فصل الديني عن السياسي: تقليد النجف التاريخي

تاريخ الإضافة الثلاثاء 22 حزيران 2010 - 5:54 ص    عدد الزيارات 688    التعليقات 0

        

فصل الديني عن السياسي:  تقليد النجف التاريخي
بقلم وجيه قانصو

كان الاجتماع الشيعي زمن أئمة الشيعة الإثني عشر يتمحور حول شخص الإمام، الذي استطاع التعويض عن إستبعاده عن السلطة السياسية، بمنازعة الخلافة السنية على سيادة الدين العليا، من خلال منافسة السلطة على أصل الشرعية التي تجعل سلطةً سياسية لازمة الطاعة في نظر الشرع الديني. فحين أقام الفقه السني مقولته السياسية على تسويات عملية وواقعية، تُشرعِن سلطة المتغلب، كان الوعي الشيعي يتعالى بشروط الأهلية لاستلام السلطة، ويفرض مواصفات صارمة في الحاكم السياسي، إلى درجة جعلت السلطة الشرعية من مختصات الامام "المعصوم" حصراً.
مع غياب الإمام الثاني عشر عام 329هـ.، أحس الشيعة بفراغ متعدد البعد طاول تكوينهم الاجتماعي والثقافي والسياسي، حتى وُصِفَت تلك المرحلة على لسان ابن بابويه القمي بفترة الحيرة.  وقد عمل علماء الشيعة على التعويض عن غياب الإمام، بتدوين إرث الأئمة من أقوال وأفعال، وهو ما قام به بشكل رئيسي الشيخ الكليني والشيخ الصدوق، وببناء منظومة كلامية متماسكة تتميز بقوة محاججة عقلية ضد خصوم المذهب الإمامي، وهو ما تميز به الشيخ المفيد والشريف المرتضى، وبتأسيس بنية اجتهاد فقهي تقنن إنتاج الحكم الشرعي للحالات المستجدة، وهو ما برع به الشيخ الطوسي مؤسس حوزة النجف الأشرف.  كل ذلك ساعد على توفير أرضية تضامن صلبة بين الجماعات الشيعية، هيّأها لاستيعاب صدمة غياب الإمام، والتكيف مع الوضع الجديد.
تلمس الفقيه الشيعي الفراغات التنظيمية والسياسية داخل الكتلة الشيعية والتي نجمت عن غياب الإمام الثاني عشر، فعمل في مراحل متقطعة من التاريخ على توسيع دائرة سلطته من سلطة منحصرة بالفتوى والقضاء بين المتخاصمين الشيعة، إلى سلطة نيابة محدودة عن الإمام المعصوم. إلا أن هذه السلطة ما كانت لترتقي إلى الحلول مكان الإمام في مجال السلطة السياسية، بعد أن ترسخ في الوعي الشيعي أن غياب الإمام هو غياب لأية سلطة شرعية.
إقصاء المجال السياسي عن مرمى نظر الفقه الشيعي، جعل الاجتماع الشيعي يستمر من خلال وضعية انتظام داخلية، تتغذى من مخيال ديني كثيف الأسطرة وشديد التقديس، وتقوم على مرجعية الفقيه المركزية في تسيير شؤون الاجتماع الشيعي.  الأمر الذي أدى مع الزمن إلى تطور نظام مرجعي مستقل عن السلطة السياسية، يتسم بهيكلية تنظيمية مكَّنَت الفقيه من مد نفوذه المعنوي والرمزي إلى كل الشيعة، ويقوم على اجتهاد في تنظيم العلاقة بين المرجع وعامة الشيعة.  أي تطور نشاط الفقيه مع الزمن من وظيفة علمية تهدف إلى الكشف عن الحكم الشرعي، إلى مؤسسة دينية ذات سلطة رمزية ومعنوية يدين لها عامة الشيعة بالولاء والتقليد.  وهذا ما لم يتحقق على مستوى الفقه السني الذي جيّر رمزيته وموقعه المعنوي لمصلحة سلطة الخلافة السياسية حيث التزم  تاريخيا بتغطية شرعيتها الدينية وحكم ببدعة الخروج عليها.
