المرجعية الدينية وبناء الدولة في العراق

تاريخ الإضافة الخميس 4 كانون الأول 2008 - 8:13 ص    عدد الزيارات 896    التعليقات 0

        

هاني فحص
بصرف النظر عن الإطار الفقهي الاختصاصي، ومع احترامنا الشديد له، يعرف كل من يتابع العراق، أن هناك إصرارا لدى المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية في النجف على التمايز عن تيار أو مسلك ولاية الفقيه، خاصة لجهة امتدادها إلى شؤون الدولة وإدارتها، هذا الإصرار يظهر على ألسنة وأقوال المتصلين بتلك المرجعية من بعيد أو قريب، وفي المجال السياسي والديني، اعتماداً على ما يتصل من السيرة العملية لهذه المرجعية بالمسألة، ولاية الفقيه والدولة، وعلى المصرح به من آرائها الفقهية المثبتة في نصوص معروفة.
من دون أن تكون هذه المرجعية معنية بالتظهير الدائم لموقفها، تجنباً لإثارة الحساسيات أو دفع الاختلاف الى مستوى الخلاف، كما هو متعارف عليه في المجال الفقهي بمعنى الإقرار والاعتزاز بالتعددية في الرأي والرؤية الفقهية.
غير أن هذا الأمر لم يمنع كثيرا من كبار تلامذة هذه المرجعية، ممن يعدون في الطبقة الثانية أو الثالثة علمياً في حوزة النجف (مع الشك في وجود الطبقة الثانية بعد المراجع) الى الكثرة الكاثرة من فضلاء الحوزة وطلبتها، امتدادا الى بعض الناشطين في العملية السياسية من المدنيين المتدينين الذين انخرطوا في أحزاب سياسية دينية وما زالوا أو تركوا أو المستقلين..
لم يمنع هؤلاء جميعاً من الحديث عن تصورهم للدولة وضرورة أن يكون رأي الفقه أو الفقيه حاسما في دورها وإدارتها للشأن العام.. على الرغم من توكيدهم أنهم ليسوا من مؤيدي ولاية الفقيه أو الدولة الدينية، وان كان كثيرون يرون في هذا الطرح شأنا يقع وراء ولاية الفقيه لا أمامها، إذ هو يحيل على تعددية في الرأي الفقهي لا ضابط لها في المقام العملي، فيما الولي الفقيه معين، بطريقة أو بأخرى، ويمارس دوره الملزم من ضمن قنوات ومؤسسات واضحة المعالم، وان كان كل ذلك يحتمل الخطأ أو الاختلاف أو الخلاف أو الحصرية التي تضيق من فرص حرية الرأي وأحيانا كثيرة حرية التعبير أو التغيير أو التصويب.
أي ان ولاية الفقيه تحيل الى نظام فقهي سياسي يضيق ويتسع، بينما اشتراط الفقه على الدولة من دون ولاية الفقيه يحيل الى الفوضى التي لا يمكن اعتبارها في هذه الحال ناتجاً للحرية، بل هي فوضى الاستبداد الى حد ما.. غاية الأمر أن المستبد في حال قد يكون واحدا وفي حال أخرى قد يكون متعددا، فإن كانت الحال الأولى منتجة على حساب الحرية، فإن الحال الثانية معطلة ومغذية للانقسام والصراع، أي تعطيل الدولة بالفقه، الذي يمكن أن يسهم في بناء الدولة وإدامة إنجازها، من خلال أمرين. الأول: هو تحويل نظام القيم المنظومة في إطار فقهي الى مدونة أخلاق سياسية، ينبني عليها مسلك اعتراضي أو احتجاجي لا يتخلى عن أولوية الدولة، وموصول بالأمر الثاني وهو الاقتصار على الدور الإرشادي غير الإلزامي للفقيه، أي دور النظارة، بطريقة لا تفسح في المجال لتعاطي الفقيه بالتفاصيل، ولا حتى بالكليات التي هي أقرب إلى التدبير الميداني، التي تحتاج الى خبرة سياسية مختلفة عن خبرة الفقيه، تمكّن السياسي من ابتداع الوسائل والطرق العلاجية لأي