يسألونك عن التهدئة

تاريخ الإضافة الخميس 25 كانون الأول 2008 - 7:50 ص    عدد الزيارات 734    التعليقات 0

        

فهمي هويدي
هل يعد انتهاء التهدئة في غزة الإشارة الاولى لإرهاصات العواصف الهوجاء التي تتوقع المراصد السياسية هبوبها في العام الجديد؟
القرار كان سباحة ضد التيار بامتياز. اذ حين تعلن من غزة فصائل المقاومة الاربعة (حماس و الجهاد الاسلامي و الجبهتان الشعبية والديموقراطية) رفض تمديد اتفاقية التهدئة التي عقدت مع اسرائيل في ١٩/٦ من العام الحالي، فإنها تتخذ قرارا متعارضا مع رغبات كل الاطراف ذات الصلة بالموضوع. فرئاسة السلطة في رام الله أرادت التهدئة التي خففت عنها الضغوط الفلسطينية المزعجة، وجنبتها حرجا سوغ لها استمرار المفاوضات مع اسرائيل. واسرائيل أرادت التهدئة لكي تهدئ من غضب المستوطنين الذين أزعجتهم الصواريخ المنطلقة من القطاع، ولكي تتفرغ لمهام اخرى توليها أولوية خاصة (مواجهة ايران بالدرجة الاولى). ومصر كانت تريد التهدئة، التي توسطت فيها من البداية، انطلاقا من حسابات كثيرة تتصل بدورها في العملية السلمية. وكان ذلك أشد وضوحا في ورقة »المصالحة« المصرية التي قدمت لإقرارها من الفصائل الفلسطينية (رفضتها حماس والجهاد)، ونصت على »الحفاظ على التهدئة«، معتبرة ذلك ضمن »المشروع الوطني الفلسطيني«. والرباعية الدولية تحمست بشدة للتهدئة لأنها تخفف الضغوط على اسرائيل، وتجنب المنطقة التصعيد المسلح. والسيد بان كي مون الامين العام للامم المتحدة أعرب عن قلقه من الاخبار التي تسربت في الاسبوع الماضي عن احتمال إنهاء التهدئة، معتبرا ان هذه الخطوة من شأنها أن تؤدي الى »عواقب وخيمة تهدد المدنيين في اسرائيل وغزة كما تهدد استمرار العملية السلمية«.
في هذا السياق لا تفوتنا ملاحظة قرار مجلس الامن الذي صدر في الاسبوع الماضي (١٦/١٢) داعيا الى تدعيم مسيرة السلام في المنطقة من خلال استمرار المفاوضات بين السلطة واسرائيل، في الاطار الذي حدده مؤتمر انابوليس في العام .٢٠٠٧ ذلك ان الولايات المتحدة هي التي قدمت مشروع القرار مستهدفة في ذلك أمرين، أحدهما تبنى مجلس الامن لما تحقق في انابوليس، الذي كان مبادرة أميركية بالاساس، والثاني تأكيد استمرار المفاوضات خياراً وحيداً لتسوية القضية. واذا ما تحقق ذلك فإنه يعني »تنويم« القضية لبعض الوقت، على نحو يحقق »تهدئة« تسمح للرئيس الاميركي الجديد ان ينصرف الى معالجة مشاكله الداخلية الملحة، دون إزعاج تسببه القضايا الخارجية المتفجرة، وفي الوقت ذاته فإنه لا يعطل شيئا من المخططات الاسرائيلية، التي لم تتوقف عن التمدد والتوسع وممارسة قمع الفلسطينيين، في ظل استمرار »المحادثات«، التي ترحب بها كثيراً. باعتبار انها في النهاية »مكلمة« يمكن أن تستمر طول الوقت، بما يخدّر الفلسطينيين، ويوهمهم بأنهم يفعلون شيئا، فيما لا يوقف شيئا للاسرائيليين. وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق شامير، قد أعلن عن ذلك صراحة أثناء انعقاد مؤتمر مدريد (في سنة ١٩٩١)، حين قال انهم مستعدون لمباحثات تستمر ١٠ أو ١٥ سنة.
