، شرطا ضروريا للمشاركة الفعالة في العملية الإنتاجية للمجتمع والاستفادة المتساوية من الفائض الاقتصادي المؤسس للحرية. أن الأزمة الحالية ينبغي أن تدفع النخب السياسية الجديدة إلى مساءلة طبيعة السياسات الاقتصادية ذات المرجعية النيو- ليبرالية، التي انتهجت في البلدان العربية والعمل على إعادة بناء نماذج تنموية جديدة قادرة على استيعاب الانتظارات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة.
 
* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,260,531

عدد الزوار: 6,942,593

المتواجدون الآن: 127