عاشوراء بين الواقع والأسطورة

تاريخ الإضافة الإثنين 16 شباط 2009 - 10:57 ص    عدد الزيارات 823    التعليقات 0

        

شوقي بزيع

تخترق واقعة كربلاء في بعدها الرمزي الحدث الذي تنعقد حوله وتتحول الى طاقة هائلة للإيحاء وبؤرة واسعة للاستدلال والقراءة وتلمس المصائر. واذا كانت الفاجعة نفسها حدثا واقعيا ذا بعد ديني وأخلاقي واضح، فإن قراءة الطقوس التي أحاطت بها على المستوى الشعبي تعود بنا الى فاجعتين سابقتين كان لهما التأثير البالغ في تأجيج الخيال البشري وتشكله داخل فضاءي الحياة والموت وما يتفرع عنهما من لواحق. هاتان الفاجعتان تتغذى أولاهما من الأسطورة فيما تتصل ثانيتهما بالدين، وبالديانة المسيحية على وجه الخصوص. لكن كلاً من الفاجعتين السابقتين على كربلاء تنطلق من قراءة تأويلية للعالم، بحيث تشكل ثنائية الموت والقيامة في شخصية المسيح النسخة الإيمانية المعدلة عن شخصية البطل السومري تموز، او شخصية معادلة الفينيقي ادونيس المطعون بأنياب الخنزير البري.
إن شخصية الإله القتيل تكاد تكون الرمز المشترك بين شعوب الشرق القديم، والتي انتقلت فيما بعد لتحل في وجدان شعوب أخرى كاليونان وقبرص وكريت وصقلية وغيرها. فيما تشكل شخصية المرأة زوجة وحبيبة. البعد الأنثوي للفاجعة المتجددة. فالأنثى في الأسطورة هي التي تحمل الآلهة بدموعها وتوسلاتها على إعادة حبيبها إلى الأرض مع الربيع العائد ويتحول الدم المسفوك الى ورود وزنابق وشقائق نعمان. هكذا تتكرر الفاجعة بأسماء مختلفة حيث الرجل هو الذي يُقتل باستمرار، وحيث المرأة تحتضن الموت وتخترقه وتدفعه الى الانبعاث بدءاً من إنانا وديموزي في حضارة بابل وليس انتهاء بإيزيس وأوزيريس عند المصريين. ويرى جيمس فريزر في كتابه الشهير «الغصن الذهبي» بأن موجة «من التأثير الشرقي حملت الاحتفال التموزي منذ أقدم الأزمنة واندمج بعضها ببعض بضغط من الحضارة الرومانية الى ان جاءت الكنيسة التي جردتها من بعض خصالها الفظة وغيرت الأسماء والعناوين بمهارة سمحت لها بالبقاء وأظهرتها بصورتها النصرانية. فيما يرى القديس جيروم أن بلدة بيت لحم، مكان ولادة المسيح، كانت تظللها غابة مكرسة لإله سوري أقدم من يسوع المسيح هو أدونيس وان المكان الذي بكى فيه الطفل يسوع كان الناس يندبون فيه حبيب فينوس.
إن جدلية الموت ـ الحياة هي الأساس الأهم الذي يربط بين الفواجع الثلاث وتنبني فوقه رمزية الجسد الاستشهادي في بعده الأسطوري كما في بعده الديني، لذلك فقد شكلت صورة الحسين الشهيد المعادل الإسلامي الشيعي لصورة الفداء المسيحي المتصلة بدورها بدم الشرق القديم. وإذا كان مفهوم الانبعاث يوحد بين شخصيتي أدونيس والمسيح عن طريق القيامة، فإن الفاجعة الكربلائية تحل الفكرة محل الجسد وتبقي على الحسين الشهيد حياً في النفوس والضمائر الى يوم الدين. فالحسين الذي لا يقوم بجسده من الموت يتحول الى مشهد ماثل في الأزمنة عبر ذكرى عاشوراء المتكررة سنة بعد سنة من جهة، وعبر حفيده المهدي الذي يحيا في الخفاء، لكنه ما يلبث، وفق المعتقد الشيعي، أن يظهر في آخر الأزمنة «ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً».