إزاء كل ذلك فإن قرار وقف التهدئة الذي أعلن يوم الخميس الماضي ١٨/١٢ يصبح إشارة غير مريحة للأطراف المعنية بالموضوع. ذلك أنها تلوح بضوء أحمر في الأفق، يربك بصورة نسبية الحسابات الموضوعية على الطاولة. ومن ثم يفتح الابواب لكل الاحتمالات.
خبرتنا مع الاسرائيليين علمتنا أنهم ليسوا على استعداد لدفع شيء في مقابل ما يحصلون عليه، ويعتبرون انهم في أى اتفاق مستثنون من أي التزام، الا اذا كان ذلك الالتزام يحقق مصلحة لهم. وشواهد هذا الدرس ثابتة منذ صدور قرار بتقسيم فلسطين في عام ١٩٤٧ وحتى مؤتمر انابولس في ،٢٠٠٧ فالتهدئة قصد بها تجميد الموقف الراهن مؤقتا، ربما أملا في أن تسوى الامور عبر المفاوضات الجارية. وبمقتضاها اتفق على وقف إطلاق الصواريخ من غزة، مقابل وقف الاعتداءات الاسرائيلية وفتح الممرات ورفع الحصار عن القطاع، وهو ما التزمت به السلطة في القطاع، لكي تخفف من معاناة سكانه، وتحسن من أوضاع السجن كما قيل وقتذاك. فأوقفت إطلاق الصواريخ من جانب حماس، ولاحقت الذين أطلقوا بعض الصواريخ في ظروف معينة، لكنها وجدت نفسها مغلولة اليد في الحالات التي أطلقت فيها صواريخ فلسطينية ردا على غارات أو اعتداءات إسرائيلية.
في مقابل ذلك خرقت اسرائيل الاتفاق ١٩٥ مرة، حسب إعلان حركة الجهاد الاسلامي. وذكرت »قدس برس« انه منذ بدء التهدئة في ١٩/٦ وحتى أول ديسمبر الحالي، قتلت اسرائيل ٤٣ فلسطينيا. وطبقا لبيانات المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، فإن معبر رفح خلال ١٢٨ يوما (من ٢٦/٦ الى ٣٠/١٠) ظل مغلقاً طيلة ١٢٢ يوما وفتح جزئيا عدة أيام. وهو ما ترتب عليه حرمان ٤,٦٠٠ مواطن من سكان القطاع من السفر خارج القطاع، للعلاج أو مواصلة الدراسة. كما ظل معبر بيت حانون مغلقا بالكامل طوال تلك الفترة.
معبر المنطار (كارني) أغلق في وجه الصادرات والواردات من قطاع غزة و اليه طوال ١٠٦ أيام بصورة كلية (بنسبة ٨٣؟) وفتح لإدخال كميات محدودة لمدة ٢٢ يوما (أي نحو ١٧؟) خلال الفترة التي تناولها التقرير ـ معبر ناحل عوز (المخصص لإمداد قطاع غزة بالوقود) أغلق كلياً لمدة ٤١ يوماً. وفتح ٨٧ يوماً أدخل خلالها ٣٩,٦؟ من حاجة القطاع من الوقود. أما معبر صوفا المخصص لدخول المساعدات الانسانية فقد أغلق كلياً لمدة ٤٥ يوماً، و فتح لمدة ٨٣ يوماً. معبر كرم ابو سالم أغلق لمدة ٨٨ يوما وفتح لمدة ٤٠ يوما.