أمر إداري أو سياسي عام من دون استحضار لمستوى نظري أو علمي يسوّغ أو يساند.. وفي حالات كثيرة تتحول ممارسات السياسي ومبادراته ولمعاته في مفاصل حساسة الى حاملات حقيقية لإسهامات نظرية في السياسة والإدارة، أي ان النص السياسي والإداري يترتب على الواقعة بدل أن تترتب الواقعة عليه... وتبقى الضمانة هي أن يكون السياسي كائنا عضويا بالمعنى الاجتماعي، أي موصولا بهموم الوطن والمواطن وأهل الخبرة، وعلى رأسهم الفقهاء، وعلى رأس الفقهاء المراجع الكبار، وعلى أساس الشراكة في الرأي ومن دون إلزام، مع إتاحة النقد دائما. هذا الكلام له مناسبة... وهو العملية السياسية أي بناء الدولة بكل متفرعاتها في الإدارة والسياسة، في العراق... حيث تفاقم القصور السياسي والتعدد السياسي التقابلي أي الصراعي في لحظات حرجة من تاريخ العراق الذي يتشكل الآن بحساسية مفرطة، تفاقم القصور مع نزوع كل الأحزاب السياسية الدينية (فتوى عبد الكريم زيدان بحرمة تصويت الحزب الإسلامي مع الاتفاقية، مع الشك بأن يكون القرار الحقيقي للحزب كذلك.. ولكن حوّل الفتوى إلى ذريعة لأمور أخرى) إلى تحويل المرجعية الى عباءة لتغطية توجهاتها وخلافاتها قصراً، ولو من دون أي تواطؤ مع هذه المرجعية التي تتحمل النتائج من دون شراكة في مقدماتها.. وقد تضطر المرجعية عندما تلتفت الى خطورة هذا المسلك السياسي، الى التوقف أو الانسحاب، وهنا تتعرض لحملات احتجاج من قبل المتخاصمين، فإذا ما حاولت أن تدلي برأيها بشكل حاسم، أي أن تمارس شيئا من ولاية الفقه بدل الفقيه، اعتبر ذلك تدخلا في غير محله واعتبر إعاقة للعملية السياسية وبناء الدولة.
من أين يأتي هذا الكم من الالتباسات؟ يأتي من حال العراق والطبقة السياسية الشعبية خصوصا، حيث كانت بعد الاحتلال كما قبله منقسمة الى قسمين، قسم الداخل الذي فقد كثيرا من قدراته على الإنتاج السياسي والاجتماعي والإداري بسبب فترة التعطيل القسري من قبل النظام البائد، وقد طالت كثيرا، ما يعني أنه كان بحاجة الى إعادة تأهيل.. لم تتم حتى الآن وان كانت هناك جهود مشكورة في المستوى الإداري المباشر فقط..
أما القسم الثاني فهم الآتون من تاريخ طويل من النفي القسري، حيث انفتح أكثرهم على معارف وعلائق وخبرات جديدة ومتعددة الى حد التناقض، تبدأ من لبنان مروراً بسوريا وكل المنافي الأوروبية والآسيوية والأميركية، حيث شهد تاريخهم كثيرا من الانشقاقات والمراجعات والتقاطعات والصراعات التي جعلتهم أكثر شتاتا وأقل قدرة ورغبة في التوحد وحمل مشروع واحد، وأثرت كذلك في أهليتهم للاندماج مع الداخل والإسهام في استخدام خبراتهم المكتسبة في إعادة تأهيل الداخل.. فانعكست هذه التعقيدات صراعات لم تخلُ من تقاطعات لأسباب حزبية أو عائلية بين الداخل والخارج، ونفعية في كل حال، وصراعات بين الداخل من جهة والخارج من جهة، إلى صراعات من داخل الداخل والخارج على السواء، ما أتاح فرصة لمزيد من الفساد وفتح شهية تكوينات أهلية عشائرية وغيرها على المال العام وعملية إعادة الإعمار التي تضاف الإعاقات الداخلية لها الى الإعاقات الخارجية فتبدو كأنها معطلة الى حد بعيد والى حد أقل في كردستان في الشمال... هذا الى ما كان من آثار هذه البنية الرخوة من أثر على العملية