على أنه ليس من قبيل الصدفة المجردة ان يشكل النهر في الحالات جميعها الخلفية الرمزية لفاجعة الاستشهاد. فهو في الأساطير الشرقية القديمة نهر ابراهيم الذي تصطبغ مياهه باللون الأحمر شتاء كل عام بما هو رمز لدم أدونيس المهدور، فيما تشكل معمدانية الماء عند المسيحيين استمراراً للتقليد الذي افتتحه يوحنا العمدان بتعميد المسيح في نهر الأردن. أما واقعة كربلاء فتبدأ من أحشاء الصحراء (الموت) وتنتهي على ضفة النهر (الحياة). كأنها من بعض وجوهها رحلة قلقامش الباحث طويلاً من عشبة الخلود التي توهم من الموت. وإذ يحول جماعة يزيد بين مياه الفرات وبين أصحاب الحسين الممنوعين من شراب الدنيا، فإن هؤلاء الأخيرين يفوزون بشربة لا يظمأون بعدها أبداً، كما تقول السيرة.
أما على مستوى الشخصيات النسائية فإن حضورها الهام ينعكس بشكل متفاوت تبعاً لتبدل العصور والمعتقدات والمفاهيم. وهي يتمثل في انتقال العلاقة من إطار الجنس والعشق المجردين في الأسطورة الوثنية الى اطار الأمومة التي تحتضن الشهادة في سيرة المسيح والى اطار الأخوة التي تلعب أخطر الأدوار وأصعبها في واقعة كربلاء. ذلك أن الفكر الديني أعطى للمرأة دوراً يتجاوز الاشتهاء الجنسي المجرد ليضعها في إطار أكثر نزاهة وتسامياً مما سبق. فالسيرة الحسينية ترسم لزينب إطاراً يكاد يكون خارقاً على مستوى الشجاعة والصبر والقدرة على الاحتمال. انها الشخصية النسائية الرئيسية في كربلاء. فهي التي تنفخ في الجماعة روح الثبات والمواجهة، وهي التي تستقبل ببسالة جثث أهلها المستشهدين، وهي التي تحتضن الأطفال والمرضى وتواسيهم، وهي الخطيبة المفوهة التي تقف أمام يزيد برباطة جأش وإمعان في التحدي ومتابعة للمواجهة بعد انقضاض المعارك.
على أن البعد الذي تمثله سكينة في السيرة الحسينية يعود هذه المرة ليتقاطع في إطاره العاطفي مع الروح الأهلية للأنوثة المفجوعة، حيث تشكل المراثي المنسوبة الى سكينة، اثر استشهاد القاسم، امتداداً معدلاً لما سبقها من فواجع. واللافت هنا أن الوجدان الشعبي الشيعي لا يهتم على الإطلاق بالوجهين الاجتماعي والأدبي لشخصية سكينة بنت الحسين بل تكاد صورتها تتسمر عند لحظة الفاجعة وتمحي بعد ذلك. في الاستعادة الشعبية السنوية لواقعة كربلاء يتحوّل مشهد عرس القاسم الى طقس مماثل لمراثي عشتروت لأدونيس القتيل والذي التقطه الشاعر الاسباني غارسيا لوركا بعد ذلك بثلاثة عشر قرناً في مسرحيته «عرس الدم». وكثيراً ما تعمد النسوة في القرى الشيعية إلى تمثيل هذا العرس المأساوي عن طريق اختيار شاب وفتاة يافعين يرمزان الى القاسم وسكينة داخل طقوس احتفالية تتراوح بين الأهازيج والندب وبين الفرح والبكاء. وقد تعمد النسوة إلى تخضيب أكفهن بالحناء، باعتبارها رمزاً لدم العريس المراق، بينما يرددن خلف قارئة مجلس العزاء الحسيني هذه الأهزوجة المؤثرة باللهجة المحكية: «نصيح من عُظم المصاب سكينا/ وين جدي ووين حيدر وينا/ وين جبرائيل وملوك السما/ ينظرون حسين لمن ارتمى/ جاسم العريس حنّوه بالدما/ وليش يا زهرا وما تحنينا». وهو ما يشبه الى حد بعيد المراثي البابلية المنسوبة الى عشتار: «ترفع صوتها بالنواح إذ فارق الدنيا/ وهي تنوح نوحها على الحشيشة الراقدة في تربتها/ امرأة قد نالها الإعياء/ طفلة أصابها التعب/ تنوح على نهر عظيم/ حيث الصفصاف لا ينمو».
