من "روافض" إلى مواطنين إلى "مغامرين" ؟

تاريخ الإضافة الجمعة 1 تشرين الأول 2010 - 6:52 ص    عدد الزيارات 600    التعليقات 0

        

من "روافض" إلى مواطنين إلى "مغامرين" ؟

عصام خليفة. 

إن البحث في موضوع مواقف طائفة بعينها في لبنان أو مجمل الطوائف، في مختلف الحقب التاريخية، هو من المهمات المعقدة والصعبة، وربما المستحيلة. فلا يستطيع أي باحث موضوعي الزعم بأنه يمكنه الاطلاع على مواقف كل النخب والتيارات وتوثيقها بشكل دقيق وشامل، إضافة إلى صعوبة الاطلاع على مواقف تيارات القوى السياسية الشعبية وتحولات مواقفها والعوامل الدافعة لمثل تلك التحولات في طائفة بعينها أو في الطوائف كلها.
من هنا إن جوابنا على "قضايا النهار" التي طلبت رأينا بموضوع "مع رمزية رحيل كامل الأسعد: علاقة الشيعة بالكيان اللبناني بين الماضي والحاضر"، يتصف بالاختصار الذي يتطلبه المقال الصحافي.
لقد تواجد الشيعة (المذهب الاثنا عشري) في بعض المناطق اللبنانية منذ العصور الإسلامية الأولى وبخاصة منذ القرن التاسع الميلادي، ومن أبرزها جبل عاملة وجبل كسروان وشمال البقاع ومناطق أخرى. كما كان هناك وجود للإسماعيلية والنصيرية والقرامطة. ولا يمكن تفسير تمركز الشيعة في المناطق اللبنانية إلا في سياق فهم أهمية المناطق الجبلية كمواقع طبيعية يحتمي فيها "الروافض" للسلطة المركزية ذات الطابع السني بوجه عام. هكذا كان الجبل اللبناني حامياً للشيعة، كما للموارنة والسريان والملكيين، إضافة إلى الموحدين الدروز وغيرهم لاحقاً. وفي الحقيقة لم يكن للبنان في تلك الفترة الكيان السياسي الخاص به.
في فترة الحروب الصليبية يذكر الرحّالة الأندلسي ابن جبير أنه وجد الناس (أي الشيعة) في بلاد عاملة " على أحسن حال في ظل حكم الفرنجة حيث ترك هؤلاء للأهالي أملاكهم وبيوتهم وحقولهم، لقاء جزية سنوية يدفعونها، هي أقل بكثير مما كان يدفعه السكان في المناطق الخاضعة لسلطة المسلمين" (رحلة ابن جبير، بغداد، 1937، ص 250).
وما كاد المماليك ينتهون من الانتصار على وجود الفرنجة في المشرق حتى قاموا بحملات متوالية على الجبل اللبناني. منها ما اتجه نحو وادي قنوبين (قبيل العام 1283 تقريباً) "فنهبوا، وقتلوا، وسبوا، ودكّوا للأرض القلعة التي بوسط القرية والحصن (إهدن) الذي على رأس الجبل". كما وجهوا ثلاث حملات على جبل كسروان (1291، 1300، 1305). وقد أدت الحملة الثالثة إلى تشتيت شيعة كسروان وتدمير كرومهم وبساتينهم ونهب قراهم وإحراقها. وقد ذكر صالح بن يحيى في تاريخ بيروت، ص 96: "فراح تحت السيف منهم خلق كثير، والسالم منهم تفرقوا في جزين وبلادها، والبقاع، وبلاد بعلبك، وبعضهم أعطوا الدولة أمانهم". وتذكر المصادر المارونية القديمة – على حد قول كمال الصليبي (في منطلق تاريخ لبنان، 1979، ص 137) أن عسكر دمشق المملوكي أخرب كنائس وأديرة كثيرة للموارنة في كسروان في حملة عام 1305، كما أخرب قرى الشيعة.
