الوجود السنّي المُهدَّد.. بين الموالاة والمعارضة

تاريخ الإضافة الإثنين 8 أيلول 2008 - 2:50 م    عدد الزيارات 1375    التعليقات 0

        

الياس البراج

تُجمع الأخبار المتواترة على أن حال سنّة لبنان لا يسرُّ موالياً منهم أو معارضاً، اللهم إلا إذا أراد أحدهم المكابرة. وليس صدفة تلازم صدور ثلاثة مواقف في وسائل الإعلام في يوم واحد (٢٥ آب المنصرم) عن مواقع مختلفة الاتجاهات والوظائف تؤكد حال الإحساس بالضعف. الأبرز كان جرس الإنذار الذي لوّح به سماحة مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار عندما تحدث عن »الوجود السني الإسلامي وهويته المهددة بالأفول« (»السفير«) بينما دعا فصيل بارز من سنة المعارضة، هي جبهة العمل الإسلامي، إلى »قيام المارد الإسلامي السني من كبوته وغفوته« (الوكالة الوطنية للإعلام)، وظهر الموقف الثالث في مقال (مصطفى علوش، جريدة الحياة) يقرّ بـ»حالة الإحباط التي أفرزتها نتائج غزوة السابع من أيار«. ومع علمنا أن الأخير كان يتحدث عن ١٤ آذار ككل، لكن المعني الأساسي هنا هم سنة الموالاة، فهم العماد الشعبي الأهم لهذه القوى، وهم يتولون رسميا زعامتها، وهم كانوا المستهدفين بشكل أساسي بما جرى في السابع من أيار، هذا مع العلم بأنهم يستحوذون على التمثيل السني الوزاري بالكامل والتمثيل النيابي شبه الكامل.
إن علاج تهديد الوجود والدور، أو البحث عن قيامة ما أو الخروج من حالة الإحباط لا يمكن أن يتم فقط بشعارات جديدة دون عودة للظروف الموضوعية، ولا بانتظار استغاثة (متأخرة) من العواصم والسفارات. ولعل حال التهدئة النسبية في الساحة اللبنانية الآن ـ وشهر الصوم والتقوى ـ قد تكون فرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة الأهداف والوسائل، وهنا تقع مسؤولية سنة الموالاة والمرجعيات الرسمية للطائفة. كما يفترض بسنّة المعارضة الإدراك بأن »الوجود المهدد« لم يعد يحتمل اكتفاءها رغم تمثيلها (المُشتّت) لقطاعات سنية واسعة في جميع المناطق، بدور ثانوي مع عدم القدرة على المبادرة والتأثير جوهرياً في مجرى الأمور التي قد تودي بالطائفة كلها.
إن سنّة لبنان اليوم بحاجة لرؤية شفّافة تتصدى بشجاعة لمتطلبات الحفاظ على الوجود ثم استعادة الدور، مع ما يستدعي ذلك من دراسة المتغيرات الحاصلة في السنوات الأخيرة، محلياً وإقليمياً، التي ساهمت في تعثر المسارات التي سلكوها هنا وهناك، سواء اختياراً أو اضطراراً، مما أدى بشكل أو بآخر إلى تغيّر الكثير مما كان يُعدّ مسلّمات.... لقد عُرف سنّة لبنان بمميزات كانت تشكل ما يشبه الثوابت، أهمها: الدور التوحيدي الوطني، و»حراسة« عروبة لبنان والاستناد إلى عمق »عربي سني« يوفر لهم المدد الدائم، في السلم وفي الأزمات، السياسية والاقتصادية وغيرها. لكن تحوُّل بعض الوقائع أدى إلى تراجع كثير من هذه المميزات. وبغض النظر عمن يتحمل مسؤولية ذلك، فإن الدور التوحيدي اللبناني للمرجعيات السنية الرسمية، السياسية والدينية، لم يعد جامعاً كما كان إثر نشوب »صراع« مستفحل مع مكوّن رئيسي لبناني آخر، وإسلامي تحديداً، بجميع مرجعياته السياسية والدينية والشعبية (وامتداداته الخارجية) كما هي عليه الحال منذ حرب تموز ،٢٠٠٦ إن لم نقل منذ استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة السابقة.
أما عن »العمق العربي السني« فإن الخسارة تبدو أكثر جلاءً في ما خص التواصل الطبيعي والامتداد الأقرب لهذا العمق وقضاياه، أي فلسطين وسوريا، وهو الامتداد الذي يشكل جسراً مزدوجاً إلى العمق السنّي الأوسع في الخليج ومصر وغيرها. خسارة الجسر الأول بدأت منذ إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان وثم القطيعة مع قضية فلسطين في السنوات الأخيرة (اعتراف النائب وليد جنبلاط بنسيان جبهة ١٤ آذار العروبة وفلسطين). وبدأ السنة بخسارة العمق في سوريا عبر تطورات متتالية منذ خروج مصر (ثم باقي النظام العربي السني) من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ليكتمل مع القطيعة الأخيرة الكاملة إثر اتهام بعض أركان النظام في سوريا بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتبني سنّة الأكثرية تصعيداً في القطيعة لم يوفر الشعب بمختلف أطيافه (مع الاحترام للمعارضة السورية ومدى فعاليتها في هذا الصدد).
