على هامش المشروع الارثوذكسي: الطائفة ليست مطيّة للسياسة

تاريخ الإضافة الأربعاء 13 شباط 2013 - 7:06 ص    عدد الزيارات 378    التعليقات 0

        

على هامش المشروع الارثوذكسي: الطائفة ليست مطيّة للسياسة
بقلم ميشال عقل

 

بدايةً مجّردُ ربط عبارة "أرثوذكسي" بمشروع قانون إنتخابات نيابية في دولة غير دينية كلبنان، والإمعان في تكرارها على ألسنة السياسيين ينطوي على جهلٍ وإساءة في آن واحد. أمّا الجهل فمرده الى عدم معرفة أن الأرثوذكسية كنيسة وليست طائفة، والأرثوذكس أعضاء فيها إذا رغبوا. وهم مواطنون وليسوا رعايا في طائفة وإن كانت الدولة تعترف بهم وتصنفهم على هذا الأساس.

معظم الأرثوذكس ونخبهم وساستهم خرجوا، ومنذ إنشاء الكيان اللبناني عن هذه المقولة، وهذا تراثهم وفخرهم. أمّا الإساءة وهي تتم بمفعول تاريخي يطاول الأرثوذكس جميعاً بعد قرون وأجيال من الجهد والتفكير والنهضة في ميادين العربية والعلمانية والحداثة، وهي بقيمها تجافي الطائفية أية طائفية.
الأرثوذكسية العربية الانطاكية شكَّلت على الدوام كيمياء الوحدة وصُمغ النهضة والحداثة على امتداد البلاد العربية، فلا تجرحوها بهذه المصطلحات والمقولات التي تحمل أغراضاً وغاياتٍ خبيثة. إذا كان بعض الارثوذكس الهوية يجهلون أو يتجاهلون هذه الحقيقة وذلك التاريخ الناصع، فما عليهم إلاَّ أن يسألوا أئِمَّة الكنيسة الأرثوذكسية ومرجعياتهاعلى امتداد أنطاكية لاسيما منهم أسقف العربية والحداثة المطران جورج خضر، فهو يُفسّرُ لهم ويهديهم الى "الصرّاط المستقيم".
هذه الطبقة السياسية الواحدة الموحدة "بفرعيها المسيحي والمسلم" وبعض أرثوذكسيي الهوية جزء منها، يُعميها السباق الى السلطة والمال وقد جعلت الطائفة على الدوام "مطية للسياسة". هكذا بأي ثمن ومن دون أي اعتبار لمصلحة وطنية ومن دون احترام للدستور والمبادىء التي قام عليها. وإذا كان هذا الأمر مستساغاً لدى بعض الساسة الذين يستغلون الدين والطائفة والمذهب، فكيف يسمح بعض رؤساء الأديان والكنائس بأن يكونوا غطاءً لهذه التوجهات؟
ليست هي المرة الأولى التي تُسيء فيها الطبقة السياسية بـ"فرعها المسيحي" الى ذاتها والى مشروع بناء المجتمع والدولة. فقد فعلت ذلك في ستينات القرن الماضي عندما تصدت بكامل وعيها وإرادتها فأسقطت مشروع دولة المواطن، التي كان يُرسيها الرئيس فؤاد شهاب على يد "الحلف الثلاثي" (1964). ومن ثمَّ في نهايات الحرب (1989-1990) دمّرت ذاتها والبيئة المسيحية معها في الحروب العبثية من أجل السلطة، وأجهزت على ما بقي من مؤسسات الدولة ورموزها.
اليوم تُعاود الطبقة إياها الكرَّة، ليس من طريق توخي العنف وإراقة الدماء بل بواسطة تشريع قانون انتخاب سوف يُودي بتداعياته بما بقي من دولة ومجتمع موحد. هذه الطبقة "بفرعها المسيحي" لا تتعلم شيئاً من تجاربها ولا تتوب ولا تتحمل أية مسؤولية تجاه بيئتها. فهي تتقن لعب دور الضحية ورمي الاتهامات على الآخرين وتحميلهم مسؤولية ما آل اليه الواقع المسيحي.  ولا ينفك فريق وازن فيها، وبطريقة مُنظَّمة وفجة عن استهداف فئة إسلامية وبيئة واسعة سارت خطوات نحو الحداثة واللبننة فاستحقت أن تكون شريكاً كاملاً فاعلاً في الحياة السياسية والاجتماعية الواعدة في لبنان.