في الفترة العثمانية خضعت المناطق أو النواحي اللبنانية لنظام التيمار ثم لنظام الالتزام، وإذا كانت الدولة هي دولة السنة، تحصر القضاء والإفتاء بالمذاهب الأربعة (الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي) فقد نظمت الطوائف على قاعدة الملل، لكنها لم تعترف بطائفة الشيعة أو المتاولة، ولم تشرع الإفتاء الجعفري. إلا أن الشيعة كما ورد في "لبنان مباحث علمية واجتماعية" (ص 672) "اجتمعوا كتلة واحدة يدافعون عن كيانهم وتلقبوا يومئذٍ بالمتاولة ولم يلقب به غيرهم من الشيعة الخارجين عن جبل عامل ولبنان وبعلبك. أظهر المتاولة وجودهم وانضموا جميعاً تحت زعامة كبرائهم. فقد كانت مقاطعة جباع والشومر لآل منكر من عشائر الشيعة، وكانت مقاطعة الشقيف لبني صعب، وهم من سلالة الأيوبيين، وكانت بلاد بشارة الجنوبية لآل علي الصغير الوائليين، وهم المعروفون بالزعامة على كل جبل عامل في ذلك العهد. وكانت الشيعة في بعلبك تحت إمارة آل حرفوش، وفي شمالي لبنان الفتوح وكسروان والهرمل وبلاد جبيل وما إليها، تحت قيادة مشايخ آل حمادة والكل يد واحدة على مناوئيهم ما أمكن".
وإذا عدنا إلى سجلات المحاكم الشرعية في طرابلس ودفاتر الماليدين مدوّر في اسطنبول نلاحظ الوجود الفاعل لعائلة حمادة كملتزمة لجمع الضرائب في نواحي البترون وجبيل وجبة بشري والهرمل وإلى حد ما في مناطق عكار والضنية. وإن تراجع الالتزام الحمادي في هذه المناطق بدأ مع العام 1762 وذلك لمصلحة الأمير يوسف
الشهابي، واستمر هذا الوضع في المرحلة اللاحقة بشكل عام.
في جبل عامل الذي يمتد "من البصة إلى جباع الحلاوة" كان للشيعة خصائص مذهبية واجتماعية، وكان لديهم عادات وتقاليد وطقوس خاصة. وكانت نواحي هذا الجبل ترتبط إما بولاية صيدا وإما بلواء صفد (ولاية شام شريف). وكان المجتمع العاملي يتصف، كسائر المناطق اللبنانية، ببنية إقطاعية وله تقاليده القتالية في الدفاع عن الأرض في مواجهة الغارات التي قد تشن عليه من الشمال أو من الجنوب. وكان سكان هذا الجبل يدفعون الضرائب للسلطات العثمانية بشكل عام، مع لحظ فترات تنكيل واضطهاد وتشريد على يد بعض الولاة أمثال أحمد باشا الجزار.
وفي البقاع الشمالي، وفي ظل سيطرة الحرافشة تزايد عدد الشيعة لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية. وكان هناك تفاعل بين مجمل الطوائف إضافة إلى الشيعة (سنة، موارنة، روم، يهود وغيرهم...).
وفي مرحلة الفتن الطائفية لعب بعض قادة الشيعة وفي طليعتهم علي بك الأسعد دور المساعد في تخفيف آلام المشردين من النصارى مع الاحتفاظ بعلاقات المودة مع كبراء الدروز. ويبدو أن السلطات العثمانية عملت على الحد من سلطة الحكام المحليين في جبل عامل فبذرت الشقاق بين الزعيمين الوائليين علي ومحمد الأسعد اللذين توفيا عام 1865 في ظروف غامضة بدمشق "وكانت وفاة الزعيمين العظيمين ضربة أليمة للشيعة، فقدت الطائفة بعدها عزتها ومنعتها واستقلالها الذاتي الذي تمتعت به زمناً..." (محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل، ص 162).
في المادة الثانية من بروتوكول 1861 لحظ وجود اثنين من المتاولة في مجلس إدارة المتصرفية لكن في تعديل 1864 للبروتوكول لحظ في مجلس الإدارة وجود شيعي واحد.
تم تعيين محمد المقدم عن الشيعة في مجلس وكلاء الطوائف، وعبد الله برّو في مجلس الإدارة الكبير، وفي مجلس المحاكمة الكبير تم تعيين علي الحسيني وإسماعيل الحسيني أعضاء. والملاحظ أن عدد الإداريين الشيعة في جهاز المتصرفية كان قليلاً.
لم تبرز أسماء شيعية في الحركات التي دعت إلى قيام لبنان الكبير قبيل الحرب العالمية الأولى وأثناءَها، ولم يشارك أي شيعي في الوفود اللبنانية الثلاثة التي ذهبت إلى مؤتمر الصلح في باريس للمطالبة بلبنان الكبير. وفي موازاة ذلك كان هناك قادة بارزون في الدعوة للحركة العربية كالشهيد عبد الكريم الخليل، ورستم حيدر الذي كان بمثابة الدماغ المفكر للأمير فيصل وساعده الأيمن في مؤتمر الصلح، ومصطفى الأسعد الذي شارك في المؤتمر السوري بدمشق.
