ماذا بين إسرائيل والفاتيكان؟

تاريخ الإضافة الخميس 4 كانون الأول 2008 - 8:11 ص    عدد الزيارات 879    التعليقات 0

        

محمد السمًاك
لأول مرة في تاريخ الفاتيكان يوجه البابا دعوة الى حاخام يهودي لحضور مؤتمر للأساقفة الكاثوليك (سينودس). كان عنوان المؤتمر كلمة الله في العهدين القديم (التوراة) والجديد (الانجيل). وكان الحاخام المدعو الى المؤتمر هو شيريا شوف كوهين، حاخام مدينة حيفا.
وبموجب ترتيبات المؤتمر أُعطيت الكلمة للحاخام كمشارك في المؤتمر. ولكنه ما ان اعتلى المنصة حتى فاجأ الجميع بشن حملة على البابا الراحل بيوس الثاني عشر مجدِّداً اتهامه بأنه تواطأ مع النازية خلال حملة الابادة (الهولوكوست) التي تعرض لها اليهود اثناء الحرب العالمية الثانية.
تزامنت هذه الحملة على البابا السابق مع احتفال كانت تقيمه الكنيسة الكاثوليكية بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة البابا بيوس الثاني عشر، كما ترافقت مع انجاز المراحل الأخيرة من الاجراءات التي يعدّها الفاتيكان لتسريع خطوات تطويبه قديساً "بسبب الجهود التي بذلها من اجل حماية اليهود من النازية". وقد سبق للفاتيكان ان أبرز وثائق اكدت على أمرين أساسيين:
الأمر الأول هو تعميم بابوي ارسل الى جميع الكنائس والأديرة لإيواء اليهود المضطهدين وتوفير الملاذ السري الآمن لهم. اما الأمر الثاني فهو تعميم بابوي آخر الى السفارات البابوية في العواصم الأوروبية التي احتلّتها القوات الألمانية النازية لمنح اليهود جوازات سفر فاتيكانية وذلك لتمكينهم من مغادرة الدول التي يتعرّضون فيها للاضطهاد الى دول اكثر أمناً.
غير ان الحركة الصهيونية لا تعتبر ذلك كافياً. فهي توجه الاتهام الى البابا بالسكوت على الجرائم النازية، وبالتقصير المتعمد في الدفاع عن اليهود. بل ان بعض غلاتها يذهب الى حد اتهامه بالتواطؤ مع النازية ضد اليهود. وقد اتهمه احد الكتاب وهو جون كورنويل في كتاب له صدر في عام 1999 بأنه "بابا هتلر". واتخذ من هذه التهمة عنواناً لكتابه.
فوجئ البابا بنديكتوس السادس عشر، كما فوجئ مجلس الأساقفة الكاثوليك بالحملة التي شنّها الحاخام كوهين على البابا بيوس الثاني عشر. ذلك ان هذه التهمة كانت في نظر الفاتيكان تهمة باطلة، ثم انها وجهت في مؤتمر للأساقفة وفي وجه البابا وفي عقر دار الكنيسة الكاثوليكية، الأمر الذي أثار الاستغراب والاستهجان معاً.
لم يتولَ اي من الأساقفة الردّ المباشر على اتهامات الحاخام كوهن، ولكن البابا بنديكتوس السادس عشر تعمّد الخروج من قاعة المؤتمر وتوجه مباشرة الى ضريح البابا بيوس الثاني عشر ومن هناك جدّد التعليمات الرسمية بتسريع اجراءات تطويبه قديساً.
وصلت هذه الرسالة البابوية الى الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز، فحاول استدراك الأزمة بترقيع موقف الحاخام، الا انه على ما يبدو زاد الطين بلّة. فقد قال بيريز: "ان لدى الاسرائيليين ما يحملهم على الاعتقاد بأن البابا بيوس الثاني عشر لم يقم بما هو كافٍ لانقاذ حياة اليهود (؟).. ولكن ليس لي ان أصدر حكماً عليه الآن ولا أريد ان أوجه اتهامات غير صحيحة. فاذا كانت هناك أدلة كافية بأنه ساعد على اضطهاد اليهود فيجب النظر في هذه الاتهامات بدقّة وعناية". لم يدافع بيريزعن البابا ولم يقل ان الاتهامات غير صحيحة. ولكنه أكد وجودها. وكل ما فعله هو المطالبة بتأكيد صحتها.
