من «الشهادة أو النصر» إلى «الشهادة هي النصر»

تاريخ الإضافة الأربعاء 11 شباط 2009 - 2:41 م    عدد الزيارات 700    التعليقات 0

        

إياد العبدالله
يحيل الشعاران أعلاه إلى مجالين أيديولوجيين مختلفين من حيث الطرح والرهان. فإذا كان الشعار الأول من اختصاص سياسات قدست موت الأفراد كسبيل إلى تحقيق نصاب جمعي معين في الحياة الدنيا، فإن الثاني يقوم على تقديس الموت بوصفه معبراً للخلاص من الدنيوي باتجاه فوز أعظم، مفارق لفساد هذا الأخير ومحدوديته. وخير ممثل للاتجاه الأول في المجال العربي هو التيارات القومية (الناصرية والبعثية)، وللثاني هو الحركات الإسلامية الجهادية. ورغم ما قد يبدو من اختلاف بين الفريقين على صعيد الوسائل والأهداف، فثمة مشتركات تجمع بينهما من حيث ترتيب الأولويات والنواظم والهوية، تفضي إلى إجماع على تمجيد الوحدة والمقاومة، والتاريخ المقروء بلغة العبر، والبطولات والشهادة. لقد استفادت الدولة الوطنية وريثة الحقبة الاستعمارية، من ذلك المناخ الدولاني العام الداعم لفكرة تمحور السياسة حول الدولة بوصفها الأجدر في قيادة التطور من مبادرات مجتمعاتها عبر إنتاج النخب المتخصصة في الإدارة والإنتاج. ولئن ارتبط هذا الوعي لدور الدولة بواقعة التأخر، فإن العروبة السياسية التي ستستولي على الدولة، ستواجه مبدئياً هذا التأخر بمشروعٍ للتنمية المصاغة نظرياً بمفردات الاشتراكية والمقاومة. ستفشل هذه الدولة في بناء مشروعها الوطني الاشتراكي، وهذا كان بداية تآكل مشروعيتها وظهور البديل الإسلامي المختلف عنها في مرجعيته والواعد بتحقيق ما عجزت هي عنه. واللافت أن المشروع العروبي كان عنيفا في سيرورته، فالتنمية بطبعتها الاشتراكية قامت على تصفية  الفئات المالكة القديمة عبر سلسلة التأميمات وقوانين الإصلاح الزراعي، أي امتصاص استقلالية فئات المجتمع عبر انخراط التنمية في تسوية التناقضات الطبقية وانحيازها النظري والعملي لبعض السويات الاجتماعية، وإعاقة تشكل نخب اقتصادية وسياسية مستقلة. هذا بالإضافة إلى العنف المركزي في الوطنيات العربية المنضوي تحت شعار المعركة المصيرية مع الاستعمار واستطالاته الصهيونية و»الرجعية». والحال أن هذا العنف الذي شكل جوهر الشرعية لنظم العروبة الحاكمة لا يكون مشروعاً بإطلاق إلا إذا كان مقدساً بغاياته وآلياته وأسانيده وشخوص ممارسيه. وهو ما وفرته أنظمة الكفاح العروبي وأضفته على شعاراتها وقادتها. بل إنها لجأت إلى التاريخ بعد أن عرّبت وقائعه وأشخاصه واختزلته إلى بعده الصراعي الحافل بالبطولات والشهداء، وأضفت عليه هالة القداسة بوصفه الدليل والشاهد على مستقبل قادم ومشرق. الموت في سبيل الوطن هو الشعار المعلمن للموت في سبيل الله، الشعار الأثير على قلوب الجهاديين الإسلاميين. ومعروف أن كلا الطرفين أطلق على هذا النوع من الموت اسم الشهادة الذي علمنت العروبة غاياته ومضامينه ونأت به عن جذوره الدينية. فالوطن العربي هو ذلك الحيز الدنيوي المعرف بالجغرافيا والتاريخ والمصالح والسياسة، بما يمايزه عن أوطان أخرى مغايرة. أما « وطن المسلم «، كما تسوقه أدبيات الجهاد، فهو ذلك الحيز المعرف على أساس العقيدة التي لا تعترف بالجغرافيا حداً لها، وبالتالي هو وطن مفتوح يرى أن الأرض كلها، من طوكيو حتى نيويورك حسب سعيد حوا، وديعة الله بيد الأخيار من خلقه. ورغم ذلك فهو حيز طارئ مرفوع إلى سوية أخروية مفارقة للمعاش الدنيوي والتاريخي. فمن المأثورات المستشهد بها في أدبيات الشهادة الإسلامية قول عمير بن الحمام عندما أيقن أن الجنة من وراء معركة بدر: «إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه.. إنها لحياة طويلة»!
لقد نجح الإسلام الجهادي في توظيف التاريخ والموت لصالح بناء شرعية وجوده ورهانه، ساعده على هذا مآلات المشروع العروبي البائسة، وكونه الأجدر على إدارة لعبة المقدس من خلال استيلائه على الرموز والإيحاءات التي تعكسه وتعيش من خلاله، التاريخية منها والراهنة. والمتابع لتطورات المزاج العام في المنطقة، السياسي والشعبي، يلحظ احتكام السياسة إلى منظومة من المعايير القارة، تقبع الشهادة في أساسها، فمن أدبيات الحركات الجهادية في العراق إلى حركة حماس في فلسطين مروراً بحزب الله في لبنان وخصوصاً عبر قناته التلفزيونية (المنار) حيث تمجيد الموت والتضحية بالذات يجد في واقعة كربلاء ومقتل الحسين بن علي القدوة والمثال.  ملخص هذا الخطاب التضحوي على اختلاف منابعه سبق وأن لخصه حسن البنا بقوله: «إن الأمة التي تحسن صناعة الموت (...) يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت (...) فاعملوا للموتة الكبرى تظفروا بالسعادة الكاملة». هذا الخطاب المؤسس على الشهادة ونعيم الآخرة ليس خطاباً زاهداً بالحياة على الرغم من تقليله من شأن هذه الأخيرة، بل إنه خطاب يتضمن السجال مع ما يخالفه من مشاريع، ويسعى ممثليه إلى الهيمنة على السلطة والمجتمع عبر سوية أيديولوجية منسوبة إلى هذين الحقلين، مجلوبة من حقل المقدس وتاريخه وتشريعاته، ومرفوعة إلى مستوى الحقائق البديهية  التي لا مجال للأخذ والرد فيها. أمام تصدر هذا الخطاب وتغلغله في المزاج الشعبي، فإن السياقات المخالفة الباحثة عن نصاب للمشروعية داخل الحياة، والمفككة لبديهيات الموت والهوية والإجماع؛ تغدو غريبة ومستهجنة ونخبوية وموضع تشكيك وإهمال. بل إن العروبة ذاتها تتعرض الآن إلى انزياحات أيديولوجية تطال الشكل الشعاراتي والمضمون العقيدي لها. فهي حاضرة فقط بقوة الطوارئ، وهو ما تعيه تماماً الأنظمة والقوى المنتسبة لها، وما شعار «العروبة والإسلام» الذي غدا شعار المرحلة عند بعض الأنظمة والقوى التي تجمعهم قرابة أيديولوجية، إلا شكل من أشكال التطفل على الحياة ومقاومة الموت، وبديل شعبوي يؤمن الاستمرار عبر دوغمائيات المزايدة.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,112,423

عدد الزوار: 6,753,403

المتواجدون الآن: 110