النظام الإقليمي يزحف على النظام العربي!

تاريخ الإضافة الثلاثاء 17 شباط 2009 - 7:27 ص    عدد الزيارات 633    التعليقات 0

        

مصطفى الفقي

عاش أصحاب الاتجاهات القومية في العالم العربي في العقدين الأخيرين حالة من القلق تعاودهم كلما طغى اصطلاح «الشرق الأوسط» على تعبير «المنطقة العربية»، وكان مردّ ذلك أنهم يتوجّسون خيفة من أن يكون استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» الجديد أو حتى الكبير مؤشراً لذوبان القومية العربية وتراجع الشخصية العروبية للمنطقة، في ظل إدخال دولٍ أخرى في إطار المنظومة القائمة. ويبدو أن تلك المخاوف قد تجددت مؤخراً مع الحديث المتكرر بل والمتصل حول الصيغ الجديدة لمستقبل المنطقة خصوصاً بعد أحداث غزة والتداعيات الناجمة عنها عربياً وإقليمياً، إذ تبدو نتائج تلك الأحداث أكبر بكثير مما كنا نتصور، ولذلك فإنني أستأذن القارئ في طرح عددٍ من الأفكار المرتبطة بهذا الموضوع وأهمها:

أولاً: إن الجريمة الإسرائيلية التي شهدها قطاع غزة في نهاية العام الماضي ومستهل هذا العام تبدو الآن جزءاً من مخـــططٍ صهيوني، كان يهدف إلى تكريس الانقسام الفلسطيني أولاً والتمهيد لتصفية القــــضية ثانياً، وإحداث مزيدٍ من التوتر في العلاقات العربية - العربية ثالثاً، بل إنني أظن أن إسرائيل كانت مـــستعدة للمجازفة للقيام بعملٍ يصل إلى مستوى يقترب من حرب 1967، أو حتى حرب لبـــنان 2006، وكان واضحاً أنها لا تمانع في التــــحرش عسكرياً بدول الجوار العربي بما في ذلـــك مصر ذاتها، لأنه على ما يبدو أن العقيدة القــــومية الإسرائيلية استقرت أخيراً على مــــبدأ ديمومة الحرب مع العرب ورفض خيار السلام في كل الظروف، كما يبدو أيضاً أن إسرائيل لا تراهن على القبول الطوعي لوجودها في المـــــنطقة، بل انها تتعامل مع الجميع من منطق فرض القبول القسري بدلاً من التعايش المشترك والاندماج الإقليمي. إن إسرائيل وصلت إلى قناعة ترفض معها مبادئ أية تسوية سلمية مع رغبة جامحة في السيطرة والهيمنة وفرض «الأمر الواقع» على العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً.

ثانياً: إن أزمة غزة الأخيرة كانت بمــــثابة دعوة مفتوحة لدول الشرق الأوسط غــــير العربية لكي تقـــتحم النظــــام العربي، وتتــحول إلى لاعب فاعل فيه. أعني بذلك إيران بالدرجة الأولى ثم بعد ذلك تركيا في درجة ثانية، ولــــقد اتــــضح ذلك بجلاء من طبيعة التحركات والمشاورات والمبادرات التي شهدتها المنطقة، وأصبحنا فجأة أمام ظاهرة «الاستقطاب الإقليمي» على نحوٍ غير مسبوق، حيث تجاوبت انظمة عربية مع هذه الأجندات الإقليمية الجديدة وارتبطت بها وتفاعلت معها، حتى أصبحت الصورة في الشرق الأوسط شبيهة بفترة المشاريع الأميركية التي اعتـــــمدت على نظرية «الفراغ» ومبدأ أيزنهاور في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، أو هي أيضاً قريبة الشبه من مشاريع إسرائيل حول الموضوع نفسه، والتي جسدتها أنشطة شمعون بيريز في المحافل الدولية وأهمها منتدى دافوس في العقد الأخير، وفي الحالتين توجس العرب خيفة وشحذ القوميون أقلامهم دحضاً لتلك المشاريع، وتخوفاً من ذوبان الكيان العربي في كيانٍ شرق أوسطي أكبر، ورأى فيها الجميع محاولةً لتمييع الهوية العربية وإدماجها في منظومة إقليمية تحرمها صفة التفرد، وتطيح بالخريطة القومية كما يراها غلاة العروبيين.

ثالثاً: يجب أن نعترف هنا أن النظام «الإقليمي» ومشاريعه المختلفة لم تكن واردة من الخارج في كل الحالات، بل إن هناك أصواتاً عربية، يصعب اتهام إخلاصها القومي، حاولت هي الأخرى توسيع دائرة الحركة السياسية في المنطقة بدعوة إيران وربما تركيا أيضاً لكي تكونا عضوين مراقبين في جامعة الدول العربية، وكلها اجتهادات لا ينقصها حسن النية ولا تدفعها مشاريع أجنبية أو أجندات خارجية، فنحن نظن أن إدخال قوتين إسلاميتين شرق أوسطيتين قريباً في دائرة المنظومة العربية قد يكون إضافة إيجابية، وليس بالضرورة خصماً من عائد العروبة، بل قد يكون إعادة لإنتاج الطرح القومي من منظورٍ جديد يشتبك مع الآخر في حوارٍ إيجابي يخدم قضايا المنطقة كلها.

