مصر و «حزب الله»

تاريخ الإضافة الخميس 7 أيار 2009 - 10:23 ص    عدد الزيارات 724    التعليقات 0

        

في الجوهر، تدلل قضية «خلية حزب الله» في مصر والخلاف بين الحزب والدولة المصرية الذي اكتسب معها زخما علنيا جديدا على محورية التناقض الراهن في الشرق الأوسط بين منطقين للفعل السياسي، أولهما يرتكز على الدولة الوطنية ويعول على أدواتها السيادية لإدارة صراعات المنطقة سلماً وحرباً والآخر يعمل بهذه الدولة معاول الهدم والاجتزاء معتمدا على حركات وتنظيمات تنشط في داخلها غير معترفة بشرعيتها وتتحرك إقليميا عبر حدودها غير عابئة بمقتضيات سيادتها. يتقاطع مع هذا التناقض ويوسع من رقعته الغياب التام للدولة الوطنية أو حضورها الضعيف في العديد من ساحات الصراع الرئيسية في الشرق الأوسط، وكذلك النزوع المتنامي في الآونة الأخيرة لبعض دول الشرق الأوسط القوية والدول الخارجية النافذة في المنطقة إلى تجاهل مبدأ سيادة الدولة الوطنية في ممارستها لفعلها الإقليمي ودفاعها عن مصالحها. وواقع الأمر أن إدراك عمق التناقض بين منطقي الدولة واللادولة وتداعياته إنما يعد المدخل الأهم لمقاربة شارحة لمواقف الطرفين المباشرين لقضية الخلية بين مصر و «حزب الله»، وللكيفية التي وظفت بها أدوار أطراف أخرى معنية بها كـ «حماس» والدولة اللبنانية وإسرائيل وإيران بعيدا عن سطحية خطابات التبرير الايديولوجي ورداءة حملات الهجوم الإعلامي وارتداداتها.

صنفت مصر الدولة ونخبة الحكم، وكذلك القطاع الأكبر من الرأي العام وقوى المعارضة باستثناء جماعة «الإخوان المسلمين» نشاط عناصر «حزب الله» على الأرض المصرية وعبرها كاعتداء على سيادة مصر وتهديد لأمنها القومي، وجاء هذا التصنيف مناقضاً لادعاءات البعض داخل مصر وخارجها، ووظفت الحكومة المصرية لمواجهة هذا النشاط أدوات الدولة الأمنية والقضائية والسياسية. وكان لافتا استناد الموقف الرسمي في تعامله مع قضية الخلية إلى مقولات أربع جمع بينها الانتصار لمنطق الدولة الوطنية وفعلها السياسي المسؤول.

تمثلت المقولة الأولى في تفنيد ما قالته قيادة «حزب الله» من أن الهدف من نشاط عناصره في مصر كان نصرة المقاومة الفلسطينية ضد المحتل الإسرائيلي بتقديم العون العسكري واللوجيستي لحركة «حماس» في قطاع غزة وذلك بالتشديد على أولوية الدعم الذي قدمته وتقدمه الدولة المصرية للشعب الفلسطيني بغية استعادة حقوقه المشروعة عن طريق المفاوضات، وعلى أن مزايدة البعض على الدور المصري المسؤول لم ترتب سوى الزج بالفلسطينيين إلى أتون مغامرات عسكرية كلفتهم الكثير من الخسائر البشرية والمادية (حرب غزة الأخيرة). ثم اشتبكت المقولة الثانية مع وضعية «حزب الله» في لبنان كحركة مقاومة مسلحة قوضت طويلا، حسب القراءة المصرية الرسمية، إمكانية قيام دولة لبنانية قادرة على احتكار الاستخدام المشروع للقوة العسكرية وفرض احترام النظام العام واتهمت مصر الحزب بالعمل على تصدير «الفوضى» التي أنتجها في لبنان إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط بما فيها مصر صاحبة الدولة المستقرة ذات التاريخ الطويل. أما المقولة الثالثة فرامت الربط بين فعل وممارسات «حزب الله» وأجندة إيران كدولة إقليمية اعتمدت التدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية كسياسة ثابتة تهدف منها إلى توسيع مساحات نفوذها في المنطقة والهيمنة على مقدراتها، وهو ما دلل عليه المسؤولون المصريون بإشارات متواترة إلى دور ايران في العراق وموقفها العدائي من البحرين واستيلائها على الجزر الثلاث المتنازع عليها مع دولة الأمارات العربية المتحدة وتدخلاتها المستمرة في لبنان عبر «حزب الله» وفي الشؤون الفلسطينية عبر «حماس» وتحت يافطة المقاومة. بعبارة بديلة، يختزل دور «حزب الله» هنا في إدعاء أنه أداة لإيران ولخدمة سياستها الإقليمية الساعية لزعزعة استقرار الدولة الوطنية في مناطق متفرقة من الشرق الأوسط. أخيرا، استدار الموقف المصري الرسمي إلى الداخل لتفنيد حجج بعض الأصوات التي تعالت للدفاع عن «حزب الله» وعن شرعية هدف دعم المقاومة الفلسطينية، وجلها ارتبط بجماعة «الإخوان المسلمين» وبعض الكتاب القريبين فكريا منها أو من اليسار العروبي، ونزع الموقف الرسمي عن هذه الجماعات صفة الوطنية متهما إياها بالخلط الخطير بين قدسية الدفاع عن الدولة وسيادتها وأمنها القومي من جهة ومعارضة نظام ونخبة الحكم من جهة أخرى. ولم يفلح سعي برلمانيي جماعة «الإخوان» إلى التأكيد خلال مداولات مجلس الشعب المصري حول القضية على كون «الأمن القومي خطاً أحمر لا يقبل المساس به» في التخفيف من وطأة الهجوم الرسمي عليها، وجاء البيان الرسمي لـ «الإخوان» (في 22نيسان / ابريل 2009) الذي أكدوا فيه على «ثبات موقفهم الداعم للمقاومة... وعلى ضرورة أن تصون الحكومة المصرية أمننا القومي بإقرار العدل ومحاربة الفساد ودعم المقاومة ثم التصدي لمن يريد العبث بهذا الأمن» ليعمق من شكوك قائمة بالفعل حول مدى استعداد الجماعة للاعتراف بأولوية الدولة الوطنية وتقديم سيادتها على كل ما عداها من اعتبارات.

