قمع أم إصلاح؟

تاريخ الإضافة الخميس 9 حزيران 2011 - 6:03 ص    عدد الزيارات 511    التعليقات 0

        

قمع أم إصلاح؟

 


 
ميشيل كيلو*

 

 يتصارع في سوريا اليوم تصوران متناقضان: يقول أحدهما: الإصلاح بعد الأمن أو الأمن ثم الإصلاح، فيرد الآخر: لا امن بلا إصلاح·

تكمن مشكلة التصور الأول في الطريقة التي يفهم الأمن من خلالها، وتقيم تساويا بينه وبين القمع، يسلبه هويته كمفهوم سياسي يكثف جملة متشابكة من العلاقات والمصالح والعقود تتيح الاختلاف وتشرعنه وتقوم عليه، دون أن يتطلب تحقيقه استخدام العنف بين الأطراف المنخرطة فيه، لأن العنف ليس وسيلة لإنتاج الإجماع داخل المجال العام، وفي العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين الجماعات المتنوعة، بما في ذلك السياسية منها· بينما يقوم القمع على العنف العاري وحده، فهو نقيض الأمن، وكثيرا ما يكون سبب تقويضه: عندما يعتمد وسيلة رئيسة أو وحيدة لإنتاج إجماع سياسي أو اجتماعي، ذلك أن ما ينتجه يكون سلبيا على الدوام، يسمح بوجود آراء ومصالح طرف واحد لا يجوز وجود غيره في الحقل العام هو الطرف المسيطر أو الحاكم، في حين يبطل ما عداه، إلا إذا انضوى تحته ورأى نفسه بعينيه وبدلالته، كرها وغصبا في معظم الحالات· بينما إجماع الأمن إيجابي، يقوم على التوافق والتشارك والتفاعل في الآراء والمصالح، لكونه يقر بالتنوع ويقوم على توازناته، السلمية والحوارية غالبا، المنظمة والخاضعة للرقابة، والمعرفة قانونيا أو بالممارسات السائدة والشرعية دوما· المشكلة أن النظم المركزية، حتى لا أقول الشمولية، كالنظام السوري، تحول الأمن إلى قمع وتجعله مساويا له، فالأمن يعني هنا القمع، والقمع هو وسيلة إنتاج الإجماع، الذي يكون سلبيا على الدوام، يتعارض مع السياسة ويلغيها، بما هي حقل وظيفته الوحيدة إنتاج إجماع إيجابي· في الشمولية، ينضوي الأمن تحت القمع، ويحمل اسمه، ويصير مساويا له في الظاهر والجوهر، ويزيله تماما من الحياة الخاصة والعامة·

··· ليس تحويل الأمن إلى قمع ضروريا للإصلاح بل هو يبطله تماما، فالقمع يتعارض مع الأمن ويتناقض مع الإصلاح، أقله لأن الإصلاح يريد تطبيع علاقات الحكومة مع شعبها أو قطاعات واسعة منه، لإبطال أسباب الخلاف وتقييد الحاجة إلى قمعه أو ممارسة العنف ضده، وإرغامه على قبول علاقة معها جوهرها الإجماع السلبي، بينما يبطل القمع الحاجة إلى الإصلاح، بإيهام أولي الأمر أن ما يجري في البلاد ليس غــير <مؤامرة> على النــظام بوسعه هو القضاء عليها بالقضاء على القائمين بها والمشاركين فيها، وإذاً، لا يجوز القيام بأي تغيير أو إصلاح، وإلا كان تحقيقهما تنازلا وهزيمة أمام المتآمرين، وتحقق هدفهم المضمر والوحيد: إزاحة النظام عن مواقعه وتغيير طبيعــته، تمهيدا للتخلص منه· يستهدف الإصلاح تغييرا ما في أمر قائم ظهرت عيوبه، هنا أو هناك، كليا أو جزئيا· بينما يستـهدف القمع تغيير رأي من يقـولون بوجــود عيوب كهذه، وبالتالي الحفاظ على النظام كما هو، دون أي تغيير، وإلا اعتبر الإصلاح خطأ على الصــعيد السياسي، وتنازلا أمام المؤامرات، وفشلا للأجهزة التي تحمي الأمر القائم وطعنة في ظهرها تتخطى الإصــلاح إلى إضعاف وربما تقــويض أسس وركائز النظام ذاته، الذي لا بد أن يقوم على معادلة بسيطة: القيادة على حق في كل ما تقول وتفعل، والأجهزة على حق في إقناع المواطن بصحة هذه المسلمة، بغض النظر عن الطرق التي تستخدمها، وتعتبر جميعها شرعية وقانونية، مهما بلغت من لعنف والشدة وخالفت القانون· وكل من يشكك بهذه المعادلة أو يفكر بالخروج عليــها أو يخرج عليها بالفعل يستحق <معالجة> تقنعه بخطئه وترده إلى الصواب، ذلك أن المشكلات الحقيقية التي يواجهها النظام ليست في الواقع بل في النفوس التي تفتعلها، وتستحق، لهذا السبب، معالجة تجتث الفساد والشر والضلال منها· ولعله مما يبين عمق الأرضـية التي تقف علــيها هذه النظرة المشوهة أن من يعتقلون يصنفون دوما إلى فئتين: واحدة تغرر بالمواطن وأخرى تدعـوه إلى الفعل، واحدة تحدد وعيه وأخرى سلوكه، فلا بد من قطع الطريق على تفاعل الوعي مع السلوك بقمع الوعي، فإن حدث واكتسب المواطن وعيه قبل أن يلاحظ الجهاز ذلك، اعتبر صاحبه بيئة خطرة لن تلبث أن تنتقل إلى الفعل، من الضروري <معالجتها> بشتى الوسائل التي تحول دون انتقال الوعي إلى فعل·

