حتى لا تجهض الثورة الشعبية الأنضج

تاريخ الإضافة الأربعاء 19 كانون الثاني 2011 - 7:22 ص    عدد الزيارات 578    التعليقات 0

        

 

حتى لا تجهض الثورة الشعبية الأنضج:
أحباءنا في تونس: نرجوكم أن لا تستريحوا في منتصف الطريق
هيثم شلبي (كاتب وصحفي فلسطيني)
 
هناك مسلسل قديم (في بداية الثمانينات) كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجه عباس أرناؤوط، وعنوانه: ليلة سقوط غرناطة، لا أزال أذكر وصايا موسى بن إبي غسان، قائد فرسان غرناطة الذي جسد دوره المرحوم عبد الله غيث باقتدار، وهو يخاطب من تبقى من أهل غرناطة صبيحة تسليمها لفرديناند وإيزابيلا، وهي وصايا كثيرة، لكن ربما أهمها: "إذا قصدتم مكانا فلا تستريحوا في منتصف الطريق".
مناسبة الحديث، هو مسلسل الحيل السياسية التي تحيط بالثورة الشعبية التونسية، والذي يهدف إلى إجهاضها، أو على الأقل التقليل من الثمن الذي يتوجب على الطغاة دفعه للشعب، نظير تضحيتهم العظيمة. لقد أنجز الشعب التونسي الأهم، وتصدى بصدور عارية ونضج ووعي كبيرين، لآلة القمع الأمنية الجبارة، التي جثمت على صدورهم على مدى ربع قرن، لكن الواقع الذي تلا لحظة فرار الديكتاتور، يقول بأن الثورة لما تنجز مهماتها بعد، بل هي لا تزال تبدأ، ولم تقطع سوى منتصف الطريق أو أقل.
ليفهم أحبتنا في تونس أنهم يصنعون تاريخنا، وليس تاريخهم فحسب، وإذا أدركوا ذلك سيفهمون حجم الآمال المبنية على نجاحهم التام، وحجم التحدي الذي يتصدون له. إن شباب تونس وبناتها، آباءهم وأمهاتهم يمثلون طليعة شعب عربي لا يختلف عنهم في الظرف والتجربة إلا في تفاصيل صغيرة، مقابل معسكر الظلم الذي يضم أطراف نفس الخريطة التونسية، التي يتحالف فيها آلة قمع بوليسي وحشي، نخب اقتصادية ريعية احتكارية فاسدة، أبواق إعلامية ومثقفو وفقهاء سلطان باعوا أنفسهم وضمائرهم، أحزاب معارضة ديكورية رخيصة الثمن والقيمة، وحلفاء من خارج الحدود تجمعهم مع هذا المعسكر وحدة المصالح والرؤى.
إن لحظة فرار الطاغية، على عظمتها وأثرها النفسي العظيم، لا تخفي أن حكومته، مع بعض التنقيح، لا تزال باقية، كما أن الطبقة السياسية المتمثلة في حزبه الحاكم وباقي دمى البرلمان المزيف، لا تزال تفاوض من تعترف به من أحزاب المعارضة على دفع أقل ما يمكن من ثمن استحقاق زوال حقبة وحكم الطاغية، والخشية هنا أن تنجح في استمالة هذه الأحزاب المعارضة "المعترف بها" إلى نوع جديد من التحالف "الأكثر بياضا" مقابل منافع الاعتراف بشرعيتها، وتقاسم مكاسب "العهد الجديد"، وهي خشية كان يمكن أن يتم تبديدها، لو اتخذت أحزاب المعارضة الثلاثة، موقفا رافضا للجلوس مع الوزير الأول القديم- الجديد، دون أهم قوى المعارضة غير المعترف بها، وهو ما لم يحدث للأسف، وجلس قادة هذه الأحزاب، وخرجوا على شعبهم بصفقة، روجوا لها باستبعاد أحزاب الديكور أو المعارضة الموالية للدكتاتور السابق.
صحيح أن اللحظة صعبة، ومرحلة عض الأصابع على أشدها، بين كلاب الطاغية الذين جاسوا خلال الأحياء ينهبون ويروعون محتمين بأعضاء عصابات أجهزة الأمن السابقة، في مقابل شباب الأحياء الشعبية المنظمين ذاتيا، مستقوين بأصحاب الضمائر من أفراد الجيش الوطني. كما أن حالة الفوضى تستتبع بالضرورة شحا في إمدادات البضائع والمواد الغذائية، وخللا في التزود بالماء والكهرباء، لكنها "حلاوة الروح" والنفس الأخير في جسد قمعي ينهار.
إن الأخطر من هذه العصابات، هو أن ينجح محترفو السياسة في الحزب الحاكم، في إيجاد حلفاء جدد يعينوهم على الالتفاف على ثورة الشعب العظيمة، تحت مختلف الدعاوى، ويثبتوا نسخة منقحة من نظام الدكتاتور، ويبقونا بعيدين عن نجاح أول ثورة شعبية ناضجة في تأسيس تجربة ديمقراطية متينة وجديدة كليا (السودانيون أساتذتنا في الثورات الشعبية، التي سرعان ما يلتف عليها الساسة أو العسكر ويجهضوها).