أمّا عيوب ومخاطر الاقتراح "الأرثوذكسي" غير الأرثوذكسي بحسب تعبير الأب جورج مسّوح فهي منوعة وعديدة يعتدي بعضها على مبادىء الديموقراطية والمساواة بين المواطنين، ويذهب في اتجاه إعادة النظر في بُنى المجتمع اللبناني ويُهدد مرتكزاته المعمول بها منذ انشاء الكيان اللبناني في السنة 1926 من القرن الماضي.
أول هذه العيوب ذلك الامعان في التركيز على المكوِّن الأساسي الموروث الديني-الطائفي-المذهبي غير الإرادي، على أنّه الوحيد المتأصل والمتجلي في كيان المواطن والمجتمع، وهذا يشكل بذاته نظرةً أحادية مُتخلّفة مبتورة منافية لأبسط قواعد علم الاجتماع التي تعتبر الانسان، أي انسان وفي أي ظرف ومكان، مُتعدد البعد والقيمة، وليس بالضرورة أهمها وأعمقها المكوِّن الديني.
أما ثاني الأخطار فهو أن المشروع في مراحل نقاشه وإقراره (لا سمح الله) وتداعياته في حال اعتماده، يصب عن وعي أوغيروعي في حالة الصراع الديني- المذهبي، إذ يُحاكي الصراع الثنائي السنّي-الشيعّي ويزكّيه ويبرره، بدلاً من العمل بموضوعية وإصرار على إخماده، فاتحاً بذلك الباب أمام صراع ثلاثي البعد سنّي-شيعي-مسيحي. رحم الله من قال "ظلمٌ في السويّة عدلٌ في الرعيّة".
بالتأكيد هذا المشروع يُنظِّر لمشكلة موجودة وإن مضخمة متورمة، ويدعي أنه وجد لها حلاً. والحقيقة أنه سوف يستولدعشرات المشكلات من دون أن يحل الأولى. الخطورة تبدو أيضاً في التوقيت باعتبار أنه يُساهم في خلق بيئة وأجواء تلاقي في منتصف الطريق إنحرافات "الربيع العربي" ذات الطابع الأصولي-السلفي، فيما المطلوب من لبنان الرسالة والنهضة والحداثة والتجربة الديموقراطية، لاسيما من مسيحييه، ليس النأي بالنفس عن هذه المخاطر إنّما التصدي لها بجرأة وموضوعية وعقلانية من طريق تأييد قوى الإصلاح والثورة والحداثة والعلمانية في المعارضة على امتداد الربيع العربي.
أما الخطورة المتصلة بمحاولة إضعاف، فإلغاء، الذاكرة الجمعية المشتركة الموحَّدة والموحِّدة لعموم اللبنانيين والتي صمدت الى حدّ خلال الحرب في لبنان (1975-1990)، فهي الأبلغ أثراً في المدى البعيد. والمشروع جاء ليجرح ذاكرة موحدة للبنانيين دفعوا عليها اثمانها غالية، بدعوتهم الى التوغل في مجتمعات متناحرة من طريق تضخيم الفروقات والتركيز عليها بدل التركيز على المشترك وتنميته ومراكمته.
 ليس صحيحاً أن قانون الانتخابات هو مجرد آلية ومعبر لتشكيل أكثرية نيابية ولا يؤثر في مسيرة اللبنانيين نحو التوحيد وبناء الدولة والمؤسسات وتنتهي مفاعيله بإقفال صناديق الإقتراع. فهو مرآة للواقع ومطوّر له في عبر ديناميات يُطلقها لبلوغ مراتب أعلى في مستويات الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالقانون عضوي ومفاعيله تتجاوز اللحظة الانتخابية الى البنيات الاجتماعية وليس مجرد آلية لانتاج السلطة. والمرتكزات الاجتماعية والسياسية والثقافية وسواها للمجتمع اللبناني سوف تهتز بمجرد القول بهذا الطرح وحتى قبل إقراره. ماذا سيحل بالأحزاب خصوصاً العلمانية والقومية والليبرالية المختلطة عندما نجعل من كل طائفة حزباً ومن كل حزب طوائف. ألايفكك ذلك الأحزاب المركبة لمصلحة الأحزاب الصافية طائفياً فتنتصر مقولة "الشعوب اللبنانية".