ومن المعروف ان بيريز كان وجه دعوة الى البابا بنديكتوس السادس عشر لزيارة اسرائيل. ومن المعروف أيضاً ان البابا وافق على الدعوة. ولكن من المعروف ايضاً انه توجد لوحة معلقة ضد البابا بيوس الثاني عشر في قاعة تخليد ذكرى اليهود الذين قتلوا في أوروبة والتي تعرف باسم "يادفاشيم". وقد أعلن الأب بيار غاهيل رئيس لجنة تطويب البابا بيوس الثاني عشر قديساً، ان البابا بنديكتوس السادس عشر لن يلبّي الدعوة ولن يزور اسرائيل ما لم تسحب هذه اللوحة.
وبالفعل فانه لا يمكن تصوّر مشهد البابا بنديكتوس وهو يقف أمام لوحة تتهجم على خلَفه الذي يعمل هو نفسه على تطويبه قديساً. فالبابا الراحل الذي توشك الكنيسة الكاثوليكية ان تعلنه قديساً تصفه اسرائيل، والحركة الصهيونية بأنه تواطأ في جريمة الابادة التي تعرّض لها اليهود على يد النازية. وهي تهمة لا توجه الى البابا شخصياً فقط، ولكنها توجَّه الى البابوية، والى الكنيسة الكاثوليكية!! من هنا كان ردّ فعل الفاتيكان حاسماً. وهو ان زيارة البابا لاسرائيل لن تتم ما لم تنتزع لوحة الادانة.
لم يكن البابا بنديكتوس السادس عشر هو من اتخذ مبادرة تطويب البابا الأسبق بيوس قديساً. فقد سبقه الى ذلك أسلافه، وكان البابا يوحنا بولس الثاني أشدهم حماسة لذلك، ولكنه توفي قبل ان ينجز هذه المهمة الكنسية ـ السياسية الهامة. واقتناعاً من البابا الحالي بصوابية العملية تبنّاها هو نفسه وقرّر المضيّ بها حتى النهاية. ولعل هذا ما يقلق اسرائيل وهو ما حمل مندوبها الى مؤتمر الأساقفة أن يفجر حقده ضد رمز الكنيسة الأول.
وبالمقارنة مع هذا الموقف الاسرائيلي، يرتفع في بيروت تمثال للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني، وهو التمثال الوحيد على ما نعرف للبابا يرتفع في عاصمة عربية، وقد جرى ذلك تخليداً لذكرى زيارته بيروت حيث اعلن وثيقة الارشاد الرسولي رجاء جديد للبنان بعد مؤتمر الأساقفة الكاثوليك ـ السينودس ـ حول لبنان 1994. وكنتُ قد شاركتُ في هذا السينودس ممثًِلاً الطائفة الاسلامية في لبنان، وكانت تلك أول مرة يشارك فيها مسلم في أعمال السينودس. وقبل فترة من انعقاد هذا المؤتمر نشرتُ مقالة في عدة صحف عربية ولبنانية تدعو الفاتيكان والبابا يوحنا بولس الثاني شخصياً الى الاعتذار من المسلمين والمسيحيين الشرقيين عن المجازر التي ارتكبتها الحملات الصليبية في القرون الوسطى، أسوة باعتذاراته عن الاساءات التي تعرّضت لها شعوب عديدة في افريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية باسم المسيحية الكاثوليكية. في ذلك الوقت رفع البابا شعاراً يدعو الى تطهير الذاكرة من تلك الاساءات، كما قال البابا نفسه. ولكن خلال انعقاد السينودس تجنّبت اثارة هذا الموضوع لعدة أسباب. أولاً حتى لا أحوّل الاهتمام من قضية توفيقية معاصرة حول لبنان والعيش الاسلامي