قبل هذا التصعيد، شكلت مرحلة الطائف وتسعينيات القرن الماضي حالاً من التوافق العربي النسبي، وخاصة السوري ـ السعودي، كان لبنان إحدى ساحاته، وتمكن خلالها السنّة، من خلال زعامة الحريري تحديداً، من إنعاش دورهم الريادي رغم التناقضات الإقليمية، فبرعوا في التوفيق بين الدولة والمقاومة والعروبة وإتقان دور التوحيد الوطني العابر للطوائف والمناطق. إلاّ أن حرب العراق والتهديدات الأميركية بمزيد من الحروب، جاءت لتؤذن بمرحلة جديدة بدا معها أن المطلوب من لبنان، دولياً وعربياً، الالتحاق بمشروع »السلام والشرق الأوسط الكبير« مع ما اقتضاه ذلك من المشاركة في استفراد الفلسطينيين (إعادة احتلال مناطق السلطة الفلسطينية ووفاة أو اغتيال الشهيد ياسر عرفات) ثم المشاركة في عزل سوريا (القرار ١٥٥٩). لقد بدا حينها وكأن السنّة وقعوا بين خيارين كلاهما مر: إمّا السير في قطار التحالفات الأميركية في العالم العربي والعداء لسوريا، أو اختيار سوريا والقطيعة مع الغرب الأميركي وامتداداته في المنطقة. وفي كلتا الحالتين كانت الخسارة بيِّنة لا لبس فيها... وبينما كان السنّة يخسرون بعض مكامن دورهم وميزاتهم، كان المكوّن الإسلامي الرئيسي الآخر من اللبنانيين يكتسب الميزات نفسها، رغم عدم وجود عمق شيعي يوازي السني في المحيط العربي القريب أو البعيد:
ـ فقد كسب (بدعم إيراني وسوري طبعاً) عمق فلسطين وقضيتها من خلال دعم المقاومة المسلحة، بينما تخلى النظام العربي »السني« عن حق هذا السلاح بتحرير الأرض والقدس.
ـ وكسب عمق سوريا، شعباً ونظاماً، وعمَّد ذلك بتقاسم أوقات السراء والضراء معها.
ـ وكسب عمقاً شعبياً عربياً /وإسلامياً سنياً أكثر منه شيعياً/ غير مسبوق منذ غياب الزعيم القومي الراحل جمال عبد الناصر.
ـ وكسب لبنانياً: صياغة تحالف (تاريخي) مع الأكثرية المسيحية، النيابية والشعبية، تحالف أثبت مصداقيته ميدانياً وإدارياً وثبّت قرب المقاومة من مشروع الدولة وكرّس عداءً في الشارع المسيحي لإسرائيل إذا ما تعلق الأمر بالسيادة (السيادة بالسنتيمترات، شعار النائب ميشال عون).. هذا إضافة إلى شبكة أخرى موزونة ومتفاوتة الأهمية مع تشكيلات إسلامية من جميع المذاهب وقوى علمانية عديدة دون نسيان محاولات (موءودة )، كوثيقة التفاهم مع قوى سلفية التي أثبت من خلالها أن لا عقدة لدى »الأصولية« الشيعية في التفاهم والتحالف مع الأصولية السنية بأعمق تجلياتها.
المحصلة: لقد كسب الشيعة الميزات (ذاتها) التي خسرها السنّة وزادوا عليها مكتسبات أخرى، وظهر من خلال مسار هذا التحول عدة خلاصات منها:
١ـ إن ميّزات أدوار الطوائف والمذاهب في لبنان ليست وراثية ولا ثابتة (ألم يكن بعض الموارنة من أهم دعاة العروبة في المرحلة العثمانية؟) ولا حكراً على طائفة بعينها إذا لم تُقرن بمشروع أصيل يستوعب حركة الداخل والمحيط الأقرب على حد سواء.
٢ـ إن أهمية العمق العربي بالنسبة لأي مكون لبناني، مسلم أو مسيحي، لا يمكن أن تكون بمعزل عن سوريا وفلسطين وقضاياهما (أهمية الجغرافية السياسية) مهما بلغ الدعم العربي الآخر وبلغ سلطان الدعم الدولي وقوته الغاشمة، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي مجتمعاً. هذه الخلاصة ليست برسم السنّة فقط بمقدار ما هي برسم »النظام العربي السني« الذي يُتهم الآن، هنا وهناك، بالضغط على سنّة الموالاة في حسابات ما.
٣ـ إن قفز بعض أركان النظام العربي السنّي فوق الخلاصات أعلاه من شأنه أن يصيب بالشلل (معاً)، دوره هو في لبنان ودور سنّة لبنان، أو بالعطب على أقل تقدير.