في مرحلة 1918 – 1920 انقسمت الطائفة بين تيار يدعو للوحدة السورية وتيار سياسي وشعبي وازن يدعو للانضمام إلى لبنان الكبير. وكعينة للتيار الثاني نورد نص المذكــــرة التاليـــــة التي قدمتهــــا بعض القـــــرى الجنوبيـــــة إلى مؤتمــــر الصلــــــح (أرشيــــف وزارة الخــارجيـــــة الفــرنسيــــــة
 (E-Levant, Syrie – Liban, V44, P111-112.

 

"إلى مجلس الأربعة ومؤتمر السلام سلام"

بحق الدماء الزكية التي أهرقت لتحرير الشعوب نطلب باتفاق وإجماع نحن سكان قضاء صور من شيعيين ونصارى البالغين أربعين ألفاً أن تضم بلادنا إلى لبنان لأسباب حقة. أولها: إن الشيعيين منا هم من قوم تفرقوا في صور وصيدا ومرجعيون وفي أنحاء لبنان في الريحان وإقليم الخروب وفي سواحله وأعاليه وفي الهرمل. فبحق يريدون الانضمام إلى قومهم.
ثانيها: إن النصارى منا هم من أصل لبناني أتى أجدادهم قديماً من شماليه إلى جنوبيه حيث نحن وإياهم الآن وهم إلى اليوم أهل وأقارب هناك اسمهم اسمهم ونسبهم نسبهم فيريدون الانضمام إليهم.
ثالثها: إن لبنان وبيروت مدينته هما سوقنا التجارية منذ القدم. هناك نبيع غلاتنا ومن هناك نأخذ حاجاتنا فنريد صونا لاقتصادياتنا أن نضم إلى إخواننا في الشمال وأن نخضع لقوانينهم ونطلب الوصاية الفرنسية التي طلبوها.
رابعها: إننا ولبنان واحد في القومية والمذهب والعوائد والأخلاق فبحق يطلب كل فريق منا الإنضمام إلى قومه.
خامسها: إننا نطلب الانضمام إلى لبنان فراراً من خطر الصهيونية فلا نريد أبداً أن نلتحق بفلسطين وإن خفنا أبناء إسرائيل فلا لوم، فإن أميركا الغنية القوية الحرة خافت الياباني وأغلقت في وجهه أبواب بلادها. وفلسطين كصور أرض زراعية فلا يمكن أن تكون سوقاً لنا ولا نذكر أننا أخذنا منها أو أعطيناها في زمن من الأزمان ثم أن أخلاقها وعوائدها تختلف كثيراً عن أخلاقنا وعوائدنا فلا يكون بيننا امتزاج وسلام.
إن أبى مجلس الأربعة أو مؤتمر السلام إلا إلحاقنا بفلسطين فيكون قد ارتكب جناية عظمى يتبعها ولا شك جنايات.
أهالي صور، أهالي جويا، دير كيف (كيفا)، مزرعة مشرف، دير عامص، البياض، قانا، يارون، الحبيبة (محيبيب)، طير حرفا، المجادل، دير نطار، برج قلاوية، كونين، بيتيحون، طيرزبنا (الشهابية)، جوار النخل، دير قانون، علما الشعب، شيخية، باثولية، عينبل، القوزح، دبل، تبنين، الجميجمة، عيثا، رشاف، اليهودية (السلطانية)، شمع، حنويه.
وإذا كان منهج الشك التاريخي يحملنا على التساؤل عن مدى صحة هذه الوثيقة وخاصة لجهة تعبيرها الحقيقي عن المواقف الفعلية لأهالي هذه القرى، وما إذا كان بعض المؤيدين للسياسة الفرنسية هم الذين كتبوها. إلا أن تقريراً عن موقف وجهاء منطقة صور أمام لجنة كينغ – كراين يشير إلى تأييد الأكثرية الساحقة من هؤلاء الوجهاء الانضمام إلى لبنان الكبير (المصدر السابق، مجلد 15، ص 3، 16/7/1919).
كما أن تقريراً آخر عن مواقف وجهاء منطقة بعلبك أمام لجنة كينغ – كراين أشار إلى وقوف 60 مختاراً من المنطقة من متاولة ومسيحيين مع الانضمام إلى لبنان الكبير.