مجانبة الفقيه الشيعي للسلطة السياسية واستقلاله – نسبياً - عنها في آن واحد، سمح بتشكل مجال ديني مستقل ذي بنية بيروقراطية وعمق اجتماعي شعبي. في حين حجب تماهي الفقيه السني مع السلطة السياسية من تكوين هيكلية تنظيمية مستقلة عن السلطة. ما يدفعنا إلى الإستنتاج بأن الرمزية الدينية تمثلت في الوعي السني تاريخيا بنظام الخلافة السياسي، بينما تمثلت في الوعي الشيعي بالمؤسسة المرجعية.
جمعت حوزة النجف بين قداسة المكان حيث يرقد علي بن أبي طالب، والعراقة العلمية التي امتدت لأكثر من ألف عام منذ زمن الشيخ الطوسي في القرن الخامس. وهو ما جعل حوزة النجف تحتكر بلا منازع غالبية الرصيد الرمزي والمعنوي والديني عند الشيعة، وجعل تاريخ الحوزة العلمية يعبر عن تطور العقل الشيعي في المجال الشرعي والسياسي معا.
وقد حافظت المرجعية الشيعية على استقلاليتها وترددت في منح الشرعية الدينية لسلطة الشاه الصفوي بعد اعتناقه المذهب الإمامي. كذلك فقد نجحت المرجعية في الصمود أمام محاولات السلطة زمن الحكم الصفوي والقاجاري الشيعيين، في استتباع المؤسسة الدينية، واستطاعت أن توازن حضورها المعنوي وعمقها الاجتماعي مقابل شوكة السلطة السياسية. واستفادت من حقها الحصري بقبض وصرف أموال الخُمس في تأمين موارد تمويلها الذاتية بعيدا عن ضغوط السلطة أو ابتزازها.
استقر في النجف تقليد عام، أسس له الفقهاء المؤسسون الأوائل، أمثال الشريف المرتضى والشيخ الطوسي، يقوم على عدم وجوب التصدي للسلطة وعدم وجوب إقامة الحكم العادل في زمن الغيبة. وكانت الحوزة تتحفظ عمّا ما يكسر هذا التقليد، إلى درجة أن الشيخ الأنصاري، الذي كان معاصراً للشيخ النراقي، مؤسس نظرية ولاية الفقيه الأول، كتب معلقاً على تلك النظرية بالقول: "فإقامة الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام المعصوم إلا ما خرج بدليل دونه خرط القتاد" ثم يقول: "بل المتبادر عرفا من نصب السلطان وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه". أي استعاد الأنصاري، ومن بعده تلميذه حسن الشيرازي الوضعية التقليدية في علاقة الفقيه بالسلطة القائمة على تقاسم نفوذ: "الشرعيات للفقيه والعرفيات للسلطان". كذلك نجد السيد يزدي، كبير فقهاء ومراجع النجف، واجه الشيخ الخرساني والميرزا النائيني اللذين أيدا ودعما الثورة الدستورية في إيران ضد الشاه، وعمل على تثبيت الموقف التقليدي للنجف بعدم التوغل في المجال السياسي.  وعندما أنعش الإمام الخميني مقولة ولاية الفقيه المطلقة، كان البحث الفقهي عند المرجع محسن الحكيم والسيد الخوئي، يتركز على تأكيد ولاية الفقيه الجزئية التي تنفي سلطة الفقيه في مجال إدارة الشأن العام، ويعتمد قولا يكاد يطابق قول الشيخ الأنصاري.
تمكنت حوزة النجف من ترسيخ عرف اجتماعي يقضي باستقلالية المؤسسة الدينية الشيعية عن السلطة السياسية الشيعية في إيران، الصفوية والقاجارية، مع اعتراف غير معلن من المرجعية بتلك السلطة، لا بصفتها سلطة شرعية، بل بصفتها سلطة الأمر الواقع. أي تكيفت المرجعية مع السلطة الصفوية الطارئة، وتقاسمت معها الصلاحيات داخل المجتمع الشيعي. فترسخ سلوك عام بالتكامل بين الفقيه والسلطان، مثلما فعل المحقق الكركي، وتبلورت آراء، كآراء العلامة المجلسي والميرزا القمي والمحقق السبزواري، بالفصل بين الشرعيات التي هي من اختصاص الفقيه وبين العرفيات التي هي من اختصاص السلطان.  وهو الموقف الذي استند إليه الشيخ فضل الله نوري في مناهضة الثورة الدستورية في إيران أواخر القرن التاسع عشر، بقوله: "يقوم الإسلام على نيابة الإمام في الأمور النبوية والسلطنة في الأمور الدنيوية".