وليس من قبيل الصدفة أن تعمد الأسر الشيعية في يوم عاشوراء الى صناعة نوع من الخبز الممزوج بالسكر الذي يسمونه خبز العباس وتوزيعه على بيوت القرية، بينما تعمد أسر أخرى الى توزيع نوع من القمح المطبوخ المسمى «الهريسة» على البيوت المجاورة. فهذا الطقس كما يروي جيمس فريزر كان يمارس في المناطق السورية إحياء لذكرى أدونيس القتيل. ويضيف أن النساء في تلك الذكرى كنّ يقتصرن في أكلهنّ على القمح المنقوع، والذي تعادله تقدمة الخبز عن المسيحيين، حيث تشكل حبة القمح رمزاً لروح الشهيد التي تُدفن في الأرض ثم تنبت من جديد. وهو ما التقطه الشاعر اللبناني خليل حاوي قائلاً بلسان زوجة لعازر الذي بعثه المسيح من الموت «من يظن الموت محواً/ خلّه يحصي على البيدر غلات الحصاد/ ويرى وجه حبيبي/ وحبيبي كيف عاد».
وإذا كانت واقعة الصلب، بحسب المعتقد المسيحي، حادثة ناجزة ومنقضية باعتبار أن البشرية التي تم افتداؤها بدم المسيح لا تحتاج إلى مزيد من إراقة الدماء، فان دم الحسين وأصحابه قابل لأن يجدد نفسه في كل عصر. إنه دم غير قابل للتخثر. دم ينزف باستمرار كما لو أن الحادثة التي وقعت في لحظة غابرة من التاريخ قد وقعت للتو. لذلك فإن بعض المشاركين في إحياء الواقعة الكربلائية يعمدون الى ضرب رؤوسهم بالخناجر وأجسادهم بالسلاسل لكي يظل جرح المأساة فاغراً فاهاً وغير قابل للنسيان. فالفتيان المنذورون للحسين لا يكفون عن ضرب رؤوسهم الحليقة بالسيوف والسكاكين الى ان يفقدوا الوعي ويسقط بعضهم مغشياً عليه. وهذه العادة بدورها تشكل استمراراً لما كان يفعله السوريون القدماء حيث يروي الفيلسوف السوري يمليخوس «بأن الكثيرين في مواسم بكاء أدونيس كانوا يضربون أنفسهم بالسياخ ولا يشعرون بأي ألم. وكانوا يضربون رؤوسهم بالفؤوس ويجرحون أذرعهم بالخناجر ولا يعرفون ما هم فاعلون».