وقد تكلم باسم جبل عامل أمام لجنة كينغ – كراين السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ حسين مغنية حيث طرحا وحدة سوريا بحدودها الطبيعية. ومؤتمر الحجير الذي حضره وجهاء الشيعة في الجنوب من أهل دين وسياسة وأدب وقادة مقاتلين قرر الانضمام إلى الوحدة السورية والمناداة بفيصل ملكاً.
في مرحلة العشرينات تزايد التيار اللبناني قوة في الوسط الشيعي. فبينما تحفظ النائب في البرلمان اللبناني عن البقاع صبحي حيدر على المادة الأولى من الدستور، أيد النواب حمادة وعسيران والزين مواد هذا الدستور مع الملاحظة أن بعض النخب الشيعية شاركت في مؤتمرات الساحل التي استمرت مطالبة بالوحدة السورية.
في العام 1938 شارك كل من عادل عسيران وزهير عسيران وعبدالله الحاج في الحوار الذي أدى إلى توقيع الميثاق الوطني اللبناني المكتوب في منزل يوسف السودا بتاريخ 18 آذار 1938. واستمر دور الرئيس عسيران فاعلاً في المرحلة اللاحقة مع معركة استقلال 1943 حيث شاركت القوى الشعبية والسياسية الشيعية بقوة في هذه المعركة. والجدير ذكره أنه منذ فترة العشرينات حتى أوائل الخمسينات كان هناك ست عائلات سياسية مثلت الشيعة في مختلف البرلمانات النيابية (الأسعد، الزين، عسيران في لبنان الجنوبي)، (حمادة وحيدر والحسيني في منطقتي بعلبك وجبيل). هذه العائلات التي كانت تملك الأراضي الواسعة خاضت صراعات فيما بينها وبرغم أن الطائفة الشيعية كانت تشكل أقل من خمس سكان لبنان، أوائل الخمسينات، فقد كانت تتصف بالتهميش النسبي في النظام السياسي القائم.
انطلاقاً من بيروت وصيدا وزحلة حصل تأثير واضح للعلاقات الرأسمالية على المناطق الشيعية الزراعية التقليدية. وهذا التغلغل أثر على علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية في الوسط الشيعي. وقد حصلت هجرة واسعة إلى ضواحي العاصمة تفتيشاً عن العمل وتحسين ظروف الحياة (عام 1975 كانت التقديرات أن 40% من المزارعين قد نزحوا مع العلم أن 60% منهم كانوا يأتون من الجنوب).
في هذه الفترة كانت الدولة بمؤسساتها الشهابية قد أخذت تستوعب المناطق الطرفية الشيعية من خلال الإدارة من جهة، ومن خلال القوى الاقتصادية السائدة (مالية، وتجارية متمركزة في بيروت) من جهة أخرى (العودة إلى بعض أبحاث المرحوم الدكتور سليم نصر).
لقد وسّع الرئيس شهاب، بعد عام 1959، أجهزة الدولة، كما فعّل الإدارة وحدّثها، وطوّر الجيش وأجهزة الأمن، ولقد فرض احترام الكوتا الطائفية، ثم عزّز دور الدولة في المجالات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية. هذا الوضع سمح للأوساط الاجتماعية الشيعية أن تدخل في الإدارة العامة، وبرغم وساطة النخب التقليدية في هذا المجال، فقد سمح الوضع ببروز نخب جديدة.
لقد تحول عدد طلاب الشيعة، في المدارس الرسمية، في البقاع والجنوب، في المرحلتين الابتدائية والثانوية، من 62 ألفاً عام 1959 إلى 225 ألفاً عام 1973 (أي 3.7 مرات في 15 سنة). وكذلك فإن تطور الجامعة اللبنانية، شبه المجانية، فتح مجال التعليم العالي للفئات الشيعية المحدودة الدخل. هذا التزايد في عدد المتعلمين الشيعة انعكس على الصعيدين السياسي والثقافي، وتزايد عدد الطلاب المتخصصين في البلدان الشيوعية، الأمر الذي عزز نمو التيارات اليسارية على حساب القوى التقليدية.