أما «حزب الله»، وإلى جانب التوظيف المنظم لمقولتي «شرعية المقاومة» و «شرعية دعم المقاومة»، فصاغ موقفه من قضية الخلية مرتكزا إلى المسكوت عنه في منطق الدولة الوطنية والمتعلق بإخفاقها في استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وبغيابها أو حضورها الضعيف في ساحات الصراع الرئيسية في الشرق الأوسط وبالاختراق المستمر لسيادتها من قبل دول إقليمية قوية وخارجية كبرى تعادي مشروع المقاومة.

أنتجت قيادة الحزب، على لسان الأمين العام السيد حسن نصر الله ونائبه الشيخ نعيم قاسم وغيرهما، رابطة سببية بين عجز الدولة المصرية - وغيرها من الدول العربية الفاعلة في مسار التسوية التفاوضية بين إسرائيل والعرب - عن تمكين الفلسطينيين من تكوين دولتهم المستقلة وشرعية قيام أطراف أخرى كـ «حزب الله» بدعم حركات المقاومة في فلسطين، وفي مقدمها «حماس». أعاد الحزب هنا هجومه السابق على الموقف المصري الرسمي من حصار غزة والحرب الإسرائيلية الأخيرة عليها إلى واجهة خطابه العلني ليدلل به على غياب فاعلية دور الدولة المصرية وإخفاقها في حماية الفلسطينيين من وحشية العدو الإسرائيلي المتكررة ضدهم. وإزاء اتهام مصر للحزب بتقويض الدولة اللبنانية والحيلولة دون احتكارها للاستخدام المشروع للقوة العسكرية ونشر فوضى السلاح إلى دول أخرى في المنطقة، تمسكت قيادته برؤيتها التقليدية الذاهبة إلى أن ضعف الدولة اللبنانية وغياب قدرتها على الدفاع عن أراضيها أو تحريرها من المحتل الإسرائيلي شكّلا الظرف الموضوعي لتطور «حزب الله» كحركة مقاومة حررت التراب اللبناني وتسعى اليوم إلى عون المقاومة الفلسطينية العاملة في أرض محتلة لا دولة وطنية فيها ولا دولة عربية تنتصر لها. ثم اتسق مع ذلك موقف قيادة الحزب المقلل من أهمية انتفاضة مصر لأمنها وسيادتها وتشديدها على قدسيتهما. ففي السياق الأيديولوجي والسياسي الناظم لفعل «حزب الله»، لا أولوية لدول وطنية يخترق أمنها، في رؤية الحزب، من قبل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة المعاديتين لمشروع المقاومة ولا اعتراف بإلزامية مقتضيات سيادة تعلو على شرعية المقاومة.

نحن أمام منطقين للفعل ولقراءة تقلبات السياسة في الشرق الأوسط يتناقضان بصورة جوهرية وعميقة. وأغلب الظن أن تقاطعات منطقي الدولة واللادولة وتدافعات القوى الواقفة وراء كل منهما لن تختفي من عالمنا سريعا.

* أكاديمي مصري.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,226,169

عدد الزوار: 6,941,206

المتواجدون الآن: 113