رابعاً: إن هناك إحساساً صامتاً بأن المشروع القومي تعثر منذ هزيمة 1967، وأن المشروع الإسلامي اختنق منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، كما أن المشروع الاشتراكي الذي قسَّم المنطقة العربية في مرحلة معينة توارى هو الآخر، ولم يعد أمام العرب من اختبارٍ جديد إلا التفكير في مشروعٍ شرق أوسطيٍ يحوي الإيجابيات ويبتعد عن السلبيات خصوصاً في إطار حال الإحباط العام التي تشهدها المنطقة، والعربدة الإسرائيلية التي لا تتوقف، لا سيما أن تشابك المصالح القومية وتداخل الأجندات الإقليمية جعل «الشرق الأوسط» مأخوذاً كوحدةٍ واحدة بالنسبة للنظرة الغربية التي تتعامل معه وتتأثر به وتؤثر فيه.

خامساً: لقد صدرت دعوة منذ فترة وجيزة من وزير خارجية مملكة البحرين تحدث فيها صراحةً عن نظامٍ إقليمي جديد يدخل فيه العرب ومعهم إيران وتركيا وإسرائيل أيضاً، لأن المنطقة أصبحت بحاجة إلى نظرةٍ غير تقليدية تفتح الباب أمام اجتهاداتٍ جديدة ومبادراتٍ فاعلة قد تخرج المنطقة من عنق الزجاجة وتعفيها من الحروب الكلامية والملاسنات الإعلامية خصوصاً إذا جرى الاتفاق على رعاية المصالح المتبادلة واحترام السيادة الوطنية والمحافظة على شخصية الإقليم وهوية أطرافه.

سادساً: لقد أثبتت تجارب العقود الأخيرة أن انقسام المنطقة بين دول عربية وأخرى غير عربية استنزف الجهود واستهلك الطاقات، وأعطى اسرائيل فرصة تبديد القوى العربية والتهام جهود دول المنطقة لخدمة غاياتها وتحقيق مصالحها، ولا شك أن دخول قوى غير عربية في هيكل النظام الإقليمي سيؤدي بالضرورة إلى تحجيم الدور الإسرائيلي ووضع حدودٍ أمام حركته المطلقة، وسيفتح الأبواب أمام عصرٍ جديد يتحول به الشرق الأوسط من عبءٍ على المجتمع الدولي إلى شريكٍ فاعل يأخذ بقدر ما يعطي، وتكون قدرته على الشراكة في القرار الدولي أمراً يختلف عن الوضع السلبي الراهن.

سابعاً: إن التشدد الإيراني والاعتدال التركي يمكن لهما أن يسهما في دعم القضايا العربية أمام أطرافٍ أخرى شريطة ألا يتحول الشرق الأوسط بصورته المحتملة إلى تكتلٍ إسلامي يقلق الآخر ويخيف الغير، إذ أننا لا نتصور أن نضحي بتكتلٍ قومي من أجل تكتلٍ دينيٍ بديل، فالمطلوب كان ولا يزال هو أن نضع المنطقة على خريطة العالم بشكلٍ أفضل بكثير مما هي عليه الآن، والأمر يستتبع في هذه الحالة شيوع تيار الإصلاح في المنطقة، واتساع مساحة الحريات وتنامي الظاهرة الديموقراطية، ورعاية حقوق الإنسان وحماية الأقلّيات وصيانة البيئة، عندئذ يكون من حقنا مخاطبة العالم بلغة جديدة ومفهوم مختلف ونغمة مقبولة.

هذه أفكارٌ نسوقها، هي أقرب إلى محاولة التفكير بصوت مرتفع في ظل هذه الظروف المأسوية التي يمر بها العالم العربي، والذي تمزقه الانقسامات وتعصف به المحاور وتبدد طاقاته تحديات بلا حدود، لذلك فقد حان الوقت الذي نتحدث فيه بلغة جديدة ومنطقٍ مختلف لأن المستقبل يحتاج إلى الأفكار المتجددة والرؤى الحديثة، ويدعو الأطراف كافة إلى مواجهة التطورات والتداعيات بشكل يغير الصورة الحالية، ويعيد الدولة العبرية إلى حجمها الطبيعي عندما ترى أن الدولة الفارسية والدولة التركية ومعهما الدول العربية كافة، يدعونها إلى الانصياع للشرعية الدولية والتوقف عن السياسات الرعناء والتصرفات غير المسؤولة والجرائم المتكررة.

إنني أقول ذلك وأنا أرقب شواهد تعزز ما أقول، فلقد أثبتت حرب غزة الأخيرة أن التشرذم الفلسطيني جزء من أجندات إقليمية أخرى، وليس بالضرورة نتاجاً فلسطينياً خالصاً، لذلك فإنني لا أتجاوز حدودي إذا قلت مرة أخرى ان النظام الإقليمي بدأ يزحف على النظام العربي!

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,128,357

عدد الزوار: 6,935,980

المتواجدون الآن: 86