والإصلاحات الشهابية طالت شق الطرقات وإيصال الكهرباء ومياه الشرب، عام 1960، إلى أكثر من 450 قرية شيعية في الجنوب والبقاع. وهذا الوضع انعكس على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وفي موازاة ذلك كان هناك تنامٍ للهجرة من قبل شرائح واسعة بدأت منذ فترة الانتداب وتوسعت في مرحلة الأربعينات والخمسينات وذلك في اتجاه إفريقيا الغربية، وفي مرحلة الستينات ازدادت الهجرة نحو الدول العربية النفطية (الكويت وليبيا خاصة). ولقد كان لهذه الهجرة نتائج كبيرة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية على الطائفة الشيعية.
إن التحولات المشار إليها غيرت موازين القوى في القرى لمصلحة نخب جديدة وعلى حساب العائلات التقليدية. فالعائلات العائدة من الهجرة بادرت لشراء الأراضي، وإقامة مجمعات تجارية، كما شكلت مراكز ثقل سياسي واجتماعي.  ثمة بورجوازية شيعية صاعدة ترفض واقع التهميش السابق. وتتجه للانخراط في المصارف والصناعة والأعمال التجارية الكبرى (حمّود، عرب، منصور، جمّال...).
لقد تحول الشيعة من طائفة زراعية أساساً، متمركزة على أراض غير خصبة في مناطق طرفية هامشية، إلى طائفة تستوطن في المدن بنسبة 3/2 من عددها (63% عام 1974)، وأكثر من نصف هذه النسبة الأخيرة تواجدت في بيروت الكبرى. مع العلم أن 6-7% فقط من سكان بيروت الكبرى عام 1948 كانوا من الشيعة، وعلى الصعيد الديموغرافي تمتع الشيعة بحيوية لافتة. فقد زاد عددهم من 225 ألف عام 1948 أي 18.2% من سكان لبنان (الطائفة الثالثة بعد السنة والموارنة) إلى 800 ألف عام 1975، أي ما يوازي ثلث السكان تقريباً وربما الطائفة الأولى عددياً.
ضمن سياق هذه التحولات يجب أن نفهم صعود حركة الإمام الصدر. هذه الحركة بدأت في 3 حزيران 1973 مع صدور مذكرة من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى تضمنت 16 مطلباً قدمت إلى الحكومة وأعطتها مهلة 4 أشهر للإستجابة لها. وقد التزم 13 نائباً ووزيراً شيعياً بالاستقالة في حال عدم التجاوب. وفي العامين 1974 و1975 عرفت هذه الحركة مزيداً من التنظيم والتوسع في الجنوب وبعلبك الهرمل وضواحي بيروت (الشياح والغبيري وبرج البراجنة في جنوب العاصمة، وبرج حمود والنبعة في شمال العاصمة). ويعتبر الإمام موسى الصدر مؤسساً للحركة وهو الذي انتخب عام 1969 رئيساً للمجلس الشيعي الأعلى لمدة 6 سنوات. كما إنه هو المؤسس لحركة أمل (تموز 1975).
هذه الحركة كانت بشكل عام حركة إعادة تنظيم للطائفة مع بعد أخلاقي، كانت تنظيماً إجتماعياً اقتصادياً ارتبط بالأزمة التي عرفها الريف الزراعي اللبناني مع الهجرة الاقتصادية المتصاعدة التي عانى منها. ثم هي حركة سياسية سعت لمواجهة الهجمات الإسرائيلية المتوالية على الجنوب في موازاة ضعف الدولة ومأزق النظام السياسي اللبناني.
لقد أكد الإمام الصدر أن التراث الشيعي في لبنان وكل الشرق هو الذي يحدد خطوات الحركة وينير طريقها (خطاب 30/3/1975)، وأن الطائفة الشيعية لعبت الدور الكبير في تكوين لبنان، في مجده وثقافته. وأن أبناء الشيعة هم الذي يرسمون حدود لبنان وهم حماة هذه الحدود، وهم الذين يزرعون أرض هذا الوطن (خطاب 30/3/1975). حركتنا حركة وطنية تحافظ على السيادة الوطنية وسلامة التراب الوطني. وقد اكتشف اللبنانيون أنها خلقت من إيماننا بلبنان وبالله (الصدر 18/3/1974).
ويمكن عرض استراتيجية الحركة بعدة خطوط:
• خلق جبهة واسعة من مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية للطائفة الشيعية على قاعدة برنامج الحد الأدنى. وعدم استبعاد إلا من يستبعد نفسه (وهذا موقف الرئيس كامل الأسعد).
• عرض برنامج سهل التحقيق على المدى القريب والمتوسط وضمن أسس عامة غامضة بعض الشيء للمدى البعيد.