غير أن عناصر الاشتباك بين الأسطوري والواقعي وبين الديني والطقوسي تعيد إلى الأذهان، رغم المبالغات السلبية التي تشوبها، تلك المصالحة التي أقامها الإسلام أول نشوئه بين قيمه الوليدة وبين التقاليد السابقة عليه عبر عملية التفاف ذكية دفعته إلى تهديم الأصنام من جهة والى الحفاظ على الكعبة المشرّفة بوصفها بؤرة دائمة للقداسة من جهة أخرى. وكما قام الإسلام الأول على عملية مركبة قوامها الهدم والتأسيس المتواصلان فإن الحسين في كربلاء بدا وكأنه يحقق هجرة الإسلام الثانية الهادفة إلى التطهر والتقويم، بعد أن بدأ الفساد ينخر الأرض مرة ثانية زمن يزيد بن معاوية وباتت البوصلة بحاجة ماسة الى تصويب. وحين اختار الحسين بن علي من اختارهم، او اختاروه، للسير على درب الشهادة فقد بدا وكأنه يؤسس العالم بعد الطوفان ويحول الركب الذي يقوده إلى سفينة مماثلة لسفينة نوح. إنها سفينة تم انتقاء ركابها بعناية بالغة وتحوّل كل منهم إلى رمز فريد على طريق الخلاص.
لم تكن السيرة الحسينية المكتوبة بهذا المعنى سوى جزء يسير، ومشوب بالمبالغات الشعبية الملتبسة، من ذلك النص الجسدي الأعظم الذي كتبه الكربلائيون باللحم والدم المجردين. وكان أبطالها شخوصاً مختارة بعناية على مسرح المواجهة بين الحق والباطل. كما كان لا بد وسط تلك الثنائيات اليقينية ان تظهر على خشبة ذلك المسرح الدامي شخصية من طراز الحر الرياحي الذي ينتقل من ضفة الى ضفة بعد ان تحول رأسه إلى غابة من الأسئلة والوساوس. تلك الشخصية الحائرة التي تشبه شخصية هاملت في مسرح شكسبير أضافت للواقعة نكهتها الخاصة، ومكّنت الشك من أن يصبح ممراً لليقين. وهي النقيض الكامل لشخصية عمر بن سعد الذي وقف حائراً بدوره بين ملك الري وبين نصرة الحسين قبل أن ينحاز بصورة نهائية الى شهوة الملك. كان هناك في الوقت نفسه الشيخ الطاعن في السن كحبيب بن مظاهر، والأرستقراطي المتخلي عن امتيازاته كزهير بن القَيْن والعبد الأسود جون الذي استبدل سواد لونه ببياض قلبه، وعبودية جسده الترابي بحرية اختياره الطوعي للاستشهاد على مذبح الحقيقة الناصعة.
لم يكن من قبيل الصدفة أيضاً أن تطلق العامة على السيرة الحسينية المكتوبة تسمية السفينة، التي وحدت على طريق النجاة أولئك القادمين من مختلف الطبقات والأجناس والألوان والأعمار، حيث يلتقي الكهول والطاعنون في السن مع من هم في شرخ الصبا كعليّ الأكبر والقاسم بن الحسن. الطفولة المغدورة شكلت بدورها أحد وجوه اللوحة الكربلائية التي لا تمحى والتي أوصلت المشهد المقاوم إلى ذراه الأخيرة. فالطفولة الغضة بما تمثل من براءة وطهر وانبثاق أولي لبرعم الحياة المتفتح هي الزمن الذي لا ينبغي ان يصيبه الموت او يمسّه بسوء. ولأنها النقطة الأبعد عن الموت فهي تتحول الى واحة للترجيعات وغابة للحنين ومساحة للأمان والطمأنينة. انها الزمن الهلامي المحايد الذي يجدر به أن يظل بمنأى عن الحروب والأحقاد ونزاعات الكبار. وحين تُبقر أحشاء الطفولة فإن الحرب تكون قد وصلت الى ذروة وحشيتها ونزعت القناع بشكل نهائي عن وجوه الجلادين. والحسين حين حمل طفله الرضيع بين يديه طلباً للماء فإنه أراد أن يختبر النقطة التي بلغها أعداؤه من الحقد والكراهية. حتى إذا اخترقت سهامهم أحشاء الرضيع أدرك أنهم بلغوا نقطة اللاعودة. وأن صلتهم ببقايا ضمائرهم قد انقطعت إلى غير رجعة.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,178,620

عدد الزوار: 6,759,187

المتواجدون الآن: 125