يفضي الأمن بمعناه القمعي إلى تكسير ما يريد الإصلاح الحفاظ عليه: الدولة والسلطة والمجتمع والمواطن، والعلاقات الإيجـابية بين هؤلاء· يفعل القمع ذلك بوسائل عنيفة يستهدف الإصلاح عادة تقييدها والحد من انتشارها واستخدامها· لذلك، لا يصح إطلاقا ربط الإصلاح بالقمع، واعتبار القمع مقدمة ضرورية للإصلاح، ليس بسبب تعارض أهدافهما وحسب، وإنما تناقض وسائلهما كذلك، فالقمع يلغيك ويرفض الإقرار بحقك في الاختلاف، ويجبرك بالعنف على تبني ما يجب أن تؤمن به، وعلى تأكيد فرضياته المسبقة، السياسية الطابع، حول وجود مؤامرة تنسبك اعترافات منتزعة منك بالقوة والعنف إليها، بينما يقر الإصلاح بحق الخلاف والاختلاف، ويؤمن بالحلول الوسط والتسويات، ويستهدف تصحيح ما قد يشوب وضعا عاما من عيوب ونواقص، مع أخذ آراء الآخرين حولها في الاعتبار والحسبان·

لا بد من وقف القمع، الذي يسمى <الحل الأمني> ليكون فتح طريق الإصلاح ممكنا وجديا· ولا مفر من بدء الإصلاح لوقف القمع· ولا بد من تغيير الحاضنة السياسية التي تجعل القمع ضروريا، وجعلته خلال نيف وأربعين عاما وسيلة التعامل الرئيسة مع المجتمع، فلا عجب أن كانت نتائجه ما نراه ونعيشه اليوم: مطالبة قطاعات واسعة من المواطنين بإصلاح يحقق أمرين لا ثالث لهما: حرية تحميهم من القمع، وعدالة تحميهم من الفقر· الغريب أن كبار قادة الدولة أقروا بشرعية هذين المطلبين، لكنهم لم يبادروا إلى إطلاق إصلاح يحققهما في أقصر وقت ممكن، وسمحوا ليد <الأمن> الطويلة أن تكون وسيلتهم الرئيسة في التعامل مع المطالبين بهما، ومع أزمة سياسية هي الأخطر في تاريخ سوريا، لكنها تعالج حتى الآن بعقلية غير سياسية، غامضة الأهداف، كثيرة الأخطاء، لطالما تجاهلت الواقع الذي كان يصرخ منذ عقد كامل مطالبا بإصلاح يكون توافقيا وسلميا وتصالحيا وحواريا وآمنا ومتدرجا وبطــيئا ومدروسا، لكنها زعمت أنه ليس حاجة ملحة، وأن تحقيقه ليس مطلبا مجتمعيا أو عاما وأنه يقبل الإرجاء· وحين انفجرت المطالبة وأخذت شكلا مجتمعيا واسعا، قيل بأولوية <الأمن> على الإصلاح، وتم التصدي للمطالبين بوسائل قمعية وضعت السياسة في خدمتها!·

يقطع القمع الطريق على الإصلاح، ويفتح الإصلاح باب الأمن واسعا: للسـلطة والدولة والمجتمع والمواطن· فلنخرج إذن من المعادلة المقلوبة، التي تربط الإصلاح بأولوية الأمن، ولنبدأ العــمل بالمعادلة الصحيحة، التي ترى أنه لا أمن بلا إصلاح، وأن الإصلاح هو الأمن، والأمن يفرض الإصـلاح لا القمع· نحن في فترة مفصــلية تتطـلب عقلية جديدة ونظرة مختلفة إلى واقعنا، تمكننا من رؤية مفرداته خارج النظرة القمعية التي يســمونها أمــنية، فتكون المؤامرة شيئا والأزمة شيئا آخر، وتعالج المؤامرة بالقانون والأزمة بالسياسة والتدبير العام والمشاركة، ونخرج أخيرا من احتــجاز أثبتت الأيام أنه خطير جدا، ولا مصلحة لأحد فــيه، وأن لا سبيل إلى مبارحته غير إصلاح عميق وواضح وحاسم!

? * كاتب وسياسي من سوريا

 

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,107,464

عدد الزوار: 6,753,126

المتواجدون الآن: 103