لهذا نناشد الشرفاء من أبناء أحزاب المعارضة المعترف بها (الاعتراف بها من قبل الطاغية لا يشرفها في الحقيقة لكنه لا يكفي وحده لإدانتها في نظرنا)، أن يفكروا مرات ومرات قبل اختيار تحالفاتهم. إن معسكرهم الموضوعي ليس مع حزب الدكتاتور، بل مع الأحزاب غير المعترف بها، وباقي قوى الشعب الحية التي ساهمت بقسطها في صناعة هذه الثورة، كما أن محاولة تسويق تفاهمكم مع الحزب الحاكم تحت دعاوى الوحدة الوطنية ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه هي محاولة لن تلاقي النجاح، لاسيما مع شعب تونسي أظهر درجة عالية من الوعي السياسي، وعليه يبدو الأجدى أن تنحازوا إلى شعبكم، ولا تقدموا طوق النجاة لحزب الدكتاتور، مهما بلغ إغراء التنازلات التي يقدمها، لأنها وقتية ومؤقتة، وسينقلب عليها في أقرب فرصة، كما أن تحالفكم هذا سيجعلكم هدفا "للكنس" في أول هبة شعبية قريبة مثلكم مثل من تبقى من حزب الطاغية.
إن إعلان التمسك اللفظي بالدستور، والتشديد على صعوبة تغيير الأوضاع بين ليلة وضحاها، وضرورة الاستعانة "بالشرفاء" الموجودين في الحزب الذي حكم تونس على مدى خمسة وسبعين عاما، والحاجة لوقت طويل من أجل تسوية وضعية الأحزاب غير المعترف بها، والمغالاة في تصوير حرج الموقف الأمني المنفلت، والذي يبرر التعجيل بتشكيل حكومة من حزب الطاغية، ومن يرجو أن يكونوا حلفاءه الموضوعيين الجدد، وغيرها من ألاعيب الطبقة السياسية، التي اجتهد سيدها قبلها في "المفاصلة" على الثمن الذي يتوجب عليه دفعه، ولم يهرب إلا عندما تيقن أن لا أحد على استعداد لشراء بضاعته، وها هم بقايا نظامه يستمرون في عملية "المفاصلة"، مستبطنين دائما الاسطوانة التي حفظناها من المحيط إلى الخليج، من أن شبابنا متهور ومتحمس، ومعارضتنا طوباوية وراديكالية، ومواطنينا العاديين بسطاء ولا يعرفون مصلحتهم، لتحتكر الحلبة السياسية نفس النخب التي احتلتها منذ جلاء الاحتلال الأوروبي المباشر.
إن عنوان نجاح الثورة الشعبية التونسية الأبرز سيكون قدرتها على إدخال ليس مجرد نخب جديدة، وإنما قطاعات واسعة من شعوبنا إلى حلبة السياسة. أن تنجح في مصالحة المواطن العادي مع الشأن السياسي. أن تؤدي إلى ممارسة سياسية لا تمنح صاحبها حصانة من أي نوع، ناهيك عن سلطة منفلتة من أي عقال. أن تستطيع صياغة قواعد حاكمة للعمل السياسي، أساسها رضا المحكومين ومباركتهم. هذا النجاح سينهي النقاش الدائر تاريخيا في عالمنا العربي حول جاذبية "الكرسي" والضعف البشري أمام مغريات السلطة، والرهان على جلب "أولاد ناس" يديرون الشأن العام، ليصبح النقاش منصبا على نوع الضمانات التي سيتم تضمينها في الدستور وغيره من النصوص الحاكمة للعمل السياسي، تشديد الرقابة على أداء المسؤولين، شفافية المحاسبة أمام قضاء عادل مستقل، أي باختصار في ساحة القوانين لا الأشخاص.
أخيرا، أحبتنا في تونس الشامخة، لو تعلمون كم يغبطكم أبناء عمومتكم العرب على اتساع رقعة وطننا الكبير، وبحكم هذه المحبة يناشدوكم أن تنجحوا في إكمال شق الطريق نحو الحرية، ولا تسمحوا لمحترفي السياسة في مختلف المعسكرات الحزبية مهما كان لونها أو أيديولوجيتها من أن يطيلوا هذه الطريق حتى تفتر الهمم ويخف الضغط وينفض الناس الذين نزلوا إلى الشارع. يجب أن تتسارع خطواتكم، وتبقوا على أهبة الاستعداد للعمل حتى تكملوه، وتبنوا قاعدة مجتمع حر عادل، يوجه الناس ومصالحهم خياراته الاجتماعية والاقتصادية، ويصوغون برامجه السياسية، ويسهرون على حمايته ممن تسول له نفسه بإجهاضه.
أحبتنا في تونس، أنتم المؤتمنون على حلمنا فلا تسمحوا باغتياله، ولا ترخوا القبضة التي ترفع رايته عاليا حتى نلحق بكم ونسندكم ونساعدكم في رفعها.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,145,993

عدد الزوار: 6,756,985

المتواجدون الآن: 120