لنا ملاحظتان على هذه الارقام، الاولى ان معبر رفح الذي يصل القطاع مباشرة مع العالم الخارجي، دون أي تدخل اسرائيلي مباشر، ظل الاكثر إغلاقا، حيث فتح لمدة ستة أيام فقط من بين ١٢٨ يوما (في الفترة من ٢٦/٦ الى ٣١/١٠). الملاحظة الثانية، ان المعابر الخمسة الاخرى الخاضعة للسيطرة الاسرائيلية ظلت تمرر الحد الادنى من البضائع والاحتياجات الفلسطينية لكي يظل سكان القطاع عند حدود الكفاف دائما. وهي حين تتحكم في ما يسمح بدخوله من تلك المعابر فإنها تتحكم في الوقت ذاته في نمط حياة المليون إنسان الذين يعيشون فيه. فتحدد لهم السلع التي يستهلكونها وحجم الدقيق والوقود الذي يستخدمونه، وعدد الايام التي يعم فيها الظلام بالقطاع، وتلك التي يتم خلالها تشغيل مولدات الكهرباء بحيث تضاء البيوت وتعمل المخابز وغرف العناية المركزة وحضانات الاطفال الخ.
الخلاصة ان فصائل المقاومة الفلسطينية أدركت أن التهدئة اذا كانت قد سمحت لسكان القطاع بالتقاط أنفاسهم لبعض الوقت، إلا أنها لم تغير كثيرا في إصرار اسرائيل على إذلالهم وحصارهم، فيما أنعشت مجتمعات المستوطنين في جنوب الدولة العبرية. وهو ما يعني أن الطرف الفلسطيني ظل خاسرا، أما الطرف الاسرائيلي فقد كان الرابح الاكبر منها. ولذلك كان منطقياً أن تقرر تلك الفصائل وقف التهدئة بعدما أدركت انه لم يعد لدى الفلسطينيين ما يخسرونه.
الموضوع أثار جدلا في اسرائيل، عبرت عنه الصحف التي عكست آراء الأجهزة المختلفة. واتفقت تلك الصحف على ان اسرائيل على شفا القيام بعملية عسكرية كبيرة في غزة. وان الخطط اللازمة لذلك جاهزة، لكنها تنتظر القرار السياسي. فقد ذكرت صحيفة »معاريف« في (١٩/١٢) ان التهدئة لم تنجح في تخفيف التوتر أو إقامة التعايش مع حركة حماس، كما انها لم تؤد الى تحرير الجندي الاسير جلعاد شاليط. رغم انها منحت مستوطنة سديروت ومحيطها هدوءا نسبيا لعدة أشهر. وذكرت انه من الصعب الدخول الى قطاع غزة في ذروة حملة الانتخابات الاسرائيلية. وفي كل الاحوال فمن المحتمل جدا ان تقع عملية كبيرة في النهاية، ولكن القرار بشأنها لن يتخذ إلا عندما يكون هناك إحساس حقيقي بأنه لا بديل آخر، وان السيف موضوع على الرقبة. وفي حديث أجرته »هآرتس« مع وزير الحرب ايهود باراك قال ان اسرائيل لن تتردد في القيام بعمل عسكري اذا اقتضى الامر ذلك، لكنها لن تهرول نحوه، وستختار المكان والزمان المناسبين. في اليوم نفسه (١٩/١٢) نقلت »يديعوت احرونوت« عن أوساط أمنية اسرائيلية قولها ان مداولات أذرع المؤسسة الامنية أفضت الى أن الجيش الاسرائيلي لن يقوم بعملية عسكرية كبيرة في القطاع، إلا إذا وقع عدد كبير من القتلى الاسرائيليين نتيجة قصف الصواريخ الفلسطينية. وكتب المعلق العسكري للصحيفة اليكس فيشمان قائلا ان »الوقت أصبح متأخرا لتقوم اسرائيل بهجوم على القطاع. فالخيول هربت من »اسطبلاتها« برعاية التهدئة« ـ كناية على استعدادات المقاومة لصد أي عدوان.