• استعمال أساليب الضغط والتفاوض على التوالي (مذكرات للحكومة، تهديد الوزراء بالاستقالة وسحب الثقة من النواب، تهديد بالعصيان المدني، تهديد باعتصام مسلح في قلب العاصمة).
• إعطاء الانطباع للآخر المسيحي أن الحركة تقسم الجانب الإسلامي، مع التمسك بلبنان ككيان مستقل ووطن صاحب هوية. والإيحاء للتيارات السنية بأن الضغط يصب في تقوية موقف الإسلام السياسي في لبنان، في مواجهة دولة تجسد بالنسبة لهم سيطرة الطبقة السياسية المارونية.
وفي التكتيك اعتمد الإمام مبدأ عدم القطع مع أحد وإبقاء استمرارية الحوار في كل حين، وحسن استعمال الإعلام، والفصل بين الجيش الجاهز للدفاع وقرار السلطة السياسية المتقاعس، وعدم اتخاذ مواقف نهائية باستثناء مبدأ الدفاع عن الجنوب، وعدم الهجوم على القوى والحركات السياسية (يميناً ويساراً).
لم يصرح الإمام الصدر يوماً بطموحه لإيجاد كيان إسلامي على أنقاض الصيغة اللبنانية التعددية، بل كان محور تحركه يدور حول شعار المساواة والعدالة الاجتماعية لكل الطوائف وفي إطار النظام القائم. وفي ظل مشاركة فئات واسعة من شباب الشيعة في الحروب المركبة التي اندلعت عام 1975 (مع الفلسطينيين، واليسار، والقوى المؤيدة لسورية وغيرها).
في هذا الجو نشأ "حزب الله" وبدأت حركة أمل، خاصة مع غياب الإمام في ليبيا وتصاعد هجمات إسرائيل (اجتياح 1978 و1982)، وقيام الثورة الإسلامية في إيران 1979.
لقد مرّ "حزب الله" بعدة مراحل:
في المرحلة الأولى: غلب على خطابه السياسي التشدد في العمل لقيام الحكم الإسلامي وتطبيق ولاية الفقيه:
• يسعى لتطبيق القوانين الإسلامية في لبنان استناداً إلى أوامر الله الواردة في القرآن الكريم كما تنص عليها ولاية الفقيه.
• إن حكم الأمة وإدارتها لا بد من أن يكون من امتياز المسلمين دون سواهم. والشرعية للإسلام وحده وأي أمر غير ذلك هو حكم جاهلي. وقد اعتبر إبرهيم أمين السيد أن المسلمين في لبنان لا يقبلون أن يكونوا جزءاً من المشروع السياسي للدولة اللبنانية، بل على الدولة اللبنانية أن تجد لها مكاناً في مشروع الإسلام (الصحف اللبنانية 8/2/1988). وفي العام 1986 أوضح خامنئي فتوى الخميني مشدداً على أن يحكم المسلمون لبنان بما انهم يشكلون الأكثرية.
في هذه المرحلة أكد قادة "حزب الله" والقادة الإيرانيون أن: "إيران ولبنان شعب واحد في بلد واحد... لا نقول أننا جزء من إيران، بل نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران" "سندعم لبنان سياسياً وعسكرياً كما ندعم احدى مقاطعاتنا الإيرانية"؛ "نعلن للعالم أجمع أن الجمهورية الإسلامية في إيران هي أمنا وديننا والكعبة وعروقنا" (العهد 146).
في مرحلة التأسيس كان واضحاً تأثير الحرس الثوري الإيراني الذي نقل أفكار الخميني إلى بعض اللبنانيين الشيعة، وكان واضحاً أن ضغط إسرائيل والطوائف الأخرى له الدور البارز في هذا السياق. وفي منتصف الثمانينات وجه الحزب ضربات موجعة للقوات الإسرائيلية وحملها على الانسحاب جنوباً (شباط 1985). وقد قال الباحث روبن رايت: "لقد أجبر إسرائيل على التراجع أشجع وأصلب عدو كانت قد واجهته حتى ذلك التاريخ".
وقد استطاع الحزب أن يتمدد على حساب العائلات السياسية الشيعية التقليدية (في تشرين الأول 1984 نحّي رئيس مجلس النواب كامل الأسعد من منصبه وانتخب حسين الحسيني رئيساً).