وقد حصلت، في بداية القرن العشرين، حوادث ثلاث، ساهمت إلى حد بعيد في ابتعاد الحوزة العلمية في النجف عن التصدي للشأن السياسي والإنشغال الكامل في مجال البحث الفقهي.
أول هذه الحوادث انخراط بعض كبار الفقهاء في النجف في الثورة الدستورية، وعلى رأسهم الشيخ الخرساني والميرزا النائيني، ومع فشل تلك الثورة وموت الشيخ الخرساني في النجف، ضعفت تلك الحركة، واستعاد الموقف التقليدي الذي كان يتزعمه السيد يزدي وضعه في النجف.  أما ثاني هذه الحوادث، فكانت ثورة العشرين ضد البريطانيين، التي تورط بها السيد الشيرازي، حيث سرعان ما أدى فشل تلك الثورة إلى إضعاف لقدرة الحوزة في التصدي للقضايا المصيرية الكبرى.  ثالث هذه الحوادث، تمثل في مواجهة بعض مراجع النجف، أمثال الشيخ الخالصي والنائيني، للملك فيصل، واعتراضهم على تنظيمه الإنتخابات وتوقيعه المعاهدة مع قوات الإحتلال البريطاني. الأمر الذي دفعهما للّجوء إلى إيران، ثم اضطرارهم لاحقاً إلى القبول بشروط الملك فيصل للعودة إلى العراق، التي تنص صراحة على تعهدهم بعدم التدخل في السياسة.
هذه الأمور مجتمعة، المقرونة بإحباطات متلاحقة لفقهاء الشيعة في التصدي للشأن العام، رسخت سلوكاً عاماً داخل النجف، منذ عشرينات القرن الماضي، بعدم التصدي للأمور السياسية، وتثبيت التقليد الفقهي القائل بحصر صلاحيات الفقيه في الفتوى والقضاء والأمور الحسبية الضيقة، من دون أن يملك الفقيه حق أو واجب إقامة العدالة أو تطبيق الأحكام، بل هي من واجبات المجتمع الذي يعتبر الفقيه أحد أفراده.
كل ذلك، يفسر لنا سر حذر أو معارضة رموز النجف الكبار لأي تحرك سياسي يعرِّض النجف للخروج عن تقليدها التاريخي في التعامل مع السلطة. فعندما نجح الخميني في ثورته على الشاه باركت له النجف نجاحه ولكنها بقيت على مسافة من مشروعه الفقهي السياسي الذي يناقض عرف النجف السياسي. وعندما أراد السيد محمد باقر الصدر، أن يزج النجف في مشروع تغييري لإقامة الدولة الإسلامية، كانت استجابة الشباب العراقي عالية، إلا أن ردة فعل الحوزة العلمية كانت مزيجا من الفتور والحذر والرفض، مما أحبط مشروع الصدر وكانت حياته ثمنا لمشروعه الطامح.
 من هنا، يمكن القول، إن ما يقوم به السيد السيستاني في النجف هو استعادة، شاقة ومليئة بالتحديات، لذلك التقليد التاريخي، الذي قامت عليه النجف الأشرف.  وهو تقليد ضَمِنَ للحوزة استمراريتها رغم تقلب الأنظمة السياسية وتغير الحكام، ومكن الاجتماع الشيعي من التكيف مع المحيط الأوسع الذي يتواجد فيه، بل وأن يكون جزءاً عضوياً منه، وغلَّب على التشيع سمة الاستقامة الأخلاقية والدينية، أكثر من اعتباره مشروعَ نظامٍ سياسي أو رؤية لاستلام السلطة. 
 


(استاذ جامعي)      

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,877,255

عدد الزوار: 7,006,940

المتواجدون الآن: 86