إن حركة التاريخ والمستقبل تشترط أولاً الحيوية والمبادرة »الإيجابية« ذات النفس الطويل، كما أن المشاركة في تغيير المسارات تستدعي الخروج من دائرة رد الفعل والانفعال وخوض مغامرات قد تمس الوجود والمصير... ومع استمرار العجز العمق العربي الأبعد عن حل قضايا أقل تعقيداً بكثير من أزمات لبنان، بما في ذلك تأمين الدواء والغذاء والكهرباء لغزَّة (وأهلها السنّة)، تصبح الاستكانة لهذا العمق بغياب الرؤية الأصيلة المبتكرة المنسجمة مع الهوية والثوابت، نوعاً من الانتحار الجماعي.
يبدو الأمر أحياناً مثل بحث عن مخرج في الغابات والأدغال، بينما هو بمتناول اليد. الرؤية المنشودة لا يمكن أن تكون بدون مصالحة حقيقية مع الشركاء الأساسيين الآخرين، في الساحة الإسلامية وفي الوطن، دون أن يعني ذلك ضرورة التماهي مع نهجهم حتى في شأن سلاح المقاومة (الذي لم تعد تراه حتى الأكثرية المسيحية عقبة في مشروع الدولة)، قد لا يكون مطلوباً دعم هذا السلاح، لكن ليس صعباً احترام تضحياته على الأقل. حتى لو صدقت الشكوك بوجود »خطر مفترض للفرس والمجوس«، فإنه من المستحيل أن يكون موقع سنّة لبنان وتاريخهم الجهادي والمقاوم ضده في جبهة واحدة مع الخطر القائم، أو الحليف ـ الشريك الدائم لأبشع احتلال للمقدسات الإسلامية في فلسطين والعراق، والحروب الصهيونية التي أنهكت لبنان منذ ولادته وفجّرت أزماته الواحدة تلو الأخرى، قبل ولادة حزب الله وقبل حركة أمل وقبل ما سبقهما من أشكال المقاومة الوطنية. قد يكون من مظاهر هذا الاحترام الكف عن تصيّد أخطاء هذا السلاح والنظر إليه كأنه خارج عن القانون بعد انتصاراته الاستثنائية التي عجزت عنها دول (بما في ذلك سوريا وإيران)، مما يجعله حليفاً وشريكاً في القرارات الإقليمية وليس »تابعا صغيراً« لدولة أخرى على ما دأبت بعض المواقف على القول باستخفاف..... إن احترام ما يؤمن به أهل وأنصار هذا السلاح ربما يكون المخرج السهل من الهوة لهائلة التي تفصل بين واقع الانتصارات الموثقة للمقاومة وبين الخطاب الذي يخرج عن بعض المرجعيات والمنابر، هذه الهوة هي التي توفر الوقود لاستمرار الفتنة وربما انفجارها، بما يكرر مآسيَ ستكون أخطر مما جرى بالأمس القريب.
ختاماً، إن الرؤية المطلوبة قد لا تكون استنساخاً لنهج الرئيس الراحل رفيق الحريري في المواءمة بين أطر الدولة والمقاومة والعروبة، ودور السنة الريادي في مختلف هذه الأطر، لكن من الجور أن ننسى أن الرئيس الراحل لم يتخذ يوماً من أخطاء المقاومة ومن سقوط مئات الضحايا اللبنانيين وآلاف الجرحى وإصابة البنى التحتية بخسائر هائلة، لم يتخذ من كل ذلك ذريعة للنيل من سلاحها أو التخلي عنه حتى لو كان بوسعه ذلك. ونتذكّر يوم قام بمبادرته التاريخية التي »اجتاحت« عواصم العالم خلال عدوان ١٩٩٦ وكسرت عار الصمت العربي والدولي ونجحت في التوصل إلى تفاهم نيسان الشهير وإلى الحفاظ على حق المقاومة دون أن يتذرع يوماً »بأخطاء« قد تكون قامت بها قبل العدوان أو أثناءه. لقد كان الراحل بهذا الوعي صانعاً لذلك الانتصار وشريكاً كاملاً في كثير من انتصارات المقاومة الأخرى (بما في ذلك الإفراج عن مئات الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين)... يكفي أنه كان حصناً منيعاً للفتنة ولو أرادها آخرون.
قد لا تكون الرؤية الجديدة المطلوبة تكراراً واستنساخاً. المطلوب فقط احترام ذلك النهج وفهم أدنى حيثياته ولو من زاوية مصلحة الطائفة لا »ثوابتها« فقط. والخطر الأكبر هو أن تستمر العاطفة وما تبعها بجرف الطائفة بعيداً عن نهجه بالكامل، وكأننا نقوم باغتياله مرة أخرى قد لا تقل خطورة عن جريمة اغتياله الأولى، أياً كان من قام بها. .... هذا بذاته مدعاة لخوفنا أكثر من أي وقت مضى على الوجود السنّي ومكانته ودوره، عدا خوفنا الأكيد على ما بقي من وحدة المسلمين ووحدة اللبنانيين وكل ما بقي من الوطن.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,047,196

عدد الزوار: 6,749,653

المتواجدون الآن: 110