السياسية التي استطاعت أن تمر في مخاضات صعبة اجتازتها بنجاح ما، بينما غرقت في مخاضات أخرى.. وهنا كانت مبادرات المرجعية الى تسهيل العملية السياسية وتنشيطها تعويضاً عن النقص في أداء الطبقة السياسية، ما جعل موقع المرجعية في حالة من الضرورة القصوى داخل تلك العملية، ودفعها بدوره الى المتابعة نهوضا بتكليفها الشرعي في معناه الوطني.. وقد ساعدت اللمعات الكبيرة في أداء المرجعية في تغطية بعض الالتباسات التي تأتي من جهة الطبقة السياسية وتناقضاتها، لتكون هذه سبباً مباشراً في تعاطي المرجعية في ما ليس هو شأنها الأول أو ليس شأنها أولا، أو قبل غيرها.
هذا الكلام ينتهي الى قول آخر.. يبدأ القول من أن العملية السياسية في العراق وبناء دولته لن يتما على خير إذا ما استمر هذا الخلط العشوائي بين الديني أو الفقهي وبين السياسي. وبين القيادية السياسية البراغماتية والقيادة الدينية المبدئية. علماً بأن هناك تقدماً على هذا الطريق برغم كل الانكسارات والعثرات والحماقات.. ما يقتضي أن تعمد المرجعية الدينية، ونساعدها، الى الاستراحة والانصراف الى إعادة تأهيل المجتمع الأهلي على فكرة الدولة من خلال ترسيخ نظام القيم الدينية ذات المضمون الوطني الملزم. بالإضافة الى مهمة تاريخية ووطنية، وهي إعادة تأهيل الحوزة، الى المشاركة الراجحة والفاعلة في عملية إنتاج مكثفة للمعرفة بشروطها القديمة والجديدة، حتى لا تبقى الحوزة مشدودة إلى العاصمة وإدارة الدولة ساهية عن حالها، متيحة لقليلي البضاعة العلمية تعويض النقص الطبيعي في دورهم المعرفي والرعائي الاجتماعي، بالإقامة الدائمة في الشارع السياسي حيث تتعرض كتل اجتماعية واسعة بسبب الفقر والبطالة والجهل والتعصيب والتحريض، الى إنتاج الفوضى وإتاحة الفرص للنشاط الاستخباراتي من الداخل والخارج لتوظيفها ضد الدولة والمجتمع. أي أننا بتنا في العراق.. بحاجة الى مرجعية تطل على السياسة لماماً من دون مانع من أن تطل السياسة عليها دواماً.. ولكنها تطل على الجانب الرعائي الإرشادي والأخلاقي.
من شأن المرجعية التي يكفي علمها واختصاصها تنشيط وضمان عملية بناء الدولة إذا كان هنا لدى الطبقة السياسية مشروع حقيقي لبنائها، وإلا فإنها سوف تسقط فشلها على المرجعية اذا استطاعت أن تلتف على هذه المرجعية وتعطي انطباعا بأنها أوكلت اليها التفكير في تفاصيل بناء الدولة بدل أن نعالج من داخلها عوامل عجزها أو قصورها أو تقصيرها في هذا الأمر... إن العلم الفقهي الذي تتقنه المرجعية، على فضاء ثقافي واسع كما نعرف، هو ذو طابع نظري يتعاطى مع الكليات بجدارة عالية... أما بالشأن السياسي فهو في الأعم الأغلب شأن فني لا يخلو من علم، وإداري أي شأن تفاصيل، وهذا ليس من شأن العلماء إلا في حدود... أما من يتصدى لولاية الفقيه أو تصدى فعلا، فنحن نعرف أنه عمد سابقا أو لاحقا الى اكتساب خبرات إدارية وقيادية ميدانية، لا نعرف كثيرا عن طريقته في اكتسابها، وحتى دون أن نكون مضطرين للمجاملة بالموافقة على أصل المسألة أو على الأداء في كل شيء، وهم لا يدعون العصمة وإن عصمهم أنصارهم لغاية أو من دون غاية.

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,737,645

عدد الزوار: 6,911,270

المتواجدون الآن: 81