في المرحلة الثانية: منذ مطلع التسعينات اعتمد الحزب سياسة واقعية وتعددية حيث دعا إلى الحوار والتسامح وقبول الآخر. ولا تذكر برامج الحزب للأعوام 1992 و1996 و1998 و2000 و2004 و2005 تأسيس دولة إسلامية في لبنان أو تشير إليها أو تناصرها. هكذا انتقل الحزب من سياسة الأسلمة إلى سياسة اللبننة والانفتاح.
وبرغم تحفظ الحزب عن اتفاق الطائف اعتمد تغيير استراتيجية السعي المستمر لإقامة الجمهورية الإسلامية في لبنان من طريق الكفاح المسلح إلى الاستعداد للمشاركة في النظام السياسي اللبناني.
وقد صرح السيد حسن نصر الله ("المجلة" 24 آب 1997): "إن حزب الله لا يأخذ قراراته من سفير إيران في بيروت، لكنه يفتخر بأن له علاقة بإيران...". هكذا أخذ الحزب يوفق بين عوامل ثلاثة مختلفة: "إنه إسلامي وشيعي ولبناني".
لقد أراد "حزب الله" أن يفرض النظام الإسلامي بالقوة عند انطلاقته. ثم لم يلبث أن أكد أنه لن يطبق النظام الإسلامي ما لم يحظَ بموافقة غالبية اللبنانيين. وفي المرحلة الواقعية البراغماتية اعترف الحزب أن غالبية اللبنانيين سيقولون لا للنظام الإسلامي، فأسقطه من برامجه مستمراً بالمطالبة بإلغاء الطائفية السياسية دون أن يوضح البديل.
في الوثيقة السياسية لـ"حزب الله" التي أقرها عام 2009 أكد على الالتزام بلبنان "سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ".  ومن أهم الشروط لذلك – بحسب رأيه – أن تكون له دولة عادلة وقادرة وقوية، ونظام سياسي يمثل بحق إرادة الشعب وتطلعاته إلى العدالة والحرية والأمن والاستقرار والرفاه والكرامة. وهذا ما ينشده كل اللبنانيين ويعملون من أجل تحقيقـــــه ونحن منهــــــم" (الوثيقة السياسية، 2009، ص 30-31).
إن النجاح الواسع لـ"حزب الله" في الأوساط الشيعية لا يعود فقط إلى شعاراته الإيديولوجية. وإنما يعود بخاصة إلى الخدمات الاجتماعية التي لا نظير لها عند غيره من الأحزاب (مدارس، مستوصفات، مستشفيات، تعاونيات استهلاكية)، وثمة مؤسسات عديدة (مؤسسة الشهيد، جهاد البناء، الهيئة الصحية الإسلامية، جمعية الإمداد، مؤسسة الجرحى وغيرها...). هذه المؤسسات ترتبط مباشرة بالمؤسسات المشابهة في إيران، ولكن إدارتها بعهدة اللبنانيين.
وبرغم وجود دعم مادي للحزب من قبل المتمولين الشيعة اللبنانيين ووجود مصادر داخلية متفرقة، إلا أن السيّد حسن نصرالله اعترف بتلقي الحزب مساعدات مالية وتنظيمية وعسكرية من إيران (جريدة "السفير" 28 حزيران 2001).
في موازاة "حزب الله" هناك تيارات عديدة في الوسط الشيعي، من أبرزها:
• تيار حركة أمل التي أوردت في ميثاق نشأتها المبدأ الثالث، وتحت عنوان وجوب محاربة الإقطاع والإقطاع السياسي: "... وقد ورث الزعامة السياسية، في الدولة اللبنانية، أحفاد الإقطاعيين، ولعب الإقطاع السياسي دوره الفعال في الاحتفاظ بمناصب الدولة، وتجيير المنافع لحسابه الخاص، وللإبقاء على مكانته المتسلطة على الناس. لذلك فإن الحركة، بجهادها سوف تعمل جاهدة لعزل هذه القيادات الإقطاعية وتعريتها وفضحها...".
ومن حق الباحث أن يتساءَل إلى أي مدى طبقت أمل هذا المبدأ؟
• تيار الإمام محمد مهدي شمس الدين والسيد علي الأمين، وهو يدعو إلى اندماج الشيعة اندماجاً كاملاً في بلدانهم وكياناتهم الوطنية. ويرفض هذا التيار الديموقراطية العددية وولاية الفقيه ويدعو إلى دولة مدنية عادلة ومتوازنة تؤمن الحرية والعدالة والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع. ويرفض هذا التيار الوصاية أو التدخل الإيراني ويدعو للولاء الوطني، من قبل الشيعة، للبنان. مع التأكيد على استقلاله وسيادته في مواجهة محاولات الوصاية السورية أو التبعية الإيرانية.