من المؤسف والمعيب حقاً أن يكون "الطائف" الآتي في السنة 1990 إثر الحرب اللبنانية أرقى بدرجات من الطرح المسمى أرثوذكسياً لأنه يجيب على بعض هواجس الطوائف وليس كلها من جهة، ويفتح الطريق على الديموقراطية والمواطنية من جهة أخرى.
وحتى لا يتهمنا الهجّاؤون من دعاة المشروع وأساطنته بالسلبية وقد رفعوا في وجهنا شعار "أعطونا البديل". أود أن أقول بَداهةً بأن ذلك ينطوي على اعتراف ضمني وعلني بفساد الطرح ولامشروعيته. وأضيف بأن ثمّة تجاهلاً مقصوداً لمشاريع القوانين المطروحة لاسيما منها مشروع فؤاد بطرس الذي أنتجته مجموعة من الخبراء والسياسيين المعتدلين الذين لا يرقى الى وطنيتهم وخبرتهم أي شك. كما أريد أن أذكر أصحاب الذاكرة الانتقائية أن "حركة التجدد الديموقراطي" قدمت الى لجنة بطرس في السنة 2005 اقتراحاً  يجيب على معظم مخاوف وهواجس اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، ويلبي الى حدّ معقول طموحاتهم وانتظاراتهم.
يقوم هذا المشروع على فلسفة سياسية-اجتماعية واقعية ومستقبلية تراعي في آن واحد الهوية التكوينية المركبة للفرد اللبناني وانتماءاته الأولية، والعقيدة السياسية، والوضعية الاجتماعية-الاقتصادية، وتعطي للمواطن اللبناني فرصةً للتعبير عن معظم الهواجس والتطلعات والمصالح معاً وبطريقة حرّة. أبرز عناصر هذا المشروع، المزاوجة بين الأكثري والنسبي مع تأهيل، ومراعاة للمناصفة والمناطقية، في دوائر متوسطة تحترم مستلزمات "الطائف"، وتحقق مرحلياً نقلة نوعية بجرعة مدروسة، من النظام الأكثري (1960) الى نظام مركب مُتدرج، يُرفع فيه منسوب النسبية تباعاً ويخفض الأكثري طبقاً للنضوج السياسي-الاجتماعي والتحولات المحققة في المجتمع وتشكيلاته السياسية.
غالب الظن أن الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة، وبكل فروعها وبالتكافل والتضامن، حققت القسط الأول من أهدافها الخبيثة خلال طرحها المشروع ومناقشته ذلك بسبب "نجاحها بل تفوقها" في تضليل الرأي العام وتسعير أتون الطائفية والمذهبية (المشتعل أصلاً) رافعةً بذلك منسوب العصبية والغرائزية الى الحدّ الأقصى الذي يُعزز مواقعها، ويُؤمن لها عشية الانتخابات، وفي معزلٍ عن أي قانون، عائداتٍ انتخابية لا بأس بها. في هذا الوقت غابت أو غُيّبت قوى وأحزاب تاريخية عَلمانية وقومية عريقة في مناهضتها للطائفية، جراء تبعيتها للخارج، أو تخبطها في أزماتها الداخلية، أو اصطفافها وراء هذا أو ذاك من القوى الطائفية الكبيرة القاطرة طمعاً بوهم مقعد نيابي، كُل ذلك على حساب المبادىء والتاريخ والتراث.
حسناً فعل رئيس الجمهورية وبعض النواب المستقلين وأحزاب الاعتدال والإصلاح وبعض الصحافة والنُخب والمجتمع المدني في مقاومتهم للمشروع ونقده وتعريته والاستعداد للطعن به، مما خفّف من أضرار السموم التي نفخها في الحياة السياسية والمجتمع اللبناني ومهّد لإسقاطه. "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً…"، "مبروك لخلود ونضال".

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,099,294

عدد الزوار: 6,978,443

المتواجدون الآن: 75