واذا جاز لنا ان نلخص، فسنجد أن مؤيدي اقتحام القطاع يستندون الى الاعتبارات التالية: ان مواصلة إطلاق الصواريخ يشكل ضغطا جماهيريا على الحكومة و الجيش، ان اسرائيل غير مستعدة لتمديد التهدئة حسب الشروط التى تتحدث عنها حماس، ان توجيه ضربة قوية الى سلطة القطاع من شأنه أن يؤدى الى إسقاط حكومة حماس، وهو ما يقوي مركز ابو مازن في رام الله بما يسمح له بتجديد ولايته التي تنتهي في ٩ يناير المقبل، ان حسم الوضع قبل أن تتولى إدارة باراك أوباما الحكم سوف يجنب الادارة الحرج ويضعها أمام أمر واقع جديد، صحيح أن حزب كاديما و العمل يخشيان شن عملية عسكرية في القطاع خشية التورط في عملية مكلفة تؤثر على فرصهما في الفوز، إلا أن تواصل إطلاق الصواريخ وعدم تحرك اسرائيل للرد عليها سيكون سببا للمس بشعبيتها ويعزز موقف الليكود.
أما الذين يتحفظون على العمل العسكري ضد القطاع، فإنهم يستندون الى الاعتبارات الآتية: ان حماس عززت قوتها في القطاع بما يخشى منه أن يؤدي المواجهة معها الى سقوط عدد كبير من الجنود الاسرائيليين خشية أن تؤدي العملية الكبيرة الى إعادة احتلال القطاع ، بما يؤدي الى تحميل اسرائيل بالمسؤولية عن إدارته وتوفير احتياجات سكانه، وهذا عبء اقتصادي كبير تريد اسرائيل أن تتحلل منه، خصوصا في ظل الازمة الاقتصادية العالمية، خشية اسرائيل من سقوط أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين على نحو يشوه صورتها في الخارج ويدفع الى اتهامها بارتكاب جرائم حرب، إثارة الرأي العام العالمي جراء الفظائع التي يمكن ان تحدث، بما قد يرتب ضغوطا دولية لوقف الحملة قبل تحقيق أهدافها، تعريض حياة الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط للخطر في هذه الحالة، مما قد يسبب حرجا كبيرا للحكومة.
أغرب ما رددته الصحف الاسرائيلية في هذا الصدد أن الدولة العبرية شرعت بحملة دبلوماسية للحصول على تغطية عربية لمخططاتها، سواء في ما يخص الحملة العسكرية أو في إذا لجأت الى اتخاذ إجراءات تصفية لقيادات حماس. وهذا ما أشارت اليه بوضوح صحيفتا »يديعوت احرونوت« و»معارييف« يوم الاثنين ١٥/.١٢ فقد ذكر اليكس فيشمان المعلق العسكري لـ«يديعوت» ان اسرائيل تولي أهمية كبرى لإقناع العالم العربي »المعتدل«، خصوصا مصر، بتفهم مخططات اسرائيل العسكرية إزاء حركة حماس. وأشار الى أن ذلك كان الهدف من الزيارة التي قام بها عاموس جلعاد مدير الدائرة السياسية والامنية في وزارة الحرب الاسرائيلية للقاهرة قبل عشرة ايام. ونقل فيشمان وكذلك بن كسبيت المعلق السياسي لصحيفة »هآرتس« عن مصادر في وزارة الحرب الاسرائيلية قولها ان المبعوث الاسرائيلي وجد في القاهرة غضبا شديدا على حماس أكثر من أي وقت مضى، حتى انه سمع ممن التقاهم أثناء زيارته أوصافا لها »غير مسبوقة« (كما ذكر كسبيت). وادعى الكاتبان ان عاموس جلعاد وجد في القاهرة تفهما لما قد تتخذه اسرائيل من إجراءات للتعامل مع الموقف في القطاع.
لا نستبعد أن يكون الهدف من هذا الكلام هو الدَّس بين القاهرة وحماس، استثمارا لأجواء التوتر الحاصل بينهما، لكنه لا ينفي حقيقة ان اسرائيل في تصرفها بعد انتهاء التهدئة تستخدم قنواتها الدبلوماسية الممدودة مع أكثر من عاصمة عربية »معتدلة« لتوفير غطاء لخطواتها المقبلة التي قد تبدأ بتصفية الوضع في غزة، وتنتهي بتوجيه ضربة عسكرية ضد ايران، وما قد يستتبع ذلك من أصداء وتداعيات لا يعلم مآلاتها إلا الله.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,172,348

عدد الزوار: 6,758,778

المتواجدون الآن: 117