وهناك تيارات كثيرة موجودة في وسط الطائفة الشيعية (أحزاب علمانية يسارية، ومؤيدو العائلات التقليدية والعشائر والقوى الليبرالية، وهناك غنى في الشخصيات الثقافية والقيادات النقابية في مختلف القطاعات).
ومن موقعي كباحث في تاريخ لبنان المعاصر اعتقد أن الرئيس كامل الأسعد، برغم كل النقد المشروع وغير المشروع الذي يوجه إليه، كان من القيادات الحكيمة والوطنية القليلة التي لم تتوسل الحروب القذرة لترؤس ميليشيا أو لتوسل استمرار النفوذ وجمع المال.
لم يقف على أعتاب مواقع النفوذ ولم يساوم على كرامته الشخصية وعلى كرامة الدولة والوطن. وقد عرف في مجمل حياته السياسية كيف يحاور قيادات الأحزاب ونخب الطوائف الأخرى، وكانت رئاسته للبرلمان اللبناني فيها الكثير من ملامح رجال الدولة.
إذا كان الخطر الإسرائيلي هو حقيقة تاريخية ويومية أكيدة بالنسبة للجنوب اللبناني، وإذا كانت مواجهة هذا الخطر لا تتسم بالعواطف والتمنيات، بل بالاستعداد العسكري والعلمي الشامل، من كل أبناء الشعب اللبناني، وإذا كانت انطلاقة "حزب الله" قد ارتبطت بالإجتياحات الإسرائيلية المستمرة للجنوب، فإن الحل لا يكون بتشكيل جيش شيعي منفصل عن جسم الدولة اللبنانية، تحت شعار مقاومة الأطماع الإسرائيلية. بل بوجود خطة دفاعية تكون الأمرة فيها لمؤسسات الدولة المسؤولة وللجيش ويكون الشعب ظهيراً بقواه المسلحة في حالة قيام عدوان إسرائيلي. ولا يستطيع لبنان إلا أن يتحرك في إطار اتفاقية الهدنة والقرارات الدولية ذات الصلة. وفي ظل تصاعد التهديدات الإسرائيلية والأطماع الثابتة بالأرض والمياه – وأخيراً النفط – وشراء إسرائيل الأسلحة المتطورة بما يزيد عن 11.5 مليار دولار منذ عام 2006، لا يستطيع لبنان وحده أن يخوض مغامرات عسكرية قد تصيب كل مقوماته بالخراب العميم، بينما باقي الدول العربية
تسعى ليكون لها فرصة التفاوض على السلام مع إسرائيل.
إن المجتمع اللبناني هو مجتمع متعدد الطائفة، وليس بإمكان أي طائفة منها أن تسيطر على الطوائف الأخرى تحت حجج معينة. لذلك فالالتزام بالمواثيق الوطنية والوحدة الوطنية والابتعاد عن المحاور الإقليمية والدولية أو التبعية العسكرية والمالية والسياسية لهذه الدولة القريبة (سورياً) أو تلك (إيران) أو غيرهما بالنسبة للطوائف الأخرى (السعودية، مصر، فرنسا أو أميركا)، هذا هو السبيل الصحيح للحفاظ على لبنان المنفتح والحر والمتعدد. وإن الحفاظ على استقلال الدولة اللبنانية وخصوصيتها وترسيم حدودها – في إطار انتمائها العربي وعلاقاتها الممتازة مع سوريا – هو دور كل الطوائف اللبنانية وفي طليعتها الطائفة الشيعية الكريمة. وأن الانتقال من النظام الطائفي يكون في اتجاه علمنة الدولة والمجتمع والثقافة، وهذا دور كل القوى الواعية من كل الطوائف والأحزاب.
فهل يتعظ الجميع بعبر التجارب والفتن التي عاشها شعبنا في تاريخه الحديث والمعاصر؟ أم أن هناك من لم يقرأ جيداً تاريخ هذا الوطن ويريد أن يخوض مغامرات جديدة خاسرة ومكلفة للشعب والدولة في مرحلة تصاغ فيها خرائط جديدة للمشرق العربي؟

عصام خليفة     
( أحد أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية)   

 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,902,266

عدد الزوار: 7,007,699

المتواجدون الآن: 74