ـ المسيحي الى قضية خلافية تاريخية. وثانياً حتى لا اتهم أمام نفسي وأمام الآخرين بسوء استغلال المناسبة، وبسوء توظيف المبادرة التاريخية بدعوة مسلم الى السينودس. وثالثاً حتى لا أتسبّب في اثارة جدل في السينودس يقوم على المقارنة بين الحملات الصليبية على الشرق، والحملات الاسلامية على الغرب على ما بينهما من تفاوت كبير. وكان مؤتمر السينودس حول لبنان واحداً من أنجح مؤتمرات مجالس الأساقفة حيث تكرّس دور المسيحيين العرب كأساس في العلاقات بين العالم الاسلامي والعالم الغربي.
في عام 1993 اعترف الفاتيكان باسرائيل. وقد تأخر ذلك الاعتراف حتى ذلك الوقت الى ان اعترفت دول عربية (مصر والأردن) ودول اسلامية (تركيا) باسرائيل. وبموجب قرار الاعتراف التزمت اسرائيل بمنح الكنيسة الكاثوليكية في الاراضي المقدسة امتيازات خاصة بما في ذلك اعفاء مؤسساتها الدينية من الضرائب. غير ان اسرائيل لم تحترم حتى اليوم هذا الالتزام بسبب ما تسميه خلافات بين الأجهزة الاسرائيلية المعنية حول مبدأ تطبيق هذا الالتزام وحول تفاصيله. ولا تزال الكنيسة الكاثوليكية تعاني مما تعاني منه الكنائس الاخرى من اعتداءات وانتهاكات حتى ان عدد المسيحيين في فلسطين أصبح أقل من 2 بالمئة بعد ان كان حوالي العشرين بالمئة قبل قيام اسرائيل.
لم يغيّر من هذا الواقع الزيارة التي قام بها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لاسرائيل قبل ثماني سنوات. فقد صلّى أمام حائط المبكى، وزار "ياد فاشيم" وكان اول بابا في التاريخ يزور الكنيس اليهودي المركزي في روما. ومع ذلك لم ينجُ من الانتقادات الجارحة التي اطلقها ضده عدد من حاخامات اسرائيل في الكنيس وفي الصحافة الاسرائيلية.
من المؤسف انه في الوقت الذي انكشفت فيه العلاقة الملتبسة بين الفاتيكان واسرائيل، وقعت في شمال العراق (الموصل) جريمة الاعتداء على المسيحيين العراقيين الذين تعرّضوا للتهجير الجماعي من بيوتهم. وقد قام الاعلام الصهيوني بتوظيف هذه القضية بما يسيء الى العلاقات الاسلامية ـ المسيحية. فقد صدرت مقالات عديدة في الصحف الاميركية والأوروبية تموّلها مؤسسات صهيونية تركز على أمر أساسي واحد، وهو ان المسلمين لا يتعايشون مع غيرهم، مسيحيين كانوا أو يهوداً، وهو ما ينفيه الواقع والتاريخ. ولكن الاساءة الكبيرة التي ارتُكبت بحقّ المسيحيين العراقيين وفّرت مادة للإيحاء بالعكس، الأمر الذي يرسم علامات استفهام كبيرة حول القوى التي تقف وراء تلك الجريمة. فالحملة الاعلامية حاولت تغطية الجريمة التي ارتكبها الحاخام الاسرائيلي في الفاتيكان.
من هنا السؤال: هل كانت دعوة حاخام اسرائيلي الى سينودس الأساقفة الكاثوليك خطأ؟... هناك أساقفة يجيبون بالإيجاب. ولكن الفاتيكان يمتنع عن أي جواب. فالبابا يعتقد انه قام بما كان يجب القيام به طالما ان موضوع السينودس هو كلمة الله في الانجيل والتوراة. اما سلوك الحاخام الاسرائيلي فهو موضوع آخر... انه يعكس جانباً من العقلية الاسرائيلية الحاقدة.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,072,136

عدد الزوار: 6,933,542

المتواجدون الآن: 87